محب الدعوة
03-11-2019, 11:09 PM
علاج الأحزان وحرارة المصائب
أ. محمد بن سعد الفصّام
علاج الأحزان وحرارة المصائب
اذهب إلى مستشفيات الأمراض العقلية، وانظر إلى المرضى الذين أفقدتهم المصائب عقولَهم، هل تريد أن تكون واحدًا منهم؟
لقد رفضت عقولهم تقبُّلَ الواقع، فلم يتغير الواقع؛ لكن عقولهم هي التي تحطمت
الحياة بلا أملٍ صيفٌ قائظ لا يطاق، ولكن الأمل نافذة يأتي منها نسيمُ البر والبحر معًا، وتسمع من خلالها أغاريد طيور الربيع، والأمل بلا عملٍ أمانيُّ خاويةٌ، وأحلام خادعة، لا تغني صاحبَها شيئًا، إذًا خذ مني هذه الوصفة العجيبة في طرد الحزن ونسيان المصائب[1]، هي حقيقةٌ ومجربة ونفع الله بها خلقًا كثيرًا، ولن أقول: إنك سوف تستفيد منها، بل أنا على ثقة أنك سوف تفيد بها غيرَك، وسوف تقدم له وصفة يحفظها لك في ذاكرة الزمن ما عاش.
إنها وببساطة: العمل والانشغال بما تجيده وتستطيع أن تعمله، ولو مع أولادك الصغار، وسوف أسوق لك تجربةَ رجلٍ أصيب بموت فِلْذة كبده مرتين.
لذلك أذكر لك:
(ماريون) رجل أصيب بموت فلذتين من فِلْذات كبده تباعًا.
يقول (ماريون): أول مرة احترق قلبي حين فقدت ابنتي وهي في سن الخامسة من العمر، وكنت متعلقًا بها كثيرًا؛ فهي سلواي في هذه الدنيا، وبعد عشرة أشهر وضعت زوجتي الحامل طفلةً لم تلبث أن فارقت الحياة في اليوم الخامس من ولادتها.
قال: كانت تلك المأساة المتكررة تفوق قدرتي على الاحتمال، فجفا النوم عيني، ولم تعد لدي الرغبة في طعام أو شراب، وأوشكتْ أعصابي على الانهيار.
نصحني طبيب باستخدام الأقراص المنومة، لكن تأثيرها ضعُف بعد أيام وصارت كميات (الشوكولا) بدون تأثيرٍ.
أوصاني طبيبٌ آخر بالسفر والاستجمام، لكن دون طائل، فأعصابي المشدودة لا ترتخي وكأنما حصرت في وسط ملزمة حديدية لا يمكنني الفكاك منها.
الحل يأتي صدفة:
كان لدي طفل في الرابعة من عمره، جعلتُ همي إسعادَه بعد وفاة أختَيه.
وفيما كنت جالسًا ذات يوم في الحديقة أراقبه وهو يلعب وأحلم بأخته قُربَه تلعب معه، كما كان يحصل قبل وفاتها، تقدم إليَّ وسألني:
أبي: هل يمكن أن تبني لي مركبًا الآن؟
لم يكن لدي الاستعداد لذلك، ولا لأي عمل آخر أصلاً، ولكن أمام إلحاحه المتواصل وتهديده لي بالبكاء، استسلمت أخيرًا لمناشدته.
أعددت اللوازم والأدوات وبدأت العمل.
استغرقني إعدادي لهذه اللعبة، فلم أشعر بمرور الوقت، أما هو، فكان يدور حولي من وقت لآخر، ويوجه الملاحظات حول الحجم واللون... إلخ.
وأخيرًا أنجزت المركب، وجريت وإياه لنضعه في البركة.
وضعت المركب في الماء وجلست أتأمله، وحين تطلعت إلى الساعة وجدت أن ثلاث ساعات قد مرت.
إن هذه الثلاث الساعات التي قضيتها في إعداد المركب هي أول فترة أشعر فيها بالاسترخاء والصفاء الذهني والاطمئنان منذ شهر.
اكتشاف حقيقي:
اكتشفت أن استغراقي بالعمل قد حررني من القلق والحزن لمدة ثلاث ساعات.
هذا الاكتشاف دفعني للتفكير، وهي المرة الأولى التي أفكر فيها منذ أشهر بغير المصائب التي أصابتْني.
وجدت أن القلق يبتعد عن رأس الإنسان عندما يكون منشغلاً بعمل يهتم له، ويحتاج إلى التفكير والتخطيط.
وعندما حان المساء، تجولت في المنزل غرفةً غرفة أبحث عن الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح وأدون ذلك في ورقة معي: المكتبة، الأدراج، النوافذ، الستائر، أقفال الأبواب، الحنفيات... إلخ، تصور؟ لقد وجدت 242 شيئًا بحاجة للإصلاح.
وضعت لائحة أولويات وبدأت العمل، ثم انطلقت أشارك في أنشطة أخرى؛ ا.هـ.
وقد تتساءل: كيف يكون هذا سببًا في الراحة ودفع الأحزان؟
وأنا أجيبك على الفور:
أكثر ما يثير القلقَ والحزن هو الفراغُ والتفكير، وكل واحد من هذين يستلزم الثاني؛ فالفارغ يستعرض شريط الأحزان والتفكر فيما حدث؛ مما يثير شعوره الحزنوي، فتبدأ نفسه تتهيج راغبةً عن كل شيء.
إن السبب يسيرٌ ومعروف، إنه أحد أهم قوانين علم النفس، وهو يقول: يستحيل على أي إنسان مهما كان ذكيًّا أن يفكر في أكثر من شيء في وقت واحد، إن لم تصدق يمكنك أن تجرب، اجلس على (الكنبة)، وحاول أن تفكر في آن واحد بالرحلة التي ستقوم بها للاستجمام، وتواريخ استحقاق مدفوعاتك في العام الماضي - هذا صعب - حسنًا حاول أن تفكر في سيارتك التي اشتريتها، وخطبة الجمعة الماضية، هذا غير ممكن، إن الفكرة الأولى تطرد الأخرى، ولا يمكن للعقل أن يجمع بين فكرتين في آن واحد.
إن العمل بهمة وجدٍّ ما هو إلا صابون مركز، يغسل ما علق بذهنك من سواد وقتامةٍ، فإذا حان موعد النوم المؤكد، كان النوم كذلك أقوى من كل فكرةٍ سيئة؛ ألا ترى إلى الأطفال حين يبكون ثم ينامون، ما الذي حدث؟! لقد طغت شدة النوم والشعور بالإرهاق، حتى تغلبت على الحزن وسبب البكاء.
إذًا أقول لك باختصار: اعمل واقضِ على الحزن والقلق بالعمل، وإلا فإنه سيقضي عليك.
ثم تأكَّد وثِقْ وتيقن أن 90% من همومنا بشأن المستقبل لا حقيقة لها، والباقي 10% موزع بين المبالغة فيه وإعطائه أكثر من حجمه، وبين ما تستطيع تحمُّله وبين ما يمكن حله وإصلاحه؛ بل ونسيانه بسرعة.
لذلك دعني أذكر لك:
قصة (جيمس) تاجر البرتقال، لا شك أنك لم تسمع به ولا بها من قبل:
هذا التاجر كان يملك شركة توزيع للبرتقال في ولاية (فلوريدا)، وكان يطلب كل مرة من عشر إلى خمس عشرة شاحنة من البرتقال في وقت واحد.
من فلوريدا البرتقال يشحن بواسطة القطار.
اعتاد (جيمس) في البداية أن يقضي أكثر الوقت قلقًا متوتر الأعصاب حتى يصل البرتقال بأمان إلى الزبائن.
كان يخشى أن ينقلب القطار أو يتحطم الجسر، أو تتعطل الشاحنة التي تحمله إلى القطار أو تصطدم بشاحنة أخرى ويتبعثر البرتقال على الطريق، فساعتها سيخسر السوق والزبائن، وكان يحس أنه سينهار في أية لحظة.
وأخيرًا ذهب إلى طبيب، فأخبره أنه بخير باستثناء بعض التوتر العصبي.
فعاد إلى المنزل، ووضع قلمًا وورقة وأخذ يحسب.
كم شاحنة برتقال نقلت خلال سِني عملي في هذه الشركة؟ الجواب: خمسًا وعشرين ألف شاحنة.
كم واحدة منها تحطمت؟ خمس فقط.
إذًا طبقًا لكل هذه المعدلات، فإن نسبة حصول حادث هي واحد إلى خمسة آلاف، إذًا ما الذي يقلقني يا جيمس؟
حسنًا لنحسب الأمر بالنسبة للجسر:
هل سبق أن انهار الجسر؟ لا.
كم سيارة فقدت بسبب الجسر؟ ولا واحدة.
إذًا، أليس من الحمق بمكان أن تقلق من شيء لم يسبق له أن حدث من قبل؟! كم هي عدد حوادث القطارات نسبة لعدد القطارات والرحلات؟ إن النسبة هي واحد إلى خمسة آلاف.
وهل تستحق هذه النسبة أن تسبب لنفسك القرحة، وأنت تفكر فيها وتقلق لأجلها؟
وأخيرًا تركت القلق الذي كان سيؤدي بي إلى المرض، هأنذا أعيش حياتي سعيدًا.
لو تدبرت الركن الخامس من أركان الإيمان في دين الإسلام العظيم، لزالت جميع الشوائب التي تعكر حياتَك، فحينما تعلم أنه لن يصيبك إلا ما قدَّره الله عليك، وأن ما قدره الله عليك لا يمكن لك بحال أن تَسلَم منه، فترضى نفسُك، وتسلِّم أمرَك للذي خلقك، وتدَع الغيب لعالمه سبحانه، وتعلم أن ربك كريم رحيم لطيف، قد يبتلي العبد فيكتب له الأجور العظيمة، ويفيض عليه من الصبر ما لا يوجد عنده قبل وقوع المصيبة، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا سبقتْ له من الله منزلةٌ لم يَبلُغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده، ثم صبَّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله)).
وتعلم أن الإنس والجن جميعهم لو اجتمعوا وأرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك، لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
وتعلم أن مقادير الكون قد كتبها ربك - ولم يأخذ رأيك فيها - قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا القلق والهم، واليأس والتفكير فيما لا تعلمه، وفيما لا تقدر على تغييره؟
رأى إبراهيم بن أدهم رجلاً قد بان عليه الهمُّ والقلق؛ فوجهه عابسٌ، وجبينه مقطب، ومشيته متماوتة كأنه يحمل الدنيا على ظهره، فسأله عن حاله، فأخبره بأنه رجل لديه هموم قد أقضت مضجعه.
فأجابه إبراهيم بن أدهم بكلام أزال عنه كل ما كان من هم، ونشط الرجل كأنه بعير حل عقاله.
قال له: يا هذا، إني سائلك عن ثلاث:
أيجري في هذا الكون شيءٌ بغير ما أراده الله؟
قال: لا، قال: أينقص من أجلك لحظة كتبها الله لك في الحياة؟ قال: لا، قال: أينقص من رزقك شيء قدره الله؟ قال: لا، قال: فعلامَ الهم إذًا؟!
ترى لو ثرنا وغضبنا وغرقنا في بحار الحزن والتوتر والقلق، هل يمكننا تغييرُ ما قُدر لنا؟ هل بإمكاننا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ومنع حدوث ما حدث؟
هل تحويل ليالينا إلى جحيم من الأحزان واجترار الآلام يمكن أن يعيد لحظةَ سعادة مضت؟
إذًا، لماذا نضيع وقتًا جديدًا؟ لماذا نخسر حياتنا المقبلة حزنًا على حياتنا الماضية؟
هل رأيت في حياتك فلاحًا يحرق بستانه؛ لأن دودة أيبست إحدى أشجاره؟
هل رأيت أحدًا يرمي بكل ما يملك؛ لأنه فقد محفظته؟
هل رأيت أحدًا يقطع يده؛ لأنه فقدَ إحدى أصابعها؟
إذًا لماذا نحزن ونقلق من أجل أمرٍ حدث وانقضى، لماذا نقلق من أجل أمرٍ حدوثُه أو عدم حدوثه ليس بأيدينا؟
لماذا نجعل مصيبتنا أكثرَ من كل مصيبة، مع علمنا أن هذا غير صحيح؟ فمن فقد أحد أفراد عائلته، فهناك من فقد عائلته كلها، ومن فقد عائلته كلها، هناك من فقد عائلته وصحته، ومن فقد عائلته وصحته، فهناك من فقد دينه، وهناك من فقد عائلته وصحته ودينه، ولن ترى حزينًا كسيرًا إلا ومصيبته تهون عند غيره.
إذًا لتواجه الأيام بعزيمة وصبر رجالٍ، لا بكاء صبيان وأطفال، والخلف خير من المفقود، والمفقود المسلم قد يكون في خير مما أنت فيه الآن؛ فإن المؤمن يرجى له خيرٌ عظيم بعد موته؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نفس مسلمةٍ يقبضها ربُّها تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد)).
إن سقي الزهور الميتة بدموعنا يجعلها لينة ليسهل تمزقها وتلاشيها، ولن يعيدها يافعةً متفتحة، فالأمس لا يمكن أن يكون اليوم أو غدًا، وإنما اليوم هو يوم جديد، وغدًا يوم أجد.
إننا إن واجهْنا الواقع القاسي، والقدرَ المحتوم، وقابلْنا المصائب بالعبوس، وحاولْنا استرجاع ما لا يمكن استرجاعُه، وتصليح ما لا يمكن تصليحه، فإن مشاكل الحياة ستحطمنا وتصيبنا بالجنون ولا بد.
اذهب إلى مستشفيات الأمراض العقلية، وانظر إلى المرضى الذين أفقدتهم المصائبُ عقولَهم، هل تريد أن تكون واحدًا منهم؟
لقد رفضت عقولهم تقبُّلَ الواقع، فلم يتغير الواقع؛ لكن عقولهم هي التي تحطمت.
إن الأشجار التي لا تنحني أمام العاصفة تقصف وتبقى جذوعًا هامدة، أما التي تنحني قليلاً، فسرعان ما تعود شامخة قوية.
إذًا تقبل ما لا يمكن تغييره؛ لأن القلق لن يغيرَه، بل سوف يتبع المصيبة الأولى بمصيبة أشدَّ منه، وهي فقْد راحتك وصحتك.
ما قضي كان، ولعل فيه الخير لك وأنت لا تدري: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، فلماذا نقلق من أمر لا ندري خيره من شره؟
لذلك دعني أذكر لك:
كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائدًا من قواد عبيدالله بن زياد، فسقط عن السطح فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو قلابة يعوده، فقال: أرجو أن يكون ذلك خيرًا لك، فقال له: يا أبا قلابة، وأي خير في كسر رجلي جميعًا؟! فقال أبو قلابة: ما ستر عنك كان أكثر.
فلما كان بعد ثلاث وَرَدَ عليه كتاب ابن زياد: يأمره فيه بأن يخرج فيقاتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما.
فقال للرسول: أخبِر الأمير بأنني لا أقوى على المشي؛ فرجلاي مكسورتان كما ترى.
فما كان إلا سبعًا حتى بَلَغَه الخبر أن القائد الذي عيِّن مكانه قد قتَل الحسينَ بن علي بن أبي طالب، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة؛ لقد صدق، إنه كان خيرًا لي.
فانظر كيف أن كسر رجليه كان رحمةً له؛ حيث كان السبب في إعفائه عن ارتكاب أبشع جريمة في حق رجلٍ من أطهر البشر أصلاً ونسبًا، وهي قتل مَن جدُّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأمُّه فاطمة الزهراء، ولو كان ذلك القائد صحيحًا فرفض، لصُلب أو قُتل، وإن أقدم فَعَلَ ما هو خزي وندامة، وصاحبه يوم القيامة من أشد الناس ملامة، وصدق الله إذ يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
ولو أن العبد سلَّم ورضِي بما قدره له ربُّه، لسعد سعادةً لا أعظم منها إلا ما في الجنة؛ ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لا يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان خيرًا له))[2].
…
[1] مع ما سبق ذكره من الإيمان بالله وبالقدر خيره وشره.
[2] أخرجه أحمد برقم (3/481)، وابن حبان (2/507) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (148
أ. محمد بن سعد الفصّام
علاج الأحزان وحرارة المصائب
اذهب إلى مستشفيات الأمراض العقلية، وانظر إلى المرضى الذين أفقدتهم المصائب عقولَهم، هل تريد أن تكون واحدًا منهم؟
لقد رفضت عقولهم تقبُّلَ الواقع، فلم يتغير الواقع؛ لكن عقولهم هي التي تحطمت
الحياة بلا أملٍ صيفٌ قائظ لا يطاق، ولكن الأمل نافذة يأتي منها نسيمُ البر والبحر معًا، وتسمع من خلالها أغاريد طيور الربيع، والأمل بلا عملٍ أمانيُّ خاويةٌ، وأحلام خادعة، لا تغني صاحبَها شيئًا، إذًا خذ مني هذه الوصفة العجيبة في طرد الحزن ونسيان المصائب[1]، هي حقيقةٌ ومجربة ونفع الله بها خلقًا كثيرًا، ولن أقول: إنك سوف تستفيد منها، بل أنا على ثقة أنك سوف تفيد بها غيرَك، وسوف تقدم له وصفة يحفظها لك في ذاكرة الزمن ما عاش.
إنها وببساطة: العمل والانشغال بما تجيده وتستطيع أن تعمله، ولو مع أولادك الصغار، وسوف أسوق لك تجربةَ رجلٍ أصيب بموت فِلْذة كبده مرتين.
لذلك أذكر لك:
(ماريون) رجل أصيب بموت فلذتين من فِلْذات كبده تباعًا.
يقول (ماريون): أول مرة احترق قلبي حين فقدت ابنتي وهي في سن الخامسة من العمر، وكنت متعلقًا بها كثيرًا؛ فهي سلواي في هذه الدنيا، وبعد عشرة أشهر وضعت زوجتي الحامل طفلةً لم تلبث أن فارقت الحياة في اليوم الخامس من ولادتها.
قال: كانت تلك المأساة المتكررة تفوق قدرتي على الاحتمال، فجفا النوم عيني، ولم تعد لدي الرغبة في طعام أو شراب، وأوشكتْ أعصابي على الانهيار.
نصحني طبيب باستخدام الأقراص المنومة، لكن تأثيرها ضعُف بعد أيام وصارت كميات (الشوكولا) بدون تأثيرٍ.
أوصاني طبيبٌ آخر بالسفر والاستجمام، لكن دون طائل، فأعصابي المشدودة لا ترتخي وكأنما حصرت في وسط ملزمة حديدية لا يمكنني الفكاك منها.
الحل يأتي صدفة:
كان لدي طفل في الرابعة من عمره، جعلتُ همي إسعادَه بعد وفاة أختَيه.
وفيما كنت جالسًا ذات يوم في الحديقة أراقبه وهو يلعب وأحلم بأخته قُربَه تلعب معه، كما كان يحصل قبل وفاتها، تقدم إليَّ وسألني:
أبي: هل يمكن أن تبني لي مركبًا الآن؟
لم يكن لدي الاستعداد لذلك، ولا لأي عمل آخر أصلاً، ولكن أمام إلحاحه المتواصل وتهديده لي بالبكاء، استسلمت أخيرًا لمناشدته.
أعددت اللوازم والأدوات وبدأت العمل.
استغرقني إعدادي لهذه اللعبة، فلم أشعر بمرور الوقت، أما هو، فكان يدور حولي من وقت لآخر، ويوجه الملاحظات حول الحجم واللون... إلخ.
وأخيرًا أنجزت المركب، وجريت وإياه لنضعه في البركة.
وضعت المركب في الماء وجلست أتأمله، وحين تطلعت إلى الساعة وجدت أن ثلاث ساعات قد مرت.
إن هذه الثلاث الساعات التي قضيتها في إعداد المركب هي أول فترة أشعر فيها بالاسترخاء والصفاء الذهني والاطمئنان منذ شهر.
اكتشاف حقيقي:
اكتشفت أن استغراقي بالعمل قد حررني من القلق والحزن لمدة ثلاث ساعات.
هذا الاكتشاف دفعني للتفكير، وهي المرة الأولى التي أفكر فيها منذ أشهر بغير المصائب التي أصابتْني.
وجدت أن القلق يبتعد عن رأس الإنسان عندما يكون منشغلاً بعمل يهتم له، ويحتاج إلى التفكير والتخطيط.
وعندما حان المساء، تجولت في المنزل غرفةً غرفة أبحث عن الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح وأدون ذلك في ورقة معي: المكتبة، الأدراج، النوافذ، الستائر، أقفال الأبواب، الحنفيات... إلخ، تصور؟ لقد وجدت 242 شيئًا بحاجة للإصلاح.
وضعت لائحة أولويات وبدأت العمل، ثم انطلقت أشارك في أنشطة أخرى؛ ا.هـ.
وقد تتساءل: كيف يكون هذا سببًا في الراحة ودفع الأحزان؟
وأنا أجيبك على الفور:
أكثر ما يثير القلقَ والحزن هو الفراغُ والتفكير، وكل واحد من هذين يستلزم الثاني؛ فالفارغ يستعرض شريط الأحزان والتفكر فيما حدث؛ مما يثير شعوره الحزنوي، فتبدأ نفسه تتهيج راغبةً عن كل شيء.
إن السبب يسيرٌ ومعروف، إنه أحد أهم قوانين علم النفس، وهو يقول: يستحيل على أي إنسان مهما كان ذكيًّا أن يفكر في أكثر من شيء في وقت واحد، إن لم تصدق يمكنك أن تجرب، اجلس على (الكنبة)، وحاول أن تفكر في آن واحد بالرحلة التي ستقوم بها للاستجمام، وتواريخ استحقاق مدفوعاتك في العام الماضي - هذا صعب - حسنًا حاول أن تفكر في سيارتك التي اشتريتها، وخطبة الجمعة الماضية، هذا غير ممكن، إن الفكرة الأولى تطرد الأخرى، ولا يمكن للعقل أن يجمع بين فكرتين في آن واحد.
إن العمل بهمة وجدٍّ ما هو إلا صابون مركز، يغسل ما علق بذهنك من سواد وقتامةٍ، فإذا حان موعد النوم المؤكد، كان النوم كذلك أقوى من كل فكرةٍ سيئة؛ ألا ترى إلى الأطفال حين يبكون ثم ينامون، ما الذي حدث؟! لقد طغت شدة النوم والشعور بالإرهاق، حتى تغلبت على الحزن وسبب البكاء.
إذًا أقول لك باختصار: اعمل واقضِ على الحزن والقلق بالعمل، وإلا فإنه سيقضي عليك.
ثم تأكَّد وثِقْ وتيقن أن 90% من همومنا بشأن المستقبل لا حقيقة لها، والباقي 10% موزع بين المبالغة فيه وإعطائه أكثر من حجمه، وبين ما تستطيع تحمُّله وبين ما يمكن حله وإصلاحه؛ بل ونسيانه بسرعة.
لذلك دعني أذكر لك:
قصة (جيمس) تاجر البرتقال، لا شك أنك لم تسمع به ولا بها من قبل:
هذا التاجر كان يملك شركة توزيع للبرتقال في ولاية (فلوريدا)، وكان يطلب كل مرة من عشر إلى خمس عشرة شاحنة من البرتقال في وقت واحد.
من فلوريدا البرتقال يشحن بواسطة القطار.
اعتاد (جيمس) في البداية أن يقضي أكثر الوقت قلقًا متوتر الأعصاب حتى يصل البرتقال بأمان إلى الزبائن.
كان يخشى أن ينقلب القطار أو يتحطم الجسر، أو تتعطل الشاحنة التي تحمله إلى القطار أو تصطدم بشاحنة أخرى ويتبعثر البرتقال على الطريق، فساعتها سيخسر السوق والزبائن، وكان يحس أنه سينهار في أية لحظة.
وأخيرًا ذهب إلى طبيب، فأخبره أنه بخير باستثناء بعض التوتر العصبي.
فعاد إلى المنزل، ووضع قلمًا وورقة وأخذ يحسب.
كم شاحنة برتقال نقلت خلال سِني عملي في هذه الشركة؟ الجواب: خمسًا وعشرين ألف شاحنة.
كم واحدة منها تحطمت؟ خمس فقط.
إذًا طبقًا لكل هذه المعدلات، فإن نسبة حصول حادث هي واحد إلى خمسة آلاف، إذًا ما الذي يقلقني يا جيمس؟
حسنًا لنحسب الأمر بالنسبة للجسر:
هل سبق أن انهار الجسر؟ لا.
كم سيارة فقدت بسبب الجسر؟ ولا واحدة.
إذًا، أليس من الحمق بمكان أن تقلق من شيء لم يسبق له أن حدث من قبل؟! كم هي عدد حوادث القطارات نسبة لعدد القطارات والرحلات؟ إن النسبة هي واحد إلى خمسة آلاف.
وهل تستحق هذه النسبة أن تسبب لنفسك القرحة، وأنت تفكر فيها وتقلق لأجلها؟
وأخيرًا تركت القلق الذي كان سيؤدي بي إلى المرض، هأنذا أعيش حياتي سعيدًا.
لو تدبرت الركن الخامس من أركان الإيمان في دين الإسلام العظيم، لزالت جميع الشوائب التي تعكر حياتَك، فحينما تعلم أنه لن يصيبك إلا ما قدَّره الله عليك، وأن ما قدره الله عليك لا يمكن لك بحال أن تَسلَم منه، فترضى نفسُك، وتسلِّم أمرَك للذي خلقك، وتدَع الغيب لعالمه سبحانه، وتعلم أن ربك كريم رحيم لطيف، قد يبتلي العبد فيكتب له الأجور العظيمة، ويفيض عليه من الصبر ما لا يوجد عنده قبل وقوع المصيبة، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا سبقتْ له من الله منزلةٌ لم يَبلُغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده، ثم صبَّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله)).
وتعلم أن الإنس والجن جميعهم لو اجتمعوا وأرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك، لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
وتعلم أن مقادير الكون قد كتبها ربك - ولم يأخذ رأيك فيها - قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا القلق والهم، واليأس والتفكير فيما لا تعلمه، وفيما لا تقدر على تغييره؟
رأى إبراهيم بن أدهم رجلاً قد بان عليه الهمُّ والقلق؛ فوجهه عابسٌ، وجبينه مقطب، ومشيته متماوتة كأنه يحمل الدنيا على ظهره، فسأله عن حاله، فأخبره بأنه رجل لديه هموم قد أقضت مضجعه.
فأجابه إبراهيم بن أدهم بكلام أزال عنه كل ما كان من هم، ونشط الرجل كأنه بعير حل عقاله.
قال له: يا هذا، إني سائلك عن ثلاث:
أيجري في هذا الكون شيءٌ بغير ما أراده الله؟
قال: لا، قال: أينقص من أجلك لحظة كتبها الله لك في الحياة؟ قال: لا، قال: أينقص من رزقك شيء قدره الله؟ قال: لا، قال: فعلامَ الهم إذًا؟!
ترى لو ثرنا وغضبنا وغرقنا في بحار الحزن والتوتر والقلق، هل يمكننا تغييرُ ما قُدر لنا؟ هل بإمكاننا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ومنع حدوث ما حدث؟
هل تحويل ليالينا إلى جحيم من الأحزان واجترار الآلام يمكن أن يعيد لحظةَ سعادة مضت؟
إذًا، لماذا نضيع وقتًا جديدًا؟ لماذا نخسر حياتنا المقبلة حزنًا على حياتنا الماضية؟
هل رأيت في حياتك فلاحًا يحرق بستانه؛ لأن دودة أيبست إحدى أشجاره؟
هل رأيت أحدًا يرمي بكل ما يملك؛ لأنه فقد محفظته؟
هل رأيت أحدًا يقطع يده؛ لأنه فقدَ إحدى أصابعها؟
إذًا لماذا نحزن ونقلق من أجل أمرٍ حدث وانقضى، لماذا نقلق من أجل أمرٍ حدوثُه أو عدم حدوثه ليس بأيدينا؟
لماذا نجعل مصيبتنا أكثرَ من كل مصيبة، مع علمنا أن هذا غير صحيح؟ فمن فقد أحد أفراد عائلته، فهناك من فقد عائلته كلها، ومن فقد عائلته كلها، هناك من فقد عائلته وصحته، ومن فقد عائلته وصحته، فهناك من فقد دينه، وهناك من فقد عائلته وصحته ودينه، ولن ترى حزينًا كسيرًا إلا ومصيبته تهون عند غيره.
إذًا لتواجه الأيام بعزيمة وصبر رجالٍ، لا بكاء صبيان وأطفال، والخلف خير من المفقود، والمفقود المسلم قد يكون في خير مما أنت فيه الآن؛ فإن المؤمن يرجى له خيرٌ عظيم بعد موته؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نفس مسلمةٍ يقبضها ربُّها تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد)).
إن سقي الزهور الميتة بدموعنا يجعلها لينة ليسهل تمزقها وتلاشيها، ولن يعيدها يافعةً متفتحة، فالأمس لا يمكن أن يكون اليوم أو غدًا، وإنما اليوم هو يوم جديد، وغدًا يوم أجد.
إننا إن واجهْنا الواقع القاسي، والقدرَ المحتوم، وقابلْنا المصائب بالعبوس، وحاولْنا استرجاع ما لا يمكن استرجاعُه، وتصليح ما لا يمكن تصليحه، فإن مشاكل الحياة ستحطمنا وتصيبنا بالجنون ولا بد.
اذهب إلى مستشفيات الأمراض العقلية، وانظر إلى المرضى الذين أفقدتهم المصائبُ عقولَهم، هل تريد أن تكون واحدًا منهم؟
لقد رفضت عقولهم تقبُّلَ الواقع، فلم يتغير الواقع؛ لكن عقولهم هي التي تحطمت.
إن الأشجار التي لا تنحني أمام العاصفة تقصف وتبقى جذوعًا هامدة، أما التي تنحني قليلاً، فسرعان ما تعود شامخة قوية.
إذًا تقبل ما لا يمكن تغييره؛ لأن القلق لن يغيرَه، بل سوف يتبع المصيبة الأولى بمصيبة أشدَّ منه، وهي فقْد راحتك وصحتك.
ما قضي كان، ولعل فيه الخير لك وأنت لا تدري: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، فلماذا نقلق من أمر لا ندري خيره من شره؟
لذلك دعني أذكر لك:
كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائدًا من قواد عبيدالله بن زياد، فسقط عن السطح فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو قلابة يعوده، فقال: أرجو أن يكون ذلك خيرًا لك، فقال له: يا أبا قلابة، وأي خير في كسر رجلي جميعًا؟! فقال أبو قلابة: ما ستر عنك كان أكثر.
فلما كان بعد ثلاث وَرَدَ عليه كتاب ابن زياد: يأمره فيه بأن يخرج فيقاتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما.
فقال للرسول: أخبِر الأمير بأنني لا أقوى على المشي؛ فرجلاي مكسورتان كما ترى.
فما كان إلا سبعًا حتى بَلَغَه الخبر أن القائد الذي عيِّن مكانه قد قتَل الحسينَ بن علي بن أبي طالب، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة؛ لقد صدق، إنه كان خيرًا لي.
فانظر كيف أن كسر رجليه كان رحمةً له؛ حيث كان السبب في إعفائه عن ارتكاب أبشع جريمة في حق رجلٍ من أطهر البشر أصلاً ونسبًا، وهي قتل مَن جدُّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأمُّه فاطمة الزهراء، ولو كان ذلك القائد صحيحًا فرفض، لصُلب أو قُتل، وإن أقدم فَعَلَ ما هو خزي وندامة، وصاحبه يوم القيامة من أشد الناس ملامة، وصدق الله إذ يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
ولو أن العبد سلَّم ورضِي بما قدره له ربُّه، لسعد سعادةً لا أعظم منها إلا ما في الجنة؛ ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لا يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان خيرًا له))[2].
…
[1] مع ما سبق ذكره من الإيمان بالله وبالقدر خيره وشره.
[2] أخرجه أحمد برقم (3/481)، وابن حبان (2/507) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (148