محب الدعوة
07-03-2010, 11:06 AM
ما الولاء الذي يريده الله منا ؟ مع بيان ذلك بالدليل ، وتوضيح المراد من كل واحدٍ منها بأدلته ؟
ج311: أقول : الولاء الذي يريده الله جل وعلا من عباده هو الولاء له جل وعلا ولرسوله ولعباده المؤمنين ، فهذه أنواع الولاء المشروعة وما عداها فليس بمشروع ، بل إن ما عداها داخل في الولاء الممنوع ، وبه تعلم أن الولاء قسمان : ولاء مشروع أي مأمور به ، وولاء ممنوع أي منهي عنه .
والولاء المشروع هو الولاء لله تعالى ، والولاء لرسوله ، والولاء لعباده المؤمنين ، والدليل على ذلك قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، فقوله : إنما هي أداة حصر ، أي : أنه يجب حصر الولاية فيما ذكر فقط ونفيها عما عداه ، فهذه الآية الكريمة حددت لنا الذين يتوجه إليهم بالولاء ، وهم : الله تعالى ، ورسوله ، والذين آمنوا .
واعلم أن المراد بالولاء بكل واحدٍ من هؤلاء يقتضي أمرين : الحب والنصرة .
فأما حب الله تعالى فهو أساس الدين وقاعدة الشريعة ، فهو جل وعلا أحق من يتوجه إليه بالموالاة بكل أشكالها ومختلف صورها ، ومحبته جل وعلا محبة تعبد واتباع ، فحبه تعالى ركن من أركان الولاء ، أي : أنه لا يمكن أن يقوم ولاء لله تعالى بدون تحقيق هذا الحب ، بل لا يقبل إسلام بدون هذا الحب ، بل يجب على المسلم أن يفوق حبه لله تعالى كل حب ، قال تعالى : والذين آمنوا أشد حبًا لله ، وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، وقال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين .
وهذا الحب له مقتضيات ، منها : توقيره ، وتعظيمه ، وإفراده بالتوحيد جل وعلا ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والتحاكم إليه ، وإسلام القلوب والوجوه له ، والإيمان به ، واللجأ إليه في جميع الأمور ، ورجاؤه ، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه من الشرائع إيجابًا أو استحبابًا ، والإكثار من ذكره بأنواع الذكر المشروعة ، والإقبال على التعرف عليه بمعرفة أسمائه وصفاته والتعبد له بآثارها ومقتضياتها ، واتباع رسوله بأن لا نعبد الله ولا نتقرب إليه إلا بما شرعه لنا على لسان رسوله ، ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه ، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، وغير ذلك مما توجبه محبته جل وعلا ؛ وذلك لأن حبه جل وعلا إذا تحقق في القلب فإنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح ، والله المستعان .
وأما نصرته جل وعلا فهي الركن الثاني من أركان موالاته جل وعلا ، فيجب على المسلم الذي يوالي الله تعالى أن ينصر الله تعالى كما قال الله جل شأنه : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، وقال تعالى : ولينصرن الله من ينصره ، وقال تعالى : وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، وقال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ، والمراد بنصره جل وعلا نصره باتباع شريعته بفعل المأمور وترك المحظور ، ونصر كتابه ، والدفاع عن دينه ، والإيمان برسوله ، والجهاد في سبيله ، وترك شهوات النفوس التي لا يرضاها ، ونصرة أوليائه ، وغير ذلك ، فمن تحقق فيه ذلك فإنه يكون قد حقق ركني ولاية الله جل وعلا التي هي المحبة والنصرة ، وبه تعلم أن موالاة العباد لله جل وعلا تتفاوت بين شخصٍ وآخر بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات وظهور هذه الآثار ، فمحبته لها آثارها ونصرته لها آثارها ، فأعظمنا تحقيقًا لهذه الآثار أكبرنا ولاية له جل وعلا ، والله أعلم .
وأما الموالاة للنبي فهي أيضًا تقتضي أمرين هما : المحبة والنصرة .
فأما محبته فهي فرض لازم على كل أحد ، بل هي من مقتضيات الشهادة بأنه رسول الله ، بل لابد أن تكون محبتنا له مقدمة على محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن والأنفس والناس أجمعين ، فإنه لم يحقق الإيمان الواجب من قدم شيئًا من هذه المحاب على محبته كما قال في الصحيحين : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... )) الحديث ، متفق عليه . ولما قال له عمر : يا رسول الله ، إني أحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي . فقال : (( لا يا عمر حتى من نفسك )) . فقال عمر : والذي بعثك بالحق إني لأحبك أكثر من نفسي . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الآن يا عمر )) والحديث في صحيح البخاري .
فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على أن محبته شرط من شروط تحقيق الإيمان الواجب ، بل ليست محبته فقط ، وإنما تقديم محبته على كل محبة ، ثم اعلم أن محبته ليست شعورًا نفسيًا أو مجرد اعتقاد فقط ، بل لابد أن يأتي العبد ببرهانها الذي يصدقها ، وهو اتباعه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فعنوان محبته الاتباع وترك الابتداع ، وبناءً عليه فنقول : أعظمنا وأصدقنا محبة له أشدنا له اتباعًا وأكملنا به اقتداءً ، وبه تعلم أن الذين يحتفلون بمولده هم في الحقيقة يبغضونه وإن ادعوا حبه ؛ لأن ما يفعلونه ويقولونه من هذه البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان هي في حقيقتها مضادة لما جاء به ، ومخالفة لشريعته ، فكيف يزعمون حبه وهم يخالفون أمره ويدخلون في شريعته ما ليس منها ، وهم مع ذلك يرفضون تحكيم ما جاء به من الشرع ويستبدلونه بقوانين الشرق والغرب ، فسبحان الله ما هذا التناقض ؟
والمقصود : أن محبته ليس عقيدة باطنية فقط ولا كلمة تقال فقط ، بل لابد مع الاعتقاد والقول تصديق ذلك بالاتباع ، والله الموفق والهادي ، فهذا بالنسبة لمحبته .
وأما نصرته فاعلم - يا رعاك الله تعالى - أن من تمام الموالاة أن ينصر المسلم رسول الله بكل أنواع النصرة ، وبكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ ولوازم .
فمن جملة هذه المعاني : نصرته بالإيمان به وأنه آخر الأنبياء ، فلا نبي بعده .
ومنها : نصرته بالذب عن سنته والدفاع عنها بما يفتحه الله على العبد من العلم النافع .
ومنها : نصرته بالإقبال على سنته تعلمًا وتعليمًا وحفظًا وشرحًا ونشرًا .
ومنها : نصرته بتقديم قوله على قول كل أحدٍ ، كما قال الناظم :
والقـول منـه مقـدم فاحـذر إذا
ذكر الحديـث تقـول شيئًا ثاني
ومنها : نصرته بطاعة أمره وترك نهيه وتصديقه في كل ما أخبر به .
ومنها : نصرته بتعزيره وتوقيره وتعظيمه وتقديره حق قدره ، قال تعالى : فالذين آمنوا بالله ورسوله وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ، وقال تعالى : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ... الآية .
ومنها : نصرته بحب صحابته واعتقاد أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وأنه لا كان ولا يكون مثلهم ، والذب عنهم ونشر فضائلهم والصمت وعدم الخوض فيما جرى بينهم من الخلاف .
ومنها : محاربة البدع بكل أنواع المحاربة الممكنة ، ولا نعني بدعة بعينها ، بل نحارب البدع كلها بكل صورها ومختلف أشكالها .
ومنها : بيان مكانته وفضله ونشر شمائله والتحلي بأخلاقه وسلوك سبيله واتباع سنته واقتفاء أثره وغير ذلك من معاني الاتباع .
ومنها : قتل سابه والقادح فيه انتصارًا له كما مضى ذكره مفصلاً في الكلام عن سب النبي - عليه الصلاة والسلام - ، قال تعالى : وينصرون الله ورسوله ، وقال تعالى : وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب .
فإذا حقق العبد هذين الركنين فقد حقق ولايته للنبي ، ومن المعلوم أن تحقيق الولاية كمالاً ونقصًا يتفاوت بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات ، أعني آثار المحبة والنصرة له ، والله أعلم .
وأما موالاة المؤمنين فلها ركنان أيضًا ، وهما : المحبة والنصرة .
فأما المحبة فاعلم - يا رعاك الله - أنه يجب وجوب عين على كل مسلم أن يحب إخوانه المسلمين فهم إخوة له في العقيدة وشركاء له في التوحيد ، كما قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة ، وقال تعالى عن المشركين : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين .
وهـذه المحبة تقتضي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) متفق عليه ، فجعل النبي ذلك الأمر شرطًا لا يتحقق كمال الإيمان الواجب إلا به .
ومحبته أيضًا تقتضي تحقيق قوله : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ... )) الحديث .
وتقتضي أيضًا تحقيق قوله : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) .
وتقتضي أيضًا التسامح والتصافح والتوادد والتعاطف والتراحم فيما بيننا .
وتقتضي أيضًا حفظ عرضه فلا يغتاب بعضنا بعضًا ولا ينم بعضنا على بعض .
وتقتضي أيضًا ستر عيوبه والتجاوز عن أخطائه ما أمكن ذلك .
وتقتضي أيضًا بذل النصيحة له بلا غش كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( الدين النصيحة )) ، وقال : (( وإذا استنصحك فانصح له )) .
وتقتضي أيضًا سد فاقته وإعانته بما تقدر عليه من بذل جاهٍ أو مال ونحو ذلك ، وإن مما امتدح الله به الأنصار قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، فالمحبة بين المسلمين فرض لازم لابد من تحقيقه بتحقيق مقتضياتها وآثارها ، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك .
وأما نصرته فاعلم أنه يجب على المسلم الذي صرف ولاءه للمؤمنين أن ينصر إخوانه في الله وأن يشد عضد إخوانه في العقيدة بما آتاه الله تعالى من قوة وقدرة ، قال تعالى : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فنرى المسلم الحق يشعر بأخيه المسلم في كل مكان وإن تباعدت الأقطار واختلفت الألوان واللغات والجنسيات ، فكل ذلك لا أثر له في زيادة الحب أو ضعفه ، فإنه مهما تباعدت مساقط رؤوسهم فإن الدين يشملهم والعقيدة تجمعهم .
وهذه النصرة تقتضي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتعليمه إن كان جاهلاً وتذكيره إن كان ناسيًا وتخليصه من الأسر والرق إن كان مأسورًا أو رقيقًا .
وتقتضي أيضًا اللين وخفض الجناح له كما قال تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .
وتقتضي أيضًا محبته ومودته والحفاظ على حرمته ونصرته بالمال والنفس .
وتقتضي أيضًا نصرته بأن يخلفه بخير في أهله وماله .
وتقتضي أيضًا نصرته بالدعاء له .
وتقتضي أيضًا الذب عن عرضه عند سماع غيبته .
وبالجملة فلابد من نصره ظالمًا ومظلومًا ويوضح ذلك قوله : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا )) فقال : يا رسول الله : أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا ؟ فقال : (( تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصر له )) أو كما قال رسول الله والحديث في الصحيح .
وبالجملة فالكلام على هذه الأمور يطول ويحتمل أكثر من ذلك . والمقصود أن الولاء المشروع إنما هو الولاء لله تعالى بنصرته ومحبته ، والولاء للنبي بنصرته ومحبته ، والولاء للمؤمنين بنصرتهم ومحبتهم ، والله يتولانا وإياك وهو أعلم وأعلى .
الشيخ وليد السعيدان ...
* * *
ج311: أقول : الولاء الذي يريده الله جل وعلا من عباده هو الولاء له جل وعلا ولرسوله ولعباده المؤمنين ، فهذه أنواع الولاء المشروعة وما عداها فليس بمشروع ، بل إن ما عداها داخل في الولاء الممنوع ، وبه تعلم أن الولاء قسمان : ولاء مشروع أي مأمور به ، وولاء ممنوع أي منهي عنه .
والولاء المشروع هو الولاء لله تعالى ، والولاء لرسوله ، والولاء لعباده المؤمنين ، والدليل على ذلك قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، فقوله : إنما هي أداة حصر ، أي : أنه يجب حصر الولاية فيما ذكر فقط ونفيها عما عداه ، فهذه الآية الكريمة حددت لنا الذين يتوجه إليهم بالولاء ، وهم : الله تعالى ، ورسوله ، والذين آمنوا .
واعلم أن المراد بالولاء بكل واحدٍ من هؤلاء يقتضي أمرين : الحب والنصرة .
فأما حب الله تعالى فهو أساس الدين وقاعدة الشريعة ، فهو جل وعلا أحق من يتوجه إليه بالموالاة بكل أشكالها ومختلف صورها ، ومحبته جل وعلا محبة تعبد واتباع ، فحبه تعالى ركن من أركان الولاء ، أي : أنه لا يمكن أن يقوم ولاء لله تعالى بدون تحقيق هذا الحب ، بل لا يقبل إسلام بدون هذا الحب ، بل يجب على المسلم أن يفوق حبه لله تعالى كل حب ، قال تعالى : والذين آمنوا أشد حبًا لله ، وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، وقال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين .
وهذا الحب له مقتضيات ، منها : توقيره ، وتعظيمه ، وإفراده بالتوحيد جل وعلا ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والتحاكم إليه ، وإسلام القلوب والوجوه له ، والإيمان به ، واللجأ إليه في جميع الأمور ، ورجاؤه ، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه من الشرائع إيجابًا أو استحبابًا ، والإكثار من ذكره بأنواع الذكر المشروعة ، والإقبال على التعرف عليه بمعرفة أسمائه وصفاته والتعبد له بآثارها ومقتضياتها ، واتباع رسوله بأن لا نعبد الله ولا نتقرب إليه إلا بما شرعه لنا على لسان رسوله ، ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه ، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، وغير ذلك مما توجبه محبته جل وعلا ؛ وذلك لأن حبه جل وعلا إذا تحقق في القلب فإنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح ، والله المستعان .
وأما نصرته جل وعلا فهي الركن الثاني من أركان موالاته جل وعلا ، فيجب على المسلم الذي يوالي الله تعالى أن ينصر الله تعالى كما قال الله جل شأنه : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، وقال تعالى : ولينصرن الله من ينصره ، وقال تعالى : وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، وقال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ، والمراد بنصره جل وعلا نصره باتباع شريعته بفعل المأمور وترك المحظور ، ونصر كتابه ، والدفاع عن دينه ، والإيمان برسوله ، والجهاد في سبيله ، وترك شهوات النفوس التي لا يرضاها ، ونصرة أوليائه ، وغير ذلك ، فمن تحقق فيه ذلك فإنه يكون قد حقق ركني ولاية الله جل وعلا التي هي المحبة والنصرة ، وبه تعلم أن موالاة العباد لله جل وعلا تتفاوت بين شخصٍ وآخر بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات وظهور هذه الآثار ، فمحبته لها آثارها ونصرته لها آثارها ، فأعظمنا تحقيقًا لهذه الآثار أكبرنا ولاية له جل وعلا ، والله أعلم .
وأما الموالاة للنبي فهي أيضًا تقتضي أمرين هما : المحبة والنصرة .
فأما محبته فهي فرض لازم على كل أحد ، بل هي من مقتضيات الشهادة بأنه رسول الله ، بل لابد أن تكون محبتنا له مقدمة على محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن والأنفس والناس أجمعين ، فإنه لم يحقق الإيمان الواجب من قدم شيئًا من هذه المحاب على محبته كما قال في الصحيحين : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... )) الحديث ، متفق عليه . ولما قال له عمر : يا رسول الله ، إني أحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي . فقال : (( لا يا عمر حتى من نفسك )) . فقال عمر : والذي بعثك بالحق إني لأحبك أكثر من نفسي . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الآن يا عمر )) والحديث في صحيح البخاري .
فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على أن محبته شرط من شروط تحقيق الإيمان الواجب ، بل ليست محبته فقط ، وإنما تقديم محبته على كل محبة ، ثم اعلم أن محبته ليست شعورًا نفسيًا أو مجرد اعتقاد فقط ، بل لابد أن يأتي العبد ببرهانها الذي يصدقها ، وهو اتباعه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فعنوان محبته الاتباع وترك الابتداع ، وبناءً عليه فنقول : أعظمنا وأصدقنا محبة له أشدنا له اتباعًا وأكملنا به اقتداءً ، وبه تعلم أن الذين يحتفلون بمولده هم في الحقيقة يبغضونه وإن ادعوا حبه ؛ لأن ما يفعلونه ويقولونه من هذه البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان هي في حقيقتها مضادة لما جاء به ، ومخالفة لشريعته ، فكيف يزعمون حبه وهم يخالفون أمره ويدخلون في شريعته ما ليس منها ، وهم مع ذلك يرفضون تحكيم ما جاء به من الشرع ويستبدلونه بقوانين الشرق والغرب ، فسبحان الله ما هذا التناقض ؟
والمقصود : أن محبته ليس عقيدة باطنية فقط ولا كلمة تقال فقط ، بل لابد مع الاعتقاد والقول تصديق ذلك بالاتباع ، والله الموفق والهادي ، فهذا بالنسبة لمحبته .
وأما نصرته فاعلم - يا رعاك الله تعالى - أن من تمام الموالاة أن ينصر المسلم رسول الله بكل أنواع النصرة ، وبكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ ولوازم .
فمن جملة هذه المعاني : نصرته بالإيمان به وأنه آخر الأنبياء ، فلا نبي بعده .
ومنها : نصرته بالذب عن سنته والدفاع عنها بما يفتحه الله على العبد من العلم النافع .
ومنها : نصرته بالإقبال على سنته تعلمًا وتعليمًا وحفظًا وشرحًا ونشرًا .
ومنها : نصرته بتقديم قوله على قول كل أحدٍ ، كما قال الناظم :
والقـول منـه مقـدم فاحـذر إذا
ذكر الحديـث تقـول شيئًا ثاني
ومنها : نصرته بطاعة أمره وترك نهيه وتصديقه في كل ما أخبر به .
ومنها : نصرته بتعزيره وتوقيره وتعظيمه وتقديره حق قدره ، قال تعالى : فالذين آمنوا بالله ورسوله وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ، وقال تعالى : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ... الآية .
ومنها : نصرته بحب صحابته واعتقاد أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وأنه لا كان ولا يكون مثلهم ، والذب عنهم ونشر فضائلهم والصمت وعدم الخوض فيما جرى بينهم من الخلاف .
ومنها : محاربة البدع بكل أنواع المحاربة الممكنة ، ولا نعني بدعة بعينها ، بل نحارب البدع كلها بكل صورها ومختلف أشكالها .
ومنها : بيان مكانته وفضله ونشر شمائله والتحلي بأخلاقه وسلوك سبيله واتباع سنته واقتفاء أثره وغير ذلك من معاني الاتباع .
ومنها : قتل سابه والقادح فيه انتصارًا له كما مضى ذكره مفصلاً في الكلام عن سب النبي - عليه الصلاة والسلام - ، قال تعالى : وينصرون الله ورسوله ، وقال تعالى : وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب .
فإذا حقق العبد هذين الركنين فقد حقق ولايته للنبي ، ومن المعلوم أن تحقيق الولاية كمالاً ونقصًا يتفاوت بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات ، أعني آثار المحبة والنصرة له ، والله أعلم .
وأما موالاة المؤمنين فلها ركنان أيضًا ، وهما : المحبة والنصرة .
فأما المحبة فاعلم - يا رعاك الله - أنه يجب وجوب عين على كل مسلم أن يحب إخوانه المسلمين فهم إخوة له في العقيدة وشركاء له في التوحيد ، كما قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة ، وقال تعالى عن المشركين : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين .
وهـذه المحبة تقتضي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) متفق عليه ، فجعل النبي ذلك الأمر شرطًا لا يتحقق كمال الإيمان الواجب إلا به .
ومحبته أيضًا تقتضي تحقيق قوله : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ... )) الحديث .
وتقتضي أيضًا تحقيق قوله : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) .
وتقتضي أيضًا التسامح والتصافح والتوادد والتعاطف والتراحم فيما بيننا .
وتقتضي أيضًا حفظ عرضه فلا يغتاب بعضنا بعضًا ولا ينم بعضنا على بعض .
وتقتضي أيضًا ستر عيوبه والتجاوز عن أخطائه ما أمكن ذلك .
وتقتضي أيضًا بذل النصيحة له بلا غش كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( الدين النصيحة )) ، وقال : (( وإذا استنصحك فانصح له )) .
وتقتضي أيضًا سد فاقته وإعانته بما تقدر عليه من بذل جاهٍ أو مال ونحو ذلك ، وإن مما امتدح الله به الأنصار قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، فالمحبة بين المسلمين فرض لازم لابد من تحقيقه بتحقيق مقتضياتها وآثارها ، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك .
وأما نصرته فاعلم أنه يجب على المسلم الذي صرف ولاءه للمؤمنين أن ينصر إخوانه في الله وأن يشد عضد إخوانه في العقيدة بما آتاه الله تعالى من قوة وقدرة ، قال تعالى : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فنرى المسلم الحق يشعر بأخيه المسلم في كل مكان وإن تباعدت الأقطار واختلفت الألوان واللغات والجنسيات ، فكل ذلك لا أثر له في زيادة الحب أو ضعفه ، فإنه مهما تباعدت مساقط رؤوسهم فإن الدين يشملهم والعقيدة تجمعهم .
وهذه النصرة تقتضي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتعليمه إن كان جاهلاً وتذكيره إن كان ناسيًا وتخليصه من الأسر والرق إن كان مأسورًا أو رقيقًا .
وتقتضي أيضًا اللين وخفض الجناح له كما قال تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .
وتقتضي أيضًا محبته ومودته والحفاظ على حرمته ونصرته بالمال والنفس .
وتقتضي أيضًا نصرته بأن يخلفه بخير في أهله وماله .
وتقتضي أيضًا نصرته بالدعاء له .
وتقتضي أيضًا الذب عن عرضه عند سماع غيبته .
وبالجملة فلابد من نصره ظالمًا ومظلومًا ويوضح ذلك قوله : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا )) فقال : يا رسول الله : أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا ؟ فقال : (( تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصر له )) أو كما قال رسول الله والحديث في الصحيح .
وبالجملة فالكلام على هذه الأمور يطول ويحتمل أكثر من ذلك . والمقصود أن الولاء المشروع إنما هو الولاء لله تعالى بنصرته ومحبته ، والولاء للنبي بنصرته ومحبته ، والولاء للمؤمنين بنصرتهم ومحبتهم ، والله يتولانا وإياك وهو أعلم وأعلى .
الشيخ وليد السعيدان ...
* * *