محب الدعوة
06-22-2010, 02:40 PM
س46: عرف التوكل ؟ وما أنواعه ؟ وحكم كل نوع ، مع الدليل .
ج46: التوكل على الشيء الاعتماد عليه ، والتوكل على الله تعالى هو الاعتماد على الله تعالى كفاية وحسبًا في جلب المنافع ودفع المضار ، وهو أنواع :
الأول : التوكل على الله تعالى في جلب الخيرات بأنواعها ودفع المضرات بأنواعها ، وهذا من تمام الإيمان الواجب أي أنه لا يتم الإيمان إلا به ، قال تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، وقال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، وقال تعالى : وعلى الله فليتوكل المتوكلون .
الثاني : توكل السر ، ومعناه أن يتوكل على ميتٍ في جلب منفعة أو دفع مضرة ، فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفًا خفيًا في الكون ولا فرق بين أن يكون ذلك الميت نبيًا أو وليًا أو غيرهما ، وذلك كاعتماد أصحاب القبور على الأموات .
الثالث : التوكل على الغير فيما يقدر عليه مع اعتماد القلب على ذلك الغير في حصول المطلوب أو دفع المرهوب ، فهذا شعبة من الشرك ، لكنه الشرك الأصغر وذلك لقوة تعلق القلب به .
الرابع : التوكل على الغير فيما يقدر عليه ذلك الغير مع اعتماد القلب بكليته على الله تعالى واعتقاد أن ذلك إنما هو سبب في تحصيل الأمر المطلوب فقط ، كمن ينيب غيره في أمرٍ تدخله النيابة ، فهذا لا بأس به ، وهو بهذا الاعتبار يأتي بمعنى الوكالة ، فقد وكل يعقوب - عليه الصلاة والسلام - أبناءه في البحث عن أخيهم يوسف - عليه السلام - فقال: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، وقد وكل النبي على الصدقة عمالاً وحفاظًا ، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب في ذبح ما لم يذبح من هديه وأن يتصدق بجلودها وجلالها ، وهذا جائز بالإجماع في الجملة .
فتبين بهذا أن النوع الأول : هو حقيقة الإيمان وتمامه الواجب ، وأن النوع الثاني : شرك أكبر ، والثالث : شرك أصغر ، والرابع : لا بأس به ، والله أعلم .
* * *
س47: عرف الخوف ؟ وما أنواعه ؟ وحكم كل نوع ؟ مع الدليل .
ج47: الخوف هو الذعر ، وهو نوع انفعال يحصل في النفس له أثر ظاهر بسبب توقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى ، وقد ذكر أهل العلم أنه أنواع :
الأول : الخوف الطبيعي الجبلي ، كخوف الإنسان من النار أن تحرقه ، أو من السبع أن يأكله ، أو من الماء الكثير أن يغرق فيه ، فهذا خوف لا يلام الإنسان عليه ، فقد خاف كليم الله موسى - عليه السلام - من فرعون وقومه كما قال تعالى : فأصبح في المدينة خائفًا يترقب ، وقد خاف نبي الله داود لما تسور عليه الخصمان كما قال تعالى : إذ دخلوا على داود ففزع منهم ، وقال تعالى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : فأوجس منهم خيفة ، وهذا خوف طبيعي لا يلام العبد عليه .
الثاني : الخوف الذي تسميه العلماء بخوف السر ، ومعناه أن يخاف العبد من قبرٍ أو ميتٍ أو غائب بعيد عنه أن يصيبه بأذى ، فهذا الخوف ليس به أسباب معلومة ، بل لم يصدر هذا الخوف من هذا الرجل إلا لاعتقاده أن لهذا المخوف منه تصرفًا خفيًا في الكون بكونه قادرًا على أن يصيبه بأذى ، وهذا الخوف شرك أكبر مخرج عن الملة ، كما قال تعالى عن قوم هود أنهم قالوا له : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوءٍ فقد كانوا يظنون ويعتقدون فيها أنها تصيب من أنكر عبادتها بالأذى مع أنها حجارة لا تضر ولا تنفع .
الثالث : الخوف الذي يوجب لصاحبه ترك واجب أو فعل محرم ، وهذا الخوف حرام في ذاته ؛ لأنه وسيلة إلى الحرام ووسائل الحرام حرام ، وذلك لقوله تعالى : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ، وقال تعالى : أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ، وذلك كالخوف الذي يحمل صاحبه على ترك الدعوة المتعينة عليه ، والخوف الذي يوجب ترك الجهاد ، والخوف الذي يوجب طاعة المخلوق في معصية الخالق ونحو ذلك ، فهذا الخوف حرام ، والله أعلم .
* * *
س48: ما مذهب أهل السنة في الجمع بين الخوف والرجاء ؟
ج48: مذهبهم في ذلك أنه لابد أن يعبد العبد ربه بهما أي أن يعبد الله تعالى راغبًا راهبًا ، كما قال تعالى : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين ، وقال تعالى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين ؛ وذلك لأنه من عبد الله بالرجاء وحده أمن من مكر الله ، ومن عبده بالخوف وحده وقع في اليأس من رحمة الله وقنط من روح الله ، ومن عبده بالخوف والرجاء فهو الموحد المهدي إلى الصراط المستقيم ، ولابد من استوائهما فلا يغلب الخوف على الرجاء ، ولا يغلب الرجاء على الخوف فيهلك ، وهذه صورة من صور الوسطية إلا أنه إذا كان هناك مقتضى لتغليب أحدهما فإنه يغلبه وإلا فالأصل استوائهما ، وذلك كما إذا كان العبد يعالج سكرات الموت فلابد من تغليب جانب الرجاء حتى يحصل له إحسان الظن بربه كما في الحديث : (( أنا عند ظن عبدي بي )) ، وفي الحديث الآخر : (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )) ، وطريق إحسان الظن تغليب الرجاء ، ومثال آخر : عند التوبة من الذنوب والمعاصي فإنه لابد أن يغلب جانب الرجاء ، ومثال آخر : عند تحديث النفس بفعل شيء من الذنوب فإنه لابد أن يغلب جانب الخوف لتنزجر النفس عن ذلك ، وعلى ذلك فقس ، وبه تعلم أن الخشية إنما هي اجتماع الخوف والرجاء ، والله أعلم .
* * *
س49 : ما قاعدة أهل السنة والجماعة في الأيْمان ؟ مع بيان الدليل عليها .
ج49: القاعدة عندهم في الأيمان تقول : (لا يجوز الحلف إلا بالله أو صفة من صفاته) ، وبعضهم يزيدها إيضاحًا ويقول : ( لله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته وليس للعبد أن يحلف إلا بالله أو صفةٍ من صفاته ) ، ودليلها قوله : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) ، وحديث : (( لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت )) ، وعن قتيلة أن يهوديًا أتى النبي فقال : إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة ، فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : (( ورب الكعبة )) ، وأن يقولوا : (( ما شاء الله وشئت )) رواه النسائي وصححه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا تحلفوا بآبائكم ومن حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضى ومن لم يرضى فليس منا )) رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن ، وقال ابن مسعود : (( لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا )) ؛ وذلك لأن الحلف بالله كاذبًا معصية والحلف بغير الله شرك وإن كان صادقًا ، ومن الأدلة أيضًا الإجماع المنعقد على المنع من الحلف بغير الله تعالى ولا عبرة بمن قال بغير ذلك لمخالفته لهذه النصوص الصريحة الصحيحة ، والله أعلم .
* * *
س50: ما حكم الحلف بغير الله تعالى - بالتفصيل - ؟ وما كفارة ذلك ؟ مع الدليل .
ج50: من حلف بغير الله تعالى فإنه قد وقع في الشرك الأصغر ، إلا أنه إن كان قد صاحب حلفه تعظيم كتعظيم الله تعالى فإنه في هذه الحالة يكون قد وقع في الشرك الأكبر ، كما يفعله عباد القبور والأولياء فإن أحدهم إذا أراد أن يحلف كاذبًا فإنه يحلف بالله تعالى ، وإذا أراد أن يغلظ الأيمان ويبر فيها ويظهر أنه صادق فإنه يحلف بوليه الذي يعظمه ، وهذا عين الشرك الأكبر ولاشك ، ومن حلف بغير الله تعالى فإن كفارة ذلك أن يقول : لا إله إلا الله ، لحديث : (( من حلف فقال واللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله )) وهو في الصحيح ؛ وذلك لأنه بهذا الحلف قد جرح توحيده بالشرك فلابد من جبر ذلك الجرح إن كان الشرك أصغرًا ، أو يكون بذلك مجددًا إسلامه إن كان أكبرًا ، والله أعلم .
* * *
س51: هل لك أن تمثل لنا على نماذج من الحلف بغير الله تعالى ؟
ج51: نعم على الرحب والسعة ، فمن ذلك : الحلف بالنبي فيقول : والنبي ، وليس بحجةٍ علينا أنه مما يجري على اللسان من غير قصد أو أنه نشأ في بلدة يحلف أهلها بذلك فإن الإنسان متعبد بما جاء به النص لا بما وجد عليه أهل بلده .
ومن ذلك : الحلف بالأمانة فيقول : والأمانة . أو كالحلف بالشرف ، فيقول : وشرفي ، أو وشرف أبي أو أمي . أو كالحلف بالبدوي ، أو زينب ، أو الحسن ، أو برأس أحدٍ من المخلوقين ، أو بالعهد والميثاق ، أو بالكعبة ، أو بمقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، أو بتربة القبر الفلاني ، أو بالعيش والملح ، أو يقول : وحياتك يا فلان أو وحياتي ، ونحو ذلك .
كله محرم وشرك ؛ لأن الحلف عبادة فلا يعقد إلا بالله تعالى ولما مضى من الأدلة ، والله أعلم .
* * *
س52: ما حكم الحلف بآيات الله ؟ مع الدليل .
ج52: هذا السؤال مجمل ، وجوابه لابد فيه من التفصيل فأقول :
إن كان يريد بالآيات أي الآيات الكونية كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والليل والنهار ، فهذه الأشياء مخلوقة ، وقد تقرر لنا أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات ، وأما قوله تعالى : والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها ، وقوله : والفجر . وليال عشر ، وقوله : والضحى ، ونحو ذلك مما ورد في القرآن فإن هذا القسم صادر من الله تعالى ولله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته ، وأما المخلوق فإنه لا يجوز له أن يحلف إلا بالله أو صفةٍ من صفاته ، وربنا جل وعلا لا يدخل تحت الأحكام الشرعية حتى نقول : هذا واجب عليه أو هذا محرم عليه - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - .
وأما إذا كان يقصد بالآيات أي الآيات الشرعية أي القرآن فإنه آيات ، كما قال تعالى : بل هو آيات في صدور الذين أوتوا العلم ، وقال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، فحلفه بها حينئذٍ جائز باعتبار أن هذه الآيات من كلام الله تعالى وكلامه تعالى صفة من صفاته ، وقد تقرر أنه يجوز الحلف بالصفة ، وبهذا التفصيل يفهم الجواب - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
* * *
س53: ما حكم قول بعض الناس : ( في ذمتي ) ؟
ج53: إن كان يقصد بها عقد اليمين فهذا لا يجوز ؛ لأن الذمة مخلوقة ، وقد تقرر لنا أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق ، وإن كان لا يقصد بها عقد اليمين وإنما يقصد أنه يتحمل حقيقة الخبر إن كان كذبًا فهذا لا بأس به ، ولكن الغالب يشكل عليهم هذا اللفظ ولا يفهمون منه إلا أنه حلف فالواجب الكف عن التلفظ به والعدول عنه إلى الأيمان التي لا إشكال فيها ؛ لأن ذلك من حماية جناب التوحيد ، والله أعلم .
* * *
س54: ما حكم الإكثار من الحلف ؟ ولماذا ؟ مع بيان الدليل .
ج54: الإكثار من الحلف منافٍ لكمال تعظيم الله تعالى واحترام أسمائه وصفاته ؛ وذلك لأن الحلف به أمر عظيم فلا ينبغي أن يقال إلا على تأكيد الأشياء العظيمة المهمة وأما سفاسف الأمور وترهات الأقوال فإنه ينبغي تنزيه أسماء الله وصفاته أن تذكر لتأكيد مثل ذلك ، والواجب على المسلم تعظيم الله تعالى واحترام أسمائه وصفاته ، ولذلك فإنه لم يرد في القرآن أن الله تعالى أمر نبيه أن يحلف به إلا على الأشياء العظيمة كأمر المبعث والمعاد وصدق القرآن ، قال تعالى : واحفظوا أيمانكم ، فإنه قيل في أحد تفاسيرها أي لا تكثروا منها ، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب )) ، وعن سلمان قال : قال رسول الله : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعاقل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه )) رواه الطبراني بسند صحيح ، ومن عمق فهم السلف وتعظيمهم لله جل وعلا أنهم كانوا يضربون صغارهم على الشهادة والعهد كما قاله إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - ، واليمين نوع من الشهادة ، فهذا فيه التربية على تعظيم الله واحترام أسمائه وصفاته ، والله أعلم .
* * *
س55: عرف التمائم ؟ وما أقسامها ؟ وحكم كل قسم ؟ مع الدليل .
ج55: التمائم لها تعريفان : تعريف بالحد الجامع المانع ، وتعريف بضرب المثال .
فأما تعريفها بالاعتبار الأول : فهي كل ما يعلق أو يوضع ويعتقد فيه أن يجلب خيرًا أو يدفع شرًا .
وأما تعريفها بالاعتبار الثاني: فقيل: هي مايعلق على الصبيان يتقون به العين. وقيل: هي ما يعلق في رقاب الدواب التي يخشون من إصابتها بالحسد لجمال صفاتها. وقيل: هي ما يوضع في الدار لاتقاء شر الحاسدين أو اتقاء الجن والشياطين وكل ذلك تعريف لها بضرب المثال .
وأما أقسامها : فاعلم أنها قسمان : تمائم من القرآن ، وتمائم شركية .
فأما التمائم الشركية ، فهي التي اشتملت على الاستعانة بالجن والاستغاثة بالشياطين والاستعاذة بهم من الشر أو احتوت على طلاسم وكتابات لا تعرف ولا يدرى عن المقصود بها ، فهذه لاشك أنها حرام وشرك ، والدليل على ذلك قوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ففي هذه الآية دليل على بطلان الشرك ولبس الحلقة والخيط من ذلك لا يكشف الضر ولا يمنع منه ولا يجلب الخير وليس بسببٍ فيه .
وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، وهو نص صريح صحيح في هذه المسألة .
وعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي في بعض أسفاره فأرسل رسولاً : (( ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وترٍ أو قلادة إلا قطعت )) رواه مسلم .
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله رأى رجلاً في يده حلقة من صفرٍ فقال : (( ما هذه )) ؟ قال : من الواهنة . فقال : (( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا )) رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
ولأحمد بسنده عن عقبة بن عامرٍ مرفوعًا : (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له )) ، وفي رواية : (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
وعن عبدالله بن حكيم مرفوعًا : (( من تعلق شيئًا وكل إليه )) .
وروى أحمد وأبو داود عن رويفع قال : قال رسول الله : (( يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابةٍ أو عظم فإن محمدًا برئ منه )) .
فهذه الأدلة الصحيحة الصريحة فيها الدلالة القاطعة على تحريم هذه المعلقات وأنها من الشرك ، وقد انعقد الإجماع على تحريم التمائم الشركية ولله الحمد والمنة .
وأما التمائم من القرآن ، ففيها شيء من الخلاف ، فقيل بجوازها ، وقيل بالمنع ، ومن القائلين بالمنع ابن مسعود وغيره ، والقول بالمنع هو الصحيح وذلك لما يلي :
الأول : عموم الأدلة الواردة في ذلك ، كما في قوله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، فقوله : (( التمائم )) جمع دخلت عليه الألف واللام ، وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الداخلة على المفرد والجمع تفيده العموم أي الاستغراق ، فيدخل في كل ذلك كل التمائم ، وكقوله : (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) ، فقوله : (( من تعلق )) هذا شرط ، وقوله : (( تميمة )) نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم ، فيصدق ذلك الوصف وهو الشرك على كل من تعلق تميمة من غير تفصيل بين تميمة وتميمة ، وكقوله : (( لا يبقين في رقبة بعير قلادة )) ، فقوله : (( لا يبقين )) نفي ، وقوله : (( قلادة )) نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق النفي تعم ، وقد يكون بعض هذه القلائد قد عقد فيها قرآن ، وكقوله : (( من تعلق شيئًا )) وهذا نكرة في سياق الشرط وقد تقرر أنه يفيد العموم .
وأيضًا يقال : هذه الأقوال خرجت عامة من غير استفصال بين تميمة وتميمة ، وقد تقرر في القواعد أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال .
إذا علمت هذا فاعلم أن القاعدة تقول : الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، ولم يرد ما يصلح أن يكون مخصصًا لهذه العمومات ، فالواجب هو البقاء على دلالة عمومها وعدم التعرض لها بتخصيص ، والله أعلم .
الثاني : أن القول بمنع التمائم من القرآن فيه إعمال للقاعدة المتفق عليها وهي قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام ، والقول بجوازها فيه فتح لباب التمائم الشركية ، فإن معلقها قد يأتيه الشيطان ويقول : إن هذه لا تنفع وعليك بالتميمة الفلانية إن كنت تريد النفع ، فسدًا لهذا الباب منعت التمائم كلها من القرآن وغير القرآن .
الثالث : أن معلق التمائم من القرآن لابد أن يتعلق قلبه بها ولو مطلق التعلق ، وهذا منافٍ لمقصود من مقاصد الشريعة ، وهو وجوب انصراف تعلق القلب بكليته بالله تعالى فسدًا لذريعة تعلق القلب بهذه الخيوط والخرزات والودع والأوراق منعت التمائم بجميع أنواعها .
الرابع : أن القول بجواز التميمة من القرآن فيه فتح لباب إهانة كلام الله تعالى ؛ لأن معلقها قد يدخل بها الخلاء وهو ناس أو يشق عليه نزعها دائمًا أو يحر بها مجالس الغفلة واللهو واللغو والحرام ، أو تكون على صغير أو دابة فتتلوث بشيء من النجاسات من بولٍ أو غائط ، فسدًا لذريعة إهانة كلام الله تمنع التمائم من القرآن .
فلهذه الأوجه ترجح المنع في هذا النوع من التمائم ، لكن يكفيك الوجه الأول وما بعده كالمؤيد له فقط ، والله أعلم .
* * *
س56: هل قوله في الأحاديث السابقة : (( فقد أشرك )) ، وقوله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، يريد به الشرك الأكبر فيمن علق التمائم أم الشرك الأصغر ؟
ج56: قد يكون هذا وقد يكون هذا ، وذلك باختلاف اعتقاد معلقها ، فإن كان يعتقد أنها تجلب الخير أو تدفع الشر بذاتها فهذا هو الشرك الأكبر وهو شرك في الربوبية ، وإن كان يعتقد أن الله هو الذي يجلب الخير ويدفع الشر وأن هذه التمائم سبب من أسباب دفع البلاء أو جلب النعماء فهذا شرك أصغر ، وذلك لسببين :
أحدهما : أنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب لا شرعًا ولا قدرًا .
الثاني : أنه وسيلة للشرك الأكبر ، وقد تقرر أن كل وسائل الشرك الأكبر فشرك أصغر ، والله تعالى أعلى وأعلم .
س57: ما الرقى ؟ وما أنواعها ؟ مع بيان شروط الرقية الشرعية ؟ وتوضيح ذلك بالأدلة ؟
ج57: الرقى : هي التي تسمى العزائم ، وهي قراءة القرآن والأدعية المباحة على المصاب بمرضٍ ونحوه .
وهي نوعان : رقى شركية ، ورقى شرعية .
فأما الرقى الشركية ، فهي ما كانت مشتملة على تمتمات غير معلومة المعنى أو اشتملت على الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بالشياطين ليرفعوا أثرهم عن المصاب ونحو ذلك ، وهذا النوع لاشك في تحريمه وأنه من الشرك كما في الحديث السابق : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، والمراد هنا الرقى الشركية التي ضربت لك بعض الأمثلة عليها ، وفي الحديث : (( اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) .
وأما الرقى الشرعية ، فهي ما خلت عن الشرك ، كالرقية بالقرآن والأدعية الصحيحة المباحة ، وقد ثبت النص بالترخيص فيها كما في قوله : (( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) ، وحديث : (( لا رقية إلا من عين أو حمة )) ، وقد رقى جبريل النبي بالحديث المعروف : (( باسم الله أرقيك ... )) إلخ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لجارية بها صفرة : (( استرقوا لها فإن بها النضرة )) ، وغير ذلك من الأدلة .
وقد اشترط جمع كبير جدًا من العلماء حتى ذكرها بعضهم إجماعًا لندرة المخالف في ذلك للرقية الشرعية ثلاثة شروط :
الأول : أن تكون بكلام الله تعالى وما صح وأبيح من الأدعية الواردة في ذلك أو غيرها إذا كان معناه صحيحًا .
الثاني : أن تكون باللسان العربي .
الثالث : أن يعتقد القارئ والمقروء عليه أن هذه الرقية لا تشفي بذاتها وإنما هي سبب من أسباب الشفاء والشافي في الحقيقة هو الله تعالى ، والله تعالى أعلم .
س58: عرف التبرك ؟ وما الأصل فيه ؟ مع بيان الدليل .
ج58: التبرك : هو طلب البركة ورجاؤها واعتقادها .
والأصل فيه التوقيف على ورود الدليل ، بمعنى أنه لا يجوز اعتقاد البركة أو تسويغ طلبها من شيء إلا وعلى ذلك دليل صحيح صريح ، والدليل على ذلك هو أن وجود البركة في مكانٍ أو زمانٍ أو شخصٍ من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل ، وقد تقرر في القواعد أن أمور الغيب مبناها على التوقيف ، مع ما سيأتي من الأدلة في قيد الأسئلة عن التبرك - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
* * *
س59: ما القاعدة عند أهل السنة في اعتقاد البركة في الذوات والأماكن والأزمنة ؟ مع بيان معانيها .
ج59: القاعدة عندهم تقول :
(( الأصل في بركة الذوات التوقيف على الدليل )) .
(( الأصل في بركة الأماكن التوقيف على الدليل )) .
(( الأصل في بركة الأزمنة التوقيف على الدليل )) .
ومعناها أن يقال : إنه لا يجوز اعتقاد أن هذه الذات أو هذا المكان أو هذا الزمان مبارك إلا وعلى ذلك الاعتقاد دليل من كتاب الله تعالى أو صحيح سنة النبي ، فأمر التبرك كله مبناه على التوقيف كما مضى ، والله أعلم .
* * *
س60: هل ورد الدليل الصحيح في ذات أحدٍ من الناس أنها مباركة ؟ نرجو توضيح ذلك بالأدلة .
ج60: نعم قد ورد الدليل بذلك : وهو ذاته ، فذاته ذات مباركة ، فيجوز طلب البركة من ذاته وآثاره ، وذلك قد صحت به النصوص الكثيرة :
فمن ذلك : تبرك الصحابة بفضل وضوئه وبنخامته كما في الصحيح في حديث صلح الحديبية : ( ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ) .
ومن ذلك : تبركهم بالماء الذي غمس فيه يده ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أنه قال : (( كان رسول الله إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيه )) .
ومن ذلك : التبرك بشعره ، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر ثم قال للحلاق : (( خذ )) وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس .
ومن ذلك : التبرك بعرقه ، ففي صحيح مسلم عن أنسٍ قال : كان النبي يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه ، قال : فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتت فقيل لها : هذا النبي نام في بيتك على فراشك ، قال : فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها ففزع النبي فقال : (( ما تصنعين يا أم سليم )) فقالت : يا رسول الله نرجوا بركته لصبياننا . قال : (( أصبت )) .
وقد ورد الدليل الصحيح بإثبات جواز التبرك بفضل طيبه وبثيابه وبفضل شربه ، فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن ذاته مباركة ، وهذا الذي نعرفه من الأدلة ، ويبقى ذات غيره من الإنس على حالها لا يجوز ادعاء البركة فيها ، ولذلك فالضابط عندنا يقول : لا يجوز التبرك بذات أحدٍ إلا بذاته ، والله أعلم .
* * *
س61: ما حكم طلب البركة من بعض الأشجار أو الأحجار ؟ مع الدليل .
ج61: طلب البركة من بعض الأشجار أو الأحجار محرم وشرك ، قال تعالى : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وهذا إنكار من الله تعالى على عباد هذه الأوثان ، وهم عبدوها لينالوا شفاعتها وأن تقربهم إلى الله زلفى ويتبركون بها فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وهو إنكار يتضمن النهي عن الاعتقاد في هذه الأوثان ، ويدخل في ذلك ضمنًا النهي عن التبرك بالأشجار والأحجار وأنه شرك ، فاللات يقاس عليه التبرك بالقبور ، والعزى ومناة يقاس عليه التبرك بالأشجار والأحجار ، وعن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حدثاء عهدٍ بكفرٍ وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم )) رواه الترمذي بسندٍ صحيح ، وهذا دليل واضح في النهي الأكيد عن طلب البركة من الأشجار والأحجار وأنه شرك ، لكن إن قلت : هل هو شرك أصغر أم شرك أكبر ؟ أقول : هذا على حسب اعتقاد طالب البركة منها ، فإن كان يعتقد أنها تعطيه البركة بذاتها وأن لها تصرفًا خفيًا بذلك فهذا شرك أكبر منافٍ لأصل الإسلام ، ولو مات صاحبه عليه فإنه من الخالدين أبدًا في النار - والعياذ بالله - ، وأما إن كان يجعلها سببًا فقط في تحصيل البركة فهذا شرك أصغر لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب شرعًا ولا قدرًا ولأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر ، والله أعلم .
* * *
س62: ما معنى بركة المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى ؟
ج62: هذا سؤال مهم جدًا وبسبب الجهل بجوابه حصل كثير من الشرك ، وبيان الجواب أن يقال : إن بركة هذه الأماكن معناه مضاعفة الأجر للمتعبد فيها وما يحصل له من الأمن كما قال تعالى عن المسجد الحرام : ومن دخله كان آمنًا فبركتها بركة معنوية أو نقول بركة لازمة ليست بمنتقلة ولا بمتعدية ، أي أنها ليست بركة ذاتية كبركة ذات النبي ، بل هي بركة لازمة معنوية ، وبناءً عليه فإن من يتمسح بأستار الكعبة ظنًا منه أن البركة ستنتقل إلى بدنه فإنه أتي من قبل جهله وقلة فهمه ، وفعله هذا بدعة ، وكذلك من يقبل أعمدة المسجد الحرام أو مسجد المدينة ، ويتمسح بمقام إبراهيم أو يقبله أو يمسح عليه بيديه ثم يضعهما على وجهه وصدره ظنًا منه أنه بذلك قد انتقلت البركة إليه فإنه ضال مبتدع مخطئ ، وكذلك من يستلم الحجر الأسود أو الركن اليماني بيديه ثم يمرها على صدره ووجهه أو على وجه صغير معه وصدره ، كل ذلك من البدع المنكرة ، لا إنكارًا لبركة البقعة ولكن لأن بركة هذه البقعة بركة لازمة معنوية لا ذاتية منتقلة ، وكذلك من يتمسح بالأعمدة أو الفرش الموضوعة في الروضة الشريفة ظنًا أن بركة هذه الروضة ستنتقل إليه إذا فعل ذلك ، فإنه ليس على الصراط المستقيم في هذا الفهم ، وكذلك ما يفعله بعض الحجاج أو المعتمرين من أنهم يغسلون متاعهم ونقودهم وثيابهم التي عليهم بماء زمزم ظنًا منهم أنها بذلك ستحلها البركة ، فهذا ليس بصحيح ؛ لأن بركة ماء زمزم في شربه فقط ، والمقصود أن بركة هذه الأماكن المذكورة في السؤال إنما هي بركة لازمة معنوية لا أنها بركة ذاتية منتقلة ، والله أعلم .
* * *
س63: هل يجوز إطلاق لفظ ( تبارك ) على غير الله تعالى ؟
ج63: لا يجوز ذلك ؛ لأن واضع البركة هو الله تعالى ، فلا يقال : تباركت علينا يا فلان ، ولا يقال : فلان بارك بحضوره هذا المشروع ، أو بارك هذا الحفل ، كل ذلك من الإطلاقات المحرمة ، والله أعلم .
* * *
س64: ما معنى قوله : (( إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم )) ؟
ج64: أقول : معنى ذلك أن كل مسلم فيه بركة ، لكن ليست هي البركة الذاتية المنتقلة ؛ لأن هذه البركة من خصائص بنينا محمد ، وإنما المقصود أنها بركة عمل واعتقاد ؛ وذلك لأنه يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، ولما يحمله في قلبه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وما يفعله بجوارحه من العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحوها ، فالمراد ببركة المسلم أي بركة اعتقاد وعمل ، ومن ذلك قول أسيد بن الحضير : ( ما هي بأول بركاتكم يا آل أبي بكر ) ، وتزاد هذه البركة كلما قوي الإيمان واجتهد العبد في العبادة من تحصيل العلم النافع والعمل الصالح ، والله أعلم .
* * *
قاله الشيخ وليد السعيدان ...
ج46: التوكل على الشيء الاعتماد عليه ، والتوكل على الله تعالى هو الاعتماد على الله تعالى كفاية وحسبًا في جلب المنافع ودفع المضار ، وهو أنواع :
الأول : التوكل على الله تعالى في جلب الخيرات بأنواعها ودفع المضرات بأنواعها ، وهذا من تمام الإيمان الواجب أي أنه لا يتم الإيمان إلا به ، قال تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، وقال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، وقال تعالى : وعلى الله فليتوكل المتوكلون .
الثاني : توكل السر ، ومعناه أن يتوكل على ميتٍ في جلب منفعة أو دفع مضرة ، فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفًا خفيًا في الكون ولا فرق بين أن يكون ذلك الميت نبيًا أو وليًا أو غيرهما ، وذلك كاعتماد أصحاب القبور على الأموات .
الثالث : التوكل على الغير فيما يقدر عليه مع اعتماد القلب على ذلك الغير في حصول المطلوب أو دفع المرهوب ، فهذا شعبة من الشرك ، لكنه الشرك الأصغر وذلك لقوة تعلق القلب به .
الرابع : التوكل على الغير فيما يقدر عليه ذلك الغير مع اعتماد القلب بكليته على الله تعالى واعتقاد أن ذلك إنما هو سبب في تحصيل الأمر المطلوب فقط ، كمن ينيب غيره في أمرٍ تدخله النيابة ، فهذا لا بأس به ، وهو بهذا الاعتبار يأتي بمعنى الوكالة ، فقد وكل يعقوب - عليه الصلاة والسلام - أبناءه في البحث عن أخيهم يوسف - عليه السلام - فقال: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، وقد وكل النبي على الصدقة عمالاً وحفاظًا ، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب في ذبح ما لم يذبح من هديه وأن يتصدق بجلودها وجلالها ، وهذا جائز بالإجماع في الجملة .
فتبين بهذا أن النوع الأول : هو حقيقة الإيمان وتمامه الواجب ، وأن النوع الثاني : شرك أكبر ، والثالث : شرك أصغر ، والرابع : لا بأس به ، والله أعلم .
* * *
س47: عرف الخوف ؟ وما أنواعه ؟ وحكم كل نوع ؟ مع الدليل .
ج47: الخوف هو الذعر ، وهو نوع انفعال يحصل في النفس له أثر ظاهر بسبب توقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى ، وقد ذكر أهل العلم أنه أنواع :
الأول : الخوف الطبيعي الجبلي ، كخوف الإنسان من النار أن تحرقه ، أو من السبع أن يأكله ، أو من الماء الكثير أن يغرق فيه ، فهذا خوف لا يلام الإنسان عليه ، فقد خاف كليم الله موسى - عليه السلام - من فرعون وقومه كما قال تعالى : فأصبح في المدينة خائفًا يترقب ، وقد خاف نبي الله داود لما تسور عليه الخصمان كما قال تعالى : إذ دخلوا على داود ففزع منهم ، وقال تعالى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : فأوجس منهم خيفة ، وهذا خوف طبيعي لا يلام العبد عليه .
الثاني : الخوف الذي تسميه العلماء بخوف السر ، ومعناه أن يخاف العبد من قبرٍ أو ميتٍ أو غائب بعيد عنه أن يصيبه بأذى ، فهذا الخوف ليس به أسباب معلومة ، بل لم يصدر هذا الخوف من هذا الرجل إلا لاعتقاده أن لهذا المخوف منه تصرفًا خفيًا في الكون بكونه قادرًا على أن يصيبه بأذى ، وهذا الخوف شرك أكبر مخرج عن الملة ، كما قال تعالى عن قوم هود أنهم قالوا له : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوءٍ فقد كانوا يظنون ويعتقدون فيها أنها تصيب من أنكر عبادتها بالأذى مع أنها حجارة لا تضر ولا تنفع .
الثالث : الخوف الذي يوجب لصاحبه ترك واجب أو فعل محرم ، وهذا الخوف حرام في ذاته ؛ لأنه وسيلة إلى الحرام ووسائل الحرام حرام ، وذلك لقوله تعالى : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ، وقال تعالى : أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ، وذلك كالخوف الذي يحمل صاحبه على ترك الدعوة المتعينة عليه ، والخوف الذي يوجب ترك الجهاد ، والخوف الذي يوجب طاعة المخلوق في معصية الخالق ونحو ذلك ، فهذا الخوف حرام ، والله أعلم .
* * *
س48: ما مذهب أهل السنة في الجمع بين الخوف والرجاء ؟
ج48: مذهبهم في ذلك أنه لابد أن يعبد العبد ربه بهما أي أن يعبد الله تعالى راغبًا راهبًا ، كما قال تعالى : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين ، وقال تعالى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين ؛ وذلك لأنه من عبد الله بالرجاء وحده أمن من مكر الله ، ومن عبده بالخوف وحده وقع في اليأس من رحمة الله وقنط من روح الله ، ومن عبده بالخوف والرجاء فهو الموحد المهدي إلى الصراط المستقيم ، ولابد من استوائهما فلا يغلب الخوف على الرجاء ، ولا يغلب الرجاء على الخوف فيهلك ، وهذه صورة من صور الوسطية إلا أنه إذا كان هناك مقتضى لتغليب أحدهما فإنه يغلبه وإلا فالأصل استوائهما ، وذلك كما إذا كان العبد يعالج سكرات الموت فلابد من تغليب جانب الرجاء حتى يحصل له إحسان الظن بربه كما في الحديث : (( أنا عند ظن عبدي بي )) ، وفي الحديث الآخر : (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )) ، وطريق إحسان الظن تغليب الرجاء ، ومثال آخر : عند التوبة من الذنوب والمعاصي فإنه لابد أن يغلب جانب الرجاء ، ومثال آخر : عند تحديث النفس بفعل شيء من الذنوب فإنه لابد أن يغلب جانب الخوف لتنزجر النفس عن ذلك ، وعلى ذلك فقس ، وبه تعلم أن الخشية إنما هي اجتماع الخوف والرجاء ، والله أعلم .
* * *
س49 : ما قاعدة أهل السنة والجماعة في الأيْمان ؟ مع بيان الدليل عليها .
ج49: القاعدة عندهم في الأيمان تقول : (لا يجوز الحلف إلا بالله أو صفة من صفاته) ، وبعضهم يزيدها إيضاحًا ويقول : ( لله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته وليس للعبد أن يحلف إلا بالله أو صفةٍ من صفاته ) ، ودليلها قوله : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) ، وحديث : (( لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت )) ، وعن قتيلة أن يهوديًا أتى النبي فقال : إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة ، فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : (( ورب الكعبة )) ، وأن يقولوا : (( ما شاء الله وشئت )) رواه النسائي وصححه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا تحلفوا بآبائكم ومن حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضى ومن لم يرضى فليس منا )) رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن ، وقال ابن مسعود : (( لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا )) ؛ وذلك لأن الحلف بالله كاذبًا معصية والحلف بغير الله شرك وإن كان صادقًا ، ومن الأدلة أيضًا الإجماع المنعقد على المنع من الحلف بغير الله تعالى ولا عبرة بمن قال بغير ذلك لمخالفته لهذه النصوص الصريحة الصحيحة ، والله أعلم .
* * *
س50: ما حكم الحلف بغير الله تعالى - بالتفصيل - ؟ وما كفارة ذلك ؟ مع الدليل .
ج50: من حلف بغير الله تعالى فإنه قد وقع في الشرك الأصغر ، إلا أنه إن كان قد صاحب حلفه تعظيم كتعظيم الله تعالى فإنه في هذه الحالة يكون قد وقع في الشرك الأكبر ، كما يفعله عباد القبور والأولياء فإن أحدهم إذا أراد أن يحلف كاذبًا فإنه يحلف بالله تعالى ، وإذا أراد أن يغلظ الأيمان ويبر فيها ويظهر أنه صادق فإنه يحلف بوليه الذي يعظمه ، وهذا عين الشرك الأكبر ولاشك ، ومن حلف بغير الله تعالى فإن كفارة ذلك أن يقول : لا إله إلا الله ، لحديث : (( من حلف فقال واللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله )) وهو في الصحيح ؛ وذلك لأنه بهذا الحلف قد جرح توحيده بالشرك فلابد من جبر ذلك الجرح إن كان الشرك أصغرًا ، أو يكون بذلك مجددًا إسلامه إن كان أكبرًا ، والله أعلم .
* * *
س51: هل لك أن تمثل لنا على نماذج من الحلف بغير الله تعالى ؟
ج51: نعم على الرحب والسعة ، فمن ذلك : الحلف بالنبي فيقول : والنبي ، وليس بحجةٍ علينا أنه مما يجري على اللسان من غير قصد أو أنه نشأ في بلدة يحلف أهلها بذلك فإن الإنسان متعبد بما جاء به النص لا بما وجد عليه أهل بلده .
ومن ذلك : الحلف بالأمانة فيقول : والأمانة . أو كالحلف بالشرف ، فيقول : وشرفي ، أو وشرف أبي أو أمي . أو كالحلف بالبدوي ، أو زينب ، أو الحسن ، أو برأس أحدٍ من المخلوقين ، أو بالعهد والميثاق ، أو بالكعبة ، أو بمقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، أو بتربة القبر الفلاني ، أو بالعيش والملح ، أو يقول : وحياتك يا فلان أو وحياتي ، ونحو ذلك .
كله محرم وشرك ؛ لأن الحلف عبادة فلا يعقد إلا بالله تعالى ولما مضى من الأدلة ، والله أعلم .
* * *
س52: ما حكم الحلف بآيات الله ؟ مع الدليل .
ج52: هذا السؤال مجمل ، وجوابه لابد فيه من التفصيل فأقول :
إن كان يريد بالآيات أي الآيات الكونية كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والليل والنهار ، فهذه الأشياء مخلوقة ، وقد تقرر لنا أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات ، وأما قوله تعالى : والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها ، وقوله : والفجر . وليال عشر ، وقوله : والضحى ، ونحو ذلك مما ورد في القرآن فإن هذا القسم صادر من الله تعالى ولله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته ، وأما المخلوق فإنه لا يجوز له أن يحلف إلا بالله أو صفةٍ من صفاته ، وربنا جل وعلا لا يدخل تحت الأحكام الشرعية حتى نقول : هذا واجب عليه أو هذا محرم عليه - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - .
وأما إذا كان يقصد بالآيات أي الآيات الشرعية أي القرآن فإنه آيات ، كما قال تعالى : بل هو آيات في صدور الذين أوتوا العلم ، وقال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، فحلفه بها حينئذٍ جائز باعتبار أن هذه الآيات من كلام الله تعالى وكلامه تعالى صفة من صفاته ، وقد تقرر أنه يجوز الحلف بالصفة ، وبهذا التفصيل يفهم الجواب - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
* * *
س53: ما حكم قول بعض الناس : ( في ذمتي ) ؟
ج53: إن كان يقصد بها عقد اليمين فهذا لا يجوز ؛ لأن الذمة مخلوقة ، وقد تقرر لنا أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق ، وإن كان لا يقصد بها عقد اليمين وإنما يقصد أنه يتحمل حقيقة الخبر إن كان كذبًا فهذا لا بأس به ، ولكن الغالب يشكل عليهم هذا اللفظ ولا يفهمون منه إلا أنه حلف فالواجب الكف عن التلفظ به والعدول عنه إلى الأيمان التي لا إشكال فيها ؛ لأن ذلك من حماية جناب التوحيد ، والله أعلم .
* * *
س54: ما حكم الإكثار من الحلف ؟ ولماذا ؟ مع بيان الدليل .
ج54: الإكثار من الحلف منافٍ لكمال تعظيم الله تعالى واحترام أسمائه وصفاته ؛ وذلك لأن الحلف به أمر عظيم فلا ينبغي أن يقال إلا على تأكيد الأشياء العظيمة المهمة وأما سفاسف الأمور وترهات الأقوال فإنه ينبغي تنزيه أسماء الله وصفاته أن تذكر لتأكيد مثل ذلك ، والواجب على المسلم تعظيم الله تعالى واحترام أسمائه وصفاته ، ولذلك فإنه لم يرد في القرآن أن الله تعالى أمر نبيه أن يحلف به إلا على الأشياء العظيمة كأمر المبعث والمعاد وصدق القرآن ، قال تعالى : واحفظوا أيمانكم ، فإنه قيل في أحد تفاسيرها أي لا تكثروا منها ، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب )) ، وعن سلمان قال : قال رسول الله : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعاقل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه )) رواه الطبراني بسند صحيح ، ومن عمق فهم السلف وتعظيمهم لله جل وعلا أنهم كانوا يضربون صغارهم على الشهادة والعهد كما قاله إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - ، واليمين نوع من الشهادة ، فهذا فيه التربية على تعظيم الله واحترام أسمائه وصفاته ، والله أعلم .
* * *
س55: عرف التمائم ؟ وما أقسامها ؟ وحكم كل قسم ؟ مع الدليل .
ج55: التمائم لها تعريفان : تعريف بالحد الجامع المانع ، وتعريف بضرب المثال .
فأما تعريفها بالاعتبار الأول : فهي كل ما يعلق أو يوضع ويعتقد فيه أن يجلب خيرًا أو يدفع شرًا .
وأما تعريفها بالاعتبار الثاني: فقيل: هي مايعلق على الصبيان يتقون به العين. وقيل: هي ما يعلق في رقاب الدواب التي يخشون من إصابتها بالحسد لجمال صفاتها. وقيل: هي ما يوضع في الدار لاتقاء شر الحاسدين أو اتقاء الجن والشياطين وكل ذلك تعريف لها بضرب المثال .
وأما أقسامها : فاعلم أنها قسمان : تمائم من القرآن ، وتمائم شركية .
فأما التمائم الشركية ، فهي التي اشتملت على الاستعانة بالجن والاستغاثة بالشياطين والاستعاذة بهم من الشر أو احتوت على طلاسم وكتابات لا تعرف ولا يدرى عن المقصود بها ، فهذه لاشك أنها حرام وشرك ، والدليل على ذلك قوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ففي هذه الآية دليل على بطلان الشرك ولبس الحلقة والخيط من ذلك لا يكشف الضر ولا يمنع منه ولا يجلب الخير وليس بسببٍ فيه .
وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، وهو نص صريح صحيح في هذه المسألة .
وعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي في بعض أسفاره فأرسل رسولاً : (( ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وترٍ أو قلادة إلا قطعت )) رواه مسلم .
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله رأى رجلاً في يده حلقة من صفرٍ فقال : (( ما هذه )) ؟ قال : من الواهنة . فقال : (( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا )) رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
ولأحمد بسنده عن عقبة بن عامرٍ مرفوعًا : (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له )) ، وفي رواية : (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
وعن عبدالله بن حكيم مرفوعًا : (( من تعلق شيئًا وكل إليه )) .
وروى أحمد وأبو داود عن رويفع قال : قال رسول الله : (( يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابةٍ أو عظم فإن محمدًا برئ منه )) .
فهذه الأدلة الصحيحة الصريحة فيها الدلالة القاطعة على تحريم هذه المعلقات وأنها من الشرك ، وقد انعقد الإجماع على تحريم التمائم الشركية ولله الحمد والمنة .
وأما التمائم من القرآن ، ففيها شيء من الخلاف ، فقيل بجوازها ، وقيل بالمنع ، ومن القائلين بالمنع ابن مسعود وغيره ، والقول بالمنع هو الصحيح وذلك لما يلي :
الأول : عموم الأدلة الواردة في ذلك ، كما في قوله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، فقوله : (( التمائم )) جمع دخلت عليه الألف واللام ، وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الداخلة على المفرد والجمع تفيده العموم أي الاستغراق ، فيدخل في كل ذلك كل التمائم ، وكقوله : (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) ، فقوله : (( من تعلق )) هذا شرط ، وقوله : (( تميمة )) نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم ، فيصدق ذلك الوصف وهو الشرك على كل من تعلق تميمة من غير تفصيل بين تميمة وتميمة ، وكقوله : (( لا يبقين في رقبة بعير قلادة )) ، فقوله : (( لا يبقين )) نفي ، وقوله : (( قلادة )) نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق النفي تعم ، وقد يكون بعض هذه القلائد قد عقد فيها قرآن ، وكقوله : (( من تعلق شيئًا )) وهذا نكرة في سياق الشرط وقد تقرر أنه يفيد العموم .
وأيضًا يقال : هذه الأقوال خرجت عامة من غير استفصال بين تميمة وتميمة ، وقد تقرر في القواعد أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال .
إذا علمت هذا فاعلم أن القاعدة تقول : الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، ولم يرد ما يصلح أن يكون مخصصًا لهذه العمومات ، فالواجب هو البقاء على دلالة عمومها وعدم التعرض لها بتخصيص ، والله أعلم .
الثاني : أن القول بمنع التمائم من القرآن فيه إعمال للقاعدة المتفق عليها وهي قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام ، والقول بجوازها فيه فتح لباب التمائم الشركية ، فإن معلقها قد يأتيه الشيطان ويقول : إن هذه لا تنفع وعليك بالتميمة الفلانية إن كنت تريد النفع ، فسدًا لهذا الباب منعت التمائم كلها من القرآن وغير القرآن .
الثالث : أن معلق التمائم من القرآن لابد أن يتعلق قلبه بها ولو مطلق التعلق ، وهذا منافٍ لمقصود من مقاصد الشريعة ، وهو وجوب انصراف تعلق القلب بكليته بالله تعالى فسدًا لذريعة تعلق القلب بهذه الخيوط والخرزات والودع والأوراق منعت التمائم بجميع أنواعها .
الرابع : أن القول بجواز التميمة من القرآن فيه فتح لباب إهانة كلام الله تعالى ؛ لأن معلقها قد يدخل بها الخلاء وهو ناس أو يشق عليه نزعها دائمًا أو يحر بها مجالس الغفلة واللهو واللغو والحرام ، أو تكون على صغير أو دابة فتتلوث بشيء من النجاسات من بولٍ أو غائط ، فسدًا لذريعة إهانة كلام الله تمنع التمائم من القرآن .
فلهذه الأوجه ترجح المنع في هذا النوع من التمائم ، لكن يكفيك الوجه الأول وما بعده كالمؤيد له فقط ، والله أعلم .
* * *
س56: هل قوله في الأحاديث السابقة : (( فقد أشرك )) ، وقوله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، يريد به الشرك الأكبر فيمن علق التمائم أم الشرك الأصغر ؟
ج56: قد يكون هذا وقد يكون هذا ، وذلك باختلاف اعتقاد معلقها ، فإن كان يعتقد أنها تجلب الخير أو تدفع الشر بذاتها فهذا هو الشرك الأكبر وهو شرك في الربوبية ، وإن كان يعتقد أن الله هو الذي يجلب الخير ويدفع الشر وأن هذه التمائم سبب من أسباب دفع البلاء أو جلب النعماء فهذا شرك أصغر ، وذلك لسببين :
أحدهما : أنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب لا شرعًا ولا قدرًا .
الثاني : أنه وسيلة للشرك الأكبر ، وقد تقرر أن كل وسائل الشرك الأكبر فشرك أصغر ، والله تعالى أعلى وأعلم .
س57: ما الرقى ؟ وما أنواعها ؟ مع بيان شروط الرقية الشرعية ؟ وتوضيح ذلك بالأدلة ؟
ج57: الرقى : هي التي تسمى العزائم ، وهي قراءة القرآن والأدعية المباحة على المصاب بمرضٍ ونحوه .
وهي نوعان : رقى شركية ، ورقى شرعية .
فأما الرقى الشركية ، فهي ما كانت مشتملة على تمتمات غير معلومة المعنى أو اشتملت على الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بالشياطين ليرفعوا أثرهم عن المصاب ونحو ذلك ، وهذا النوع لاشك في تحريمه وأنه من الشرك كما في الحديث السابق : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، والمراد هنا الرقى الشركية التي ضربت لك بعض الأمثلة عليها ، وفي الحديث : (( اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) .
وأما الرقى الشرعية ، فهي ما خلت عن الشرك ، كالرقية بالقرآن والأدعية الصحيحة المباحة ، وقد ثبت النص بالترخيص فيها كما في قوله : (( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) ، وحديث : (( لا رقية إلا من عين أو حمة )) ، وقد رقى جبريل النبي بالحديث المعروف : (( باسم الله أرقيك ... )) إلخ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لجارية بها صفرة : (( استرقوا لها فإن بها النضرة )) ، وغير ذلك من الأدلة .
وقد اشترط جمع كبير جدًا من العلماء حتى ذكرها بعضهم إجماعًا لندرة المخالف في ذلك للرقية الشرعية ثلاثة شروط :
الأول : أن تكون بكلام الله تعالى وما صح وأبيح من الأدعية الواردة في ذلك أو غيرها إذا كان معناه صحيحًا .
الثاني : أن تكون باللسان العربي .
الثالث : أن يعتقد القارئ والمقروء عليه أن هذه الرقية لا تشفي بذاتها وإنما هي سبب من أسباب الشفاء والشافي في الحقيقة هو الله تعالى ، والله تعالى أعلم .
س58: عرف التبرك ؟ وما الأصل فيه ؟ مع بيان الدليل .
ج58: التبرك : هو طلب البركة ورجاؤها واعتقادها .
والأصل فيه التوقيف على ورود الدليل ، بمعنى أنه لا يجوز اعتقاد البركة أو تسويغ طلبها من شيء إلا وعلى ذلك دليل صحيح صريح ، والدليل على ذلك هو أن وجود البركة في مكانٍ أو زمانٍ أو شخصٍ من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل ، وقد تقرر في القواعد أن أمور الغيب مبناها على التوقيف ، مع ما سيأتي من الأدلة في قيد الأسئلة عن التبرك - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
* * *
س59: ما القاعدة عند أهل السنة في اعتقاد البركة في الذوات والأماكن والأزمنة ؟ مع بيان معانيها .
ج59: القاعدة عندهم تقول :
(( الأصل في بركة الذوات التوقيف على الدليل )) .
(( الأصل في بركة الأماكن التوقيف على الدليل )) .
(( الأصل في بركة الأزمنة التوقيف على الدليل )) .
ومعناها أن يقال : إنه لا يجوز اعتقاد أن هذه الذات أو هذا المكان أو هذا الزمان مبارك إلا وعلى ذلك الاعتقاد دليل من كتاب الله تعالى أو صحيح سنة النبي ، فأمر التبرك كله مبناه على التوقيف كما مضى ، والله أعلم .
* * *
س60: هل ورد الدليل الصحيح في ذات أحدٍ من الناس أنها مباركة ؟ نرجو توضيح ذلك بالأدلة .
ج60: نعم قد ورد الدليل بذلك : وهو ذاته ، فذاته ذات مباركة ، فيجوز طلب البركة من ذاته وآثاره ، وذلك قد صحت به النصوص الكثيرة :
فمن ذلك : تبرك الصحابة بفضل وضوئه وبنخامته كما في الصحيح في حديث صلح الحديبية : ( ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ) .
ومن ذلك : تبركهم بالماء الذي غمس فيه يده ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أنه قال : (( كان رسول الله إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيه )) .
ومن ذلك : التبرك بشعره ، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر ثم قال للحلاق : (( خذ )) وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس .
ومن ذلك : التبرك بعرقه ، ففي صحيح مسلم عن أنسٍ قال : كان النبي يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه ، قال : فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتت فقيل لها : هذا النبي نام في بيتك على فراشك ، قال : فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها ففزع النبي فقال : (( ما تصنعين يا أم سليم )) فقالت : يا رسول الله نرجوا بركته لصبياننا . قال : (( أصبت )) .
وقد ورد الدليل الصحيح بإثبات جواز التبرك بفضل طيبه وبثيابه وبفضل شربه ، فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن ذاته مباركة ، وهذا الذي نعرفه من الأدلة ، ويبقى ذات غيره من الإنس على حالها لا يجوز ادعاء البركة فيها ، ولذلك فالضابط عندنا يقول : لا يجوز التبرك بذات أحدٍ إلا بذاته ، والله أعلم .
* * *
س61: ما حكم طلب البركة من بعض الأشجار أو الأحجار ؟ مع الدليل .
ج61: طلب البركة من بعض الأشجار أو الأحجار محرم وشرك ، قال تعالى : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وهذا إنكار من الله تعالى على عباد هذه الأوثان ، وهم عبدوها لينالوا شفاعتها وأن تقربهم إلى الله زلفى ويتبركون بها فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وهو إنكار يتضمن النهي عن الاعتقاد في هذه الأوثان ، ويدخل في ذلك ضمنًا النهي عن التبرك بالأشجار والأحجار وأنه شرك ، فاللات يقاس عليه التبرك بالقبور ، والعزى ومناة يقاس عليه التبرك بالأشجار والأحجار ، وعن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حدثاء عهدٍ بكفرٍ وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم )) رواه الترمذي بسندٍ صحيح ، وهذا دليل واضح في النهي الأكيد عن طلب البركة من الأشجار والأحجار وأنه شرك ، لكن إن قلت : هل هو شرك أصغر أم شرك أكبر ؟ أقول : هذا على حسب اعتقاد طالب البركة منها ، فإن كان يعتقد أنها تعطيه البركة بذاتها وأن لها تصرفًا خفيًا بذلك فهذا شرك أكبر منافٍ لأصل الإسلام ، ولو مات صاحبه عليه فإنه من الخالدين أبدًا في النار - والعياذ بالله - ، وأما إن كان يجعلها سببًا فقط في تحصيل البركة فهذا شرك أصغر لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب شرعًا ولا قدرًا ولأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر ، والله أعلم .
* * *
س62: ما معنى بركة المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى ؟
ج62: هذا سؤال مهم جدًا وبسبب الجهل بجوابه حصل كثير من الشرك ، وبيان الجواب أن يقال : إن بركة هذه الأماكن معناه مضاعفة الأجر للمتعبد فيها وما يحصل له من الأمن كما قال تعالى عن المسجد الحرام : ومن دخله كان آمنًا فبركتها بركة معنوية أو نقول بركة لازمة ليست بمنتقلة ولا بمتعدية ، أي أنها ليست بركة ذاتية كبركة ذات النبي ، بل هي بركة لازمة معنوية ، وبناءً عليه فإن من يتمسح بأستار الكعبة ظنًا منه أن البركة ستنتقل إلى بدنه فإنه أتي من قبل جهله وقلة فهمه ، وفعله هذا بدعة ، وكذلك من يقبل أعمدة المسجد الحرام أو مسجد المدينة ، ويتمسح بمقام إبراهيم أو يقبله أو يمسح عليه بيديه ثم يضعهما على وجهه وصدره ظنًا منه أنه بذلك قد انتقلت البركة إليه فإنه ضال مبتدع مخطئ ، وكذلك من يستلم الحجر الأسود أو الركن اليماني بيديه ثم يمرها على صدره ووجهه أو على وجه صغير معه وصدره ، كل ذلك من البدع المنكرة ، لا إنكارًا لبركة البقعة ولكن لأن بركة هذه البقعة بركة لازمة معنوية لا ذاتية منتقلة ، وكذلك من يتمسح بالأعمدة أو الفرش الموضوعة في الروضة الشريفة ظنًا أن بركة هذه الروضة ستنتقل إليه إذا فعل ذلك ، فإنه ليس على الصراط المستقيم في هذا الفهم ، وكذلك ما يفعله بعض الحجاج أو المعتمرين من أنهم يغسلون متاعهم ونقودهم وثيابهم التي عليهم بماء زمزم ظنًا منهم أنها بذلك ستحلها البركة ، فهذا ليس بصحيح ؛ لأن بركة ماء زمزم في شربه فقط ، والمقصود أن بركة هذه الأماكن المذكورة في السؤال إنما هي بركة لازمة معنوية لا أنها بركة ذاتية منتقلة ، والله أعلم .
* * *
س63: هل يجوز إطلاق لفظ ( تبارك ) على غير الله تعالى ؟
ج63: لا يجوز ذلك ؛ لأن واضع البركة هو الله تعالى ، فلا يقال : تباركت علينا يا فلان ، ولا يقال : فلان بارك بحضوره هذا المشروع ، أو بارك هذا الحفل ، كل ذلك من الإطلاقات المحرمة ، والله أعلم .
* * *
س64: ما معنى قوله : (( إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم )) ؟
ج64: أقول : معنى ذلك أن كل مسلم فيه بركة ، لكن ليست هي البركة الذاتية المنتقلة ؛ لأن هذه البركة من خصائص بنينا محمد ، وإنما المقصود أنها بركة عمل واعتقاد ؛ وذلك لأنه يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، ولما يحمله في قلبه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وما يفعله بجوارحه من العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحوها ، فالمراد ببركة المسلم أي بركة اعتقاد وعمل ، ومن ذلك قول أسيد بن الحضير : ( ما هي بأول بركاتكم يا آل أبي بكر ) ، وتزاد هذه البركة كلما قوي الإيمان واجتهد العبد في العبادة من تحصيل العلم النافع والعمل الصالح ، والله أعلم .
* * *
قاله الشيخ وليد السعيدان ...