محب الدعوة
06-22-2010, 11:10 PM
(( القاعدة التاسعة ))
يجب في الحكم على الغير النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل
أقول : وهذا أمر لا بد منه ، ومراعاته في حكمك على الغير من أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات ، فإن الجهل بهذه القرائن موجب للخطأ في الحكم ولا ريب ، وقد راعته الشريعة في أحكامها على الأعيان والطوائف تمام المراعاة فإنه قد يكون هذا القول أو هذا الفعل قد صاحبه من الأحوال والأشياء المانعة من انطباق حكمه على قائله أو فاعله فلا بد من مراعاة ذلك ، فالذي لا يراعي ذلك يعتبر مفرطا فلو أخطأ في حكمه فإننا نخشى عليه من العقوبة لوجود ذلك التفريط ويدل على ذلك حديث الذي قال:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك " فإن النبي نظر في القرائن المصاحبة لهذا القول فتوصل إلى قوله : " أخطأ من شدة الفرح " فشدة الفرح قد غطت على عقله بحيث صدر منه ذلك القول عن غفلة من غير مقصد ، فصارت هذه القرينة مانعة من انطباق الحكم عليه ، فبالله عليك كيف الحكم عليه لو لم ننظر إلى هذه القرينة ؟ ولذلك فالضابط عندنا في ذلك أنه لا يؤآخذ الإنسان بما قاله عن غير قصد كسبق اللسان لما لا يريده أصلا ، وهذا واضح . ومن ذلك: حديث عمار لما شدد المشركون عليه العذاب لينال من رسول الله فنال منه ومعلوم حكم الوقيعة في رسول الهدى ولكن لما نظر إلى قرينة حاله وجده مكرها فقال له: ( كيف تجد قلبك قال مطمئنا بالإيمان ) فقال : ( إن عاد فعد ) فأنزل الله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه إلا مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئِناً بِالإيمَانِ } وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وهذا يبين لك أهمية النظر في الحال التي قيل فيها ذلك القول أو فعل فيها ذلك الفعل .
ومن ذلك : سجود معاذ بين يديه فإن حكم السجود لغير الله في شريعتنا معلوم حكمه لكن هناك قرينة منعت من انطباق الحكم على معاذ وهي التأويل وظن صواب النفس ، فقد ظن أن ذلك مما يسوغ فلأجل هذه القرينة المصاحبة لهذا الفعل لم يتعرض له النبي بحكم وإنما بين له خطأ ذلك والحديث تقدم مرارا . ومن ذلك : حديث الرجل الذي أمر أولاده إن هو مات أن يحرقوه ويذروه في يوم رائح نصفه في البر ونصفه في البحر حتى لا يقدر عليه الله فيعذبه وتقدم هذا الحديث ووجه الاستشهاد هنا أنه قد روعيت قرينة الحال التي قبل فيها هذا القول وغفر له ما قال وفعل به فهذه القرينة التي هي شدة الخوف التي غطت على فعله مع جهله السابق بعظيم قدرة الله تعالى على جمعه جعلت مانعا من انطباق حكم قوله عليه مما يدل على أهمية النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل . ومن ذلك أن النبي جاء لحمزة – رضي الله عنه – معاتبا له في أمر فوجده ثملاً و ذلك قبل تحريم الخمر فعاتبه ، فقال له حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، فلما رأى النبي أن السكر جعله يهذي انصرف وتركه – رضي الله عنه – وأرضاه ولم يتعرض لذاته بحكم وذلك مراعاة لقرينة الحال التي صار فيها وهذا يفيد أهمية مراعاة قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل ، فليست الأحكام على الآخرين لعبة يتسلى بها الصبيان بل هي مما يدين به ربه ، لعظم آثارها المترتبة عليها والله المستعان .
ومن ذلك : أنه نظر إلى قرينة حال عمار وعمر لما بعثهما في حاجة فأجبنا والحديث تقدم مراراً فعمار اجتهد وسعه لكنه أخطأ لظنه صواب نفسه وعمر كان لا يعلم أن التيمم يرفع الحدث الأكبر ، فلم يتعرض لهما النبي بشيء مراعاة منه لهذه القرائن ، فالأول فعل ذلك مجتهدا وظانا صواب نفسه والثاني فعل ذلك عن غير علم بحقيقة الحال ، وهذا يفيد أهمية مراعاة الحال .
ومن ذلك : حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : جاء أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم رسول الهدى : ( دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .
وفي الصحيحين عن أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي فلما قضى بوله أمر النبي بذنوب من ماء فأهرق عليه ثم دعاه فقال له: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والبول وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ) أو كما قال رسول الله فهذا الأعرابي كان جاهلا بحقيقة حكم ما فعله ، فعفى عنه نظراً إلى قرينة حاله مما يدل على أهمية النظر في قرائن الأحوال قبل إصدار الأحكام .
ومن ذلك : قوله : ( لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق ) والإغلاق اسم لما يغلق على العقل كالغضب والسكر ونحوها ، وهذا النظر للحال التي وقع فيها الطلاق والعتاق وقد روعيت مراعاة تامة وبناء عليه فطلاق الغضبان والسكران الذي بلغ به الغضب والسكر حد غياب العقل هذا الطلاق وهذا العتاق غير واقع نظراً لقرينة الحالة المصاحبة للقول والفعل وهذا يفيد أهمية النظر في قرائن الأحوال ، وهذا هو فقه الواقع فإن حقيقة فقه الواقع هو معرفة القرائن المصاحبة للقول والقول ثم تطبيقها على حكم الشارع لاستخراج الحكم الشرعي لها ، ولذلك فلا بد من مراعاة هذه القرائن واعتماد النظر فيها ولا تسوغ لنفسك الحكم على الغير بمجرد سماع قوله أو رؤية فعله من غير نظر في هذه القرائن ، ومن باب المثال لا الحصر ، نضرب بعض الفروع على هذه القاعدة :
فمنها : رأيت رجلا يأكل في نهار رمضان ، فلا تحكم عليه مباشرة ببطلان صومه من غير نظر في حاله فلعله أن يكون ناسيا أو أنه مسافر وقد أفطر في سفره فليس هو بصائم أصلا أو غير ذلك .
ومنها : من فعل شيئا من المحظورات والمبطلات كمحظورات الحج ومفسدات الصوم مثلا فلا تحكم عليه بأثر ذلك إلا بعد النظر في قرينة حاله ، فلعلك بعد النظر في هذه القرائن يختلف عندك الحكم فقد يكون فعله جاهلا أو ناسياً أو مكرهاً أولا يكون فاعله عاقلاً أصلاً أو غير قاصد ونحو ذلك فقبل الحكم عليه لا بد أن تنظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل والله أعلم .
ومنها :بعض الحجاج من البلاد الأخرى يكون على مذهب من المذاهب الأربعة مثلا فيفعل الفعل المعين بالصفة التي يمليها عليه مذهبه ثم يأتيك يسأل عن ذلك فمن المناسب للمفتي قبل إصدار الحكم أن يسأله عن المذهب الذي ينتمي إليه لأنه قد يكون فعل ما هو مشهور في مذهبه ، وذلك كالرمي مثلا أيام التشريق قبل الزوال فإن مذهب الحنفية وعطاء جوازه ، فإذا كان الذي رمى قبل الزوال حنفيا فيقال : رميك صحيح ولا يجب عليك الإعادة ، وهذا الكلام وإن خالفني فيه بعض الأحبة إلا أنه الذي أعمل به هناك في المناسك طلباً للأيسر على الناس فيما فيه خلاف وخصوصا مع هذا الزحام المميت والأعداد الغفيرة والأمواج من البشر ، وهذا الرجل لا ألزمه بمذهبي ولا بالراجح عندي وهو قد عمل بمقتضى المذهب المعتمد المتبوع في بلده الذي له رجال وأداؤه فلم يأت ببدع من القول والله أعلم .
ومنها : أن المتقرر عند كثير من أهل العلم أن لا قطع في حال الحرب ولا في عام المجاعة ، وهذا نظر في أحوال المصاحبة للقول والفعل فالأول : فلو قطعناه الآن فلربما ليسخط لنفسه فيرتد ويلحق بالمشركين وأما الثاني فلأن السرقة في عام المجاعة تكثر ويعسر التحرز منها والأمر فيه مشقة خارجة عن العادة فروعيت هذه الحال ، ولم يقطع أحد فيها كما حصل في عهد عمر - رضي الله عنه - .
ومنها :حكم اللقيط فإن النظر في حاله واقعه واضح جدا فهو مسلم إن وجد فيه دار الإسلام وكافر إن وجد في دار الكفر إن لم يكن فيها مسلمون فاختلف حكمه باختلاف النظر في قرينة حاله ، وهذه القاعدة تفيد القاضي كثيرا والله يتولانا وإياكم .
ومنها : إذا بقيت عند زوجها سنين عددا ثم ادعت عليه عند القاضي أنه لم يكن ينفق عليها فالحق أن دعواها هنا مردودة يكذبها النظر في قرينة الحال ، وهي تخالف الظاهر وإن كان الأصل عدم النفقة إلا أن الظاهر هنا مقدم على الأصل فالظاهر أنها لا تأكل إلا من نفقة زوجها ولا تكتسي إلا منها وهكذا ، فالأصل هو عدم إنفاق غيره عليها فيبقى على هذا الأصل حتى يرد الناقل ، فينظر في قرائن الحال جعلنا نتوقف من الحكم عليه بالنفقة المدعاة ، والله أعلم .
وعلى كل حال فالنظر في قرائن الأحوال وفهم صورة المسألة فهما جليا مما يحمي الحاكم والمفتي من الخطأ إن شاء الله تعالى في الحكم الصادر منهم ، فاشدد يديك على هذه القاعدة فإنها مسلك المنصفين الذين همهم سلامة الحكم الصادر منهم لا كثرته والله يتولانا وإياك .
(( القاعدة العاشرة ))
طلب العذر للمخالف إذا أمكن مقدم على الحكم عليه
أقول : وهذا من جملة الآداب العظيمة التي لا بد أن نتربى عليها وخصوصا لمن أراد أن يبحث في خلاف العلماء فإنه يجب عليه لزاما أن يتعلم هذا الأدب الرفيع والمنهج المحبوب عن رسوله بل هو من النصيحة لأهل العلم ومن رفع قدرهم بين العام والخاص ، فاحذر رعاك الله لا يحملنك حب الظهور بقولك على أقرانك وأهل زمانك أن تقع بلفظ واعذر المخالف بأي عذر ما كنت تجد لذلك سبيلا ، ولا تتعرض للحكم عليه بشيء ما كنت تستطيع أن تجد له عذرا فإن الحكم على الغير لاسيما إذا كان من أهل العلم عاقبته خطيرة ، وهو من لفظ القول التي يتلفقه الرقيب أو العتيد ويحفظانه عليك حتى تسأل عنه يوم القيامة ولماذا تعرض نفسك لذلك وأنت في حل وسعة من أمرك فإنك لن تسأل يوم القيامة لم تحكم على فلان ؟ وإنما ستسأل : لماذا حكمت عليه ، هذا وفضلا عن أن أهل السنة والجماعة يعذرون ولا يكفرون ، فطلب العذر للمخالف منهج أصيل وخلق رفيع سام ، أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أني يوفقني وإياك إليه فإن كاتب هذه الأسطر كثير زلله ولا يصلح أصلا أن يكون قدوة لغيره وخصوصا في هذه المسألة فإن نزقنا وطيشنا وغيرتنا الزائدة تدفعنا إلى الوقعية في بعض المزالق الوخيمة ، والحفر العميقة ، حتى يعتقد الواحد منا بغبائه وقلة أدبه أن طلب العذر نوع من الخور والضعف ، وهذا هو المتقرر في أذهاننا بادئ الأمر ،ولكن تغيرت الحال والحمد لله وشفينا مطلق الشفاء من هذا الداء العضال وأسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الشفاء المطلق منه ، وأن يمن علينا وعليكم بالعافية ، فلو أننا حرصنا على هذه القاعدة المفيدة لسقط ثلاثة أرباع من الأحكام على الغير وإن الواحد منا إذا وقع في مخالفة فإنه يحب من غيره أن يطلب له العذر فيها ، فغيرك أيضا يحب ذلك منه ، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به وانظر إلى قوله في الحديث: ( أخطأ من شدة الفرح ) وقد كان المعذرون يأتون بأعذارهم للنبي فيعذرهم أخذا بالظاهر وحبا في طلب العذر ولا يأتينا أحمق أرعن قليل أدب يقول : إنكم تتميعون مع الأخطاء وهذا فيه خداع للعامة بأن ما قاله هذا المخطئ صواب وحق ، لأننا سنقول : إن هناك فرقا بين قبول خطئه وبين الحكم على ذاته بشيء ونطلب العذر لينتفي الحكم على ذاته ، ولكن الخطأ الذي وقع فيه نرده فإعذاره لا يعني جواز إتباعه بشيء فيما أخطأ فيه ، فالخطأ نرده لذات الخطأ لكن لا نتعرض للمخطئ بشيء من الأحكام فأصحاب الاجتهاد وإن عذرناهم فإنه لا يجوز ترك بيان الحق في هذه المسألة لكن مع بيانها لا بد أن يذكر عذر المخالف لها إذا أمكن ذلك فلا يجوز اتباع أحد خالف الحق وإن كان القائل أو الفاعل معذورا مأجورا وإنه من المناسب في هذا المقام بيان بعض الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في كثير من المسائل حتى تكون على علم وبصيرة من أمرنا في هذه المسألة المهمة لا تنافيها نتعامل مع إخواننا في العقيدة ، وقد تولى بيانها أبو العباس في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، واختصر ذلك الشيخ عبدالله بن عبد المحسن التركي - حفظه الله تعالى - في رسالة أسماها أسباب اختلاف العلماء ، وسأذكر لك خلاصة هذه الأسباب مع بيان شيء من الأمثلة إن شاء الله تعالى فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والفضل والتأييد :
1. من أسباب الخلاف : أن يكون المخالف لا يعلم الدليل أي أن الدليل لم يصل إليه ، فقال بقول خالف فيه هذا الدليل وسبب خلافه هذا عدم بلوغ الدليل إليه وهذا متصور كثيرا فإن المجتهد ليس شمسا مشرقة على كل النصوص فقد يخفى عليه الكثير والكثير من النصوص ، ومن الذي استوعب السنة وأحاط بها ؟ بل إن عدم بلوغ الدليل قد حصل لبعض الصحابة مع قرب العهد واجتماع الكلمة فكيف بمن بعدهم ، وهذا السبب داخل تحت العذر بالجهل وقد تقدمت أدلة كثيرة تثبت أن الجهل من جملة الأعذار الشرعية وذلك بشرطه المعروف فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه وقد كان سادة الصحابة بالحبشة وتنـزل الواجبات والتحريم على النبي فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأشهر معذورون بجهلهم ، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة من أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيء من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ولذلك فقد اختلف الصحابة من المهاجرين والأنصار في الرجل إذا جامع فأكسل فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الدفق بلذه ، وقال المهاجرون بل إذا جامع فقد وجب الغسل وإن لم ينزل فقال أبو موسى فأذن له فقال فأنا أشفيكم من ذلك فاستأذن على عائشة فأذن له فقال : يا أماه إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك فقالت : لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك فقال : الرجل يجامع فيكسل أعليه الغسل ؟ فقالت : على الخبير سقطت: قال النبي : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان فقد وجب الغسل ) والحديث في الصحيح ، فسبب خلاف المهاجرين مع الأنصار كان لعدم بلوغ الدليل ، ومثال ذلك أيضا : أن الصحابة في عهد خلافة عمر اختلفوا في مسيرهم إلى الشام لما سمعوا أن الطاعون نزل بأهلها ، فقال قوم : نسير ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، وقال آخرون : بل ترجع لأن الله تعالى قال: { وَلا تُلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إَلى التَّهْلُكَة } فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجة له فقال سمعت النبي يقول : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ) والحديث في الصحيح ، وسبب خلاف الصحابة هنا هو عدم بلوغ الدليل ومثال ذلك أيضا : اختلاف ابن عباس والمسور بن مخرمة في غسل المحرم لرأسة فقال المسور لا يجوز ذلك وقال ابن عباس بل هو جائز ، فأرسل ابن عباس عبدالله بن حنين – رحمه الله تعالى – إلى إبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال : ما هذا ؟ فقلت أنا عبدالله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول يغتسل وهو محرم ؟ قال : فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء : أصبب فصبّ على رأسه فحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال : هكذا رأيت رسول يفعل . رواه الجماعة إلا الترمذي. وسبب الخلاف هنا بين المسور وابن عباس إنما هو لعدم العلم بالنص المثبت لذلك والله أعلم . ومن ذلك أن عمر – رضي الله عنه – وابن مسعود كانا يفتيان بأن المبتوتة لها السكنى والنفقة وخالفهم في ذلك بعض الصحابة حتى بلغهم حديث فاطمة بنت قيس وأن زوجها بت طلاقها فقال النبي : ( لا نفقة لها ولا سكنى ) أو كما قال فسبب الخلاف هنا عدم العلم بالدليل ومثال ذلك أيضا اختلاف الصحابة في دية الأصابع وكان عمر يرى اختلاف ديتها على حسب منافعها حتى بلغه النص القاضي بأن كل إصبع ديته خمس من الإبل فرجع عن قوله وقال بمقتضى النص ، والصور كثيرة فهذا بالنسبة للسبب الأول ، فإذا خالفك أحد فقل أنه لو بلغه النص لقال به لأنه محب للحق وجاد في طلبه فما أحلى هذه الكلمات النيرة الموجبة لبقاء الألفة والمحبة والاجتماع ، والتي هي من المواطئ التي نغيظ بها عدونا إبليس لعنه الله لأننا بذلك نسد عليه بابا من أبوابه ألا وهو التحريش بيننا كما في الحديث عن جابر في صحيح مسلم وكما قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التي هِيَ أَحْسَن إِنَّ الشَّيْطَان يَنزغ بَيْنَهُم } .
2. ومن الأسباب أيضا : أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يتحقق من جهة ثبوته أي أن الجهة التي وصله النص فيها ليست بمعتمدة عنده أو فيها وجه من أوجه الضعف وهذه الحالة تختلف عن التي قبلها فإن الأولى لم يبلغه النص أصلا ، وأما هذه فقد بلغه النص لكن القدح الآن في جهة الناقل للنص وهذا كثير جداً فإن بعض الأئمة قد يقبل راويا ويعد له بينما لا يقبله الآخر لوجود الجرح فيه ، فالأول يقول بمقتضى ما نقله ذلك الراوي لأنه من أهل الرواية المقبولة عنده ، والآخر لا يعمل بمقتضى ما نقله لأنه ليس من أهل الرواية عنده ،فالنص قد بلغ ولكن سبب الخلاف هو أن جهة ثبوته ضعيفة ، أي بلغه من جهة تحفها قرائن التضعيف ، من كونه لم يثق بناقله أو رأى أنه معارض لما هو أقوى منه ، ومثال ذلك أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فأرسل إليها وكيله شعيرا نفقة لها مدة العدة ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه فارتفعا إلى النبي فأخبرها النبي أنه لا نفقة لها ولا سكنى وذلك لأنه أبانها ، ومن المعلوم أن المبانة ليس لها نفقة ولا سكنى إلا إذا كانت من أولات الأحمال إلا أن هذه السنة خفيت على عمر - رضي الله عنه - فكان يقول : لها النفقة والسكنى ، ولما بلغه حديث فاطمة رده باحتمال أنها يمكن أن تكون وهمت أو نسيت فقال : أنترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت ، أي أن أمير المؤمنين لم يطمئن إلى هذا الدليل لأنه تطرق إلى قلبه في هذا جهة من جهات الضعف ، ومثال آخر : هو أن ابن عمر – رضي الله عنه – كان يحدث عن النبي أنه قال " إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه " والحديث في الصحيح فلما سمعت عائشة – رضي الله عنها – ردته وذكرت أن الله تعالى يقول في كتابه: { وَلا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى } وذكرت أن ابن عمر لم يكذب ولكنه أخطأ وأن الصواب أن النبي قاله في اليهود: ( إنه يعذب في قبره وإن أهله يبكون عليه ) فأنت ترى أن أم المؤمنين – رضي الله عنها – ردت حديث ابن عمر لأنها رأت أن هناك معارضاً راجحاً فهي لم تثق فيما حدث به ابن عمر فوقع ذلك الخلاف ، وهذا يقع كثيرا بين أهل العلم ، فالناظر في أقوال أهل العلم في كثير من المسائل يرى بعضهم أن هذا الحديث صحيح لا غبار عليه فيأخذ به ويراها الآخر ضعيفة فلا يأخذ بها لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله ومثال آخر: أنه لما بلغها حديث حذيفة أن النبي أتى سباطة قوم فبال قائما ، أنكرت ذلك واستبعدته جداً ، وذلك لأنها ما كانت تراه يبول إلا قاعداً ، فلوجود هذا المعارض عندها – رضي الله عنها – وأرضاها ردت حديث حذيفة فلم يطمئن قلبها لما حدث به ، لكن من المعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ والصور كثرة وإنما المقصود الإشارة على شيء من الأمثلة والله أعلم .
3. ومن الأسباب أيضا :أن يكون النص قد بلغه ولكن نسيه وهذا يقع كثيرا فكم من الأحاديث التي تمر علينا ولكن سرعان ما ننساها فنقول بغير مقتضاها لا لقصد المعارضة وإنما لأننا نسيناها فإذا خالف أحد النص بعد بلوغه له فلنعذره ونقول : لعله نسيه أو غفل عنه ، ومثال ذلك قصة عمر وعمار وأن النبي بعثهما في حاجة فأجنبا فلم يجدا الماء فاجتهدا فأما عمر فلم يرى أن التيمم رافعا للحدث الأكبر فمكث عن الصلاة هذه المدة وأما عمار فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة وصلى ، ثم أتيا رسول الله فأرشدهما إلى الصواب فكان عمار يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر فدعاه وقال : ما هذا الحديث الذي تحدث به ، فذكره عمار بما جرى لهما ولكن لم يذكر ذلك ، فقال عمار : إن شئت أن لا أحدث به ما حدثت ، فقال عمر : لا ، بل نوليك ما توليت. والحديث متفق عليه ، فعمر نسي ذلك الحديث فكان نسيانه هذا سببا في وقوع هذا الخلاف وقد تابعه على ذلك ابن مسعود – رضي الله عنه – والمقصود أن الإنسان قد يخفى عليه الدليل بسبب نسيانه فيقول بخلافة لا تعمدا للمخالفة وإنما لأنه نسي الدليل ، ولا نظن بأهل العلم إلا خيرا ، فهذه سنة شهدها عمر – رضي الله عنه – ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر ، وهو – رضي الله عنه – لم يكذب عمارا، بل أمره أن يحدث به ، ومثال آخر : روى الإمام الترمذي بسنده من حديث سفيان بن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي العجفاء المسلمي قال: قال عمر – رضي الله عنه – " ألا لا تغالوا صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله تعالى لكان أولاكم بها نبي الله ما علمت رسول الله نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية " فعمر هنا ينهى عن المغالاة في صداق النساء ويأمر أن لا يزيد الرجل على صداق أزواج النبي فقالت له امرأة : لم تحرمنا يا أمير المؤمنين شيئا أعطانا الله إياه ؟ ثم قرأت " وآتيتم أحداهن قنطارا " فرجع عمر إلى قولها ، وقد كان – رضي الله عنه – حافظا الآية ولكن نسيها ، فهذا أمر لا يسلم منه أحد إلا من شاء الله تعالى وكذلك عقد علماء المصطلح لذلك مسألة وهي فيما إذا حدث الراوي بشيء ثم نسيه فذكر به فلم يتذكر أن هذا النسيان لا يضر روايته لأنه أمر متصور وهذا كثير في السلف والخلف والله أعلم .
4. ومن الأسباب أيضاً: أن يكون النص قد بلغه ولكنه فهم خلاف المراد، فالنص موجود لكن اختلف العلماء فيه لاختلافهم في فهم المراد، وهذا باب واسع فإن الأفهام تختلف ويمثل لذلك باختلاف العلماء في فهم قوله تعالى " أو لامستم النساء " فقال جماعة المراد به اللمس باليد وفرعوا على ذلك أن مس المرأة ناقض للوضوء بينما فهم آخرون أن المراد به الجماع والأول رأي ابن مسعود والثاني رأي ابن عباس – رضي الله عنهم – أجمعين، فسبب الخلاف هنا هو خلافهم في فهم المراد من الآية، ولسنا بصدد الترجيح بين الأقوال ولكن المراد بيان هذا السبب، فالذي خالفنا في آية أو حديث بعد بلوغه إليه نعتذر عنه بذلك ونقول: لعله فهم من النص شيئا حسب اجتهاده ونظره ، ولا نظن به أنه خالف عنادا للنص – حاشا وكلا – ولكن الأفهام تختلف والأنظار تتفاوت ومثال أخر : وهو أنه لما نزل قوله تعالى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْط الأبيَض مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر } عمد عدي بن حاتم إلى عقالين ووضعهما عند وساده وصار يأكل حتى تبينا إذا النهار قد طلع فذكر ذلك النبي فأخبره بالصواب ولم يأمره بالقضاء مما يدل على أنه معذور فالصحابي هنا فهم من النص فهما مخالفا للمراد فإذا كان ذلك متصورا في الصحابة فمن بعدهم من باب أولى لأن الصحابة – رضي الله عنهم – أكمل أفهاما وأزكى عقولا وأعمق علما ومثال آخر : لما انتهى النبي من غزوة الأحزاب جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام وأمره بالتوجه إلى بني قريظة فخرج على أصحابه وقال لهم : ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فاختلف الصحابة في فهم المراد ، فمنهم من صلى العصر في الطريق لما حضر وقتها ومنهم من أخرها عن وقتها ولم يصلها إلا في بني قريظة فأخبر النبي بذلك فلم يعنف على أحد من الطائفتين ، فالأولون فهموا الحث على الإسراع فقط والآخرون فهموا الأمر على ظاهره وأنه لا توقع صلاة العصر إلا في بني قريظة ، فسبب الخلاف هو الاختلاف في فهم المراد ولم يذكر عنهم أن بعضهم هجر بعضا ولا تراشقوا بالسباب حاشاهم عن ذلك بل هم إخوة متوافقون متآلفون متحابون متوادون يعذر بعضهم بعضا فيما يسوغ فيه الخلاف كهذه القضية وغيرها والله أعلم.
5. ومن الأسباب أيضا:أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ ، فيكون الحديث صحيحا ومفهوما الفهم الصحيح لكنه منسوخ وهذا المجتهد لا يعلم بالناسخ فيعمل بالمنسوخ وذلك لعدم علمه بالناسخ فحينئذٍ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يرد الناسخ من طريق صحيح ومثال ذلك ما وقع في عهده عليه الصلاة والسلام من أنه لما حولت القبلة إلى البيت الحرام كان بعض المساجد المجاورة للمدينة كمسجد قباء وغيره يصلون لبيت المقدس وهذا خلاف في الوجهة وسببه عدم العلم بالناسخ فلما علموا به توجهوا وهم في الصلاة إلى البيت الله الحرام ، فإذا كان ذلك حال المساجد المجاورة للمدينة فما بالك بحال أهل الأماكن البعيدة كأهل مكة واليمن ومن في الحبشة لا شك أن الخبر لم يصلهم إلا بعد مدة من الزمن ، وكانوا يصلون في هذه المدة إلى بيت المقدس وسبب ذلك عدم العلم بالناسخ فهم معذورون في ذلك لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والشرائع لا تلزم إلا بالعلم . ومثال آخر : وهو أن بعض الصحابة لم يزل يفتي بأن من جامع فأكسل أي لم ينزل لا يجب عليه إلا الوضوء ، ولم يعلم بأن ذلك كان رخصة في أول الإسلام وأنه نسخ بقوله ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ) وبقوله ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل ) وهما في الصحيح ، فسبب الخلاف هنا هو عدم العلم بالناسخ ، ومثال آخر : وهو أن ابن مسعود – رضي الله عنه – كان يرى التطبيق في الركوع ، وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالأمر بوضع الأكف على الركب وثبت حديث النسخ في الصحيحين إلا أن مسعود بقي على مقتضى الدليل المنسوخ فلما صلى مع علقمة والأسود ووضعا أيديهما على ركبهما نهاهما وأمرهما بالتطبيق ، لماذا ؟ لأنه لم يكن يعلم بالدليل الناسخ وإلا فإن الظن به – رضي الله عنه – أنه لو علم بذلك لما تعداه إلى غيره وهذا هو الظن بسائر أصحاب رسول الله والله أعلم .
6. ومن الأسباب أيضا : أن يكون العالم قد أخذ بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً وهو كثير جداً بل هو غالب ما وقع بسببه الخلاف وأمثلة كثيرة جدا فمن ذلك خلافهم في صلاة التسابيح فقائل بالاستحباب وقائل بالبدعية وسبب الخلاف خلافهم في قبول حديثها الوارد والحق أنه ضعيف لا يحتج بمثله ، بل ذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن حديثها كذب على رسول الله ومن ذلك : خلافهم في القهقهة هل هي ناقضة للوضوء ، فقيل نعم وقيل لا ، والحق أنها ليست بناقضة وسبب خلافهم هو ورود حديث في ذلك لكنه ساقط الإسناد ، ومن ذلك : خلافهم في حكم البسملة على الوضوء أعني قوله " ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " والراجح أنها سنة . ومن ذلك : خلافهم في الوضوء بالماء المشمس فمنهم من أجازه وهم الأكثر ومنهم من منع منه ، وسبب خلافهم في ذلك حديث روي في ذلك لكنه حديث موضوع ، ومنه خلافهم في قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية ، فمنهم من أوجبها ومنهم من قال تكفيه قراءة إمامه وسبب خلافهم هو أنه روي في بعض أحاديث الفاتحة قوله " لعلكم تقرؤون خلفي قالوا نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " فمن صححها قال بالوجوب ومن ضعفها قال بإجزاء قراءة الإمام وعلى كل فالأمثلة كثيرة جدا وإنما المقصود الإشارة ولكن ينبغي علينا أيها الأحبة أن نعتقد في أهل العلم أنهم أخذوا بهذا الحديث ظنا منهم أنه مما يحتج به ، ولو أنه تبين لهم ضعفه لما أخذوا به والله يحفظنا وإياك .
7. ومن الأسباب أيضا : الاختلاف في بعض القواعد التي بني عليها المذهب فإن أصحاب المذاهب الكبار قد قرروا قواعد واعتمدوها في استخراج الأحكام من الأدلة فقد يختلف الحكم للاختلاف في القاعدة . ومثال ذلك : خلافهم في نقض الوضوء بمس الذكر فالجمهور قالوا ينقض والأحناف قالوا لا ينتقض ، وسبب خلافهم هو أن الحنفية لا يقبلون خبرا الآحاد فيما تعم به البلوى ، وأما الجمهور فالمهم عندهم صحة الحديث فقط ، فاختلف الحكم للاختلاف في القاعدة ، ومثال آخر : قال الجمهور باشتراط الولي لصحة النكاح وقال الأحناف هو شرط كمال لا شرط صحة وسبب خلافهم هو القاعدة المتقدمة ، وأيضا لقاعدة أخرى وهي أن الأفعال المنفية بـ ( لا ) النافية للجنس هي لنفي الكمال عند الحنفية وأما الجمهور فإنها لنفي الحقيقة الشرعية عندهم فقوله ( لا نكاح إلا بولي ) هو لنفي الكمال عند الأحناف ولنفي الصحة عند الجمهور ولا شك أن الصحيح قول الجمهور فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع للاختلاف في القاعدة . ومثال آخر : ذهب الشافعية إلى أن الحج واجب على التراخي وقال كثير من العلماء بل هو على الفور وسبب خلافهم هو خلافهم في قاعدة : هل الأمر المجرد عن القرينة يفيد الفور أم التراخي فالذين قالوا على الفور قالوا إنه يفيد الفورية والذين قالوا : على التراخي قالوا إنه يفيد التراخي والأمثلة كثيرة وتجد الكثير منها في كتابي تحرير القواعد ومجمع الفرائد والله أعلم .
وخلاصة ما أريد إثباته هنا هو أن المخالف لنا في شيء ينبغي لنا أولا قبل إصدار الحكم عليه أن نطلب له العذر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا وهذا أمر ممكن لا عسر فيه إلا على من استحوذ الشيطان عليه ، ممن نسي حق إخوانه وعظيم الخطر في الحكم على الغير ، اسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يعافينا وإخواننا من زلل القول وخلل الفهم وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الحادية عشر ))
الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين
أقول : ما رأيك يا هذا لو أنك رأيت رجلا قد ترأس مجلسا من المجالس يتكلم في الأدواء والأدوية ويصف بعض العلاجات ويحكم على بعضها بعدم الفائدة أو بأنه مهم لهذا النوع من المرض ونحو ذلك فإني لا أظن أبدا أنك تتوقف في الحكم عليه بأنه طبيبا ، وأنت في هذا الحكم نظرت إلى الظاهر لكن ما رأيك لو علمت بآخره أنه لا يعرف الطب بوجه من الوجوه فإنك ستقول : لقد دس أنفه فيم ليس له فيه مجال وتكلم بما لا يعلم وهذا أمر لا يرضاه أحدا أبدا وكذلك الحكم على الآخرين بالأحكام العظيمة من الكفر أو البدعة أو الفسق أو غيرها هو وقف أيضا على علماء الشريعة فكما أن الطب وقف على الأطباء ، وأمور الصناعات ومختلف الحرف وقف على العارفين بها فكذلك أمور الشريعة ومعرفة الحلال والحرام وقف على أهل العلم ، فلا حق لأحد أن يدخل فيه كما هو الحاصل هذا الزمان فإنك تجد العامي الذي لا يعرف شيئا يصدر الأحكام ويحلل ويحرم ويصف الأشخاص بأوصاف الكفر واللعنة وهو لا يعرف من العلم شيئا وهذا أمر خطير وعاقبته وخيمة وضرره كبير جدا مفسدته لا تحتاج إلى استدلال وهو منكر يجب إنكاره وزجر فاعله وتخويفه بالله تعالى ولا يقّر أبدا أيا كان هذا الشخص كبيرا أو صغيرا عزيزا أو ذليلا قال الله تعالى:{ وَلا تَقف مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ وَالفُؤَاد كُل أُولئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً }وقال تعالى في سياق المحرمات على حسب العظمية فقال في آخرها{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لا تَعْلَمُون} فبان بذلك أن القول على الله تعالى بلا علم من أعظم ما نهينا عنه لأنه الجامع لأبواب الشر كلها وقال تعالى: { قُل أَرَأيتُم مَا أَنزَلَ الله لَكُم مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُم مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آلله أَذِنَ لَكُم أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُون } وقال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألسِنَتكُم الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وهَذَا حَرَامٌ لِتَفتَرُوا عَلَى الله الكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفتَرُون عَلَى الله الكَذِبَ لا يُفلِحُون } ويدخل في عموم ذلك النهي الحكم على الغير فإنه لا بد فيه من الدليل الساطع والبرهان القاطع وهذا إنما يعرفه أهل العلم بالكتاب والسنة ويوضح ذلك أيضا أن الحكم على الغير بشيء من الأحكام السابقة موقوف على العلم بالأدلة المقتضية لذلك الحكم وهذا لأهل العلم الراسخين فقط وأما العوام والأعاجم وأشباه الأنعام فلا مدخل لهم في معرفة ذلك ، ويوضحه أيضا أن الحكم على الغير هو من باب إدراج الفرع تحت أصل عام وهذا الإدراج مفتقر إلى اجتهاد والاجتهاد مفتقراإلى أدواته وشروطه من معرفة أدلة الكتاب والسنة والتمييز بين عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومبينها ومعرفة وجه الاستشهاد والعلم بدلالات اللغة اللازمة لذلك وكل ذلك لأهل العلم ، فلا يجوز لأحد أن يتجرأ على ذلك لأن الأمر عظيم والعواقب كبيرة فليس الباب مفتوحا لكل أحد بل هو وقف على أهل العلم الراسخين فيه ، ولأن العامي والمقلد ليس من أهل الدليل فلا يجوز له استنباط الحكم من دليله وإنما فرضه السؤال فقط ، ولأن الحكم على الغير مفتقر إلى معرفة العوارض التي تعرض للأهلية والعلم بها وبجزئياتها إنما هو لأهل العلم فبان بذلك أن الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين فانج بنفسك ودع الأمر لهم ، فإنها أمانة عظيمة يتحملها أهل العلم بالكتاب والسنة فمالك ولها ؟ فليست المسألة تشريفا للحرص على تحصيله بل هي تكليف صاحبه مسئول عنه يوم القيامة ، فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعين العلماء على القيام بها حق القيام وأن يعيذهم من خلجات النفس ووسوسة الشيطان الرجيم ، وأحذر كل الحذر من أن تزك نفسك وتقول أنا من أهل العلم ، فإن هذا مزلق وخيم وتعالم سافر ، بل لا تزال: إن كنت تريد النجاة – متهما لها بالقصور والتقصير محتقرا لها الاحتقار الذي يدفعك إلى مطالعة عيوبك والاشتغال بها والإقبال على تكميل قصورها ، ودع باب الحكم على الآخرين فإنه ليس لنا ، عافانا الله وإياك من زلل القول وضلال الفهم ، فاعرف قدر نفسك ولا ترفعها عن منزلتها فتهلك ، وقد حدثني من أثق به أن بعض هؤلاء الصغار الحمقى تجرأ على أحد العلماء حتى إنه يقول بعد ذكر اسمه: أكرمكم الله ، وبعضهم يقول في ذلك العالم وغيره : إنهم عملاء لا علماء وما ذلك إلا لقلة الأدب وذهاب الحياء ووفور الجهل واستحكامه في النفس وحق هذا الصغير ومن كان شاكلته أن يؤدب بالتعزير البليغ الذي يردعه ويردع أمثاله عن قول هذا الكلام العظيم في خيار الأمة وولاة أمرها ، فبالله عليك أي حياة تطيب إذا وقع الصغار في الكبار وترأس الرويضبة الذي لا قدر له علماً وعملاً واتهمت نيات العلماء ولم يؤخذ عنهم ، وذهبت هيبة العلم واشتغلت المجالس بذكر عيوبهم والقدح في فهمهم وأمانتهم هذه والله الطامة التي أسأل الله تعالى باسمه الأعظم أن يعصم الأمة منها وأن يرد كيد من يريد وقوعها في نحره وأن يجعل تدبيره تدميره ويجعل الدائرة عليه ويخرجنا وأمتنا من ذلك سالمين غانمين معافين ، فيا أيها الأحباب الوصية لنفسي ولكم أن تدعوا الأمر لأهله ورجاله الذين هم عليه أحرص وبه أقوم وله أعرف وفيهم الكفاية وهم أهل لذلك ، ومن العجيب أن بعض وسائل الإعلام مع نزول بعض الأحداث في الأمة تلتقي مع الذين لا يعرفون بعلم ولا فقه ولا انتهاج بمنهج أهل السنة ليقولوا قولهم في هذه الأحداث ويهتدي الكثير بآرائهم ويسترشد بأقوالهم التي لم تبن على علم ولا بصيرة ولا هدى من الكتاب والسنة فيضرب كثير من العوام بأقوالهم في العلماء استنادا على أقوال هذه الثلة التافهة الفاسدة والوزر في ذلك يحمله مخرجوا هذه اللقاءات ومنفذوها وإلا فالقاعدة عندنا في ذلك هي قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمُ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفَ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلي الأمْرِ مِنْهُم لِعِلمِه الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } فمعرفة أحكام هذه الأحداث والوقائع النازلة لا يؤخذ من أهل العلمنة والحداثة والمنافقين ودعاة التحرر والإرجاف وإنما لا يؤخذ إلا من ولاة الأمر منهم وهم العلماء بالكتاب والسنة ولا يفهم أن سكوت بعض العلماء عن بعض الأشياء أنه مداهنة وخور وخوف ، نعوذ بالله من هذا الظن في أهل العلم بل سكوتهم على بعض الأشياء مبناه مراعاة المصالح والمفاسد الذين هم بها أعرف ولها أرعى ، فليس العالم بوقا يتكلم بما شاء الناس ، وليس العالم هو الذي يتوخى إرضاء الناس وإنما المقدم عنده في كل الأمور مرضاة الله تعالى وإن أدى ذلك إلى سخط الناس فهذه الأحكام من التكفير والتفسيق والتبديع وغيرها إن أخذت من غير أفواه العلماء الراسخين فقل على الدنيا السلام وناهيك بالمفاسد والبلايا التي ستقع في الأمة ، وأكبر دليل على كلامي هذا هو هذه الأحداث الإرهابية التي تسمع عنها بين الحين والآخر فإنها امتداد لأخذ الأحكام من سقطاء الأمة الذين لا يعرفون بعلم ولا تربية على منهج أهل السنة فوقعوا في أمراء الأمة وعلمائها وأفرادها تكفيرا وتبديعا واتهاما وقتلا وإتلافا للأموال استنادا لفتيا من لا يحق له أن يقضي بين البهائم في أمور علفها فضلا عن تنصيبه ليكون عالم زمانه ورسول أوانه الذي لا يجوز مخالفة قوله والحيدة عن رأيه ويذكرني ذلك بحديث أبي هريرة في الصحيح ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) فإذا وسد أمر الخبز والعجين إلى الطبيب ووسد أمر طب الأبدان إلى الخباز ووسد أمر طب القلوب والأرواح إلى المغفلين والجهال وأخذت الأحكام من غير أهلها ، فوالله إن باطن الأرض خير من ظهرها لأنها فتنة ومشروع أن يدعو الإنسان بقبض روحه عند حلول الفتن حتى لا يفتن عن دينه ، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فعليك بارك الله فيك أن تدع أمر الحكم على الآخرين لمن هو أهل له وهم العلماء الراسخون الذين مستندهم الدليل وقائدهم الورع والتقى ولا يحركهم ويوفقهم إلا مراعاة المصالح والمفاسد ، ولا زالت الأمة بخير ولله الحمد والمنة وإنما المقصود التحذير وتعظيم ذلك الأمر على النفوس حتى تهابه القلوب وتوجل منه العقول فالله الله أيها الأحبة بهذا الأمر فإننا على خير ما كنا نصدر أحكامنا وغيرها عن العلماء أسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ علينا علمائنا وأمرائنا وديننا وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الثانية عشر ))
لازم القول ليس قولاً إلا بعد عرضه والتزامه
أقول : رفع الله نزلك في الفردوس الأعلى وأجزل لك الأجر والمثوبة وعافاني الله وإياك من كل بلاء وفتنة وجعلك الله في كل مصادرك ومواردك تابعاً للدليل موافقاً له وأن يعيذنا الله من هوى النفوس وشهواتها إنه ولي ذلك والقادر عليه ، اعلم رحمنا الله وإياك أن اللوازم نوعان : لوازم من كلام الله ورسوله ولوازم من كلام غيرهما من سائر الناس فأما اللوازم من كلام الله ورسوله فإنها حق لا يتطرق إليها الخلل بوجه ، لأن كلامهما حق وصدق كله ولازم الحق حق ولازم الصدق صدق ، والكلام في هذه القاعدة ليس على ما يلزم من كلام الله ورسوله وإنما الكلام فيها على القسم الثاني وهو اللوازم على كلام غيرهما فهذه اللوازم إن كانت تقتضي أحكاماً فلا يجوز لنا أن نحكم على أصحابها بمجرد علمنا بها ، فإن هذا ليس من العدل والإنصاف ، بل المشروع في ذلك أن نعرضها على أصحابها إن كانوا أحياء فنقول لهم أنتم قلتم كذا وكذا ويلزم على أقوالكم كذا وكذا من اللوازم الباطلة ، فأنت إذا عرضت ذلك عليهم فلا يخلو الأمر من حالتين : : إما يلتزموها مع ظهور بطلانها لهم وإما أن يرفضوها ويتبرؤوا منها ، فإن كان الأول فقد أقمت الحجة عليهم فإن كان الأمر يقتضي الحكم عليها فاجتهد واتق الله ما استطعت وإن كان الثاني فإنه لا يحق لأحد أن يحكم عليهم بهذه اللوازم وهذا فرع من فروع العدل والإنصاف مع الآخرين وهو من النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ، فلا حق لأحد أن يحكم على الغير بما يلزم عليهم من أقوالهم إلا بهذين الأمرين : أن يعرض عليه لازم قوله ، وأن يلتزمه أي يقبله وهذا من الرفق في الأمور الذي رغبنا فيه ، ولأن المتكلم في كثير من الأحيان قد لا يقوم بقلبه هذا اللازم ولا يفكر فيه فكان من الإنصاف أن لا يحكم عليه بما لم يقصده ولم يقم بقلبه إلا بعد العرض والقبول ، ففي الحقيقة أن الذي يحكم على الآخرين بما يلزم عليهم من أقوالهم بلا عرضها عليهم ظالم في ذلك والظلم شين وعاقبته معلومة ، والله تعالى لا يحب الظالمين ، وبذلك تعلم أن العاكفين على تتبع أشرطة بعض العلماء ليخرجوا منها ما يوجب القدح فيهم ويبترون الكلام بترا ويعلقون عليه أنه قال كذا وكذا ويلزم على قوله كذا وكذا أنهم غير الصراط المستقيم وأنهم بذلك مجانبون للمنهج القويم ومتنكبون عن الجاده ، وإنك لترى من ذلك عجبا وتسمع من ذلك ما يشيب له الرأس ، فمن ذلك قول بعضهم لما سمع شيخاً يقول : ولا يقتصر في دراسة الفقه على الزاد أي زاد المستقنع بل لابد من صياغة جديدة ويسيرة وواضحة المعالم ، فقال ذلك الرجل : هذه دعوى لنسف التمذهب على مذهب إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ، قلت : كلا والله ليس هذا لازم كلام ذلك الشيخ وإنما هو شيء فهمته أنت بسوء فهمك وإلا فكلامه لا يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام والواجب هو إحسان الظن بالمتكلم وإني على يقين تام لو أن أخانا هذا هداه الله عرض ما ثار في ذهنه على ذلكم الشيخ لبادر الشيخ في توضيح مراده ونفى ما فهمه هذا ، ولكنه الاستعجال الذي لا تحمد عواقبه ، ولا أريد الرد على دعواه أن التمذهب على مذهب الإمام أحمد مقصور على قراءة الزاد فإنها دعوى غير نافعة عند أهل العلم وواضحة البطلان عند من له أدنى اهتمام بالعلم وإنما المراد التمثيل على من يحكم باللوازم دون عرضها على أهلها والله أعلم . والشيء بالشيء يذكر اذكر مرة أني كنت أجيب عن بعض الأسئلة ، فقلت في أثناء حديثي ، لو قال فلان ذلك فهو ضال ، فيتلقفها مني أحد الحاضرين وبدأ يثبت في مجالسه الخاصة أني أكفر فلانا ، فجاءني الناصحون وتكاثر علي المرشدون بالنصيحة تارة وبالاستفسار عن الدوافع لهذه الكلمة تارة وجزاهم الله خير الجزاء فإن الدافع لهذا الناقل وسائر الإخوان إنما هو محض النصيحة وحب العلماء والذب عن حياضهم وهذا يشكرون عليه ، والمقصود أن الأخ هذا حكم علي بذلك الأمر الذي لو عرضه علي لما قبلته ولبينت له وجهة قولي ، فأسأل الله أن يعفو عني وعن سائر أحبابنا فكل معرض للخطأ ولا يزكي الإنسان نفسه ، فاللوازم التي تلزم على الأقوال ، لا يجوز أن ننسبها لأصحاب القول إلا بعد عرضها عليهم وبيانها لهم فإن التزموها فالأمر شيء آخر وإن ردوها وعابوها فالحمد لله فاحرص على هذا الأمر فإن كثيرا من هذا الأحكام إنما بنيت على لوازم الأقوال لما اعتمدت قبل عرضها والتزامها وهذا محض الخطأ ، والله من وراء القصد وهو أعلم وأعلى .
(( القاعدة الثالثة عشر ))
من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه
أقول : وهذه أيضا من قواعد العدل والإنصاف الذي تميز به أهل السنة والجماعة ، فإن أهل السنة والجماعة أبدا لا ينظرون إلى نقطة سوداء في بحر أبيض ولا يفخمون الأخطاء ولا يحكمون على كثيرا الإصابة بيسير خطأه بل المجتهد عندهم مغفور له خطؤه اليسير فإن هذه الأمة مغفور لها خطؤها في الاجتهاد فزادها الله شرفا ورفعة ، فإياك أن تحكم على كثير الصواب بشيء قد أخطأ فيه ومن الذي لا يسلم من الخطأ فإن المعصوم من عصمة الله تعالى والأمة معصومة فيما أجمعت عليه وأما بالنظر إلى آحادها فإنه يجوز عليهم الغفلة والنسيان وقصور الفهم وفهم الشيء على غير وجهه أحيانا وإننا لو جعلنا شرط قبول كلام العالم سلامته من الخطأ لما سلم لنا أحد من العلماء ولردت أقوال هي في ذاتها صواب بسبب هذا الخطأ اليسير وهذا مسلك أهل البدع ، ولا يفهم غبي كلامي هذا أننا نقبل الخطأ الذي جاء به ذلك العالم فإن هذا فهم مخلوط منكوس ، بل الذي أريد إثباته هنا هو أننا نبحث عن المعاذير لهذا الخطأ ونخرجه التخريجات التي تتوافق مع منهج الأدب مع أهل العلم ، ونغض الطرف عن هذه الهفوة اليسيرة من بين ألف صواب ولا نجعل من الحبة قبة ، ولا نتعاظم صدور الخطأ من أحد كائنا من كان ، بل نسعى في علاج ذلك الخطأ بالطرق الشرعية والمناهج المرعية بالأدب ومراعاة المصالح والمفاسد ولا تكن أبواقاً ينفخ فيها أعداء الشريعة ولا آلات تحركنا أيدي عدونا ولا نفتح باب الشر على الأمة بنشر أخطاء أهل العلم فإنها والله الطامة ، فإن العامة إذا ذهبت هيبة العلماء من قلوبهم اهتزت هيبة العلم في باطنهم فلا يقيمون لعالم وزنا ولا لشيخ قدرا ويصدرون من عند أنفسهم وهذا باب فساد وشرور وفتنة أعيذك بالله أن تكون ممن يفتحه ، وإنه لا يفتح إلا بزعزعة هيبة أهل العلم من قلوب العامة فاحذر من تتبع أخطائهم والتنقيب عن هفواتهم فإنه مسلك الهالكين المفسدين في الأمة بعد إصلاحها وأخشى عليه أن يكون من الذين يذادون عن حوضه يوم القيامة ، فليكن مبدؤك العفو والتجاوز وحب الستر و صفح الهفوة حتى يعاملك الله بذلك ، قال تعالى:{وَليَعفُوا وَليَصْفَحُوا أَلا تحِبُّونَ أَن يَغفِرَ الله لَكُم وَالله غَفُورٌ رَحِيم} فالجزاء من جنس العمل ، فمن عفا وغفر وصفح عفا الله عنه وغفر له وتجاوز عن زلله ، فلنتناصح ولا نتفاضح ، و لنتفق ولا نفترق ولنتآلف ولا نختلف ، ولنحقق قوله :( وكونوا عباد الله إخوانا ) وقوله ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) وإن المقصود هو القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى فإذا قصر مقصر أو أخطأ مخطئ فلا نصفق لخطأه أو نضرب له الدفوف ونزف خطأه إلى الأعداء والعامة ، فإنك لا تستفيد شيئا بل عليك وزر هذه الفضيحة وإن أخرجتها في ثوب نصيحة فإن الأمة بل الدنيا بأسرها لا تزال بخير ما عظم العلماء وأعلى قدرهم وغفرت أخطاؤهم وسترت معايبهم لا لذواتهم أو لأنهم أبناء فلان وإنما لهيبة ما يحملونه في قلوبهم من علم الكتاب والسنة فإن احترام العالم احترام للعلم وتعظيم العالم تعظيم للعلم ، فاستغفر الله وأتوب إليه إن أخطأت في حق أحد منهم أو صدرت زلة لسان أو هفوة بنان على مقامهم الشريف ويا عجبا من قول سلم منهم اليهود والنصارى وأصناف الكفرة ولم يسلم منهم سادات المسلمين وأعجب من ذلك ما سمعته عن بعض هؤلاء إنه لا يجيز لعنة اليهود والنصارى والدعاء عليهم لعدم الدليل – هكذا زعم – وتراه يمزق لحوم أهل العلم ويدعو عليهم بالويل والثبور ويكتب فيهم التقارير السرية فإذا أصابهم أذى بقدر الله ، فرح قلبه واطمأنت نفسه وطاب عيشه ، مسكين مثل هذا أسأل الله جل وعلا أن يرده إلى جادة الحق والصواب وأن يعفو عنا وعنه زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة ، وعلى كل حال فنقول كما قال الإمام ابن عساكر – رحمه الله – تعالى إن : لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتهكي أعراضهم معلومة ومن وقع في أعراضهم بالثلب عاقبه الله قبل موته بموت القلب ، نعوذ بالله تعالى من موت القلوب ونسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحمي العلماء من كل من أرادهم بسوء وأن يجعل كيدهم في نحورهم وأن يحمي شريعته من عبث العابثين وإفساد المفسدين بحفظ أهلها الذابين عنها آمين إنه ولي ذلك والقادر عليه ولعل المقصود من هذه القاعدة قد اتضح فلا نجعل هفوات أهل العلم لك بضاعة تتوصل بها إلى مقاصد أنت تعرفها واستعذ بالله من شهوات النفوس واجعل همك وصول الحق للناس سواءً أوصلته أنت أو أوصله غيرك ولا تنصب نفسك حاكما بين العلماء واعرف قدر نفسك وامدد لحافك على قدر قدميك ، ودع العلماء للعلماء ، ولا تداهن أحدا ببث شيء من هفوات بعض أهل العلم أو القدح فيهم عنده ليعطيك عرضا من الدنيا أو ينصبك منصبا يكون فيه عطبك وغضب الله عليك ، فأهل العلم الصادقون لا يجعلون علم الكتاب والسنة تابعا لذلك بل يجعلون الدنيا بأسرها تابعة للكتاب والسنة حاشا أهل العلم وطلابه من هذه الأخلاق الفاسدة والمقصود أن الخطأ اليسير في الصواب الكثير ليس بشيء ولا نحكم على أحد بيسير خطأه وكثرة صوابه ، عاملنا الله وإياك برحمته ووفقنا وإياك لسلوك سبيل مرضاته والله أعلى وأعلم .
(( القاعدة الرابعة عشر ))
لا تبنى الأحكام على الإشاعات والنقول والأراجيف
أقول : إن هذه وصية لنفسي الضعيفة ولمن شاء الله من أخواني أنه إذا نقل إليك أحد عن أحد شيئا يريد منك أن تحكم على هذا المنقول فاعلم أنه شيطان يريد أن يوقعك في عرض أخيك ويريد إيغار الصدور ووحشة النفوس وفساد ذات البين فاحذر كل الحذر منه ، وما أكثرهم لا كثرهم الله فإنهم النمامون القتاتون أصحاب العضة ، هم السحرة ولكن بلا عقد ، بل عليك زجر الفاعل والتغليظ عليه وردعه الردع المناسب لحاله ولا يصدر منك أي قبول لكلامه هذا فضلا عن أن تبني عليها حكماً على أخيك ، فإن هذه العجلة قد أوقعت كثيرا من الأحبة في أمور ندموا عليها وتمنوا أنهم لم يفوهوا بها ، وصدق الله العظيم إذا يقول { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ولا يقع في ذلك في الغالب إلا حدثاء الأسنان في العلم ، أما الراسخون فيه ومن أخذ فيه بحظ وافر فإنهم كالجبال الرواسي الذين لا تضلهم الفتن ولا تلتبس عليهم الأمور ، فلا يجوز لك أن تبني حكما على أخيك بمجرد نقل إليك أو بمقال من جريدة جاءت قصاصته إليك ، أو بشريط سمعته أو بكلمة محتملة ، فإن الحكم على الغير عظيم خطره فلا بد من هيبته والخوف منه ولا يقدم عليه إلا بعد استفراغ الوسع في التثبت والتبين والترفق ومعرفة الحقيقة المعرفة التامة ، وكم وكم من النقول التي لا أساس لها ولا خطام ولا زمام لها ، وفي الحقيقة أن من بنى حكما استنادا على ذلك فإنه يكون بذلك قد بنى حكمه هذا على غير أساس ولا هدى من الله ولا برهان ساطع أو دليل واضح بل على الهوى والتخرص والعجلة والطيش ومن الذي يرضى أن يكون بهذه المرتبة ، التي لا ترضاها البهيمة فضلا عن بني آدم فضلا عن المشائخ والعلماء فلا نريد أن نتمشى مع شهوة أهل الإشاعات والأراجيف بل لابد من قتل هذه الشهوة في قلوبهم بتحذيرهم ومناصحتهم أو ردعهم عن مثل ذلك بتغليط الكلام لهم وتأديبهم أو تعزيرهم التعزير البليغ حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك الخلق الفاسد ، ويعجبني أحد العلماء لما نقل له بعض السفهاء والسقطة شيئا عن بعض أهل العلم وأراد سماع رأيه فيه ، زجره زجراً بليغاً وأخرجه من المسجد ، وهذا حقه لأنه يريد بذلك النقل الوقيعة في ذلك العالم المنقول عنه ، فرد الله كيده في نحره لم ينل خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ، فلا تفتح بابك لأهل الأراجيف والنقول والإشاعات بمداهنتهم والترخي عنهم كائنا من كانوا ولا تسمح أصلا أن يذكر أحد في مجلسك بشيء ، بل لتكن مجالسنا عامرة بمدارسة العلم النافع ومذاكرة المسائل المفيدة ولتدع أعراض الناس عنك لا يطلبونك بها يوم القيامة ، فالوصية لنفسي ولمن شاء الله تعالى من أخواني المسلمين أن لا نحكم على أحد بناء على الإشاعات والنقولات الزائفة التي هي كيدية في غالب أحوالها ، ولا على الأراجيف فإن هذا مما يفرح أعداء الله ونحن لا نريد أن نفرحهم بل نريد أن ندخل عليهم الحزن والغيظ قال تعالى: { وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّار }.. الآية، فإذا سددت هذا الباب عنك فابشر بخير وسترى عاقبة ذلك في الدنيا والآخرة ولعلك قبلت وصية أخيك المحب ولعلها وجدت فراغا من قلبك الكبير وصدرك الواسع والله أعلم .
وختـــامــاً ..
فإني أحب أن أذكر لك بعض الوصايا الجامعة النافعة في هذا الباب وفي غيره ، عسى الله تعالى أن يختم لنا بخير ويجعل عواقب أمورنا إلى خير فأقول وبالله التوفيق :
من كف لسانه عن الناس شرح الله صدره ويسر أمره وأعلا ذكره ، وغفر وزره ووسع وأنار قبره وضاعف له مثوبته وأجره .
من صان أعراض الناس صان الله عرضه من الناس وألبسه الرحيم خير لباس ، فيمشي بينهم وما عليه منهم من حذر ولا بأس وسد بذلك طريق الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن عرضه ومكنه الله تعالى وآمنه في أرضه وسلمه من الفزع الأكبر في يوم حشره وعرضه ، جزاء وفاقا لما قام به من فرضه .
من قام بما أوجب الله عليه تجاه العلماء ، أحبه أهل الأرض والسماء ، واستغفرت له الأشياء ووسع الله له العطاء ، وأعلا نزله في دار الأتقياء .
خف الله في الناس ولا تخف الناس في الله وعاملهم بما تحب أن يعاملوك به ، وآت للناس ما تحب أن يأتوك به ، واعلم أن خير ما خرج به العبد من هذه الدنيا الذكر الحسن ، وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا ، واعمل لسانك بكثرة الذكر واستقل ما تقدمه من الطاعات ولا تفخر ولا تبغ على أحد واعف واصفح عمن أساء إليك وقابل السيئة بالحسنة وعليك بمعالي الأمور ودع سفاسفها وأوصيك بتقوى بتقوى الله وحسن الخلق ، وأتركك في مساء الخير أو صباحه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته واستغفر الله من الزلل وضلال الفهم وأسأله جل وعلا أن يعفو عني ذنوبي التي لا عد لها و لا حصر لكن رحمته أوسع وعفوه أكبر ، وأعوذ بوجهه الكريم أن يحاسبني عن ترك امتثال ما كتبته يوم القيامة وأسأله جل وعلا الإخلاص في القول والعمل وأسأله عز وجل باسمه الأعظم أن يتقبل هذا العمل وقفا لي ولسائر المسلمين وأني لا أجيز لأحد أن يحتفظ بحقوق طبعه ، بل حقوق الطبع مفتوحة للمسلمين ، وليس في هذه الوريقات فقط بل في كل سائر ما كتبته والله خير الشاهدين وعليه الاعتماد ولا أرجو ثواب ذلك إلا منه جل وعلا وأعوذ به أن أشرك به شيئا وأنا أعلم وأستغفره لما لا أعلم وقد تم الفراغ بحمد الله وتوفيقه قبيل الفجر يوم الأثنين من شهر جمادى الآخرة عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وهو أعلى وأعلم وأحكم .
يجب في الحكم على الغير النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل
أقول : وهذا أمر لا بد منه ، ومراعاته في حكمك على الغير من أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات ، فإن الجهل بهذه القرائن موجب للخطأ في الحكم ولا ريب ، وقد راعته الشريعة في أحكامها على الأعيان والطوائف تمام المراعاة فإنه قد يكون هذا القول أو هذا الفعل قد صاحبه من الأحوال والأشياء المانعة من انطباق حكمه على قائله أو فاعله فلا بد من مراعاة ذلك ، فالذي لا يراعي ذلك يعتبر مفرطا فلو أخطأ في حكمه فإننا نخشى عليه من العقوبة لوجود ذلك التفريط ويدل على ذلك حديث الذي قال:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك " فإن النبي نظر في القرائن المصاحبة لهذا القول فتوصل إلى قوله : " أخطأ من شدة الفرح " فشدة الفرح قد غطت على عقله بحيث صدر منه ذلك القول عن غفلة من غير مقصد ، فصارت هذه القرينة مانعة من انطباق الحكم عليه ، فبالله عليك كيف الحكم عليه لو لم ننظر إلى هذه القرينة ؟ ولذلك فالضابط عندنا في ذلك أنه لا يؤآخذ الإنسان بما قاله عن غير قصد كسبق اللسان لما لا يريده أصلا ، وهذا واضح . ومن ذلك: حديث عمار لما شدد المشركون عليه العذاب لينال من رسول الله فنال منه ومعلوم حكم الوقيعة في رسول الهدى ولكن لما نظر إلى قرينة حاله وجده مكرها فقال له: ( كيف تجد قلبك قال مطمئنا بالإيمان ) فقال : ( إن عاد فعد ) فأنزل الله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه إلا مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئِناً بِالإيمَانِ } وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وهذا يبين لك أهمية النظر في الحال التي قيل فيها ذلك القول أو فعل فيها ذلك الفعل .
ومن ذلك : سجود معاذ بين يديه فإن حكم السجود لغير الله في شريعتنا معلوم حكمه لكن هناك قرينة منعت من انطباق الحكم على معاذ وهي التأويل وظن صواب النفس ، فقد ظن أن ذلك مما يسوغ فلأجل هذه القرينة المصاحبة لهذا الفعل لم يتعرض له النبي بحكم وإنما بين له خطأ ذلك والحديث تقدم مرارا . ومن ذلك : حديث الرجل الذي أمر أولاده إن هو مات أن يحرقوه ويذروه في يوم رائح نصفه في البر ونصفه في البحر حتى لا يقدر عليه الله فيعذبه وتقدم هذا الحديث ووجه الاستشهاد هنا أنه قد روعيت قرينة الحال التي قبل فيها هذا القول وغفر له ما قال وفعل به فهذه القرينة التي هي شدة الخوف التي غطت على فعله مع جهله السابق بعظيم قدرة الله تعالى على جمعه جعلت مانعا من انطباق حكم قوله عليه مما يدل على أهمية النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل . ومن ذلك أن النبي جاء لحمزة – رضي الله عنه – معاتبا له في أمر فوجده ثملاً و ذلك قبل تحريم الخمر فعاتبه ، فقال له حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، فلما رأى النبي أن السكر جعله يهذي انصرف وتركه – رضي الله عنه – وأرضاه ولم يتعرض لذاته بحكم وذلك مراعاة لقرينة الحال التي صار فيها وهذا يفيد أهمية مراعاة قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل ، فليست الأحكام على الآخرين لعبة يتسلى بها الصبيان بل هي مما يدين به ربه ، لعظم آثارها المترتبة عليها والله المستعان .
ومن ذلك : أنه نظر إلى قرينة حال عمار وعمر لما بعثهما في حاجة فأجبنا والحديث تقدم مراراً فعمار اجتهد وسعه لكنه أخطأ لظنه صواب نفسه وعمر كان لا يعلم أن التيمم يرفع الحدث الأكبر ، فلم يتعرض لهما النبي بشيء مراعاة منه لهذه القرائن ، فالأول فعل ذلك مجتهدا وظانا صواب نفسه والثاني فعل ذلك عن غير علم بحقيقة الحال ، وهذا يفيد أهمية مراعاة الحال .
ومن ذلك : حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : جاء أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم رسول الهدى : ( دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .
وفي الصحيحين عن أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي فلما قضى بوله أمر النبي بذنوب من ماء فأهرق عليه ثم دعاه فقال له: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والبول وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ) أو كما قال رسول الله فهذا الأعرابي كان جاهلا بحقيقة حكم ما فعله ، فعفى عنه نظراً إلى قرينة حاله مما يدل على أهمية النظر في قرائن الأحوال قبل إصدار الأحكام .
ومن ذلك : قوله : ( لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق ) والإغلاق اسم لما يغلق على العقل كالغضب والسكر ونحوها ، وهذا النظر للحال التي وقع فيها الطلاق والعتاق وقد روعيت مراعاة تامة وبناء عليه فطلاق الغضبان والسكران الذي بلغ به الغضب والسكر حد غياب العقل هذا الطلاق وهذا العتاق غير واقع نظراً لقرينة الحالة المصاحبة للقول والفعل وهذا يفيد أهمية النظر في قرائن الأحوال ، وهذا هو فقه الواقع فإن حقيقة فقه الواقع هو معرفة القرائن المصاحبة للقول والقول ثم تطبيقها على حكم الشارع لاستخراج الحكم الشرعي لها ، ولذلك فلا بد من مراعاة هذه القرائن واعتماد النظر فيها ولا تسوغ لنفسك الحكم على الغير بمجرد سماع قوله أو رؤية فعله من غير نظر في هذه القرائن ، ومن باب المثال لا الحصر ، نضرب بعض الفروع على هذه القاعدة :
فمنها : رأيت رجلا يأكل في نهار رمضان ، فلا تحكم عليه مباشرة ببطلان صومه من غير نظر في حاله فلعله أن يكون ناسيا أو أنه مسافر وقد أفطر في سفره فليس هو بصائم أصلا أو غير ذلك .
ومنها : من فعل شيئا من المحظورات والمبطلات كمحظورات الحج ومفسدات الصوم مثلا فلا تحكم عليه بأثر ذلك إلا بعد النظر في قرينة حاله ، فلعلك بعد النظر في هذه القرائن يختلف عندك الحكم فقد يكون فعله جاهلا أو ناسياً أو مكرهاً أولا يكون فاعله عاقلاً أصلاً أو غير قاصد ونحو ذلك فقبل الحكم عليه لا بد أن تنظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل والله أعلم .
ومنها :بعض الحجاج من البلاد الأخرى يكون على مذهب من المذاهب الأربعة مثلا فيفعل الفعل المعين بالصفة التي يمليها عليه مذهبه ثم يأتيك يسأل عن ذلك فمن المناسب للمفتي قبل إصدار الحكم أن يسأله عن المذهب الذي ينتمي إليه لأنه قد يكون فعل ما هو مشهور في مذهبه ، وذلك كالرمي مثلا أيام التشريق قبل الزوال فإن مذهب الحنفية وعطاء جوازه ، فإذا كان الذي رمى قبل الزوال حنفيا فيقال : رميك صحيح ولا يجب عليك الإعادة ، وهذا الكلام وإن خالفني فيه بعض الأحبة إلا أنه الذي أعمل به هناك في المناسك طلباً للأيسر على الناس فيما فيه خلاف وخصوصا مع هذا الزحام المميت والأعداد الغفيرة والأمواج من البشر ، وهذا الرجل لا ألزمه بمذهبي ولا بالراجح عندي وهو قد عمل بمقتضى المذهب المعتمد المتبوع في بلده الذي له رجال وأداؤه فلم يأت ببدع من القول والله أعلم .
ومنها : أن المتقرر عند كثير من أهل العلم أن لا قطع في حال الحرب ولا في عام المجاعة ، وهذا نظر في أحوال المصاحبة للقول والفعل فالأول : فلو قطعناه الآن فلربما ليسخط لنفسه فيرتد ويلحق بالمشركين وأما الثاني فلأن السرقة في عام المجاعة تكثر ويعسر التحرز منها والأمر فيه مشقة خارجة عن العادة فروعيت هذه الحال ، ولم يقطع أحد فيها كما حصل في عهد عمر - رضي الله عنه - .
ومنها :حكم اللقيط فإن النظر في حاله واقعه واضح جدا فهو مسلم إن وجد فيه دار الإسلام وكافر إن وجد في دار الكفر إن لم يكن فيها مسلمون فاختلف حكمه باختلاف النظر في قرينة حاله ، وهذه القاعدة تفيد القاضي كثيرا والله يتولانا وإياكم .
ومنها : إذا بقيت عند زوجها سنين عددا ثم ادعت عليه عند القاضي أنه لم يكن ينفق عليها فالحق أن دعواها هنا مردودة يكذبها النظر في قرينة الحال ، وهي تخالف الظاهر وإن كان الأصل عدم النفقة إلا أن الظاهر هنا مقدم على الأصل فالظاهر أنها لا تأكل إلا من نفقة زوجها ولا تكتسي إلا منها وهكذا ، فالأصل هو عدم إنفاق غيره عليها فيبقى على هذا الأصل حتى يرد الناقل ، فينظر في قرائن الحال جعلنا نتوقف من الحكم عليه بالنفقة المدعاة ، والله أعلم .
وعلى كل حال فالنظر في قرائن الأحوال وفهم صورة المسألة فهما جليا مما يحمي الحاكم والمفتي من الخطأ إن شاء الله تعالى في الحكم الصادر منهم ، فاشدد يديك على هذه القاعدة فإنها مسلك المنصفين الذين همهم سلامة الحكم الصادر منهم لا كثرته والله يتولانا وإياك .
(( القاعدة العاشرة ))
طلب العذر للمخالف إذا أمكن مقدم على الحكم عليه
أقول : وهذا من جملة الآداب العظيمة التي لا بد أن نتربى عليها وخصوصا لمن أراد أن يبحث في خلاف العلماء فإنه يجب عليه لزاما أن يتعلم هذا الأدب الرفيع والمنهج المحبوب عن رسوله بل هو من النصيحة لأهل العلم ومن رفع قدرهم بين العام والخاص ، فاحذر رعاك الله لا يحملنك حب الظهور بقولك على أقرانك وأهل زمانك أن تقع بلفظ واعذر المخالف بأي عذر ما كنت تجد لذلك سبيلا ، ولا تتعرض للحكم عليه بشيء ما كنت تستطيع أن تجد له عذرا فإن الحكم على الغير لاسيما إذا كان من أهل العلم عاقبته خطيرة ، وهو من لفظ القول التي يتلفقه الرقيب أو العتيد ويحفظانه عليك حتى تسأل عنه يوم القيامة ولماذا تعرض نفسك لذلك وأنت في حل وسعة من أمرك فإنك لن تسأل يوم القيامة لم تحكم على فلان ؟ وإنما ستسأل : لماذا حكمت عليه ، هذا وفضلا عن أن أهل السنة والجماعة يعذرون ولا يكفرون ، فطلب العذر للمخالف منهج أصيل وخلق رفيع سام ، أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أني يوفقني وإياك إليه فإن كاتب هذه الأسطر كثير زلله ولا يصلح أصلا أن يكون قدوة لغيره وخصوصا في هذه المسألة فإن نزقنا وطيشنا وغيرتنا الزائدة تدفعنا إلى الوقعية في بعض المزالق الوخيمة ، والحفر العميقة ، حتى يعتقد الواحد منا بغبائه وقلة أدبه أن طلب العذر نوع من الخور والضعف ، وهذا هو المتقرر في أذهاننا بادئ الأمر ،ولكن تغيرت الحال والحمد لله وشفينا مطلق الشفاء من هذا الداء العضال وأسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الشفاء المطلق منه ، وأن يمن علينا وعليكم بالعافية ، فلو أننا حرصنا على هذه القاعدة المفيدة لسقط ثلاثة أرباع من الأحكام على الغير وإن الواحد منا إذا وقع في مخالفة فإنه يحب من غيره أن يطلب له العذر فيها ، فغيرك أيضا يحب ذلك منه ، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به وانظر إلى قوله في الحديث: ( أخطأ من شدة الفرح ) وقد كان المعذرون يأتون بأعذارهم للنبي فيعذرهم أخذا بالظاهر وحبا في طلب العذر ولا يأتينا أحمق أرعن قليل أدب يقول : إنكم تتميعون مع الأخطاء وهذا فيه خداع للعامة بأن ما قاله هذا المخطئ صواب وحق ، لأننا سنقول : إن هناك فرقا بين قبول خطئه وبين الحكم على ذاته بشيء ونطلب العذر لينتفي الحكم على ذاته ، ولكن الخطأ الذي وقع فيه نرده فإعذاره لا يعني جواز إتباعه بشيء فيما أخطأ فيه ، فالخطأ نرده لذات الخطأ لكن لا نتعرض للمخطئ بشيء من الأحكام فأصحاب الاجتهاد وإن عذرناهم فإنه لا يجوز ترك بيان الحق في هذه المسألة لكن مع بيانها لا بد أن يذكر عذر المخالف لها إذا أمكن ذلك فلا يجوز اتباع أحد خالف الحق وإن كان القائل أو الفاعل معذورا مأجورا وإنه من المناسب في هذا المقام بيان بعض الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في كثير من المسائل حتى تكون على علم وبصيرة من أمرنا في هذه المسألة المهمة لا تنافيها نتعامل مع إخواننا في العقيدة ، وقد تولى بيانها أبو العباس في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، واختصر ذلك الشيخ عبدالله بن عبد المحسن التركي - حفظه الله تعالى - في رسالة أسماها أسباب اختلاف العلماء ، وسأذكر لك خلاصة هذه الأسباب مع بيان شيء من الأمثلة إن شاء الله تعالى فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والفضل والتأييد :
1. من أسباب الخلاف : أن يكون المخالف لا يعلم الدليل أي أن الدليل لم يصل إليه ، فقال بقول خالف فيه هذا الدليل وسبب خلافه هذا عدم بلوغ الدليل إليه وهذا متصور كثيرا فإن المجتهد ليس شمسا مشرقة على كل النصوص فقد يخفى عليه الكثير والكثير من النصوص ، ومن الذي استوعب السنة وأحاط بها ؟ بل إن عدم بلوغ الدليل قد حصل لبعض الصحابة مع قرب العهد واجتماع الكلمة فكيف بمن بعدهم ، وهذا السبب داخل تحت العذر بالجهل وقد تقدمت أدلة كثيرة تثبت أن الجهل من جملة الأعذار الشرعية وذلك بشرطه المعروف فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه وقد كان سادة الصحابة بالحبشة وتنـزل الواجبات والتحريم على النبي فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأشهر معذورون بجهلهم ، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة من أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيء من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ولذلك فقد اختلف الصحابة من المهاجرين والأنصار في الرجل إذا جامع فأكسل فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الدفق بلذه ، وقال المهاجرون بل إذا جامع فقد وجب الغسل وإن لم ينزل فقال أبو موسى فأذن له فقال فأنا أشفيكم من ذلك فاستأذن على عائشة فأذن له فقال : يا أماه إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك فقالت : لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك فقال : الرجل يجامع فيكسل أعليه الغسل ؟ فقالت : على الخبير سقطت: قال النبي : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان فقد وجب الغسل ) والحديث في الصحيح ، فسبب خلاف المهاجرين مع الأنصار كان لعدم بلوغ الدليل ، ومثال ذلك أيضا : أن الصحابة في عهد خلافة عمر اختلفوا في مسيرهم إلى الشام لما سمعوا أن الطاعون نزل بأهلها ، فقال قوم : نسير ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، وقال آخرون : بل ترجع لأن الله تعالى قال: { وَلا تُلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إَلى التَّهْلُكَة } فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجة له فقال سمعت النبي يقول : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ) والحديث في الصحيح ، وسبب خلاف الصحابة هنا هو عدم بلوغ الدليل ومثال ذلك أيضا : اختلاف ابن عباس والمسور بن مخرمة في غسل المحرم لرأسة فقال المسور لا يجوز ذلك وقال ابن عباس بل هو جائز ، فأرسل ابن عباس عبدالله بن حنين – رحمه الله تعالى – إلى إبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال : ما هذا ؟ فقلت أنا عبدالله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول يغتسل وهو محرم ؟ قال : فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء : أصبب فصبّ على رأسه فحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال : هكذا رأيت رسول يفعل . رواه الجماعة إلا الترمذي. وسبب الخلاف هنا بين المسور وابن عباس إنما هو لعدم العلم بالنص المثبت لذلك والله أعلم . ومن ذلك أن عمر – رضي الله عنه – وابن مسعود كانا يفتيان بأن المبتوتة لها السكنى والنفقة وخالفهم في ذلك بعض الصحابة حتى بلغهم حديث فاطمة بنت قيس وأن زوجها بت طلاقها فقال النبي : ( لا نفقة لها ولا سكنى ) أو كما قال فسبب الخلاف هنا عدم العلم بالدليل ومثال ذلك أيضا اختلاف الصحابة في دية الأصابع وكان عمر يرى اختلاف ديتها على حسب منافعها حتى بلغه النص القاضي بأن كل إصبع ديته خمس من الإبل فرجع عن قوله وقال بمقتضى النص ، والصور كثيرة فهذا بالنسبة للسبب الأول ، فإذا خالفك أحد فقل أنه لو بلغه النص لقال به لأنه محب للحق وجاد في طلبه فما أحلى هذه الكلمات النيرة الموجبة لبقاء الألفة والمحبة والاجتماع ، والتي هي من المواطئ التي نغيظ بها عدونا إبليس لعنه الله لأننا بذلك نسد عليه بابا من أبوابه ألا وهو التحريش بيننا كما في الحديث عن جابر في صحيح مسلم وكما قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التي هِيَ أَحْسَن إِنَّ الشَّيْطَان يَنزغ بَيْنَهُم } .
2. ومن الأسباب أيضا : أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يتحقق من جهة ثبوته أي أن الجهة التي وصله النص فيها ليست بمعتمدة عنده أو فيها وجه من أوجه الضعف وهذه الحالة تختلف عن التي قبلها فإن الأولى لم يبلغه النص أصلا ، وأما هذه فقد بلغه النص لكن القدح الآن في جهة الناقل للنص وهذا كثير جداً فإن بعض الأئمة قد يقبل راويا ويعد له بينما لا يقبله الآخر لوجود الجرح فيه ، فالأول يقول بمقتضى ما نقله ذلك الراوي لأنه من أهل الرواية المقبولة عنده ، والآخر لا يعمل بمقتضى ما نقله لأنه ليس من أهل الرواية عنده ،فالنص قد بلغ ولكن سبب الخلاف هو أن جهة ثبوته ضعيفة ، أي بلغه من جهة تحفها قرائن التضعيف ، من كونه لم يثق بناقله أو رأى أنه معارض لما هو أقوى منه ، ومثال ذلك أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فأرسل إليها وكيله شعيرا نفقة لها مدة العدة ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه فارتفعا إلى النبي فأخبرها النبي أنه لا نفقة لها ولا سكنى وذلك لأنه أبانها ، ومن المعلوم أن المبانة ليس لها نفقة ولا سكنى إلا إذا كانت من أولات الأحمال إلا أن هذه السنة خفيت على عمر - رضي الله عنه - فكان يقول : لها النفقة والسكنى ، ولما بلغه حديث فاطمة رده باحتمال أنها يمكن أن تكون وهمت أو نسيت فقال : أنترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت ، أي أن أمير المؤمنين لم يطمئن إلى هذا الدليل لأنه تطرق إلى قلبه في هذا جهة من جهات الضعف ، ومثال آخر : هو أن ابن عمر – رضي الله عنه – كان يحدث عن النبي أنه قال " إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه " والحديث في الصحيح فلما سمعت عائشة – رضي الله عنها – ردته وذكرت أن الله تعالى يقول في كتابه: { وَلا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى } وذكرت أن ابن عمر لم يكذب ولكنه أخطأ وأن الصواب أن النبي قاله في اليهود: ( إنه يعذب في قبره وإن أهله يبكون عليه ) فأنت ترى أن أم المؤمنين – رضي الله عنها – ردت حديث ابن عمر لأنها رأت أن هناك معارضاً راجحاً فهي لم تثق فيما حدث به ابن عمر فوقع ذلك الخلاف ، وهذا يقع كثيرا بين أهل العلم ، فالناظر في أقوال أهل العلم في كثير من المسائل يرى بعضهم أن هذا الحديث صحيح لا غبار عليه فيأخذ به ويراها الآخر ضعيفة فلا يأخذ بها لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله ومثال آخر: أنه لما بلغها حديث حذيفة أن النبي أتى سباطة قوم فبال قائما ، أنكرت ذلك واستبعدته جداً ، وذلك لأنها ما كانت تراه يبول إلا قاعداً ، فلوجود هذا المعارض عندها – رضي الله عنها – وأرضاها ردت حديث حذيفة فلم يطمئن قلبها لما حدث به ، لكن من المعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ والصور كثرة وإنما المقصود الإشارة على شيء من الأمثلة والله أعلم .
3. ومن الأسباب أيضا :أن يكون النص قد بلغه ولكن نسيه وهذا يقع كثيرا فكم من الأحاديث التي تمر علينا ولكن سرعان ما ننساها فنقول بغير مقتضاها لا لقصد المعارضة وإنما لأننا نسيناها فإذا خالف أحد النص بعد بلوغه له فلنعذره ونقول : لعله نسيه أو غفل عنه ، ومثال ذلك قصة عمر وعمار وأن النبي بعثهما في حاجة فأجنبا فلم يجدا الماء فاجتهدا فأما عمر فلم يرى أن التيمم رافعا للحدث الأكبر فمكث عن الصلاة هذه المدة وأما عمار فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة وصلى ، ثم أتيا رسول الله فأرشدهما إلى الصواب فكان عمار يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر فدعاه وقال : ما هذا الحديث الذي تحدث به ، فذكره عمار بما جرى لهما ولكن لم يذكر ذلك ، فقال عمار : إن شئت أن لا أحدث به ما حدثت ، فقال عمر : لا ، بل نوليك ما توليت. والحديث متفق عليه ، فعمر نسي ذلك الحديث فكان نسيانه هذا سببا في وقوع هذا الخلاف وقد تابعه على ذلك ابن مسعود – رضي الله عنه – والمقصود أن الإنسان قد يخفى عليه الدليل بسبب نسيانه فيقول بخلافة لا تعمدا للمخالفة وإنما لأنه نسي الدليل ، ولا نظن بأهل العلم إلا خيرا ، فهذه سنة شهدها عمر – رضي الله عنه – ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر ، وهو – رضي الله عنه – لم يكذب عمارا، بل أمره أن يحدث به ، ومثال آخر : روى الإمام الترمذي بسنده من حديث سفيان بن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي العجفاء المسلمي قال: قال عمر – رضي الله عنه – " ألا لا تغالوا صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله تعالى لكان أولاكم بها نبي الله ما علمت رسول الله نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية " فعمر هنا ينهى عن المغالاة في صداق النساء ويأمر أن لا يزيد الرجل على صداق أزواج النبي فقالت له امرأة : لم تحرمنا يا أمير المؤمنين شيئا أعطانا الله إياه ؟ ثم قرأت " وآتيتم أحداهن قنطارا " فرجع عمر إلى قولها ، وقد كان – رضي الله عنه – حافظا الآية ولكن نسيها ، فهذا أمر لا يسلم منه أحد إلا من شاء الله تعالى وكذلك عقد علماء المصطلح لذلك مسألة وهي فيما إذا حدث الراوي بشيء ثم نسيه فذكر به فلم يتذكر أن هذا النسيان لا يضر روايته لأنه أمر متصور وهذا كثير في السلف والخلف والله أعلم .
4. ومن الأسباب أيضاً: أن يكون النص قد بلغه ولكنه فهم خلاف المراد، فالنص موجود لكن اختلف العلماء فيه لاختلافهم في فهم المراد، وهذا باب واسع فإن الأفهام تختلف ويمثل لذلك باختلاف العلماء في فهم قوله تعالى " أو لامستم النساء " فقال جماعة المراد به اللمس باليد وفرعوا على ذلك أن مس المرأة ناقض للوضوء بينما فهم آخرون أن المراد به الجماع والأول رأي ابن مسعود والثاني رأي ابن عباس – رضي الله عنهم – أجمعين، فسبب الخلاف هنا هو خلافهم في فهم المراد من الآية، ولسنا بصدد الترجيح بين الأقوال ولكن المراد بيان هذا السبب، فالذي خالفنا في آية أو حديث بعد بلوغه إليه نعتذر عنه بذلك ونقول: لعله فهم من النص شيئا حسب اجتهاده ونظره ، ولا نظن به أنه خالف عنادا للنص – حاشا وكلا – ولكن الأفهام تختلف والأنظار تتفاوت ومثال أخر : وهو أنه لما نزل قوله تعالى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْط الأبيَض مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر } عمد عدي بن حاتم إلى عقالين ووضعهما عند وساده وصار يأكل حتى تبينا إذا النهار قد طلع فذكر ذلك النبي فأخبره بالصواب ولم يأمره بالقضاء مما يدل على أنه معذور فالصحابي هنا فهم من النص فهما مخالفا للمراد فإذا كان ذلك متصورا في الصحابة فمن بعدهم من باب أولى لأن الصحابة – رضي الله عنهم – أكمل أفهاما وأزكى عقولا وأعمق علما ومثال آخر : لما انتهى النبي من غزوة الأحزاب جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام وأمره بالتوجه إلى بني قريظة فخرج على أصحابه وقال لهم : ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فاختلف الصحابة في فهم المراد ، فمنهم من صلى العصر في الطريق لما حضر وقتها ومنهم من أخرها عن وقتها ولم يصلها إلا في بني قريظة فأخبر النبي بذلك فلم يعنف على أحد من الطائفتين ، فالأولون فهموا الحث على الإسراع فقط والآخرون فهموا الأمر على ظاهره وأنه لا توقع صلاة العصر إلا في بني قريظة ، فسبب الخلاف هو الاختلاف في فهم المراد ولم يذكر عنهم أن بعضهم هجر بعضا ولا تراشقوا بالسباب حاشاهم عن ذلك بل هم إخوة متوافقون متآلفون متحابون متوادون يعذر بعضهم بعضا فيما يسوغ فيه الخلاف كهذه القضية وغيرها والله أعلم.
5. ومن الأسباب أيضا:أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ ، فيكون الحديث صحيحا ومفهوما الفهم الصحيح لكنه منسوخ وهذا المجتهد لا يعلم بالناسخ فيعمل بالمنسوخ وذلك لعدم علمه بالناسخ فحينئذٍ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يرد الناسخ من طريق صحيح ومثال ذلك ما وقع في عهده عليه الصلاة والسلام من أنه لما حولت القبلة إلى البيت الحرام كان بعض المساجد المجاورة للمدينة كمسجد قباء وغيره يصلون لبيت المقدس وهذا خلاف في الوجهة وسببه عدم العلم بالناسخ فلما علموا به توجهوا وهم في الصلاة إلى البيت الله الحرام ، فإذا كان ذلك حال المساجد المجاورة للمدينة فما بالك بحال أهل الأماكن البعيدة كأهل مكة واليمن ومن في الحبشة لا شك أن الخبر لم يصلهم إلا بعد مدة من الزمن ، وكانوا يصلون في هذه المدة إلى بيت المقدس وسبب ذلك عدم العلم بالناسخ فهم معذورون في ذلك لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والشرائع لا تلزم إلا بالعلم . ومثال آخر : وهو أن بعض الصحابة لم يزل يفتي بأن من جامع فأكسل أي لم ينزل لا يجب عليه إلا الوضوء ، ولم يعلم بأن ذلك كان رخصة في أول الإسلام وأنه نسخ بقوله ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ) وبقوله ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل ) وهما في الصحيح ، فسبب الخلاف هنا هو عدم العلم بالناسخ ، ومثال آخر : وهو أن ابن مسعود – رضي الله عنه – كان يرى التطبيق في الركوع ، وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالأمر بوضع الأكف على الركب وثبت حديث النسخ في الصحيحين إلا أن مسعود بقي على مقتضى الدليل المنسوخ فلما صلى مع علقمة والأسود ووضعا أيديهما على ركبهما نهاهما وأمرهما بالتطبيق ، لماذا ؟ لأنه لم يكن يعلم بالدليل الناسخ وإلا فإن الظن به – رضي الله عنه – أنه لو علم بذلك لما تعداه إلى غيره وهذا هو الظن بسائر أصحاب رسول الله والله أعلم .
6. ومن الأسباب أيضا : أن يكون العالم قد أخذ بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً وهو كثير جداً بل هو غالب ما وقع بسببه الخلاف وأمثلة كثيرة جدا فمن ذلك خلافهم في صلاة التسابيح فقائل بالاستحباب وقائل بالبدعية وسبب الخلاف خلافهم في قبول حديثها الوارد والحق أنه ضعيف لا يحتج بمثله ، بل ذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن حديثها كذب على رسول الله ومن ذلك : خلافهم في القهقهة هل هي ناقضة للوضوء ، فقيل نعم وقيل لا ، والحق أنها ليست بناقضة وسبب خلافهم هو ورود حديث في ذلك لكنه ساقط الإسناد ، ومن ذلك : خلافهم في حكم البسملة على الوضوء أعني قوله " ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " والراجح أنها سنة . ومن ذلك : خلافهم في الوضوء بالماء المشمس فمنهم من أجازه وهم الأكثر ومنهم من منع منه ، وسبب خلافهم في ذلك حديث روي في ذلك لكنه حديث موضوع ، ومنه خلافهم في قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية ، فمنهم من أوجبها ومنهم من قال تكفيه قراءة إمامه وسبب خلافهم هو أنه روي في بعض أحاديث الفاتحة قوله " لعلكم تقرؤون خلفي قالوا نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " فمن صححها قال بالوجوب ومن ضعفها قال بإجزاء قراءة الإمام وعلى كل فالأمثلة كثيرة جدا وإنما المقصود الإشارة ولكن ينبغي علينا أيها الأحبة أن نعتقد في أهل العلم أنهم أخذوا بهذا الحديث ظنا منهم أنه مما يحتج به ، ولو أنه تبين لهم ضعفه لما أخذوا به والله يحفظنا وإياك .
7. ومن الأسباب أيضا : الاختلاف في بعض القواعد التي بني عليها المذهب فإن أصحاب المذاهب الكبار قد قرروا قواعد واعتمدوها في استخراج الأحكام من الأدلة فقد يختلف الحكم للاختلاف في القاعدة . ومثال ذلك : خلافهم في نقض الوضوء بمس الذكر فالجمهور قالوا ينقض والأحناف قالوا لا ينتقض ، وسبب خلافهم هو أن الحنفية لا يقبلون خبرا الآحاد فيما تعم به البلوى ، وأما الجمهور فالمهم عندهم صحة الحديث فقط ، فاختلف الحكم للاختلاف في القاعدة ، ومثال آخر : قال الجمهور باشتراط الولي لصحة النكاح وقال الأحناف هو شرط كمال لا شرط صحة وسبب خلافهم هو القاعدة المتقدمة ، وأيضا لقاعدة أخرى وهي أن الأفعال المنفية بـ ( لا ) النافية للجنس هي لنفي الكمال عند الحنفية وأما الجمهور فإنها لنفي الحقيقة الشرعية عندهم فقوله ( لا نكاح إلا بولي ) هو لنفي الكمال عند الأحناف ولنفي الصحة عند الجمهور ولا شك أن الصحيح قول الجمهور فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع للاختلاف في القاعدة . ومثال آخر : ذهب الشافعية إلى أن الحج واجب على التراخي وقال كثير من العلماء بل هو على الفور وسبب خلافهم هو خلافهم في قاعدة : هل الأمر المجرد عن القرينة يفيد الفور أم التراخي فالذين قالوا على الفور قالوا إنه يفيد الفورية والذين قالوا : على التراخي قالوا إنه يفيد التراخي والأمثلة كثيرة وتجد الكثير منها في كتابي تحرير القواعد ومجمع الفرائد والله أعلم .
وخلاصة ما أريد إثباته هنا هو أن المخالف لنا في شيء ينبغي لنا أولا قبل إصدار الحكم عليه أن نطلب له العذر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا وهذا أمر ممكن لا عسر فيه إلا على من استحوذ الشيطان عليه ، ممن نسي حق إخوانه وعظيم الخطر في الحكم على الغير ، اسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يعافينا وإخواننا من زلل القول وخلل الفهم وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الحادية عشر ))
الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين
أقول : ما رأيك يا هذا لو أنك رأيت رجلا قد ترأس مجلسا من المجالس يتكلم في الأدواء والأدوية ويصف بعض العلاجات ويحكم على بعضها بعدم الفائدة أو بأنه مهم لهذا النوع من المرض ونحو ذلك فإني لا أظن أبدا أنك تتوقف في الحكم عليه بأنه طبيبا ، وأنت في هذا الحكم نظرت إلى الظاهر لكن ما رأيك لو علمت بآخره أنه لا يعرف الطب بوجه من الوجوه فإنك ستقول : لقد دس أنفه فيم ليس له فيه مجال وتكلم بما لا يعلم وهذا أمر لا يرضاه أحدا أبدا وكذلك الحكم على الآخرين بالأحكام العظيمة من الكفر أو البدعة أو الفسق أو غيرها هو وقف أيضا على علماء الشريعة فكما أن الطب وقف على الأطباء ، وأمور الصناعات ومختلف الحرف وقف على العارفين بها فكذلك أمور الشريعة ومعرفة الحلال والحرام وقف على أهل العلم ، فلا حق لأحد أن يدخل فيه كما هو الحاصل هذا الزمان فإنك تجد العامي الذي لا يعرف شيئا يصدر الأحكام ويحلل ويحرم ويصف الأشخاص بأوصاف الكفر واللعنة وهو لا يعرف من العلم شيئا وهذا أمر خطير وعاقبته وخيمة وضرره كبير جدا مفسدته لا تحتاج إلى استدلال وهو منكر يجب إنكاره وزجر فاعله وتخويفه بالله تعالى ولا يقّر أبدا أيا كان هذا الشخص كبيرا أو صغيرا عزيزا أو ذليلا قال الله تعالى:{ وَلا تَقف مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ وَالفُؤَاد كُل أُولئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً }وقال تعالى في سياق المحرمات على حسب العظمية فقال في آخرها{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لا تَعْلَمُون} فبان بذلك أن القول على الله تعالى بلا علم من أعظم ما نهينا عنه لأنه الجامع لأبواب الشر كلها وقال تعالى: { قُل أَرَأيتُم مَا أَنزَلَ الله لَكُم مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُم مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آلله أَذِنَ لَكُم أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُون } وقال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألسِنَتكُم الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وهَذَا حَرَامٌ لِتَفتَرُوا عَلَى الله الكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفتَرُون عَلَى الله الكَذِبَ لا يُفلِحُون } ويدخل في عموم ذلك النهي الحكم على الغير فإنه لا بد فيه من الدليل الساطع والبرهان القاطع وهذا إنما يعرفه أهل العلم بالكتاب والسنة ويوضح ذلك أيضا أن الحكم على الغير بشيء من الأحكام السابقة موقوف على العلم بالأدلة المقتضية لذلك الحكم وهذا لأهل العلم الراسخين فقط وأما العوام والأعاجم وأشباه الأنعام فلا مدخل لهم في معرفة ذلك ، ويوضحه أيضا أن الحكم على الغير هو من باب إدراج الفرع تحت أصل عام وهذا الإدراج مفتقر إلى اجتهاد والاجتهاد مفتقراإلى أدواته وشروطه من معرفة أدلة الكتاب والسنة والتمييز بين عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومبينها ومعرفة وجه الاستشهاد والعلم بدلالات اللغة اللازمة لذلك وكل ذلك لأهل العلم ، فلا يجوز لأحد أن يتجرأ على ذلك لأن الأمر عظيم والعواقب كبيرة فليس الباب مفتوحا لكل أحد بل هو وقف على أهل العلم الراسخين فيه ، ولأن العامي والمقلد ليس من أهل الدليل فلا يجوز له استنباط الحكم من دليله وإنما فرضه السؤال فقط ، ولأن الحكم على الغير مفتقر إلى معرفة العوارض التي تعرض للأهلية والعلم بها وبجزئياتها إنما هو لأهل العلم فبان بذلك أن الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين فانج بنفسك ودع الأمر لهم ، فإنها أمانة عظيمة يتحملها أهل العلم بالكتاب والسنة فمالك ولها ؟ فليست المسألة تشريفا للحرص على تحصيله بل هي تكليف صاحبه مسئول عنه يوم القيامة ، فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعين العلماء على القيام بها حق القيام وأن يعيذهم من خلجات النفس ووسوسة الشيطان الرجيم ، وأحذر كل الحذر من أن تزك نفسك وتقول أنا من أهل العلم ، فإن هذا مزلق وخيم وتعالم سافر ، بل لا تزال: إن كنت تريد النجاة – متهما لها بالقصور والتقصير محتقرا لها الاحتقار الذي يدفعك إلى مطالعة عيوبك والاشتغال بها والإقبال على تكميل قصورها ، ودع باب الحكم على الآخرين فإنه ليس لنا ، عافانا الله وإياك من زلل القول وضلال الفهم ، فاعرف قدر نفسك ولا ترفعها عن منزلتها فتهلك ، وقد حدثني من أثق به أن بعض هؤلاء الصغار الحمقى تجرأ على أحد العلماء حتى إنه يقول بعد ذكر اسمه: أكرمكم الله ، وبعضهم يقول في ذلك العالم وغيره : إنهم عملاء لا علماء وما ذلك إلا لقلة الأدب وذهاب الحياء ووفور الجهل واستحكامه في النفس وحق هذا الصغير ومن كان شاكلته أن يؤدب بالتعزير البليغ الذي يردعه ويردع أمثاله عن قول هذا الكلام العظيم في خيار الأمة وولاة أمرها ، فبالله عليك أي حياة تطيب إذا وقع الصغار في الكبار وترأس الرويضبة الذي لا قدر له علماً وعملاً واتهمت نيات العلماء ولم يؤخذ عنهم ، وذهبت هيبة العلم واشتغلت المجالس بذكر عيوبهم والقدح في فهمهم وأمانتهم هذه والله الطامة التي أسأل الله تعالى باسمه الأعظم أن يعصم الأمة منها وأن يرد كيد من يريد وقوعها في نحره وأن يجعل تدبيره تدميره ويجعل الدائرة عليه ويخرجنا وأمتنا من ذلك سالمين غانمين معافين ، فيا أيها الأحباب الوصية لنفسي ولكم أن تدعوا الأمر لأهله ورجاله الذين هم عليه أحرص وبه أقوم وله أعرف وفيهم الكفاية وهم أهل لذلك ، ومن العجيب أن بعض وسائل الإعلام مع نزول بعض الأحداث في الأمة تلتقي مع الذين لا يعرفون بعلم ولا فقه ولا انتهاج بمنهج أهل السنة ليقولوا قولهم في هذه الأحداث ويهتدي الكثير بآرائهم ويسترشد بأقوالهم التي لم تبن على علم ولا بصيرة ولا هدى من الكتاب والسنة فيضرب كثير من العوام بأقوالهم في العلماء استنادا على أقوال هذه الثلة التافهة الفاسدة والوزر في ذلك يحمله مخرجوا هذه اللقاءات ومنفذوها وإلا فالقاعدة عندنا في ذلك هي قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمُ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفَ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلي الأمْرِ مِنْهُم لِعِلمِه الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } فمعرفة أحكام هذه الأحداث والوقائع النازلة لا يؤخذ من أهل العلمنة والحداثة والمنافقين ودعاة التحرر والإرجاف وإنما لا يؤخذ إلا من ولاة الأمر منهم وهم العلماء بالكتاب والسنة ولا يفهم أن سكوت بعض العلماء عن بعض الأشياء أنه مداهنة وخور وخوف ، نعوذ بالله من هذا الظن في أهل العلم بل سكوتهم على بعض الأشياء مبناه مراعاة المصالح والمفاسد الذين هم بها أعرف ولها أرعى ، فليس العالم بوقا يتكلم بما شاء الناس ، وليس العالم هو الذي يتوخى إرضاء الناس وإنما المقدم عنده في كل الأمور مرضاة الله تعالى وإن أدى ذلك إلى سخط الناس فهذه الأحكام من التكفير والتفسيق والتبديع وغيرها إن أخذت من غير أفواه العلماء الراسخين فقل على الدنيا السلام وناهيك بالمفاسد والبلايا التي ستقع في الأمة ، وأكبر دليل على كلامي هذا هو هذه الأحداث الإرهابية التي تسمع عنها بين الحين والآخر فإنها امتداد لأخذ الأحكام من سقطاء الأمة الذين لا يعرفون بعلم ولا تربية على منهج أهل السنة فوقعوا في أمراء الأمة وعلمائها وأفرادها تكفيرا وتبديعا واتهاما وقتلا وإتلافا للأموال استنادا لفتيا من لا يحق له أن يقضي بين البهائم في أمور علفها فضلا عن تنصيبه ليكون عالم زمانه ورسول أوانه الذي لا يجوز مخالفة قوله والحيدة عن رأيه ويذكرني ذلك بحديث أبي هريرة في الصحيح ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) فإذا وسد أمر الخبز والعجين إلى الطبيب ووسد أمر طب الأبدان إلى الخباز ووسد أمر طب القلوب والأرواح إلى المغفلين والجهال وأخذت الأحكام من غير أهلها ، فوالله إن باطن الأرض خير من ظهرها لأنها فتنة ومشروع أن يدعو الإنسان بقبض روحه عند حلول الفتن حتى لا يفتن عن دينه ، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فعليك بارك الله فيك أن تدع أمر الحكم على الآخرين لمن هو أهل له وهم العلماء الراسخون الذين مستندهم الدليل وقائدهم الورع والتقى ولا يحركهم ويوفقهم إلا مراعاة المصالح والمفاسد ، ولا زالت الأمة بخير ولله الحمد والمنة وإنما المقصود التحذير وتعظيم ذلك الأمر على النفوس حتى تهابه القلوب وتوجل منه العقول فالله الله أيها الأحبة بهذا الأمر فإننا على خير ما كنا نصدر أحكامنا وغيرها عن العلماء أسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ علينا علمائنا وأمرائنا وديننا وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الثانية عشر ))
لازم القول ليس قولاً إلا بعد عرضه والتزامه
أقول : رفع الله نزلك في الفردوس الأعلى وأجزل لك الأجر والمثوبة وعافاني الله وإياك من كل بلاء وفتنة وجعلك الله في كل مصادرك ومواردك تابعاً للدليل موافقاً له وأن يعيذنا الله من هوى النفوس وشهواتها إنه ولي ذلك والقادر عليه ، اعلم رحمنا الله وإياك أن اللوازم نوعان : لوازم من كلام الله ورسوله ولوازم من كلام غيرهما من سائر الناس فأما اللوازم من كلام الله ورسوله فإنها حق لا يتطرق إليها الخلل بوجه ، لأن كلامهما حق وصدق كله ولازم الحق حق ولازم الصدق صدق ، والكلام في هذه القاعدة ليس على ما يلزم من كلام الله ورسوله وإنما الكلام فيها على القسم الثاني وهو اللوازم على كلام غيرهما فهذه اللوازم إن كانت تقتضي أحكاماً فلا يجوز لنا أن نحكم على أصحابها بمجرد علمنا بها ، فإن هذا ليس من العدل والإنصاف ، بل المشروع في ذلك أن نعرضها على أصحابها إن كانوا أحياء فنقول لهم أنتم قلتم كذا وكذا ويلزم على أقوالكم كذا وكذا من اللوازم الباطلة ، فأنت إذا عرضت ذلك عليهم فلا يخلو الأمر من حالتين : : إما يلتزموها مع ظهور بطلانها لهم وإما أن يرفضوها ويتبرؤوا منها ، فإن كان الأول فقد أقمت الحجة عليهم فإن كان الأمر يقتضي الحكم عليها فاجتهد واتق الله ما استطعت وإن كان الثاني فإنه لا يحق لأحد أن يحكم عليهم بهذه اللوازم وهذا فرع من فروع العدل والإنصاف مع الآخرين وهو من النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ، فلا حق لأحد أن يحكم على الغير بما يلزم عليهم من أقوالهم إلا بهذين الأمرين : أن يعرض عليه لازم قوله ، وأن يلتزمه أي يقبله وهذا من الرفق في الأمور الذي رغبنا فيه ، ولأن المتكلم في كثير من الأحيان قد لا يقوم بقلبه هذا اللازم ولا يفكر فيه فكان من الإنصاف أن لا يحكم عليه بما لم يقصده ولم يقم بقلبه إلا بعد العرض والقبول ، ففي الحقيقة أن الذي يحكم على الآخرين بما يلزم عليهم من أقوالهم بلا عرضها عليهم ظالم في ذلك والظلم شين وعاقبته معلومة ، والله تعالى لا يحب الظالمين ، وبذلك تعلم أن العاكفين على تتبع أشرطة بعض العلماء ليخرجوا منها ما يوجب القدح فيهم ويبترون الكلام بترا ويعلقون عليه أنه قال كذا وكذا ويلزم على قوله كذا وكذا أنهم غير الصراط المستقيم وأنهم بذلك مجانبون للمنهج القويم ومتنكبون عن الجاده ، وإنك لترى من ذلك عجبا وتسمع من ذلك ما يشيب له الرأس ، فمن ذلك قول بعضهم لما سمع شيخاً يقول : ولا يقتصر في دراسة الفقه على الزاد أي زاد المستقنع بل لابد من صياغة جديدة ويسيرة وواضحة المعالم ، فقال ذلك الرجل : هذه دعوى لنسف التمذهب على مذهب إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ، قلت : كلا والله ليس هذا لازم كلام ذلك الشيخ وإنما هو شيء فهمته أنت بسوء فهمك وإلا فكلامه لا يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام والواجب هو إحسان الظن بالمتكلم وإني على يقين تام لو أن أخانا هذا هداه الله عرض ما ثار في ذهنه على ذلكم الشيخ لبادر الشيخ في توضيح مراده ونفى ما فهمه هذا ، ولكنه الاستعجال الذي لا تحمد عواقبه ، ولا أريد الرد على دعواه أن التمذهب على مذهب الإمام أحمد مقصور على قراءة الزاد فإنها دعوى غير نافعة عند أهل العلم وواضحة البطلان عند من له أدنى اهتمام بالعلم وإنما المراد التمثيل على من يحكم باللوازم دون عرضها على أهلها والله أعلم . والشيء بالشيء يذكر اذكر مرة أني كنت أجيب عن بعض الأسئلة ، فقلت في أثناء حديثي ، لو قال فلان ذلك فهو ضال ، فيتلقفها مني أحد الحاضرين وبدأ يثبت في مجالسه الخاصة أني أكفر فلانا ، فجاءني الناصحون وتكاثر علي المرشدون بالنصيحة تارة وبالاستفسار عن الدوافع لهذه الكلمة تارة وجزاهم الله خير الجزاء فإن الدافع لهذا الناقل وسائر الإخوان إنما هو محض النصيحة وحب العلماء والذب عن حياضهم وهذا يشكرون عليه ، والمقصود أن الأخ هذا حكم علي بذلك الأمر الذي لو عرضه علي لما قبلته ولبينت له وجهة قولي ، فأسأل الله أن يعفو عني وعن سائر أحبابنا فكل معرض للخطأ ولا يزكي الإنسان نفسه ، فاللوازم التي تلزم على الأقوال ، لا يجوز أن ننسبها لأصحاب القول إلا بعد عرضها عليهم وبيانها لهم فإن التزموها فالأمر شيء آخر وإن ردوها وعابوها فالحمد لله فاحرص على هذا الأمر فإن كثيرا من هذا الأحكام إنما بنيت على لوازم الأقوال لما اعتمدت قبل عرضها والتزامها وهذا محض الخطأ ، والله من وراء القصد وهو أعلم وأعلى .
(( القاعدة الثالثة عشر ))
من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه
أقول : وهذه أيضا من قواعد العدل والإنصاف الذي تميز به أهل السنة والجماعة ، فإن أهل السنة والجماعة أبدا لا ينظرون إلى نقطة سوداء في بحر أبيض ولا يفخمون الأخطاء ولا يحكمون على كثيرا الإصابة بيسير خطأه بل المجتهد عندهم مغفور له خطؤه اليسير فإن هذه الأمة مغفور لها خطؤها في الاجتهاد فزادها الله شرفا ورفعة ، فإياك أن تحكم على كثير الصواب بشيء قد أخطأ فيه ومن الذي لا يسلم من الخطأ فإن المعصوم من عصمة الله تعالى والأمة معصومة فيما أجمعت عليه وأما بالنظر إلى آحادها فإنه يجوز عليهم الغفلة والنسيان وقصور الفهم وفهم الشيء على غير وجهه أحيانا وإننا لو جعلنا شرط قبول كلام العالم سلامته من الخطأ لما سلم لنا أحد من العلماء ولردت أقوال هي في ذاتها صواب بسبب هذا الخطأ اليسير وهذا مسلك أهل البدع ، ولا يفهم غبي كلامي هذا أننا نقبل الخطأ الذي جاء به ذلك العالم فإن هذا فهم مخلوط منكوس ، بل الذي أريد إثباته هنا هو أننا نبحث عن المعاذير لهذا الخطأ ونخرجه التخريجات التي تتوافق مع منهج الأدب مع أهل العلم ، ونغض الطرف عن هذه الهفوة اليسيرة من بين ألف صواب ولا نجعل من الحبة قبة ، ولا نتعاظم صدور الخطأ من أحد كائنا من كان ، بل نسعى في علاج ذلك الخطأ بالطرق الشرعية والمناهج المرعية بالأدب ومراعاة المصالح والمفاسد ولا تكن أبواقاً ينفخ فيها أعداء الشريعة ولا آلات تحركنا أيدي عدونا ولا نفتح باب الشر على الأمة بنشر أخطاء أهل العلم فإنها والله الطامة ، فإن العامة إذا ذهبت هيبة العلماء من قلوبهم اهتزت هيبة العلم في باطنهم فلا يقيمون لعالم وزنا ولا لشيخ قدرا ويصدرون من عند أنفسهم وهذا باب فساد وشرور وفتنة أعيذك بالله أن تكون ممن يفتحه ، وإنه لا يفتح إلا بزعزعة هيبة أهل العلم من قلوب العامة فاحذر من تتبع أخطائهم والتنقيب عن هفواتهم فإنه مسلك الهالكين المفسدين في الأمة بعد إصلاحها وأخشى عليه أن يكون من الذين يذادون عن حوضه يوم القيامة ، فليكن مبدؤك العفو والتجاوز وحب الستر و صفح الهفوة حتى يعاملك الله بذلك ، قال تعالى:{وَليَعفُوا وَليَصْفَحُوا أَلا تحِبُّونَ أَن يَغفِرَ الله لَكُم وَالله غَفُورٌ رَحِيم} فالجزاء من جنس العمل ، فمن عفا وغفر وصفح عفا الله عنه وغفر له وتجاوز عن زلله ، فلنتناصح ولا نتفاضح ، و لنتفق ولا نفترق ولنتآلف ولا نختلف ، ولنحقق قوله :( وكونوا عباد الله إخوانا ) وقوله ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) وإن المقصود هو القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى فإذا قصر مقصر أو أخطأ مخطئ فلا نصفق لخطأه أو نضرب له الدفوف ونزف خطأه إلى الأعداء والعامة ، فإنك لا تستفيد شيئا بل عليك وزر هذه الفضيحة وإن أخرجتها في ثوب نصيحة فإن الأمة بل الدنيا بأسرها لا تزال بخير ما عظم العلماء وأعلى قدرهم وغفرت أخطاؤهم وسترت معايبهم لا لذواتهم أو لأنهم أبناء فلان وإنما لهيبة ما يحملونه في قلوبهم من علم الكتاب والسنة فإن احترام العالم احترام للعلم وتعظيم العالم تعظيم للعلم ، فاستغفر الله وأتوب إليه إن أخطأت في حق أحد منهم أو صدرت زلة لسان أو هفوة بنان على مقامهم الشريف ويا عجبا من قول سلم منهم اليهود والنصارى وأصناف الكفرة ولم يسلم منهم سادات المسلمين وأعجب من ذلك ما سمعته عن بعض هؤلاء إنه لا يجيز لعنة اليهود والنصارى والدعاء عليهم لعدم الدليل – هكذا زعم – وتراه يمزق لحوم أهل العلم ويدعو عليهم بالويل والثبور ويكتب فيهم التقارير السرية فإذا أصابهم أذى بقدر الله ، فرح قلبه واطمأنت نفسه وطاب عيشه ، مسكين مثل هذا أسأل الله جل وعلا أن يرده إلى جادة الحق والصواب وأن يعفو عنا وعنه زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة ، وعلى كل حال فنقول كما قال الإمام ابن عساكر – رحمه الله – تعالى إن : لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتهكي أعراضهم معلومة ومن وقع في أعراضهم بالثلب عاقبه الله قبل موته بموت القلب ، نعوذ بالله تعالى من موت القلوب ونسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحمي العلماء من كل من أرادهم بسوء وأن يجعل كيدهم في نحورهم وأن يحمي شريعته من عبث العابثين وإفساد المفسدين بحفظ أهلها الذابين عنها آمين إنه ولي ذلك والقادر عليه ولعل المقصود من هذه القاعدة قد اتضح فلا نجعل هفوات أهل العلم لك بضاعة تتوصل بها إلى مقاصد أنت تعرفها واستعذ بالله من شهوات النفوس واجعل همك وصول الحق للناس سواءً أوصلته أنت أو أوصله غيرك ولا تنصب نفسك حاكما بين العلماء واعرف قدر نفسك وامدد لحافك على قدر قدميك ، ودع العلماء للعلماء ، ولا تداهن أحدا ببث شيء من هفوات بعض أهل العلم أو القدح فيهم عنده ليعطيك عرضا من الدنيا أو ينصبك منصبا يكون فيه عطبك وغضب الله عليك ، فأهل العلم الصادقون لا يجعلون علم الكتاب والسنة تابعا لذلك بل يجعلون الدنيا بأسرها تابعة للكتاب والسنة حاشا أهل العلم وطلابه من هذه الأخلاق الفاسدة والمقصود أن الخطأ اليسير في الصواب الكثير ليس بشيء ولا نحكم على أحد بيسير خطأه وكثرة صوابه ، عاملنا الله وإياك برحمته ووفقنا وإياك لسلوك سبيل مرضاته والله أعلى وأعلم .
(( القاعدة الرابعة عشر ))
لا تبنى الأحكام على الإشاعات والنقول والأراجيف
أقول : إن هذه وصية لنفسي الضعيفة ولمن شاء الله من أخواني أنه إذا نقل إليك أحد عن أحد شيئا يريد منك أن تحكم على هذا المنقول فاعلم أنه شيطان يريد أن يوقعك في عرض أخيك ويريد إيغار الصدور ووحشة النفوس وفساد ذات البين فاحذر كل الحذر منه ، وما أكثرهم لا كثرهم الله فإنهم النمامون القتاتون أصحاب العضة ، هم السحرة ولكن بلا عقد ، بل عليك زجر الفاعل والتغليظ عليه وردعه الردع المناسب لحاله ولا يصدر منك أي قبول لكلامه هذا فضلا عن أن تبني عليها حكماً على أخيك ، فإن هذه العجلة قد أوقعت كثيرا من الأحبة في أمور ندموا عليها وتمنوا أنهم لم يفوهوا بها ، وصدق الله العظيم إذا يقول { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ولا يقع في ذلك في الغالب إلا حدثاء الأسنان في العلم ، أما الراسخون فيه ومن أخذ فيه بحظ وافر فإنهم كالجبال الرواسي الذين لا تضلهم الفتن ولا تلتبس عليهم الأمور ، فلا يجوز لك أن تبني حكما على أخيك بمجرد نقل إليك أو بمقال من جريدة جاءت قصاصته إليك ، أو بشريط سمعته أو بكلمة محتملة ، فإن الحكم على الغير عظيم خطره فلا بد من هيبته والخوف منه ولا يقدم عليه إلا بعد استفراغ الوسع في التثبت والتبين والترفق ومعرفة الحقيقة المعرفة التامة ، وكم وكم من النقول التي لا أساس لها ولا خطام ولا زمام لها ، وفي الحقيقة أن من بنى حكما استنادا على ذلك فإنه يكون بذلك قد بنى حكمه هذا على غير أساس ولا هدى من الله ولا برهان ساطع أو دليل واضح بل على الهوى والتخرص والعجلة والطيش ومن الذي يرضى أن يكون بهذه المرتبة ، التي لا ترضاها البهيمة فضلا عن بني آدم فضلا عن المشائخ والعلماء فلا نريد أن نتمشى مع شهوة أهل الإشاعات والأراجيف بل لابد من قتل هذه الشهوة في قلوبهم بتحذيرهم ومناصحتهم أو ردعهم عن مثل ذلك بتغليط الكلام لهم وتأديبهم أو تعزيرهم التعزير البليغ حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك الخلق الفاسد ، ويعجبني أحد العلماء لما نقل له بعض السفهاء والسقطة شيئا عن بعض أهل العلم وأراد سماع رأيه فيه ، زجره زجراً بليغاً وأخرجه من المسجد ، وهذا حقه لأنه يريد بذلك النقل الوقيعة في ذلك العالم المنقول عنه ، فرد الله كيده في نحره لم ينل خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ، فلا تفتح بابك لأهل الأراجيف والنقول والإشاعات بمداهنتهم والترخي عنهم كائنا من كانوا ولا تسمح أصلا أن يذكر أحد في مجلسك بشيء ، بل لتكن مجالسنا عامرة بمدارسة العلم النافع ومذاكرة المسائل المفيدة ولتدع أعراض الناس عنك لا يطلبونك بها يوم القيامة ، فالوصية لنفسي ولمن شاء الله تعالى من أخواني المسلمين أن لا نحكم على أحد بناء على الإشاعات والنقولات الزائفة التي هي كيدية في غالب أحوالها ، ولا على الأراجيف فإن هذا مما يفرح أعداء الله ونحن لا نريد أن نفرحهم بل نريد أن ندخل عليهم الحزن والغيظ قال تعالى: { وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّار }.. الآية، فإذا سددت هذا الباب عنك فابشر بخير وسترى عاقبة ذلك في الدنيا والآخرة ولعلك قبلت وصية أخيك المحب ولعلها وجدت فراغا من قلبك الكبير وصدرك الواسع والله أعلم .
وختـــامــاً ..
فإني أحب أن أذكر لك بعض الوصايا الجامعة النافعة في هذا الباب وفي غيره ، عسى الله تعالى أن يختم لنا بخير ويجعل عواقب أمورنا إلى خير فأقول وبالله التوفيق :
من كف لسانه عن الناس شرح الله صدره ويسر أمره وأعلا ذكره ، وغفر وزره ووسع وأنار قبره وضاعف له مثوبته وأجره .
من صان أعراض الناس صان الله عرضه من الناس وألبسه الرحيم خير لباس ، فيمشي بينهم وما عليه منهم من حذر ولا بأس وسد بذلك طريق الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن عرضه ومكنه الله تعالى وآمنه في أرضه وسلمه من الفزع الأكبر في يوم حشره وعرضه ، جزاء وفاقا لما قام به من فرضه .
من قام بما أوجب الله عليه تجاه العلماء ، أحبه أهل الأرض والسماء ، واستغفرت له الأشياء ووسع الله له العطاء ، وأعلا نزله في دار الأتقياء .
خف الله في الناس ولا تخف الناس في الله وعاملهم بما تحب أن يعاملوك به ، وآت للناس ما تحب أن يأتوك به ، واعلم أن خير ما خرج به العبد من هذه الدنيا الذكر الحسن ، وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا ، واعمل لسانك بكثرة الذكر واستقل ما تقدمه من الطاعات ولا تفخر ولا تبغ على أحد واعف واصفح عمن أساء إليك وقابل السيئة بالحسنة وعليك بمعالي الأمور ودع سفاسفها وأوصيك بتقوى بتقوى الله وحسن الخلق ، وأتركك في مساء الخير أو صباحه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته واستغفر الله من الزلل وضلال الفهم وأسأله جل وعلا أن يعفو عني ذنوبي التي لا عد لها و لا حصر لكن رحمته أوسع وعفوه أكبر ، وأعوذ بوجهه الكريم أن يحاسبني عن ترك امتثال ما كتبته يوم القيامة وأسأله جل وعلا الإخلاص في القول والعمل وأسأله عز وجل باسمه الأعظم أن يتقبل هذا العمل وقفا لي ولسائر المسلمين وأني لا أجيز لأحد أن يحتفظ بحقوق طبعه ، بل حقوق الطبع مفتوحة للمسلمين ، وليس في هذه الوريقات فقط بل في كل سائر ما كتبته والله خير الشاهدين وعليه الاعتماد ولا أرجو ثواب ذلك إلا منه جل وعلا وأعوذ به أن أشرك به شيئا وأنا أعلم وأستغفره لما لا أعلم وقد تم الفراغ بحمد الله وتوفيقه قبيل الفجر يوم الأثنين من شهر جمادى الآخرة عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وهو أعلى وأعلم وأحكم .