القوي بالله
06-01-2011, 10:47 PM
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين .... أما بعد:-
تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى ...وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى والاستعداد الكامل والاستنفار المتحفِّز ، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان ! وهذا جهدٌ مشكور ، وعملٌ مأجور باذن الله إذا صلُحت النيَّة ، وخلُص المقصِد لله ربِّ العالمين .
ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن الدُّون ، ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ضعف الاستعداد وقلَّة الاهتمام وشدَّة الغفلة عن ذلك الامتحان الرهيب الذي خلقنا الله تعالى من أجله وأنشأنا له ، لرأيت البصر ينقلب إليك خاسئاً وهو حسير .
قال تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )
وقال تعالى : ( ولنبلونَّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ..)
وقال تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين )
والفرق واسع والبون شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة ..
وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )
المـوضـوع
امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب ، وفي ورقاتٍ معدوداتٍ من دفتر ، في مجالٍ من مجالات الحياة ، وضربٍ من ضروب العلم .
أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، قد حوى الأقوال ، وأحصى الأفعال ، وأحاط بالحركات والسَّكنات ، وألمَّ بالخطرات والهنَّات والزلاَّت !
قال تعالى : ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا )
فالصغائر مسجلة به ، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه .
قال تعالى : ( وكلُّ صغير وكبير مستطر )
فالعباد يقولون ويعملون ، والكُتَّاب يكتبون، ويوم القيامة يخرجُون ما كانوا يحصون و يستنسخون.
قال تعالى : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقِّ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون )
فتنشر الفضائح ، وتظهر القبائح ، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان ، تحت ركام الغفلة والنسيان !
( يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كلِّ شيء شهيد )
الأسـئـلة
امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب ، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج ، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها ، ولعلَّه يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام مساعدةً له وتيسيراً عليه .
أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لأطراف الحياة ، شاملة لدقائق العمر ..
أسئلة عن الأفعال ..
و أسئلة عن الأقوال ..
وأسئلة عن الأموال ..
وأسئلة عن النيَّات ..
وأسئلة عن المعتقدات ..
وأسئلة عن الأوقات ..
وأسئلة عن الأمانات ..
سؤال خطير ؛ جِدُّ خطير ، عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير !
قال تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون )
إنه موقف السؤال والحساب بين يدي ملك الملوك وربِّ الأرباب !
قال تعالى ( وقفوهم إنَّهم مسئولون )
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :" لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عند ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس : عن عُمرِه فيما أفناه ، وعن شَبابِه فيما أبلاه ، وعن مالِه من أين اكتسَبَه وفيما أنفَقَه ، وماذا عمِلَ فيما عَلِم "
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤُلٌ عن رعيَّتهِ ، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ، والرَّجلُ راعٍ على أهلٍ بيتِه وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولده وهي مسؤولةٌ عنهُم ، وعبدُ الرَّجلِ راعٍ على مالِ سيِّده وهو مسؤولٌ عنهُ ، ألا فكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّتِه "
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله تعالى سائلٌ كلّ راعٍ عمَّا استرعاه : أحفِظَ ذلِك أم ضَيَّع ؟ حتَّى يسأل الرَّجل عن أهلِ بيتِه "
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا ..... لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا ..... ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ
المـكـان
امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ ، ومكانٍ معدٍّ ، فالكراسي مريحة ، والأنوار ساطعة ، والمكيفات باردة ، والأمن والأمان يبسطان رداءهما على المكان .
أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب ، وموقفٍ عصيب ، ومكانِ عجيب ..
قال تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )
أهوالٌ عظيمة ، وكرباتٌ جسيمة ، وأحوالٌ مفجعةٌ ، ومناظر مدهشةٌ ، ترتعد منها الفرائص ، وتقشعرُّ منها الجلود ، وتنخلع لهولها القلوب ، وتشيب منها مفارق الولدان !
قال تعالى : ( .. يوماً يجعل الولدان شيباً )
يوم يجمع الله الأولين والآخرين ، فإذا هم بالساهرة ، حفاةً بلا أحذية ، عراةً بلا أردية ، غرلاً بدون ختان .
قال تعالى : ( كما بدأنا أوَّل خلقٍ نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين )
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تُحشَرُونَ حُفاةً عُراةً غُرلاً " قالت عائشةُ : فقلتُ : يا رسولَ الله الرِّجالُ والنِّساءُ ينظُرُ بعضُهُم إلى بعضٍ ؟ فقال :" الأمرُ أشدُّ مِن أن يُهِمَّهُم ذلك "
القبور تبعثرت ، والأفلاك تفجَّرت ، والنجوم تكدَّرت ، والسماء تفطَّرت، والجبال سيِّرت ، والبحارسعِّرت ، والشمس كوِّرت ، والجحيم بُرِّزت ، والوحوش جُمعت وعلى أرض المحشرحشرت ...
قال تعالى : ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد )
القلوب واجفة ، والأبصار خاشعة ، والأعناق خاضعة ، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطب ، لِما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب ، فالميزان منصوب ، والصراط مضروب ، والشهود تشهد ، والجوارح تفضح ، والصحائف تنشر !
وإلى الله يومئذِ المستقر ! فأين المفر ؟!
مثِّل لنفسِكَ أيُّها المغرورُ ......... يوم القيامةِ والسَّماءُ تمورُ
قد كُوِّرت شَمسُ النَّهارِ وأُضعِفَت حَرَّاً على رأس العبادِ تفُورُ
وإذا الجِبالَ تقلَّعت بأُصُولها ....... فرأيتَها مِثلَ السَّحابِ تسيرُ
وإذا النُّجُومُ تساقَطت وتناثَرت ........ وتبدَّلت بعدَ الضياءِ كدُورُ
وإذا العِشارُ تعطَّلت عن أهلِها .... خَلَت الدِّيارُ فما بها معمُورُ
وإذا الوحوشُ لدى القيامةِ أحضرت وتقولُ للأملاكِ أين نسيرُ
فيقالُ سيروا تشهدُونَ فضائحاً ..... وعجائباً قد أُحضِرت وأُمُورُ
وإذا الجنينُ بأُمِّهِ مُتعَلِّقٌ ....... يخشى الحِسابَ وقلبهُ مذعُورُ
هذا بلا ذنبِ يخافُ لهولِهِ .... كيفَ المُقيمُ على الذُّنوبِ دُهُورُ ؟!
قال تعالى : ( يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذِّركم الله نفسه والله رؤوفٌ بالعباد )
الزمـان
امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار ،وربما أكثر من ذلك بقليل
أما امتحان الآخرة فهو في ( يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )
وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل ، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا إلاَّ يسيراً .
قال تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ) فيفزعون نادمين ، وعلى أعمارهم متحسِّرين : إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير !
قال تعالى : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلاَّ قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق ..)
والعاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين أو أقلُّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ يقبر ، ثمَّ ينشر ، ثمَّ يحشر ، فإذا به واقفٌ بين يدي ربّه في يوم العرض الأكبر!
فيستعدَّ لما أمامه من أهوال يوم القيامة ، فيغنم أيامه ولياليه فيما يقرِّبه من خالقه ومولاه .. بالمبادرة إلى الطاعات ، والأعمال الصالحات ، والمسابقة في الخيرات ، قبل أن تأتيه المنيَّة ، ويصاح في قافلة الهلكى : الرحيل ! الرحيل !
ويبلسُ هنالك الغافلون !
قال تعالى : ( كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّة أو ضحاها )
المـراقب
المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك ، محدود القدرات ، معدود الإمكانات ، ينسى ويغفل ، ويسهو ويتنازل ، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان !
أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة ، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء .
قال تعالى : ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيًّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم ...)
عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قامَ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلماتٍ فقال :" إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ ، ولا ينبغي له أن ينامَ ، يخفِضُ القِسطَ ويرفَعُهُ ، يُرفَعُ إليهِ عَملُ الليلِ قبلَ عَملِ النَّهار وعملُ النَّهارِ قبلَ عملِ الليل ، حجابُهُ النُّورُ لو كشَفَهُ لأحرَقَت سُبُحاتُ وجههِ ما انتهى إليهِ بصَرُهُ مِن خلقِهِ "
فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير !
وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير !
وأيُّ حجابٍ يواريك منه ويحجبك عنه ؟!
نسبة النجاح
امتحان الدنيا نسبة النجاح فيه عاليةٌ جداً ! فربما بلغت ثمانين بالمائة ، وربما وصلت إلى تسعين بالمائة ، بل وربما بلغت النسبة إلى أعلاها والدرجة إلى منتهاها !
أما امتحان الآخرة فنسبة النجاح فيه قليلة جداً !
فلا أقول : واحدٌ في العشرة ! ولا أقول : واحدٌ في المائة ! وإنما هي : واحدٌ في الألف !! فيا للهول ! تسعمائة وتسعةُ وتسعون إلى النَّار بعدلٍ من الله وحكمة ! و واحدٌ إلى الجنَّة بفضلٍ من الله ورحمة ! اللهُمَّ لطفك ! يا لطيف .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقولُ الله يا آدمُ ، فيقولُ : لَبَّيكَ وسعدَيكَ والخيرُ في يدَيكَ ، قالَ : يقُولُ أخرِج بَعثَ النَّارِ ، قالَ : وما بعثُ النّارِ ؟ قالَ : مِن كُلِّ ألفٍ تِسعمِائَةٍ وتسعةً وتِسعِينَ ، فذلكَ حِين يشِيبُ الصَّغيرُ وتَضعُ كُلُّ ذاتِ حملٍ حملَها ، وترى النَّاس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنَّ عذابَ الله شديدٌ "
يا جنَّة الرحمن ليس ينالها ..... في الألف إلاَّ واحدٌ لا اثنانِ
فرحماك اللهُمَّ وفضلك !
وجودك اللهُمَّ وكرمك !
النجاح
النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها ..
وأيُّ درجة هذه ؟! وأيُّ مرتبة تلك ؟! والدنيا بما فيها من نعيم ولذَّة منذ خلقها الله تعالى وإلى أن يرثها وهو خير الوارثين نعيمها لا يساوي في نعيم الآخرة إلاَّ كقطرة أخذت من بحرٍ لُجيٍّ .
عن المستورد ـ أخا بني فهر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" و الله ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثلُ ما يجعَلُ أحدُكُم إصبَعهُ هذه ـ وأشار بالسَّبَّابة ـ في اليَمِّ ،فلينظر بم ترجعُ ؟ "
وقال صلى الله عليه وسلم :" .. ولقابُ قَوسِ أحدِكُم ، أو موضِعُ قدَمٍ مِنَ الجنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها ، ولو أنَّ امرأَةً مِن نساءِ أهلِ الجنَّةِ اطَّلعت إلى الأرضِ لأضاءَت ما بينهُما ، ولملأَت ما بينهُما ريحاً ، ولنَصيفُها ـ يعني الخمار ـ خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها "
أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار ، والدخول إلى الجنَّة ، فضلاً من الله ومِنَّة !
قال تعالى : ( فمن زحزح عن النَّار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور )
وتأمَّل فرحته العارمة ، وسعادته الغامرة عندما يثقل بالصالحات ميزانه ، وتثبت على الصراط أقدامه ، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه ، ويُلقَّى حجَّته ، فيرفع كتابه فوق رأسه ، وينشره بين الخلائق ، ويستعلي بصوته ، وينادي على رؤوس الأشهاد في فرحٍ وسرور ، وبهجة وحبور : ( هاؤوم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنَّة عالية )
وكما أنَّ النجاح يتفاوت في الدنيا ما بين مقبولٍ ، وجيد ، وجيد جداً ، وممتاز ، ومراتب الشرف ، وأوسمة التفوُّق ...
فالنجاح درجاتٌ بعضها فوق بعض ...
كذلك يوم القيامة ، فدخول الجنَّة لا يكون إلاَّ بفضل الله ورحمته ، ثُمَّ يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات ، على حسب أعمالهم الصالحة في الدنيا ، فكلَّما زادت حسناتهم زادت درجاتهم ..
وكلما كثرت طاعاتهم ارتقوا في منازلهم وعظمت كرامتهم ..
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :" في الجنَّةِ مائةُ دَرجةٍ ما بينَ كلِّ درجتين كما بينَ السَّماء والأرض ، والفردوسُ أعلاها دَرجة ، ومنها تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ الأربعة ، ومِن فَوقِها يكونُ العرشُ ، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِردوس "
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال :" إنَّ أهلَ الجنَّةِ ليتراءونَ أهلَ الغُرفِ مِن فوقِهم ، كما تتراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ مِن الأُفقِ من المشرِق أو المغرب ، لتفاضُلِ ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ! تلك منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرهم . قال: "بلى . والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسلين"
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : أُصيبَ حارثة بن سراقة رضي الله عنه في بدرٍ وهو غُلامٌ ، فجاءَت أُمُّهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسولَ الله قد عَرفتَ مَنزِلةَ حارثةَ مِنِّي فإن يكُ في الجنَّة أصبِر وأحتَسِب وإن تكنِ الآخرى ترى ما أصنعُ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" ويحَكِ أوَ هَبلتِ ؟! أوَ جَنَّةٌ واحدةٌ هِيَ ؟ إنَّها جِنانٌ كثيرةٌ وإنَّهُ لفي الفردوسِ "
فجدَّ ، واجتهد ، ولا يسبقنَّك إلى الجنَّة ـ مِمَّن عرفت ـ أحد !
الرسوب
الاخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة .
عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفَةِ ، فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها ، فقال : " أتُرونَ هذهِ هيِّنَةً على صاحبِها ؟ فوالذي نفسي بيده ! للدنيا أهوَنُ على الله ، مِن هذِهِ على صاحِبها ، ولو كانتِ الدُّنيا تَزِنُ عِند الله جَناحَ بعُوضَةٍ ، ما سقى كافراً مِنها قطرة أبداً "
وحسب الدنيا حقارةً ودناءة أن الله تعالى جعلها دار بلاءٍ وامتحان ، وموطن غفلةٍ ونسيان ، وموقع خطيئة وعصيان ، ولو كانت نعمة لساقها بين يدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان عيشه منها كفافاً .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أنَّ السَّلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ..... إلاَّ التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه ............... وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها
أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة ، فخسارة الأبد ، وحسرةُ السَّرمد ، وألم لا ينفذ ، وندم لا ينقطع ، وعذاب لا ينتهي ، وعقاب لا ينقضي .
يوم يُكبُّ المجرم على وجهه إلى نارٍ تلظَّى ، لا يصلاها إلاَّ الأشقى ، فيخسر نفسه وأهله وماله .
قال تعالى : ( قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين )
وأيُّ خسارةٍ أكبر من أن يرى العبد غيره يساق ـ في سعادة ومسرَّة ـ إلى جنَّةٍ عرضها السموات والأرض ، لينعم بما تلذُّ به العين ، وما تشتهيه النَّفس ، ويطرب له السمع ، ويسعد به القلب ، ثُمَّ يقاد هو ـ في ذِلَّةٍ وصغار ومهانةٍ وانكسار ـ إلى نارٍ وقودها النَّاس والحجارة ، حيثُ العقاب والعذاب ، والبلاء والشَّقاء ، والنَّكال والأغلال ، مما لا يخطر على البال ، ولا يوصف بحالٍ من الأحوال !
قال تعالى : ( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذلِّ ينظرون من طرفٍ خفيٍّ . وقال الذين آمنوا إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إنَّ الظالمين في عذابٍ مقيم )
والخسارة الأكبر ، والحرمان الأعظم ، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد .
قال تعالى : ( كلاَّ إنَّهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ثمَّ إنَّهم لصالوا الجحيم )
وكما يرجع الطالب الخائب باللوم لنفسه ، والتقريع والتوبيخ لها ، والندم على تفريطها ، ينقلب الحال بأهل الرسوب في الآخرة إلى الأماني العقيمة، ويركنون إلى الأحلام السقيمة ، ويتمنون أن يعودوا ليجدُّوا ويجتهدوا ...
قال الله تعالى عنهم : ( يوم تقلَّب وجوههم في النَّار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرَّسولا )
فرصة للتعويض
امتحان الدنيا أسوأ ما يمكن أن يحصل فيه أن يرسب الطالب ، ويخفق في الامتحان ..
وغالباً يكون لديه فرصةٌ أخرى وكرَّة ثانية ، بدورٍ ثان أو بإعادة المحاولة سنة أُخرى حتَّى يتمَّ له النجاح ، أو بتغيير مجال الدراسة والبحث ، ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه ، وفضلاً عظيماً لا يعلمه ...
فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه ، وكان الخير في غلقه ، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن ، والرزايا والفتن .
قال تعالى: ( وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )
أمَّا امتحان الآخرة فلا فرصة ثانية ولا كرَّة آتية ..
وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها ، وتنقضي أوقاتها ، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى العظيم المتعال !
قال تعالى : ( ثمَّ ردُّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )
وعند ذلك ينادي المفرِّط المخلِّط في كمد ونكد ( ربِّ ارجعون )
لِمَ أيُّها الغافل ؟! ( لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )
فهل يجاب له سؤله ويحقق له أمله ؟!
( كلاَّ . إنَّها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون )
وعندما يخفقون في الاختبار ، ويدخلون النَّار ، يُعذَّبون بها ، ويصلون سعيرها ، ويحرَّقون بحرارتها ..
ينادون ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل )
فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم ، ويضاعف من لوعاتهم : ( أولم نعمرِّكم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير )
والجزاء في يوم الجزاء : ( فذوقوا فما للظالمين من نصير )
رحلة العمر انتهت ، وفرصة الزرع انقضت ، وقد حان أوان الحصاد !
فوا بشرى للزارعين بما حصدوا ..!
ووا أسفاه على الخاملين يوم جدَّ المشمِّرون وهم رقدوا ..!
وفاز بالغنائم طُلاَّبها ، وبالمعالي أربابها !
أمَّا أولئك البطَّالون فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، فإنَّ الله الذي يعلم ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ، يعلم أنَّهم لو ردوا إلى الدنيا ، وفسح لهم في الأجل ، لعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والموبقات والخمول والكسل !
قال تعالى : ( ولو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنَّهم لكاذبون )
فيا لهذا الإنسان ؛ ما أشدَّ ظلمه لنفسه ! وما أعظم جهله بعاقبة أمره !
( إنَّه كان ظلوماً جهولاً )
الخـاتمـة
... وبعد :
أعتقد جازماً أنَّه لم يبق لنا بعد هذه النِّذارة إلاَّ أن نستشعر أننا في امتحانٍ رهيب ، في كلِّ ما نأتي ونذر ، وفيما نحبُّ ونكره ، ونعتقد وننوي ، ونرى ونسمع ، ونعطي ونمنع ، ونأكل ونشرب ، ونسكن ونركب ، ونقول ونعمل ، وذلك على مدى الدَّهر ، وبطول مسيرة العمر .واليوم عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل !
فلنُرِ اللهَ منَّا خيراً ، نُسرُّ به يوم أن نُعرض عليه ، ونقف بين يديه ، حيث تُعطى الجوائز لكلِّ فائز ، ويزج بقفا كلِّ خاسر إلى نار السَّموم ، ( يوم يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك إن ربك فعَّال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ )
وفي هذا بلاغٌ لقوم عابدين !
اللهُمَّ اجعلنا ـ بفضلك ـ من السُّعداء الفائزين ، ولا تجعلنا من الأشقياء الخاسرين ، والحمد لله ربِّ العالمين ....
منقول
تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى ...وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى والاستعداد الكامل والاستنفار المتحفِّز ، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان ! وهذا جهدٌ مشكور ، وعملٌ مأجور باذن الله إذا صلُحت النيَّة ، وخلُص المقصِد لله ربِّ العالمين .
ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن الدُّون ، ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ضعف الاستعداد وقلَّة الاهتمام وشدَّة الغفلة عن ذلك الامتحان الرهيب الذي خلقنا الله تعالى من أجله وأنشأنا له ، لرأيت البصر ينقلب إليك خاسئاً وهو حسير .
قال تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )
وقال تعالى : ( ولنبلونَّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ..)
وقال تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين )
والفرق واسع والبون شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة ..
وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )
المـوضـوع
امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب ، وفي ورقاتٍ معدوداتٍ من دفتر ، في مجالٍ من مجالات الحياة ، وضربٍ من ضروب العلم .
أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، قد حوى الأقوال ، وأحصى الأفعال ، وأحاط بالحركات والسَّكنات ، وألمَّ بالخطرات والهنَّات والزلاَّت !
قال تعالى : ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا )
فالصغائر مسجلة به ، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه .
قال تعالى : ( وكلُّ صغير وكبير مستطر )
فالعباد يقولون ويعملون ، والكُتَّاب يكتبون، ويوم القيامة يخرجُون ما كانوا يحصون و يستنسخون.
قال تعالى : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقِّ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون )
فتنشر الفضائح ، وتظهر القبائح ، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان ، تحت ركام الغفلة والنسيان !
( يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كلِّ شيء شهيد )
الأسـئـلة
امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب ، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج ، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها ، ولعلَّه يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام مساعدةً له وتيسيراً عليه .
أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لأطراف الحياة ، شاملة لدقائق العمر ..
أسئلة عن الأفعال ..
و أسئلة عن الأقوال ..
وأسئلة عن الأموال ..
وأسئلة عن النيَّات ..
وأسئلة عن المعتقدات ..
وأسئلة عن الأوقات ..
وأسئلة عن الأمانات ..
سؤال خطير ؛ جِدُّ خطير ، عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير !
قال تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون )
إنه موقف السؤال والحساب بين يدي ملك الملوك وربِّ الأرباب !
قال تعالى ( وقفوهم إنَّهم مسئولون )
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :" لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عند ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس : عن عُمرِه فيما أفناه ، وعن شَبابِه فيما أبلاه ، وعن مالِه من أين اكتسَبَه وفيما أنفَقَه ، وماذا عمِلَ فيما عَلِم "
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤُلٌ عن رعيَّتهِ ، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ، والرَّجلُ راعٍ على أهلٍ بيتِه وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولده وهي مسؤولةٌ عنهُم ، وعبدُ الرَّجلِ راعٍ على مالِ سيِّده وهو مسؤولٌ عنهُ ، ألا فكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّتِه "
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله تعالى سائلٌ كلّ راعٍ عمَّا استرعاه : أحفِظَ ذلِك أم ضَيَّع ؟ حتَّى يسأل الرَّجل عن أهلِ بيتِه "
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا ..... لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا ..... ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ
المـكـان
امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ ، ومكانٍ معدٍّ ، فالكراسي مريحة ، والأنوار ساطعة ، والمكيفات باردة ، والأمن والأمان يبسطان رداءهما على المكان .
أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب ، وموقفٍ عصيب ، ومكانِ عجيب ..
قال تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )
أهوالٌ عظيمة ، وكرباتٌ جسيمة ، وأحوالٌ مفجعةٌ ، ومناظر مدهشةٌ ، ترتعد منها الفرائص ، وتقشعرُّ منها الجلود ، وتنخلع لهولها القلوب ، وتشيب منها مفارق الولدان !
قال تعالى : ( .. يوماً يجعل الولدان شيباً )
يوم يجمع الله الأولين والآخرين ، فإذا هم بالساهرة ، حفاةً بلا أحذية ، عراةً بلا أردية ، غرلاً بدون ختان .
قال تعالى : ( كما بدأنا أوَّل خلقٍ نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين )
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تُحشَرُونَ حُفاةً عُراةً غُرلاً " قالت عائشةُ : فقلتُ : يا رسولَ الله الرِّجالُ والنِّساءُ ينظُرُ بعضُهُم إلى بعضٍ ؟ فقال :" الأمرُ أشدُّ مِن أن يُهِمَّهُم ذلك "
القبور تبعثرت ، والأفلاك تفجَّرت ، والنجوم تكدَّرت ، والسماء تفطَّرت، والجبال سيِّرت ، والبحارسعِّرت ، والشمس كوِّرت ، والجحيم بُرِّزت ، والوحوش جُمعت وعلى أرض المحشرحشرت ...
قال تعالى : ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد )
القلوب واجفة ، والأبصار خاشعة ، والأعناق خاضعة ، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطب ، لِما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب ، فالميزان منصوب ، والصراط مضروب ، والشهود تشهد ، والجوارح تفضح ، والصحائف تنشر !
وإلى الله يومئذِ المستقر ! فأين المفر ؟!
مثِّل لنفسِكَ أيُّها المغرورُ ......... يوم القيامةِ والسَّماءُ تمورُ
قد كُوِّرت شَمسُ النَّهارِ وأُضعِفَت حَرَّاً على رأس العبادِ تفُورُ
وإذا الجِبالَ تقلَّعت بأُصُولها ....... فرأيتَها مِثلَ السَّحابِ تسيرُ
وإذا النُّجُومُ تساقَطت وتناثَرت ........ وتبدَّلت بعدَ الضياءِ كدُورُ
وإذا العِشارُ تعطَّلت عن أهلِها .... خَلَت الدِّيارُ فما بها معمُورُ
وإذا الوحوشُ لدى القيامةِ أحضرت وتقولُ للأملاكِ أين نسيرُ
فيقالُ سيروا تشهدُونَ فضائحاً ..... وعجائباً قد أُحضِرت وأُمُورُ
وإذا الجنينُ بأُمِّهِ مُتعَلِّقٌ ....... يخشى الحِسابَ وقلبهُ مذعُورُ
هذا بلا ذنبِ يخافُ لهولِهِ .... كيفَ المُقيمُ على الذُّنوبِ دُهُورُ ؟!
قال تعالى : ( يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذِّركم الله نفسه والله رؤوفٌ بالعباد )
الزمـان
امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار ،وربما أكثر من ذلك بقليل
أما امتحان الآخرة فهو في ( يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )
وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل ، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا إلاَّ يسيراً .
قال تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ) فيفزعون نادمين ، وعلى أعمارهم متحسِّرين : إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير !
قال تعالى : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلاَّ قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق ..)
والعاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين أو أقلُّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ يقبر ، ثمَّ ينشر ، ثمَّ يحشر ، فإذا به واقفٌ بين يدي ربّه في يوم العرض الأكبر!
فيستعدَّ لما أمامه من أهوال يوم القيامة ، فيغنم أيامه ولياليه فيما يقرِّبه من خالقه ومولاه .. بالمبادرة إلى الطاعات ، والأعمال الصالحات ، والمسابقة في الخيرات ، قبل أن تأتيه المنيَّة ، ويصاح في قافلة الهلكى : الرحيل ! الرحيل !
ويبلسُ هنالك الغافلون !
قال تعالى : ( كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّة أو ضحاها )
المـراقب
المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك ، محدود القدرات ، معدود الإمكانات ، ينسى ويغفل ، ويسهو ويتنازل ، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان !
أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة ، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء .
قال تعالى : ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيًّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم ...)
عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قامَ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلماتٍ فقال :" إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ ، ولا ينبغي له أن ينامَ ، يخفِضُ القِسطَ ويرفَعُهُ ، يُرفَعُ إليهِ عَملُ الليلِ قبلَ عَملِ النَّهار وعملُ النَّهارِ قبلَ عملِ الليل ، حجابُهُ النُّورُ لو كشَفَهُ لأحرَقَت سُبُحاتُ وجههِ ما انتهى إليهِ بصَرُهُ مِن خلقِهِ "
فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير !
وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير !
وأيُّ حجابٍ يواريك منه ويحجبك عنه ؟!
نسبة النجاح
امتحان الدنيا نسبة النجاح فيه عاليةٌ جداً ! فربما بلغت ثمانين بالمائة ، وربما وصلت إلى تسعين بالمائة ، بل وربما بلغت النسبة إلى أعلاها والدرجة إلى منتهاها !
أما امتحان الآخرة فنسبة النجاح فيه قليلة جداً !
فلا أقول : واحدٌ في العشرة ! ولا أقول : واحدٌ في المائة ! وإنما هي : واحدٌ في الألف !! فيا للهول ! تسعمائة وتسعةُ وتسعون إلى النَّار بعدلٍ من الله وحكمة ! و واحدٌ إلى الجنَّة بفضلٍ من الله ورحمة ! اللهُمَّ لطفك ! يا لطيف .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقولُ الله يا آدمُ ، فيقولُ : لَبَّيكَ وسعدَيكَ والخيرُ في يدَيكَ ، قالَ : يقُولُ أخرِج بَعثَ النَّارِ ، قالَ : وما بعثُ النّارِ ؟ قالَ : مِن كُلِّ ألفٍ تِسعمِائَةٍ وتسعةً وتِسعِينَ ، فذلكَ حِين يشِيبُ الصَّغيرُ وتَضعُ كُلُّ ذاتِ حملٍ حملَها ، وترى النَّاس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنَّ عذابَ الله شديدٌ "
يا جنَّة الرحمن ليس ينالها ..... في الألف إلاَّ واحدٌ لا اثنانِ
فرحماك اللهُمَّ وفضلك !
وجودك اللهُمَّ وكرمك !
النجاح
النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها ..
وأيُّ درجة هذه ؟! وأيُّ مرتبة تلك ؟! والدنيا بما فيها من نعيم ولذَّة منذ خلقها الله تعالى وإلى أن يرثها وهو خير الوارثين نعيمها لا يساوي في نعيم الآخرة إلاَّ كقطرة أخذت من بحرٍ لُجيٍّ .
عن المستورد ـ أخا بني فهر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" و الله ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثلُ ما يجعَلُ أحدُكُم إصبَعهُ هذه ـ وأشار بالسَّبَّابة ـ في اليَمِّ ،فلينظر بم ترجعُ ؟ "
وقال صلى الله عليه وسلم :" .. ولقابُ قَوسِ أحدِكُم ، أو موضِعُ قدَمٍ مِنَ الجنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها ، ولو أنَّ امرأَةً مِن نساءِ أهلِ الجنَّةِ اطَّلعت إلى الأرضِ لأضاءَت ما بينهُما ، ولملأَت ما بينهُما ريحاً ، ولنَصيفُها ـ يعني الخمار ـ خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها "
أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار ، والدخول إلى الجنَّة ، فضلاً من الله ومِنَّة !
قال تعالى : ( فمن زحزح عن النَّار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور )
وتأمَّل فرحته العارمة ، وسعادته الغامرة عندما يثقل بالصالحات ميزانه ، وتثبت على الصراط أقدامه ، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه ، ويُلقَّى حجَّته ، فيرفع كتابه فوق رأسه ، وينشره بين الخلائق ، ويستعلي بصوته ، وينادي على رؤوس الأشهاد في فرحٍ وسرور ، وبهجة وحبور : ( هاؤوم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنَّة عالية )
وكما أنَّ النجاح يتفاوت في الدنيا ما بين مقبولٍ ، وجيد ، وجيد جداً ، وممتاز ، ومراتب الشرف ، وأوسمة التفوُّق ...
فالنجاح درجاتٌ بعضها فوق بعض ...
كذلك يوم القيامة ، فدخول الجنَّة لا يكون إلاَّ بفضل الله ورحمته ، ثُمَّ يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات ، على حسب أعمالهم الصالحة في الدنيا ، فكلَّما زادت حسناتهم زادت درجاتهم ..
وكلما كثرت طاعاتهم ارتقوا في منازلهم وعظمت كرامتهم ..
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :" في الجنَّةِ مائةُ دَرجةٍ ما بينَ كلِّ درجتين كما بينَ السَّماء والأرض ، والفردوسُ أعلاها دَرجة ، ومنها تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ الأربعة ، ومِن فَوقِها يكونُ العرشُ ، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِردوس "
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال :" إنَّ أهلَ الجنَّةِ ليتراءونَ أهلَ الغُرفِ مِن فوقِهم ، كما تتراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ مِن الأُفقِ من المشرِق أو المغرب ، لتفاضُلِ ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ! تلك منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرهم . قال: "بلى . والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسلين"
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : أُصيبَ حارثة بن سراقة رضي الله عنه في بدرٍ وهو غُلامٌ ، فجاءَت أُمُّهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسولَ الله قد عَرفتَ مَنزِلةَ حارثةَ مِنِّي فإن يكُ في الجنَّة أصبِر وأحتَسِب وإن تكنِ الآخرى ترى ما أصنعُ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" ويحَكِ أوَ هَبلتِ ؟! أوَ جَنَّةٌ واحدةٌ هِيَ ؟ إنَّها جِنانٌ كثيرةٌ وإنَّهُ لفي الفردوسِ "
فجدَّ ، واجتهد ، ولا يسبقنَّك إلى الجنَّة ـ مِمَّن عرفت ـ أحد !
الرسوب
الاخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة .
عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفَةِ ، فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها ، فقال : " أتُرونَ هذهِ هيِّنَةً على صاحبِها ؟ فوالذي نفسي بيده ! للدنيا أهوَنُ على الله ، مِن هذِهِ على صاحِبها ، ولو كانتِ الدُّنيا تَزِنُ عِند الله جَناحَ بعُوضَةٍ ، ما سقى كافراً مِنها قطرة أبداً "
وحسب الدنيا حقارةً ودناءة أن الله تعالى جعلها دار بلاءٍ وامتحان ، وموطن غفلةٍ ونسيان ، وموقع خطيئة وعصيان ، ولو كانت نعمة لساقها بين يدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان عيشه منها كفافاً .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أنَّ السَّلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ..... إلاَّ التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه ............... وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها
أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة ، فخسارة الأبد ، وحسرةُ السَّرمد ، وألم لا ينفذ ، وندم لا ينقطع ، وعذاب لا ينتهي ، وعقاب لا ينقضي .
يوم يُكبُّ المجرم على وجهه إلى نارٍ تلظَّى ، لا يصلاها إلاَّ الأشقى ، فيخسر نفسه وأهله وماله .
قال تعالى : ( قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين )
وأيُّ خسارةٍ أكبر من أن يرى العبد غيره يساق ـ في سعادة ومسرَّة ـ إلى جنَّةٍ عرضها السموات والأرض ، لينعم بما تلذُّ به العين ، وما تشتهيه النَّفس ، ويطرب له السمع ، ويسعد به القلب ، ثُمَّ يقاد هو ـ في ذِلَّةٍ وصغار ومهانةٍ وانكسار ـ إلى نارٍ وقودها النَّاس والحجارة ، حيثُ العقاب والعذاب ، والبلاء والشَّقاء ، والنَّكال والأغلال ، مما لا يخطر على البال ، ولا يوصف بحالٍ من الأحوال !
قال تعالى : ( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذلِّ ينظرون من طرفٍ خفيٍّ . وقال الذين آمنوا إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إنَّ الظالمين في عذابٍ مقيم )
والخسارة الأكبر ، والحرمان الأعظم ، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد .
قال تعالى : ( كلاَّ إنَّهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ثمَّ إنَّهم لصالوا الجحيم )
وكما يرجع الطالب الخائب باللوم لنفسه ، والتقريع والتوبيخ لها ، والندم على تفريطها ، ينقلب الحال بأهل الرسوب في الآخرة إلى الأماني العقيمة، ويركنون إلى الأحلام السقيمة ، ويتمنون أن يعودوا ليجدُّوا ويجتهدوا ...
قال الله تعالى عنهم : ( يوم تقلَّب وجوههم في النَّار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرَّسولا )
فرصة للتعويض
امتحان الدنيا أسوأ ما يمكن أن يحصل فيه أن يرسب الطالب ، ويخفق في الامتحان ..
وغالباً يكون لديه فرصةٌ أخرى وكرَّة ثانية ، بدورٍ ثان أو بإعادة المحاولة سنة أُخرى حتَّى يتمَّ له النجاح ، أو بتغيير مجال الدراسة والبحث ، ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه ، وفضلاً عظيماً لا يعلمه ...
فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه ، وكان الخير في غلقه ، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن ، والرزايا والفتن .
قال تعالى: ( وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )
أمَّا امتحان الآخرة فلا فرصة ثانية ولا كرَّة آتية ..
وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها ، وتنقضي أوقاتها ، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى العظيم المتعال !
قال تعالى : ( ثمَّ ردُّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )
وعند ذلك ينادي المفرِّط المخلِّط في كمد ونكد ( ربِّ ارجعون )
لِمَ أيُّها الغافل ؟! ( لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )
فهل يجاب له سؤله ويحقق له أمله ؟!
( كلاَّ . إنَّها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون )
وعندما يخفقون في الاختبار ، ويدخلون النَّار ، يُعذَّبون بها ، ويصلون سعيرها ، ويحرَّقون بحرارتها ..
ينادون ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل )
فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم ، ويضاعف من لوعاتهم : ( أولم نعمرِّكم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير )
والجزاء في يوم الجزاء : ( فذوقوا فما للظالمين من نصير )
رحلة العمر انتهت ، وفرصة الزرع انقضت ، وقد حان أوان الحصاد !
فوا بشرى للزارعين بما حصدوا ..!
ووا أسفاه على الخاملين يوم جدَّ المشمِّرون وهم رقدوا ..!
وفاز بالغنائم طُلاَّبها ، وبالمعالي أربابها !
أمَّا أولئك البطَّالون فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، فإنَّ الله الذي يعلم ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ، يعلم أنَّهم لو ردوا إلى الدنيا ، وفسح لهم في الأجل ، لعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والموبقات والخمول والكسل !
قال تعالى : ( ولو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنَّهم لكاذبون )
فيا لهذا الإنسان ؛ ما أشدَّ ظلمه لنفسه ! وما أعظم جهله بعاقبة أمره !
( إنَّه كان ظلوماً جهولاً )
الخـاتمـة
... وبعد :
أعتقد جازماً أنَّه لم يبق لنا بعد هذه النِّذارة إلاَّ أن نستشعر أننا في امتحانٍ رهيب ، في كلِّ ما نأتي ونذر ، وفيما نحبُّ ونكره ، ونعتقد وننوي ، ونرى ونسمع ، ونعطي ونمنع ، ونأكل ونشرب ، ونسكن ونركب ، ونقول ونعمل ، وذلك على مدى الدَّهر ، وبطول مسيرة العمر .واليوم عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل !
فلنُرِ اللهَ منَّا خيراً ، نُسرُّ به يوم أن نُعرض عليه ، ونقف بين يديه ، حيث تُعطى الجوائز لكلِّ فائز ، ويزج بقفا كلِّ خاسر إلى نار السَّموم ، ( يوم يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك إن ربك فعَّال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ )
وفي هذا بلاغٌ لقوم عابدين !
اللهُمَّ اجعلنا ـ بفضلك ـ من السُّعداء الفائزين ، ولا تجعلنا من الأشقياء الخاسرين ، والحمد لله ربِّ العالمين ....
منقول