محب الدعوة
06-18-2011, 05:32 PM
قال الشيخ وليد السعيدان حفظه الله :
(القاعدة السادسة والأربعون)
(حمل هم الإسلام موجب لخدمته والتقديم له على قدر الجهد والطاقة)
أقول :ــ إن الداعية لا بد له من هم يسيره ويثير عزيمته ، ويقوي نفسه على المواصلة والجد ومضاعفة الجهد ، وإن هذا الهم هو حمل هم هذا الدين ، فإن من حمل هذا الهم فإنه يوشك أن يكون في شغل دائم به ، فمن كان هم نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى هو همه الأول فلا تكاد تجده إلا عاملا للدين ، ولكن متى ما عزب هذا الهم عن الداعية فإنه قد يصيبه الفتور والكسل ويميل إلى الدعة والكسل ، فحمل هذا الهم من جملة الدوافع الكبيرة على المواصلة والاستمرار ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابة على حمل هذا الهم الكبير ، من غير فرق بين الصغار والكبار والرجال والإناث ، فكل من انتسب لهذا الدين فإنه لا بد وأن يحمل همه ، وأن يشارك في إعلاء كلمته على كل الأديان ، وإني لأعجب من الكفار من اليهود والنصارى ، وكيف جهودهم الكبيرة في سبيل نصرة دينهم المبدل المحرف المنسوخ ، ترى المرأة منهم تترك بلادها إلى بلاد أخرى لتبقى فيها الأزمنة الطويلة حتى تدعو لدينها ، بل قد رأيت في بعض البلاد الأفريقية امرأة كبيرة في السن قسيسة ، جاءت إلى هذه البلاد السوداء الفقيرة ، وجلست عندهم ما يقارب العشرين سنة في نشر تعاليم الإنجيل ، وما ذلك إلا لأنها لما انتسبت لهذا الدين علمت أنه لا بد من أن تقدم له ما في وسعها في سبيل نشره ، فكيف بنا نحن أهل الإسلام ، مع أن الدين الذي ندين الله تعالى به هو خير الأديان وأصحها وأحبها إلى الله تعالى ، وهو خاتم الأديان ، فما بالنا نرى الكثير من أهل الإسلام فيهم تقاعس وفتور وكسل عن العمل لهذا الدين ، وليس هذا الأمر في العامة من أهل الإسلام ، بل حتى في الدعاة وأهل العلم ، فإنه لو أن كل واحد منا قدم لهذا الدين العظيم ما في مقدوره أن يقدمه لما رأيت الحال على هذا النحو من السوء ، ولكنه الفتور والكسل والتواكل والتقاعس عن نصرة الدين ، والاشتغال بغيره من أمور الدنيا ، وإننا لنشكو إلى الله تعالى من قلة الدعاة الذين يوافقون على الذهاب للدعوة في الخارج والداخل في فترات العطلة ، مع أنها مجرد أيام يسيرة لن تقطع عليهم أمرا من أمور الدنيا ، فإلى الله تعالى المشتكى ، ولذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على زرع هذا الهم في قلوب أصحابه ، فلما قرره في قلوبهم ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع المثل في نصرة الدين والدعوة إليه والذب عن حياضه ، فهذا على بن أبي طالب رضي الله عنه ينصر الإسلام ويعلي راية الدين وهو لم يبلغ الحلم، لا يزال صغيرا ، وقد أسلم على يده أبو ذر ، جندب بن جنادة ، فكان من خبره :ــ ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي جمرة قال : قال لنا ابن عباس ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قال قلنا بلى قال قال أبو ذر كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت ما عندك ؟ فقال والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه واشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد قال فمر بي علي فقال كأن الرجل غريب ؟ قال قلت نعم قال فانطلق إلى المنزل قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء قال فمر بي علي فقال أما نال للرجل يعرف منزله بعد ؟ قال قلت لا قال انطلق معي قال فقال ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة ؟ قال قلت له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال قلت له بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث ادخل فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له اعرض علي الإسلام فعرضه فأسلمت مكاني فقال لي ( يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل ) . فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لأموت فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم فقال ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فأقلعوا عني فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس . قال فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله ....... فانظر رحمك الله تعالى ما فعله علي رضي الله عنه ، كيف أسلم هذا الصحابي الجليل الزاهد على يديه ، وهو صغير لم يبلغ الحلم ، فما الهم الذي يسيره ، ويحمله على هذه المخاطرة الكبيرة ؟ إنه هم الإسلام ، إنه الهم الذي لا ينزل في قلب المسلم إلا ويحرك عليه جوارحه كلها في نصرة هذا الدين العظيم ، وانظر إلى علي رضي الله عنه مرة أخرى ، كيف خدم الإسلام بخدمة لا تزال في رقبة الأمة دينا عليها ، وهو لا يزال في سن الشباب ، فإن الله تعالى قد اختاره من فوق سبع سموات أن يبيت في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة نواه كفار قريش بالقتل ، فكان من خبره :ــ أنه لما نزل الإذن من الله تعالى بالهجرة على المدينة ، كان الإذن أولا للصحابة ، فهاجروا زرافات ووحدانا إلى المدينة ، فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تجهزوا وخرجوا بأهليهم إلى المدينة عرفوا أن الدار دار منعة وأن القوم أهل حلقة وبأس فخافوا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشتد أمره عليهم فاجتمعوا في دار الندوة وحضرهم إبليس في صورة شيخ من أهل نجد فتذاكروا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار كل منهم برأي والشيخ يرده ولا يرضاه إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه برأي ما أراكم وقعتم عليه، قالوا : ما هو ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا ثم نعطيه سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ونسوق ديته. فقال الشيخ : لله در هذا الفتى هذا والله الرأي فتفرقوا على ذلك.فجاء جبريل فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة ، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى أبي بكر نصف النهار - في ساعة لم يكن يأتيه فيها - متقنعا فقال : أخرج من عندك فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله قال : نعم، فقال أبو بكر : فخذ -بأبي أنت وأمي - إحدى راحلتي هاتين فقال : بالثمن وأمر عليا أن يبيت تلك الليلة على فراشه.واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صير الباب ويرصدونه يريدون بياته ويأتمرون : أيهم يكون أشقاها ؟ فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من البطحاء فذرها على رؤوسهم وهو يتلو : { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وأنزل الله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في بيت أبي بكر ليلا فجاء رجل فرأى القوم ببابه فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا قال : خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب قالوا : والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.فلما أصبحوا قام علي رضي الله عنه عن الفراش فسألوه عن محمد ؟ فقال : لا علم لي به ..... فعلي رضي الله عنه قد بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة العصيبة ، ولكنه هم الإسلام الذي ينسي المسلم نفسه ، وكأني بلسان حال علي بن أبي طالب يقول:ــ اذهب يا رسول الله ، فإنك لو مت لماتت بموتك القلوب والأرواح ، وأما أنا فلو مت ، فسيخلفني من الأمة ألف رجل كعلي ، الله أكبر ، إنها الهمة التي تصهر الحديد ويذوب لها كل قاس على وجه الأرض ، وما اتقدت تلك الهمة الكبيرة في قلبه إلا لأنه ربي على حمل هم الإسلام ، وحمل هذه الأمانة العظيمة في نصرة الدين وبذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمته خفاقة على كل منار ، تلك هي التربية التي قد غرست في قلوب الصحابة ، إنها التربية على حمل هم الإسلام ، ولذلك ففي الهجرة الأولى إلى الحبشة تركوا بلادهم وسافروا تلك المسافات البعيدة في الصحاري والبحار وذهبوا إلى بلاد الغرباء البعداء وما هذا إلا لأن قلوبهم قد امتلأت من هم نصرة هذا الدين ، ثم هاجروا الهجرة الثانية للحبشة ، ثم هاجروا الهجرة الثالثة إلى المدينة ، وترك البلاد والأولاد والأموال ليس بالأمر السهل ما لم يكن ثمة أمر كبير قد استسلم له القلب ، وهذا الأمر الكبير هو هذا الدين وحب هذا الدين والمحافظة على هذا الدين ونصرة هذا الدين ، فمن حمل هم الإسلام وهم نصرة الإسلام فناهيك عن التقديم الكبير الذي سيكون ، فالأموال والبلاد وغيرها من محبوبات النفوس لا تساوي شيئا أمام نصرة الإسلام ، وهذا أبو بكر رضي الله عنه في أوائل دخوله في الإسلام يسلم على يديه جمع كلهم من المبشرين بالجنة ، وهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة داعية ومعلما ، وهو لم يبلغ العشرين من عمره ، فالجميع لا بد وأن يخدم الإسلام بما يقدر عليه ، وهذه الخدمة لا تكون إلا بعد حمل هم الإسلام ، ولا يزال أهل العلم رحمهم الله تعالى يبذلون الغالي والنفيس في نصرة هذا الدين ، لا يبالون بالدنيا وإنفاقها في سبيل الله تعالى ، همم لا تفتر ، وعزائم لا تخبو ، وعطاء دائم لا ينقطع ، وجهاد ومجاهدة في خدمة هذا الدين العظيم ، في التعلم والتعليم والتأليف ، قد سخروا في نصرته جهودهم وأوقاتهم وأموالهم ، ولا تزال الأمة تحفل بهذا الصنف من الناس ، فقد جهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة لوحده ، وأنفق أبو بكر رضي الله عنه أمواله في إعتاق إخوانه من العبيد والأرقاء المستضعفين من رق التعذيب على يد الكفرة ، وصور نصرة الدين كثيرة جدا ، فالعمل للدين وخدمة الإسلام واجب الجميع ، فلا يحصر في جهة دون جهة ، ولا في وظيفة دون وظيفة ، ولكن الحال الآن تغيرت ، فصار الكثير همه جمع المال ،والوظيفة والزوجة والأولاد ، وصار هم الدين إن كان موجودا في القلوب فهو آخر الهموم الخادمة ،وليست من الهموم الأولية الأصيلة ، ولذلك فقد تخلف الكثير منا عن ركب نصرة الدين ، وصرنا في أواخر الأمم ، وقد كنا الرؤوس التي تنبض بالحياة ، ولقد أحسن الشاعر لما قال :ــ
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا بل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوما غاشما جبارا
فالله الله أيها الدعاة بأن نعيد للأمة مجدها وعزها ولا يكون ذلك إلا بحمل هم الإسلام ، فإن قلت :ــ إن الصحابة تربوا في كنف النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحوطهم برعايته التامة وتربيته الإيمانية الربانية ، وأما نحن في هذه الأزمنة فمساكين ، ليس عندنا نبي يربينا على عينه ، فأقول :ــ هذا ضرب من الهذيان والتخذيل ، وحتى يتضح لك الأمر فأنا أضرب مثالين من الأمثلة التي قد سطر فيها أصحابها حمل هم الدين ، وهم لم يتربوا في كنف الأنبياء ، أحدهم من النماذج التي قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني من النماذج المعاصرة لنا في زماننا ، فأما الأول فقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في الصحيح قصة غلام الأخدود ، وهو وإن لم يكن من هذه الأمة ، ولكنه كان من أهل الإيمان ، فلما كان حاملا لهم الإيمان ونشره وإحياء أمة قد ضلت في عقيدتها بعبادة ملك المدينة ، حصل منه من التضحيات ما تعجب له القلوب ، فكان من خبره :ــ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إني قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ في طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حبسني أهلي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حبسني السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلساحر أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أي بني أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شفيتني فَقَالَ إني لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غيري قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فجيء بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أي بني قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إني لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فجيء بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جيء بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جيء بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بقاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وتصلبني عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كنانتي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.ثُمَّ ارمني فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قتلتني. فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصبري فَإِنَّكِ عَلَى الحق " فانظر إلى ما فعله هذا الغلام ، لم يجد ما يجود به لدينه أعز من روحه ، فدا بها دينه ، لأنه كان يحمل هما عظيما ، وهو هم الدين ، مع أنه توفر له سبيل السلامة لما خلصه الله تعالى من الجنود في أول مرة وثاني مرة ، ولكنه كان في كل مرة يأتي ويدخل على الملك ، لم يقل السلامة لا يعدلها ، بل كان ثمة هم يحركه ، فدخل على الملك الظالم الغاشم السفاك وأخبره بالخطة التي يستطيع بها أن يقتله ، وهي خطة تتضمن أن الناس سيسمعون الحق من فم هذا الملك الظالم ، وهو ما يريده الغلام ، لأن الناس سيتعجبون من هذا الغلام مع هذا الملك ، إذ كيف لا يستطيع هذا الملك الظالم القوي بجنوده وحشوده أن يقتل غلاما صغيرا إلا بعد أن استعان برب هذا الغلام ، فلا جرم أن رب الغلام أقوى من هذا الملك ، فآمن الناس لما رأوا هذا الحدث الكبير ، ولكن مات الغلام إلى رحمة الله تعالى ، والمهم أن هذا الغلام كان همّ الدين ونصرة الحق هو الذي كان يثير همته ، ويثبت عزيمته ، مع كمال توفيق الله تعالى له ، وهذا هو حال أولئك النفر الذين يحملون هم الأمة والإسلام ، وأما المثال الثاني فهو سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله تعالى فقد كان الشيخ أمة في رجل ، وهمة جيل في واحد ، لا يعرف الفتور ولا الدعة ولا التواني والتخاذل والانكسار والكسل ، كان أبا للمسلمين في قضاياهم داخل المملكة وخارجها ، وكان مشاركا لهم في الأفراح والأتراح ، نافعا لعموم المسلمين بالمال والجاه والشفاعة الحسنة ، كان لا يدخر وسعا في الدفاع عن الأمة ولا عن دينها ولا عن المسلمين ولا عن بلاد المسلمين ، كانت تخافه الأعداء مع أنه كان رجلا أعمى البصر ، لكنه ذو بصيرة ثاقبة ورأي حكيم ونظر بعيد ، لا يعرف أنه أخذ إجازة كما يأخذها غيره ، ولا يعرف عنه المطالبة بالمناصب ولماذا تأخرت الترقيات كما يطالب بها غيره ، بل حتى في فترات مرضه وإدخاله للمستشفى كانت المعاملات تقرأ عليه ، لا يؤخره ولا يشغله عن خدمة المسلمين والنظر في قضاياهم مرض ولا عطلة ولا سفر ولا زوجة ولا أولاد ، وكان على جانب كبير من العبادة والزهد وموافقة الباطن للظاهر ، لا يرى إلا ذاكرا ، بل حتى في سيارته في ذهابه لبيته كانت المعاملات تقرأ عليه ، فلله دره ما أعظم همته وما أقوى عزيمته ، وكان ذا مناصب كثيرة مع منصبه الأصلي ، لا يفتر عن خدمة الدين ليلا ونهارا ، ومع ذلك كان دمث الأخلاق ،طيب النفس ،سريع الدمعة ،سديد الرأي ،نافذ الأمر ، مهيبا ذا وقار ، حليما صبورا عفيف اللسان ، كان دؤوب التعليم للطلبة ، حريصا على طلابه وتفقيههم على منهج الأخذ بالدليل ، شديد التتبع للسنة تعلما وتعليما وتطبيقا ، واصل المسيرة السنين بعد السنين وهو الجبل الأشم الذي لا تغيره متغيرات الزمان ولا تصرفه عن همه ولا تشغله صوارف القلوب ، تخرج من تحت يديه الطلاب الذين لا عد لهم ولا حصر ، وكان كريما ليس كمثله أحد في كرمه ، فمائدته لا تخلو عن الضيوف إلى أن مات ، مع سعة النفس وحبة الخير للغير ورحابة الصدر ، لم يثنه عن نصرة الدين قدح فاجر ولا كلام في عرض ولا نعيق منافق ، ولا يعرف في فتاواه ـــ بالتتبع ـــ قولا شاذا، بل كلها في الأعم الأغلب متفقة مع الدليل ،والله الموفق والهادي ، فهذا رجل كان يحمل هم الأمة ،وهم نصرة الإسلام ،فصار هم الدين هو الهم الذي يأكل معه ويشرب ويقوم به ويقعد ، فأين المخذلون الذين يقولون:ــ لا يمكن أن يكون أحد في هذا العصر كمن كان في العصر الأول في الهمة ونصرة الدين. والمهم الذي نريد إثباته هنا هو أن حمل هم الإسلام هو الذي يحرك نحو المعالي ، وبقاؤه في القلب مع إحيائه بين الفينة والأخرى كفيل بإذن الله تعالى بالاستمرار والعطاء ، والله أعلى وأعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ......
(القاعدة السادسة والأربعون)
(حمل هم الإسلام موجب لخدمته والتقديم له على قدر الجهد والطاقة)
أقول :ــ إن الداعية لا بد له من هم يسيره ويثير عزيمته ، ويقوي نفسه على المواصلة والجد ومضاعفة الجهد ، وإن هذا الهم هو حمل هم هذا الدين ، فإن من حمل هذا الهم فإنه يوشك أن يكون في شغل دائم به ، فمن كان هم نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى هو همه الأول فلا تكاد تجده إلا عاملا للدين ، ولكن متى ما عزب هذا الهم عن الداعية فإنه قد يصيبه الفتور والكسل ويميل إلى الدعة والكسل ، فحمل هذا الهم من جملة الدوافع الكبيرة على المواصلة والاستمرار ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابة على حمل هذا الهم الكبير ، من غير فرق بين الصغار والكبار والرجال والإناث ، فكل من انتسب لهذا الدين فإنه لا بد وأن يحمل همه ، وأن يشارك في إعلاء كلمته على كل الأديان ، وإني لأعجب من الكفار من اليهود والنصارى ، وكيف جهودهم الكبيرة في سبيل نصرة دينهم المبدل المحرف المنسوخ ، ترى المرأة منهم تترك بلادها إلى بلاد أخرى لتبقى فيها الأزمنة الطويلة حتى تدعو لدينها ، بل قد رأيت في بعض البلاد الأفريقية امرأة كبيرة في السن قسيسة ، جاءت إلى هذه البلاد السوداء الفقيرة ، وجلست عندهم ما يقارب العشرين سنة في نشر تعاليم الإنجيل ، وما ذلك إلا لأنها لما انتسبت لهذا الدين علمت أنه لا بد من أن تقدم له ما في وسعها في سبيل نشره ، فكيف بنا نحن أهل الإسلام ، مع أن الدين الذي ندين الله تعالى به هو خير الأديان وأصحها وأحبها إلى الله تعالى ، وهو خاتم الأديان ، فما بالنا نرى الكثير من أهل الإسلام فيهم تقاعس وفتور وكسل عن العمل لهذا الدين ، وليس هذا الأمر في العامة من أهل الإسلام ، بل حتى في الدعاة وأهل العلم ، فإنه لو أن كل واحد منا قدم لهذا الدين العظيم ما في مقدوره أن يقدمه لما رأيت الحال على هذا النحو من السوء ، ولكنه الفتور والكسل والتواكل والتقاعس عن نصرة الدين ، والاشتغال بغيره من أمور الدنيا ، وإننا لنشكو إلى الله تعالى من قلة الدعاة الذين يوافقون على الذهاب للدعوة في الخارج والداخل في فترات العطلة ، مع أنها مجرد أيام يسيرة لن تقطع عليهم أمرا من أمور الدنيا ، فإلى الله تعالى المشتكى ، ولذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على زرع هذا الهم في قلوب أصحابه ، فلما قرره في قلوبهم ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع المثل في نصرة الدين والدعوة إليه والذب عن حياضه ، فهذا على بن أبي طالب رضي الله عنه ينصر الإسلام ويعلي راية الدين وهو لم يبلغ الحلم، لا يزال صغيرا ، وقد أسلم على يده أبو ذر ، جندب بن جنادة ، فكان من خبره :ــ ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي جمرة قال : قال لنا ابن عباس ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قال قلنا بلى قال قال أبو ذر كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت ما عندك ؟ فقال والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه واشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد قال فمر بي علي فقال كأن الرجل غريب ؟ قال قلت نعم قال فانطلق إلى المنزل قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء قال فمر بي علي فقال أما نال للرجل يعرف منزله بعد ؟ قال قلت لا قال انطلق معي قال فقال ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة ؟ قال قلت له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال قلت له بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث ادخل فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له اعرض علي الإسلام فعرضه فأسلمت مكاني فقال لي ( يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل ) . فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لأموت فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم فقال ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فأقلعوا عني فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس . قال فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله ....... فانظر رحمك الله تعالى ما فعله علي رضي الله عنه ، كيف أسلم هذا الصحابي الجليل الزاهد على يديه ، وهو صغير لم يبلغ الحلم ، فما الهم الذي يسيره ، ويحمله على هذه المخاطرة الكبيرة ؟ إنه هم الإسلام ، إنه الهم الذي لا ينزل في قلب المسلم إلا ويحرك عليه جوارحه كلها في نصرة هذا الدين العظيم ، وانظر إلى علي رضي الله عنه مرة أخرى ، كيف خدم الإسلام بخدمة لا تزال في رقبة الأمة دينا عليها ، وهو لا يزال في سن الشباب ، فإن الله تعالى قد اختاره من فوق سبع سموات أن يبيت في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة نواه كفار قريش بالقتل ، فكان من خبره :ــ أنه لما نزل الإذن من الله تعالى بالهجرة على المدينة ، كان الإذن أولا للصحابة ، فهاجروا زرافات ووحدانا إلى المدينة ، فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تجهزوا وخرجوا بأهليهم إلى المدينة عرفوا أن الدار دار منعة وأن القوم أهل حلقة وبأس فخافوا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشتد أمره عليهم فاجتمعوا في دار الندوة وحضرهم إبليس في صورة شيخ من أهل نجد فتذاكروا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار كل منهم برأي والشيخ يرده ولا يرضاه إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه برأي ما أراكم وقعتم عليه، قالوا : ما هو ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا ثم نعطيه سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ونسوق ديته. فقال الشيخ : لله در هذا الفتى هذا والله الرأي فتفرقوا على ذلك.فجاء جبريل فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة ، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى أبي بكر نصف النهار - في ساعة لم يكن يأتيه فيها - متقنعا فقال : أخرج من عندك فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله قال : نعم، فقال أبو بكر : فخذ -بأبي أنت وأمي - إحدى راحلتي هاتين فقال : بالثمن وأمر عليا أن يبيت تلك الليلة على فراشه.واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صير الباب ويرصدونه يريدون بياته ويأتمرون : أيهم يكون أشقاها ؟ فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من البطحاء فذرها على رؤوسهم وهو يتلو : { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وأنزل الله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في بيت أبي بكر ليلا فجاء رجل فرأى القوم ببابه فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا قال : خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب قالوا : والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.فلما أصبحوا قام علي رضي الله عنه عن الفراش فسألوه عن محمد ؟ فقال : لا علم لي به ..... فعلي رضي الله عنه قد بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة العصيبة ، ولكنه هم الإسلام الذي ينسي المسلم نفسه ، وكأني بلسان حال علي بن أبي طالب يقول:ــ اذهب يا رسول الله ، فإنك لو مت لماتت بموتك القلوب والأرواح ، وأما أنا فلو مت ، فسيخلفني من الأمة ألف رجل كعلي ، الله أكبر ، إنها الهمة التي تصهر الحديد ويذوب لها كل قاس على وجه الأرض ، وما اتقدت تلك الهمة الكبيرة في قلبه إلا لأنه ربي على حمل هم الإسلام ، وحمل هذه الأمانة العظيمة في نصرة الدين وبذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمته خفاقة على كل منار ، تلك هي التربية التي قد غرست في قلوب الصحابة ، إنها التربية على حمل هم الإسلام ، ولذلك ففي الهجرة الأولى إلى الحبشة تركوا بلادهم وسافروا تلك المسافات البعيدة في الصحاري والبحار وذهبوا إلى بلاد الغرباء البعداء وما هذا إلا لأن قلوبهم قد امتلأت من هم نصرة هذا الدين ، ثم هاجروا الهجرة الثانية للحبشة ، ثم هاجروا الهجرة الثالثة إلى المدينة ، وترك البلاد والأولاد والأموال ليس بالأمر السهل ما لم يكن ثمة أمر كبير قد استسلم له القلب ، وهذا الأمر الكبير هو هذا الدين وحب هذا الدين والمحافظة على هذا الدين ونصرة هذا الدين ، فمن حمل هم الإسلام وهم نصرة الإسلام فناهيك عن التقديم الكبير الذي سيكون ، فالأموال والبلاد وغيرها من محبوبات النفوس لا تساوي شيئا أمام نصرة الإسلام ، وهذا أبو بكر رضي الله عنه في أوائل دخوله في الإسلام يسلم على يديه جمع كلهم من المبشرين بالجنة ، وهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة داعية ومعلما ، وهو لم يبلغ العشرين من عمره ، فالجميع لا بد وأن يخدم الإسلام بما يقدر عليه ، وهذه الخدمة لا تكون إلا بعد حمل هم الإسلام ، ولا يزال أهل العلم رحمهم الله تعالى يبذلون الغالي والنفيس في نصرة هذا الدين ، لا يبالون بالدنيا وإنفاقها في سبيل الله تعالى ، همم لا تفتر ، وعزائم لا تخبو ، وعطاء دائم لا ينقطع ، وجهاد ومجاهدة في خدمة هذا الدين العظيم ، في التعلم والتعليم والتأليف ، قد سخروا في نصرته جهودهم وأوقاتهم وأموالهم ، ولا تزال الأمة تحفل بهذا الصنف من الناس ، فقد جهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة لوحده ، وأنفق أبو بكر رضي الله عنه أمواله في إعتاق إخوانه من العبيد والأرقاء المستضعفين من رق التعذيب على يد الكفرة ، وصور نصرة الدين كثيرة جدا ، فالعمل للدين وخدمة الإسلام واجب الجميع ، فلا يحصر في جهة دون جهة ، ولا في وظيفة دون وظيفة ، ولكن الحال الآن تغيرت ، فصار الكثير همه جمع المال ،والوظيفة والزوجة والأولاد ، وصار هم الدين إن كان موجودا في القلوب فهو آخر الهموم الخادمة ،وليست من الهموم الأولية الأصيلة ، ولذلك فقد تخلف الكثير منا عن ركب نصرة الدين ، وصرنا في أواخر الأمم ، وقد كنا الرؤوس التي تنبض بالحياة ، ولقد أحسن الشاعر لما قال :ــ
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا بل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوما غاشما جبارا
فالله الله أيها الدعاة بأن نعيد للأمة مجدها وعزها ولا يكون ذلك إلا بحمل هم الإسلام ، فإن قلت :ــ إن الصحابة تربوا في كنف النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحوطهم برعايته التامة وتربيته الإيمانية الربانية ، وأما نحن في هذه الأزمنة فمساكين ، ليس عندنا نبي يربينا على عينه ، فأقول :ــ هذا ضرب من الهذيان والتخذيل ، وحتى يتضح لك الأمر فأنا أضرب مثالين من الأمثلة التي قد سطر فيها أصحابها حمل هم الدين ، وهم لم يتربوا في كنف الأنبياء ، أحدهم من النماذج التي قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني من النماذج المعاصرة لنا في زماننا ، فأما الأول فقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في الصحيح قصة غلام الأخدود ، وهو وإن لم يكن من هذه الأمة ، ولكنه كان من أهل الإيمان ، فلما كان حاملا لهم الإيمان ونشره وإحياء أمة قد ضلت في عقيدتها بعبادة ملك المدينة ، حصل منه من التضحيات ما تعجب له القلوب ، فكان من خبره :ــ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إني قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ في طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حبسني أهلي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حبسني السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلساحر أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أي بني أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شفيتني فَقَالَ إني لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غيري قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فجيء بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أي بني قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إني لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فجيء بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جيء بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جيء بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بقاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وتصلبني عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كنانتي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.ثُمَّ ارمني فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قتلتني. فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصبري فَإِنَّكِ عَلَى الحق " فانظر إلى ما فعله هذا الغلام ، لم يجد ما يجود به لدينه أعز من روحه ، فدا بها دينه ، لأنه كان يحمل هما عظيما ، وهو هم الدين ، مع أنه توفر له سبيل السلامة لما خلصه الله تعالى من الجنود في أول مرة وثاني مرة ، ولكنه كان في كل مرة يأتي ويدخل على الملك ، لم يقل السلامة لا يعدلها ، بل كان ثمة هم يحركه ، فدخل على الملك الظالم الغاشم السفاك وأخبره بالخطة التي يستطيع بها أن يقتله ، وهي خطة تتضمن أن الناس سيسمعون الحق من فم هذا الملك الظالم ، وهو ما يريده الغلام ، لأن الناس سيتعجبون من هذا الغلام مع هذا الملك ، إذ كيف لا يستطيع هذا الملك الظالم القوي بجنوده وحشوده أن يقتل غلاما صغيرا إلا بعد أن استعان برب هذا الغلام ، فلا جرم أن رب الغلام أقوى من هذا الملك ، فآمن الناس لما رأوا هذا الحدث الكبير ، ولكن مات الغلام إلى رحمة الله تعالى ، والمهم أن هذا الغلام كان همّ الدين ونصرة الحق هو الذي كان يثير همته ، ويثبت عزيمته ، مع كمال توفيق الله تعالى له ، وهذا هو حال أولئك النفر الذين يحملون هم الأمة والإسلام ، وأما المثال الثاني فهو سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله تعالى فقد كان الشيخ أمة في رجل ، وهمة جيل في واحد ، لا يعرف الفتور ولا الدعة ولا التواني والتخاذل والانكسار والكسل ، كان أبا للمسلمين في قضاياهم داخل المملكة وخارجها ، وكان مشاركا لهم في الأفراح والأتراح ، نافعا لعموم المسلمين بالمال والجاه والشفاعة الحسنة ، كان لا يدخر وسعا في الدفاع عن الأمة ولا عن دينها ولا عن المسلمين ولا عن بلاد المسلمين ، كانت تخافه الأعداء مع أنه كان رجلا أعمى البصر ، لكنه ذو بصيرة ثاقبة ورأي حكيم ونظر بعيد ، لا يعرف أنه أخذ إجازة كما يأخذها غيره ، ولا يعرف عنه المطالبة بالمناصب ولماذا تأخرت الترقيات كما يطالب بها غيره ، بل حتى في فترات مرضه وإدخاله للمستشفى كانت المعاملات تقرأ عليه ، لا يؤخره ولا يشغله عن خدمة المسلمين والنظر في قضاياهم مرض ولا عطلة ولا سفر ولا زوجة ولا أولاد ، وكان على جانب كبير من العبادة والزهد وموافقة الباطن للظاهر ، لا يرى إلا ذاكرا ، بل حتى في سيارته في ذهابه لبيته كانت المعاملات تقرأ عليه ، فلله دره ما أعظم همته وما أقوى عزيمته ، وكان ذا مناصب كثيرة مع منصبه الأصلي ، لا يفتر عن خدمة الدين ليلا ونهارا ، ومع ذلك كان دمث الأخلاق ،طيب النفس ،سريع الدمعة ،سديد الرأي ،نافذ الأمر ، مهيبا ذا وقار ، حليما صبورا عفيف اللسان ، كان دؤوب التعليم للطلبة ، حريصا على طلابه وتفقيههم على منهج الأخذ بالدليل ، شديد التتبع للسنة تعلما وتعليما وتطبيقا ، واصل المسيرة السنين بعد السنين وهو الجبل الأشم الذي لا تغيره متغيرات الزمان ولا تصرفه عن همه ولا تشغله صوارف القلوب ، تخرج من تحت يديه الطلاب الذين لا عد لهم ولا حصر ، وكان كريما ليس كمثله أحد في كرمه ، فمائدته لا تخلو عن الضيوف إلى أن مات ، مع سعة النفس وحبة الخير للغير ورحابة الصدر ، لم يثنه عن نصرة الدين قدح فاجر ولا كلام في عرض ولا نعيق منافق ، ولا يعرف في فتاواه ـــ بالتتبع ـــ قولا شاذا، بل كلها في الأعم الأغلب متفقة مع الدليل ،والله الموفق والهادي ، فهذا رجل كان يحمل هم الأمة ،وهم نصرة الإسلام ،فصار هم الدين هو الهم الذي يأكل معه ويشرب ويقوم به ويقعد ، فأين المخذلون الذين يقولون:ــ لا يمكن أن يكون أحد في هذا العصر كمن كان في العصر الأول في الهمة ونصرة الدين. والمهم الذي نريد إثباته هنا هو أن حمل هم الإسلام هو الذي يحرك نحو المعالي ، وبقاؤه في القلب مع إحيائه بين الفينة والأخرى كفيل بإذن الله تعالى بالاستمرار والعطاء ، والله أعلى وأعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ......