محب الدعوة
08-04-2011, 05:57 AM
قال الشيخ وليد السعيدان حفظه الله في شرحه لمنظومة ابن سعدي
قال الناظم :-
ثم الصلاة مع سلام دائم على الرسول القرشي الخاتم
ش) الكلام على هذا البيت في مسائل :-
{المسألة الأولى} اعلم أن صلاة الله تعالى على عباده نوعان :- صلاة عامة ، وصلاة خاصة ، فأما الصلاة العامة فهي الصلاة على عباده ، كما قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وكقوله تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وكصلاته صلى الله عليه وسلم على من يأتي بصدقته ، كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي أوفى لما جاء بصدقته (( اللهم صل على آل أبي أوفى )) والنوع الثاني :- الصلاة الخاصة ، وهي صلاته تعالى على أنبيائه ورسله ، وبخاصة آخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في معنى الصلاة والسلام عليه ، فقيل هي الرحمة ، فصلاة الله على عبده أي رحمته له ، وهذا قول ضعيف ، لأن الرحمة والصلاة ليسا شيئا واحدا ، بل هما مختلفان ، كما قال تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ففرق بين الصلاة والرحمة ، فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما هذا أصل العطف ، ولأن صلاة الله تعالى خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ، وأما رحمته فهي عامة لكل شيء , وليست خاصة ، كما قال تعالى رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فرحمته وسعت كل شيء ، وأما صلاته فهي لطائفة مخصوصة من الخلق ، فهما مختلفان ، ولأن العلماء اتفقوا على جواز الترحم على المؤمنين ، وأما الصلاة على غير الأنبياء ففيها خلاف ، فلو كانت الصلاة من الله معناها الرحمة لما اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في ذلك ، ولأن الصلاة لو كانت هي عين الرحمة ، لأسقطت الوجوب عند من أوجب الصلاة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ، فإذا سمعت اسمه وقلت :- اللهم ارحم محمدا وآل محمد ، فهل هذا كاف عن قولك :- اللهم صل على محمد وآل محمد ؟ بالطبع لا ، وهذا يدل على أنها ليس هي الرحمة ، وإنما الرحمة أثر من آثار الصلاة فقط ، ولأنهما لا يقومان مقام بعضهما في التعبير ، فلو رحمت أحدا فأطعمته وكسوته وتصدقت عليه ، فلا يقال :- هذا الغني قد صلى على الفقير ، بمعنى رحمه ، فهذا اللفظ غير مناسب هنا ، بل اللفظ المناسب أن يقال :- هذا الغني قد رحم الفقير ، وهذا يدل على أن الصلاة من الله تعالى ليست هي الرحمة ، ولأن الرحمة عمل باطني لا يحتاج إلى كلام ، فالرحمة تقوم في القلب ، ولا تفتقر إلى كلام في تحقق وجودها ، وأما الصلاة على أحد فإنها لا بد فيها من الكلام ، فلا يكفي قيامها في القلب ، وهذا يدل على أنهما متغايران ، فإن قلت :- وما القول الصحيح في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فأقول :- المعنى الصحيح هو ما قرره أبو العالية رحمه الله تعالى من قوله (صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة ) وهذا أرجح الأقوال في هذه المسألة ، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم رحمهم الله تعالى ، وأما صلاتنا عليه فمعناها دعاء الله تعالى أن يثني عليه في الملأ الأعلى فالصلاة من الله تعالى هي ثناؤه على عبده ثناء متضمنا للرحمة والبركة ، وهذا القول هو الذي يجمع بين ما نقل عن السلف في هذه المسألة ، واختار هذا القول ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ، ورجحه الشيخ محمد بن عثيمين ، فإذا قال قائل : هذا بعيد مِن اشتقاق اللفظ ؛ لأن الصَّلاة في اللُّغة الدُّعاء وليست الثناء , فالجواب على هذا : أن الصلاة أيضاً من الصِّلَة ، ولا شَكَّ أن الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى من أعظم الصِّلات ؛ لأن الثناء قد يكون أحياناً عند الإنسان أهمُّ من كُلِّ حال ، فالذِّكرى الحسنة صِلَة عظيمة , وعلى هذا فالقول الرَّاجح : أنَّ الصَّلاةَ عليه تعني : الثناء عليه في الملأ الأعلى ، والله أعلم .
{المسألة الثانية} واختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال ، والراجح منها إن شاء الله تعالى أن لها حكمين :- أما الصلاة والسلام عليه ابتداء فهي من السنن المؤكدة ، وأما الصلاة والسلام عليه عند ذكر اسمه فإنها من الواجبات والدليل على ذلك عدة أمور , الأول :- قال تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وهذا أمر ، والمتقرر في الأصول أن الأمر يفيد الوجوب فقلنا بالوجوب ، إلا أن العلماء اختلفوا :- هل الأمر يفيد التكرار ؟ على أقوال ، والقول الصحيح في هذه المسألة أنه لا يفيد التكرار ، فالأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الآية لا يفيد التكرار ، أي أن العبد يخرج من عهدة هذا الأمر بفعله مرة واحدة في عمره ، إلا أنه قد وردت أدلة أخرى تفيد وجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، وهي ما سنذكره لك الآن إن شاء الله تعالى ، والمهم أن تعلم أننا لما قلنا بوجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، ليس لمجرد الآية بل بالنظر إلى الآية مجموعة مع تلك الأحاديث ، الثاني :- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)) رواه الترمذي وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقي المنبر فقال (( آمين آمين آمين )) فقيل له : يارسول الله ما كنت تصنع هذا ؟ ! فقال (( قال لي جبريل : أرغم الله أنف عبد أو بَعُدَ دخل رمضان فلم يغفر له فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف عبد أو بعد أدرك والديه أو أحدهما لم يدخله الجنة فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف عبد أو بعُد ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت : آمين )) ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من لم يصل عليه عند ذكر اسمه وهذا دليل على أنه ترك واجبا ، لأنه لو كان المتروك مندوبا لما استحق أن يدعى عليه ، لأن تارك المندوب لا يستحق العقاب ، فلما دعا عليه ، عرفنا أنه قد ترك واجبا ، فقلنا :- إن الصلاة عليه واجبة عند ذكر اسمه ، ويؤكد هذا أن الداعي في الرواية الثانية هو جبريل عليه الصلاة والسلام والمؤمن هو النبي صلى الله عليه وسلم فأفضل رسول ملكي هو الداعي ، وسيد المرسلين البشري هو المؤمن ، وعلى ماذا ؟ على من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل ، فهل نقول بعد هذا بأنه سنة وليس بواجب ؟ لا ، بل الراجح أنها من الواجبات عند سماع اسمه ، الثالث :- عن حسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه الترمذي ، ووجه الدلالة على القول بالوجوب أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف من لم يصل عليه بأنه بخيل ، ولو قلت لك من هو البخيل ؟ لبادرت بقولك :- هو من يمنع ما وجب عليه ، فالبخيل هو مانع الواجب ، فلما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالبخيل عرفنا أنه قد امتنع عن واجب ، فمن ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه فإنه بخيل تارك للواجب ، وهذا دليل صحيح في سنده وصريح في دلالته ، الرابع :- وعن حسين بن علي رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من ذكرت عنده فخطىء الصلاة علي خطىء طريق الجنة )) رواه الطبراني وروي مرسلا عن محمد بن الحنفية ، وفي رواية لابن أبي عاصم عن محمد بن الحنفية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من ذكرت عنده فنسي الصلاة علي خطىء طريق الجنة )) وقال الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الترغيب والترهيب عنه ( صحيح لغيره ) ومثله حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من نسي الصلاة علي خطىء طريق الجنة )) رواه ابن ماجه والطبراني وقال الألباني رحمه الله تعالى ( صحيح لغيره ) ووجه الدلالة منه على القول بالوجوب واضحة ، وهو أن من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه فإنه يخشى عليه أن يخطأ طريق الجنة ، وهذه عقوبة على هذا الترك ، وقد تقرر في الأصول أن مما يعرف به الواجب :- ترتيب العقوبة على عدم الفعل ، كما هو الحال هنا ، الخامس :- ما رواه النسائي عن محمد ابن المثنى عن أبي داود عن المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق السبيعي عن انس بن مالك قال قال رسول الله (( من ذكرت عنده فليصل علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا )) وهذا إسناد صحيح وقد تقرر في الأصول أن الأصل في الأمر الوجوب إلا لصارف ، فالقول الصحيح في هذه المسألة هو أن الصلاة والسلام تكون من الواجبات عند ذكر اسمه ، فليحذر المسلم من التساهل في ذلك ، وحتى تعم الفائدة أذكر لك الأحوال التي تشرع عندها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في المسألة التي بعد هذه المسألة ، والله أعلم .
{المسألة الثالثة} اعلم رحمك الله تعالى أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذكار المطلقة ، والتي تشرع في كل وقت ، فيشرع للعبد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره ، فلها فضل عظيم سنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة التي بعد هذه ، إلا أنه تتأكد المشروعية في عدة أحوال ، نذكرها لك بأدلتها ، فأقول , الأول :- في الصلاة فرضها ونفلها ، وتكون في التشهد الأول والثاني ، والدليل على ذلك حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري قال :- أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول اللَّهِ ، ونحن عنده فقال : يا رسول اللَّهِ أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ؟ قال : فصمت رسول اللَّهِ حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله ثم قال (( إذا صليتم علي فقولوا : اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد )) وهذا إسناد حسن متصل ، وأصل الحديث في الصحيحين ، ولكن اخترت هذا اللفظ لأن فيه موضع الشاهد وهو قوله (( إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا )) والصحيح أنها من واجبات الصلاة ، واختاره الشيخ ابن باز ، والصحيح أنها تقال أيضا في التشهد الأول ، واختاره الشيخ ابن باز ، الثاني :- في آخر دعاء القنوت ، لحديث الحسن بن علي قال علمني رسول الله هؤلاء الكلمات في الوتر قال ((قل اللهم اهدني فيمن هديت وبارك لي فيما اعطيت وتولني فيمن توليت وقني شر ما قضيت انك تقضي ولا يقضى عليك وانه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت وصلى الله على النبي)) وهو حديث جيد ، الثالث :- عند افتتاح الأدعية واختتامها ، لحديث علي رضي الله عنه قال كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني في الأوسط موقوفا ورواته ثقات ورفعه بعضهم والموقوف أصح ، قال الألباني ( صحيح لغيره ) ورواه الترمذي عن أبي قرة الأسدي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب موقوفا قال :- إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم . قال الألباني ( صحيح لغيره ) وفي حديث فضالة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم قال (( عجل هذا )) ثم قال ( ذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم يدعو بما شاء )) الرابع:- الصلاة عليه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ، لا خلاف في مشروعيتها فيها ، ولكن اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكمها في صلاة الجنازة ، والدليل عليها حديث أبي أمامة المذكور أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:- أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة " وهو حديث جيد ، الخامس :- الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكمها هنا ، والصحيح أنها من السنن لا من الواجبات ، فالخطبة بدونها صحيحة ، ولكن السنة قولها فيها ، لحديث عون بن أبي جحيفة قال كان أبي من شرط علي وكان تحت المنبر فحدثني أنه صعد المنبر يعني عليا رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر وقال يجعل الله الخير حيث شاء... إسناده حسن إن شاء الله تعالى ، وعن أبي الأحوص عن عبد الله أنه كان يقول بعدما يفرغ من خطبة الصلاة ويصلي على النبي اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وقلوبنا وذرياتنا... لا بأس به ، السادس:- الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة ، صلى الله عليه بها عشرا )) رواه مسلم ، السابع:- الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد ، والخروج منه ، لما روى ابن خزيمه في صحيحه وأبو حاتم ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال (( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي وليقل اللهم أجرني من الشيطان الرجيم )) وفي المسند والترمذي وسنن ابن ماجه من حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت كان رسول الله إذا دخل المسجد قال (( اللهم صل على محمد وسلم اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك )) وإذا خرج قال مثل ذلك إلا انه يقول (( أبواب فضلك )) ولفظ الترمذي: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم . الثامن :- الصلاة والسلام عليه على الصفا والمروة ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان يكبر على الصفا ثلاثا يقول لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ثم يصلي على النبي ثم يدعو ويطيل القيام والدعاء ثم يفعل على المروة مثل ذلك وهذا من توابع الدعاء أيضا...إسناده صحيح ، التاسع :- الصلاة والسلام عليه في المجلس قبل التفرق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي إلا كان عليهم من الله ترة إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم )) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وغيرهما، وهو صحيح ، وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت زينوا مجالسكم بالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ... موقوف صحيح ، العاشر :- الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، وقد قدمنا الأدلة على ذلك ، الحادي عشر :- يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصفقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يعني بليت فقال (( إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه وهو كما قال ، الثاني عشر :- الصلاة والسلام عليه عند الهم والشدائد والكروب ، لحديث الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال كان رسول الله إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه قال أبي قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال اجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك رواه الترمذي ، وهو حديث حسن .ومن أراد الاستزادة من ذلك فعليه بمراجعة جلاء الأفهام للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ، والله أعلى وأعلم .
{المسألة الرابعة} وقد عدد ابن القيم رحمه الله بعض الفوائد والفضائل المترتبة على الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر منها جملة طيبة ، نسوق لكم بعضها ، لعل الله تعالى أن ينفعنا بها ، وأن يجعلها خير افتتاح لهذا الشرح المبارك إن شاء الله تعالى فمما ذكر رحمه الله تعالى :- امتثال أمر الله سبحانه وتعالى ، ومنها :- موافقته سبحانه في الصلاة عليه وان اختلفت الصلاتان فصلاتنا عليه دعاء وسؤال وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف كما تقدم ، ومنها:- موافقة ملائكته فيها ، ومنها:- حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة ، ومنها:- أنه يرفع عشر درجات ، ومنها :- أنه يكتب له عشر حسنات ، ومنها:- أنه يمحي عنه عشر سيئات ، ومنها :- أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين ، ومنها :- أنها سبب لشفاعته إذا قرنها بسؤال الوسيلة له ، أو أفردها بذلك ، ومنها :- أنها سبب لغفران الذنوب ومنها:- أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمه ، ومنها :- أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة ومنها:- أنها تقوم مقام الصدقة لذي العسرة ، ومنها:- أنها سبب لقضاء الحوائج ، ومنها:- أنها سبب لصلاة الله على المصلي وصلاة ملائكته عليه ، ومنها:- أنها زكاة للمصلي وطهارة له ومنها:- أنها سبب لتبشير العبد بالجنة قبل موته ، ومنها:- أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة ومنها :- أنها سبب لرد النبي الصلاة والسلام على المصلي والمسلم عليه ، ومنها:- أنها سبب لتذكر العبد ما نسيه ، ومنها:- إنها سبب لطيب المجلس وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة ومنها:- أنها سبب لنفي الفقر ، ومنها :- أنها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكره ومنها:- أنها ترمي صاحبها على طريق الجنة وتخطئ بتاركها عن طريقها ، ومنها:- أنها تنجي من نتن المجلس الذي لا يذكر فيه الله ورسوله ويحمد ويثني عليه فيه ويصلي على رسوله ، ومنها:- إنها سبب لتمام الكلام الذي ابتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله ، ومنها:- إنها سبب لوفور نور العبد على الصراط ، ومنها :- أنه يخرج بها العبد عن الجفاء ، ومنها:- إنها سبب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه والجزاء من جنس العمل فلابد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك ومنها:- إنها سبب البركة في ذات المصلي وعمله وعمره وأسباب مصالحه لأن المصلي داع ربه يبارك عليه وعلى آله وهذا الدعاء مستجاب والجزاء من جنسه ، ومنها:- إنها سبب لنيل رحمة الله له لأن الرحمة إما بمعنى الصلاة كما قاله طائفة وأما من لوازمها وموجباتها على القول الصحيح فلا بد للمصلي عليه من رحمة تناله ، ومنها:- إنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به لان العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه والله أعلم وأعلى .
{المسألة الخامسة} واعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند العلماء رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز تخصيص عبادة قولية أو فعلية بمكان لم يأت دليل على التخصيص بها فيه ، وهذا هو عامة ما وقع فيه أهل البدع ، فإن عامة أهل البدع العملية ، إنما يأتون إلى عبادة مشروعة بأصلها ، ثم يقيدونها بزمان لا دليل على تقييدها فيه ، أو يقيدونها بمكان لا دليل على التقييد بها فيه ، أو يقيدونها بصفة لا دليل على التقييد ، والمتقرر في الشرع أنه تقييد العبادة بزمان معين أو مكان معين مبناه على التوقيف ، فلا يجوز لأحد أن يقيد شيئا من التعبدات القولية أو العملية بشيء من ذلك إلا وعليه دليل من الشرع ، لأن هذا التقييد لا يستفاد إلا من الشارع ، فالمتقرر أن ما ورد مطلقا وجب بقاؤه على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، والمتقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل وهذا التقييد إثبات لحكم شرعي ، والمتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وقد تقرر أن مشروعية الشيء بأصله لا تستلزم مشروعيته بوصفه ، إذا علمت هذا فالضابط عندنا يقول :- لا يجوز تخصيص الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بموضع أو زمان يعتقد أنها أفضل فيه بخصوصه إلا بدليل من الشرع . لأن الأصل عدم التخصيص ، فمن قال :- إن من مشروعات هذا الفعل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في ابتدائه أو انتهائه فإنه مطالب بالدليل الدال على هذا التخصيص ، فإن جاء به صحيحا فإننا نقول :- على العين والرأس ، وإلا فنحن نعتذر عن قبول هذا التخصيص ، الذي لا يؤيده الدليل ، ولا حق لأحد أن يخصص الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بمكان أو زمان بحجة أنها من جملة الأذكار المشروعة في الدين ، لأننا سنقول :- نعم ، لكنها مشروعة بالأصل وأنت تضيف على أصل مشروعيتها قيدا من زمان أو مكان ، فنحن لا نطالب بالدليل الدال على أصل مشروعيتها ، وإنما نطالب بالدليل الدال على تقييدها بهذا الزمان أو المكان ، وعليه :- فما ذكر فيه أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه مما لا تشرع فيه الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يعنون به منع الوصف المخصوص ، لا منع الأصل ، والمتقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف ، والله أعلم .
{المسألة السادسة} اعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن ما ليس بسنة ثابتة فإنه يجوز فعله أحيانا ، هكذا قال أبو العباس رحمه الله تعالى ، ويفرع على ذلك الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا في المواضع التي لم يثبت بتخصيصها فيه دليل, فنحن نقول في هذه المواضع أنه لا بأس بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ما لم يكن ذلك على صفة الديمومة والاستمرار ، فلا يكون قولها في بعض الأحيان من الممنوع ، وإنما الممنوع فيها أن يقولها دائما ، وهكذا نقول في صلاة الليل ، الأصل فيها الانفراد ، لكن لو صليت أحيانا جماعة فلا حرج ، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي ، وكصلاة الضحى ، فإن الأصل فيها الانفراد ، إلا أنها إن صليت جماعة أحيانا فلا حرج ، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام ، وكالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأذان أو عند الذبح ، إن قيل مرة أو مرتين ، فلا حرج ، ولكن إن اكتسب ذلك صفة الديمومة والاستمرار ، وهكذا ، فما ليس بسنة ثابتة إن فعل أحيانا فلا بأس إن شاء الله تعالى ، والله ربنا أعلى وأعلم .
{المسألة السابعة} اعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند العلماء رحمهم الله تعالى أن التعبير عن المعاني الشرعية بالألفاظ الواردة الصحيحة أولى من التعبير بغيرها ،وعليه :- فأنه لا ينبغي للعبد الناصح لنفسه قبول ما اخترعه كثير من أهل الإحداث في كيفيات الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما الطرق البدعية الصوفية ، فإن كل طريقة من هذه الطرق قد اخترعت من صفات الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز شرعا ، لما فيها من مخالفة اللفظ الشرعي ، ولما يتضمنه كثير منها من الغلو والإطراء الزائد عن الحد المشروع ، فعلى الناصح لنفسه أن يلتزم بالوارد في الأدلة الصحيحة من كيفية الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما أحدثه المحدثون واخترعه المخترعون ، فالحذر الحذر منه ، فإنه إن سلم من الشرك والغلو ، فلا أقل من أنه مخالف للفظ الشرعي ، وسبب لهجر ما ورد به الشرع ، وأفضل الصفات الواردة ما ورد في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:- قد أمرنا الله بالصلاة عليك فكيف نصلي عليك ؟ قال (( قولوا :- اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، والسلام كما علمتم )) وأما ما يسمى بصلاة الفاتح ، وصلاة الرفاعية ، والأحمدية وغيرها ، فدعك منها فإنها لا تسمن ولا تغني من جوع ، والزم جادة مذهب سلف الأمة وأئمتها ، فإنهم على الصراط المستقيم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، وكما قيل:- الخير كل الخير في اتباع من سلف ، والشر كل الشر في ابتداع من خلف ، وكما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى :-
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
{المسألة الثامنة} قوله ( مع سلام دائم ) وهذا هو الأفضل ، أعني جمع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تعالى به في الكتاب الحكيم في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فأمر بالصلاة والسلام جميعا ، وهذا هو الأكمل باتفاق أهل العلم رحمهم الله تعال ، والله أعلم
{المسألة التاسعة} إن قلت :- كيف تطلب السلامة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد مات ؟ فأقول:- الجواب عن ذلك في عدة أمور , الأول :- أن الألفاظ الشرعية الواردة يجب قولها كما وردت ، من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تغيير ولا تبديل ، ولا شأن لنا إلا بمراعاة اللفظ الشرعي فقط ، وأما كيف كذا وكيف كذا ، فإننا غير مطالبين بالجواب عليه ، الثاني :- أن السلامة تطلب للعبد ولو بعد الموت ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء يوم القيامة يقفون على جنبتي الصراط يقولون (( اللهم سلم ، سلم )) فالعبد سيواجهه من الآفات بعد موته ما يفتقر معه إلى السلامة من الرب جل وعلا ، الثالث :- أن السلامة يدخل فيها سلامة جسده من الاعتداء عليه ، وقد قام بعض من لا خلاق له ببعض المحاولات الفاشلة والتي قتلت في مهدها الرابع :- أن مما يدخل في المقصود أيضا سلامة سنته صلى الله عليه وسلم من عبث العابثين وانتحال المبطلين وكيد الأعداء المفترين ، لأن سنته هي طريقته ، فسلامة طريقة الرجل تعتبر من سلامته ، الخامس :- أنه يدخل في ذلك سلامة الشريعة التي بعث بها ، السادس:- أنه يدخل في ذلك أيضا سلامة أتباعه ، فإن سلامة الأتباع سلامة للمتبوع ، والله أعلم .
{المسألة العاشرة} قوله ( على الرسول القرشي الهاشمي ) الرسول في اللغة : مشتق من الإرسال وهو التوجيه , قال تعالى مخبرًا عن ملكة سبأ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ وهذا البيت فيه فروع , الأول :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في التفريق بين النبي والرسول ، فذكروا فروقا كثيرة ، والمشهور عند كثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه ، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، وهذا الفرق ليس بظاهر ، وأن كان هو المشهور ، لأن عدم الأمر بالبلاغ يشعر بأن لا فائدة من الشرع الذي أوحي به إليه ، وأصلا هذا الفرق ليس عليه دليل , فإن الله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على أولي العلم الذين لم يأتهم وحي أن يبينوه للناس، فكيف بمن أوحى الله إليه وحياً ، فلا معنى لهذا القول ، فإن قلت :- وما الفرق الصحيح ؟ فأقول :- الفرق الصحيح إن شاء الله تعالى هو ما اختاره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن النبي من بعث إلى قوم موافقين والغالب أنه يكون مجددا لشريعة من قبله فلا يبعث بشرع جديد ، وأما الرسول فإنه من بعث إلى قوم مخالفين في العقيدة ، وفي الغالب أنه يكون ذا شريعة جديدة ، ولذلك :- فالصحيح أن آدم نبي لأنه مبعوث إلى قوم موافقين له في العقيدة ، وفي الحديث لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال (( نبي مكلم )) والصحيح أن الأولية بين آدم ونوح يقال فيها :- أن نوحا أول الرسل لقوم مخالفين ، وآدم أول نبي لقوم موافقين ، والصحيح :- أن النبي مرسل أيضا لقول الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... الآية فوصف الله تعالى النبي بأنه مرسل, فهو من جملة الرسل ، ولكنه مرسل إلى قوم موافقين ، والحق الذي عليه سلف الأمة أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الرسالة ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، والصحيح أن من فضل على الولاية على مرتبة النبوة فإنه كافر ، كما هو الحال عند الغلاة من الصوفية أتباع ابن عربي والصحيح أن لفظ النبي والرسول من الألفاظ التي إن اجتمعت في اللفظ افترقت في المعنى ، وإن افترقت في اللفظ اجتمعت في المعنى ، فإن ذكر النبي وحده دخل معه الرسول تبعا ، وإن ذكر الرسول والنبي صار لكل معناها الخاص به ، والصحيح أن نزول عيسى في آخر الزمان لا على أنه نبي ، بل على أنه من جملة المجددين لهذه الأمة دينها ، والله أعلم .
{المسألة الحادية عشرة} واعلم رحمك الله تعالى أن الصلاة والسلام عليه من جملة حقوقه صلى الله عليه وسلم على الأمة ، وهناك حقوق أخرى لا بد من بيانها ، من باب إتمام الفائدة ، وقد قررها أهل العلم بما لا مزيد عليه ، وقد تكلمنا على الحق الأول :- وهو كثرة الصلاة والسلام عليه ، الثاني :- الإيمان به ، وأنه مرسل من عند الله تعالى حقا وصدقا ، قال تعالى إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، الثالث:- الاعتقاد الجازم بأنه خير الأنبياء والرسل ، فهو سيدهم وخاتمهم ، وإمامهم في الصلاة ، الرابع :- الاعتقاد الجازم بأنه آخر الأنبياء والرسل ، وأنه لا نبي بعده ، وأن كل دعوى للنبوة بعده فغي وهوى ، قال تعالى وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( وختم بي النبييون )) وقال عليه الصلاة والسلام (( يكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي )) وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على ذلك ، الخامس :- طاعته فيما أمر ، قال تعالى وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ في آيات كثيرة وقال وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وقال تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا السادس :- الانتهاء عن ما نهى عنه وزجر ، كما في الآية السابقة ، السابع :- تصديقه فيما أخبر وهذا أصل الدين وقاعدة الملة وأساس الشريعة ، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار في الكتاب والسنة فإنه مما يجب الإيمان به ، كالإخبار عن وحدانية الله تعالى في ذاته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وكإخباره بأن الساعة قائمة وأنه يبعث من في القبور ، وبعلامات الساعة الصغرى والكبرى ، وبأخبار الأمم الماضية ، وما أخبر به من مما سيكون من الغيب الذي أطلعه الله عليه ، وهكذا ، الثامن :- أن لا يعبد الله إلا بما شرع ، فكل طريق للتعبد لا يكون إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم ، فما قرره من التعبد فهو العبادة ، وما لا فلا ، فالتعبد لا مدخل فيه للآراء والاجتهادات الباطلة والقياسات المخالفة للنصوص ولا للعادات وأعراف القبائل ولا لسلوم أهل البادية ، ولا للأحلام والمنامات ، ولا للأحاديث الواهية الموضوعة ، أو الضعيفة التي لم تثبت قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )) وقال عليه الصلاة والسلام (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) وقبل ذلك قول الله تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ التاسع :- محبته صلى الله عليه وسلم ، وتقديم محبته على محبة الأهل والمال والولد ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) وقال عليه الصلاة والسلام (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )) متفق عليهما ، وقد ذكر الله تعالى في سورة التوبة محاب الناس الثمانية ، وحذر من تقديمها على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل محبة ، العاشر :- تقديم قوله صلى الله عليه وسلم على كل قول ، فلا يعارض قوله بقول أحد من الخلق كائنا من كان ، لا بقول عالم ولا بقول صحابي ولا برأي ولا بقياس ولا بأس شيء قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقال لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ والنصوص في هذا المعنى كثيرة جدا ، الحادي عشر :- تعظيمه وتوقيره وإنزاله منزلته ، بلا غلو في حقه ولا جفاء ، قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وهذا الباب باب خطير جدا ، لأنه بين هاويتين :- بين هاوية الجفاء والتفريط ، وبين هاوية الغلو والإفراط ، وقد وقع في الغلو به أقوام فتجاوزوا به الحد حتى رفعوه إلى مقام الربوبية ، فمن الغلو فيه دعوى أنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الأنبياء كلهم مخلوقون من نوره ، وهذا كفر وضلال ، بل النبي صلى الله عليه وسلم بشر من جملة البشر ، مخلوق مما خلق منه البشر ، مخلوق بين أبوين ، بين أبيه عبدالله ، وأمه آمنة ، هذا هو الحق المتفق مع نصوص القرآن والسنة ، ومن الغلو فيه دعوى أنه مطلع على أمور الغيب ، وأنه يعلم كل ما في اللوح المحفوظ وهذا من الكفر الصريح ، فإن العلم بالغيب من خصائص الله تعالى ، قال تعالى قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وقال تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ وقال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ولما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة أجابه بقوله (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ...الحديث )) فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله تعالى عليه فقط ، وأما ما عدا هذا فهو كغيره في عدم العلم به ، ومن الغلو فيه أيضا دعوى أنه يجيب الدعاء ويغفر الذنب ، ويغيث لهفة المضطرين ويكشف السوء ، وهذا هو عين الشرك ، لأن هذه الأفعال من خصائص الله تعالى ، لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ، قال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال تعالى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وقال تعالى أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ واتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن من دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإنه كافر مشرك الشرك الأكبر ، ومن جملة الغلو فيه :- دعوى أنه يعلم ما عليه الأمة على وجه التفصيل ، وأنه يحضر الموالد البدعية ، وأنه يكون مع الناس في الاحتفال بيوم مولده وكل هذا من الباطل والبهتان الكبير على النبي صلى الله عليه وسلم بل الحق أن جسده صلى الله عليه وسلم في قبره ، ولن يخرج منه إلا يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين ، وحضور الروح للموالد من أمور الغيب التي ليس مرد إثباتها العقل ، لأن المتقرر أن أمور الغيب مبناها على التوقيف على الدليل الصحيح الصريح ، والعقل ضعيف لا مدخل له في أمور شيء من أمور الغيب ، ومن الغلو فيه :- وصفه بالأوصاف التي لا تليق إلا بالله تعالى ، كوصف صاحب البردة له بأن من جوده الدنيا وضرتها , ومن علومه علم اللوح والقلم ، وكل هذا مما لا يجوز وصف النبي صلى الله عليه وسلم به ، بل هو من الكفر والشرك ، فالواجب الحذر منه واجتنابه ، ومن الغلو فيه أيضا :- ما يذكرونه أن آدم لما أكل من الشجرة ، توسل إلى الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الكذب ، ولا يصح فيه حديث ، والمرويات في هذا باطلة موضوعة لا خطام لها ولا زمام ، بل الحق أن آدم عليه السلام تاب الله تعالى عليه لما تلقى منه الكلمات المذكورة في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وهذه الكلمات هي المبينة في قوله تعالى قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وفضائل النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غزيرة لا تفتقر في كمالها إلى هذه المرويات الواهية والنقول العفنة المكذوبة ، فالحذر الحذر ، ومن الغلو فيه:- دعوى أنه يجوز التوسل إلى الله تعالى بذاته أو بجاهه ، وهذا من الأمور البدعية التي قرر بدعيتها أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى ، وذلك لأن التوسل إلى الله تعالى من الأبواب التوقيفية على الدليل الصحيح الصريح ، فلا يجوز للعبد أن يتوسل إلى الله تعالى إلا بما ثبت النص بجواز التوسل به ، وأما ما لم يرد فيه النص فلا يجوز لأحد أن يثبته ، فالتوسل إلى الله تعالى بذات النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز لعدم الدليل ، واعلم رحمك الله تعالى أن كل حديث يفيد جواز التوسل إلى الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف جدا لا يصح ، كما قرر ذلك أهل الحديث ، بل الأحاديث الواردة في هذه المسألة كلها باطلة ، وأما حديث الأعرابي - وهو أشف ما استدل به المخالف - فإنه لا يراد به التوسل بالذات ، بل يراد به طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في بعض الروايات ، والمتقرر أن السنة يفسر بعضها بعضا ، واعلم رحمك الله تعالى أن التوسل في عرف الصحابة إنما يراد به طلب الدعاء ، كقول عمر :- كنا نتوسل بنبيك فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ... فالمراد بذلك طلب الدعاء لا غير ، وبالمناسبة أقول :- لفظ التوسل والوسيلة من الألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف المتكلم بها ، فأما لفظها في القرآن فإنه لا يراد بها إلا سلوك الطرق الشرعية بفعل الأوامر وتكميلها بالمندوبات ، وترك المناهي وتكميلها بترك المكروهات ، فاتباع الشرع هو المراد بلفظ الوسيلة في القرآن ، كما قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وكما قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وإن ورد لفظ الوسيلة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه لا يراد به إلا المنزلة التي في الجنة والتي لا تصلح إلا لعبد من عباد الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو )) رواه مسلم ، وإن ورد لفظ التوسل في كلام الصحابة فاعلم أنه لا يراد به إلا طلب الدعاء فقط ، ومن ذلك ما ورد في كلام الأعرابي الأعمى ، فإنه إنما أراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فقط ، ولأن السلف رحمهم الله تعالى لم يفهموا من هذا الحديث ما فهمه أهل البدع ، بل فهموا أنه أراد منه أن يدعو له فقط ، فما فهمه أهل البدع من هذا الحديث من أنه دليل على جواز التوسل بذاته أو بجاهه هو في الحقيقة فهم غريب على فهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم في الأدلة من الكتاب والسن يخالف فهم سلف الأمة فإنه باطل, كما قررناه بأدلته وفروعه في رسالة مستقلة ، فإن قلت :- وهل هناك أنواع من التوسل تجوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فأقول :- نعم ، وهي التوسل إلى الله تعالى بطاعته والإيمان به والتوسل إلى الله تعالى بمحبته ، والتوسل إلى الله تعالى بطلب الدعاء منه في حال حياته ، وأما التوسل إلى الله تعالى بذاته أو بجاهه فإنها لا تجوز ، فإن قلت :- هلا لخصت لنا ما تريد إثباته ؟ فأقول :- نعم خلاصة الكلام كما يلي :- التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم عدة أنواع , الأول :- التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به ، وهو أصل الدين وأساسه ، الثاني :- التوسل إلى الله تعالى بطاعته ، وهو أصل الدين أيضا ، الثالث :- التوسل إلى الله تعالى بمحبته ، وهو أصل الدين أيضا ، وهذه الأمور فقط لابعد مماته ، الخامس :- التوسل إلى الله تعالى بذاته ، وهو توسل بدعي لا يجوز ، السادس:- التوسل إلى الله تعالى بجاهه ، وهو توسل بدعي لا يجوز ، والله أعلى وأعلم ، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن من حقوقه على الأمة محبة آل بيته ، والترضي عن أصحابه ، والله أعلم .
{المسألة الثانية عشرة} واختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الصلاة والسلام على غير الأنبياء على أقوال ، والخلاصة في الجواب أن نقول :- أما سائر الأنبياء والمرسلين فيصلي عليهم ويسلم قال تعالى عن نوح عليه السلام وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وقال تعالى عن إبراهيم خليله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وقال تعالى في موسى وهارون وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وقال تعالى سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ، وأما من سوى الأنبياء فالراجح في هذه المسألة هو ما توصل إليه ابن القيم رحمه الله تعالى في جلاء الأفهام ، وهو قوله ( وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الصلاة على غير النبي إما أن يكون آله وأزواجه وذريته أو غيرهم فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبي وجائزة مفردة ، وأما الثاني :- فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموما الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم جاز ذلك أيضا فيقال اللهم صل على ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين ، وإن كان شخصا معينا أو طائفة معينة ، كُرِهَ أن يتخذ الصلاة عليه شعارا لا يخل به, ولو قيل بتحريمه لكان له وجه ولاسيما إذا جعلها شعارا له ومنع منها نظيره أو من هو خير منه وهذا كما تفعل الرافضة بعلي رضي الله عنه فإنهم حيث ذكروه قالوا عليه الصلاة و السلام ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه فهذا ممنوع لاسيما إذا اتخذ شعارا لا يخل به فتركه حينئذ متعين وأما أن صلى عليه أحيانا بحيث لا يجعل ذلك شعارا كما صلي على دافع الزكاة وكما قال ابن عمر للميت صلى الله عليه وكما صلى النبي على المرأة وزوجها وكما روي عن علي من صلاته على عمر فهذا لا بأس به , وبهذا التفصيل تتفق الأدلة وينكشف وجه الصواب والله الموفق ) وما ذكره ابن القيم هنا ، هو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، والله أعلم .
قال الناظم :-
ثم الصلاة مع سلام دائم على الرسول القرشي الخاتم
ش) الكلام على هذا البيت في مسائل :-
{المسألة الأولى} اعلم أن صلاة الله تعالى على عباده نوعان :- صلاة عامة ، وصلاة خاصة ، فأما الصلاة العامة فهي الصلاة على عباده ، كما قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وكقوله تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وكصلاته صلى الله عليه وسلم على من يأتي بصدقته ، كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي أوفى لما جاء بصدقته (( اللهم صل على آل أبي أوفى )) والنوع الثاني :- الصلاة الخاصة ، وهي صلاته تعالى على أنبيائه ورسله ، وبخاصة آخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في معنى الصلاة والسلام عليه ، فقيل هي الرحمة ، فصلاة الله على عبده أي رحمته له ، وهذا قول ضعيف ، لأن الرحمة والصلاة ليسا شيئا واحدا ، بل هما مختلفان ، كما قال تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ففرق بين الصلاة والرحمة ، فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما هذا أصل العطف ، ولأن صلاة الله تعالى خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ، وأما رحمته فهي عامة لكل شيء , وليست خاصة ، كما قال تعالى رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فرحمته وسعت كل شيء ، وأما صلاته فهي لطائفة مخصوصة من الخلق ، فهما مختلفان ، ولأن العلماء اتفقوا على جواز الترحم على المؤمنين ، وأما الصلاة على غير الأنبياء ففيها خلاف ، فلو كانت الصلاة من الله معناها الرحمة لما اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في ذلك ، ولأن الصلاة لو كانت هي عين الرحمة ، لأسقطت الوجوب عند من أوجب الصلاة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ، فإذا سمعت اسمه وقلت :- اللهم ارحم محمدا وآل محمد ، فهل هذا كاف عن قولك :- اللهم صل على محمد وآل محمد ؟ بالطبع لا ، وهذا يدل على أنها ليس هي الرحمة ، وإنما الرحمة أثر من آثار الصلاة فقط ، ولأنهما لا يقومان مقام بعضهما في التعبير ، فلو رحمت أحدا فأطعمته وكسوته وتصدقت عليه ، فلا يقال :- هذا الغني قد صلى على الفقير ، بمعنى رحمه ، فهذا اللفظ غير مناسب هنا ، بل اللفظ المناسب أن يقال :- هذا الغني قد رحم الفقير ، وهذا يدل على أن الصلاة من الله تعالى ليست هي الرحمة ، ولأن الرحمة عمل باطني لا يحتاج إلى كلام ، فالرحمة تقوم في القلب ، ولا تفتقر إلى كلام في تحقق وجودها ، وأما الصلاة على أحد فإنها لا بد فيها من الكلام ، فلا يكفي قيامها في القلب ، وهذا يدل على أنهما متغايران ، فإن قلت :- وما القول الصحيح في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فأقول :- المعنى الصحيح هو ما قرره أبو العالية رحمه الله تعالى من قوله (صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة ) وهذا أرجح الأقوال في هذه المسألة ، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم رحمهم الله تعالى ، وأما صلاتنا عليه فمعناها دعاء الله تعالى أن يثني عليه في الملأ الأعلى فالصلاة من الله تعالى هي ثناؤه على عبده ثناء متضمنا للرحمة والبركة ، وهذا القول هو الذي يجمع بين ما نقل عن السلف في هذه المسألة ، واختار هذا القول ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ، ورجحه الشيخ محمد بن عثيمين ، فإذا قال قائل : هذا بعيد مِن اشتقاق اللفظ ؛ لأن الصَّلاة في اللُّغة الدُّعاء وليست الثناء , فالجواب على هذا : أن الصلاة أيضاً من الصِّلَة ، ولا شَكَّ أن الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى من أعظم الصِّلات ؛ لأن الثناء قد يكون أحياناً عند الإنسان أهمُّ من كُلِّ حال ، فالذِّكرى الحسنة صِلَة عظيمة , وعلى هذا فالقول الرَّاجح : أنَّ الصَّلاةَ عليه تعني : الثناء عليه في الملأ الأعلى ، والله أعلم .
{المسألة الثانية} واختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال ، والراجح منها إن شاء الله تعالى أن لها حكمين :- أما الصلاة والسلام عليه ابتداء فهي من السنن المؤكدة ، وأما الصلاة والسلام عليه عند ذكر اسمه فإنها من الواجبات والدليل على ذلك عدة أمور , الأول :- قال تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وهذا أمر ، والمتقرر في الأصول أن الأمر يفيد الوجوب فقلنا بالوجوب ، إلا أن العلماء اختلفوا :- هل الأمر يفيد التكرار ؟ على أقوال ، والقول الصحيح في هذه المسألة أنه لا يفيد التكرار ، فالأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الآية لا يفيد التكرار ، أي أن العبد يخرج من عهدة هذا الأمر بفعله مرة واحدة في عمره ، إلا أنه قد وردت أدلة أخرى تفيد وجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، وهي ما سنذكره لك الآن إن شاء الله تعالى ، والمهم أن تعلم أننا لما قلنا بوجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، ليس لمجرد الآية بل بالنظر إلى الآية مجموعة مع تلك الأحاديث ، الثاني :- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)) رواه الترمذي وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقي المنبر فقال (( آمين آمين آمين )) فقيل له : يارسول الله ما كنت تصنع هذا ؟ ! فقال (( قال لي جبريل : أرغم الله أنف عبد أو بَعُدَ دخل رمضان فلم يغفر له فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف عبد أو بعد أدرك والديه أو أحدهما لم يدخله الجنة فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف عبد أو بعُد ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت : آمين )) ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من لم يصل عليه عند ذكر اسمه وهذا دليل على أنه ترك واجبا ، لأنه لو كان المتروك مندوبا لما استحق أن يدعى عليه ، لأن تارك المندوب لا يستحق العقاب ، فلما دعا عليه ، عرفنا أنه قد ترك واجبا ، فقلنا :- إن الصلاة عليه واجبة عند ذكر اسمه ، ويؤكد هذا أن الداعي في الرواية الثانية هو جبريل عليه الصلاة والسلام والمؤمن هو النبي صلى الله عليه وسلم فأفضل رسول ملكي هو الداعي ، وسيد المرسلين البشري هو المؤمن ، وعلى ماذا ؟ على من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل ، فهل نقول بعد هذا بأنه سنة وليس بواجب ؟ لا ، بل الراجح أنها من الواجبات عند سماع اسمه ، الثالث :- عن حسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه الترمذي ، ووجه الدلالة على القول بالوجوب أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف من لم يصل عليه بأنه بخيل ، ولو قلت لك من هو البخيل ؟ لبادرت بقولك :- هو من يمنع ما وجب عليه ، فالبخيل هو مانع الواجب ، فلما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالبخيل عرفنا أنه قد امتنع عن واجب ، فمن ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه فإنه بخيل تارك للواجب ، وهذا دليل صحيح في سنده وصريح في دلالته ، الرابع :- وعن حسين بن علي رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من ذكرت عنده فخطىء الصلاة علي خطىء طريق الجنة )) رواه الطبراني وروي مرسلا عن محمد بن الحنفية ، وفي رواية لابن أبي عاصم عن محمد بن الحنفية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من ذكرت عنده فنسي الصلاة علي خطىء طريق الجنة )) وقال الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الترغيب والترهيب عنه ( صحيح لغيره ) ومثله حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من نسي الصلاة علي خطىء طريق الجنة )) رواه ابن ماجه والطبراني وقال الألباني رحمه الله تعالى ( صحيح لغيره ) ووجه الدلالة منه على القول بالوجوب واضحة ، وهو أن من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه فإنه يخشى عليه أن يخطأ طريق الجنة ، وهذه عقوبة على هذا الترك ، وقد تقرر في الأصول أن مما يعرف به الواجب :- ترتيب العقوبة على عدم الفعل ، كما هو الحال هنا ، الخامس :- ما رواه النسائي عن محمد ابن المثنى عن أبي داود عن المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق السبيعي عن انس بن مالك قال قال رسول الله (( من ذكرت عنده فليصل علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا )) وهذا إسناد صحيح وقد تقرر في الأصول أن الأصل في الأمر الوجوب إلا لصارف ، فالقول الصحيح في هذه المسألة هو أن الصلاة والسلام تكون من الواجبات عند ذكر اسمه ، فليحذر المسلم من التساهل في ذلك ، وحتى تعم الفائدة أذكر لك الأحوال التي تشرع عندها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في المسألة التي بعد هذه المسألة ، والله أعلم .
{المسألة الثالثة} اعلم رحمك الله تعالى أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذكار المطلقة ، والتي تشرع في كل وقت ، فيشرع للعبد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره ، فلها فضل عظيم سنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة التي بعد هذه ، إلا أنه تتأكد المشروعية في عدة أحوال ، نذكرها لك بأدلتها ، فأقول , الأول :- في الصلاة فرضها ونفلها ، وتكون في التشهد الأول والثاني ، والدليل على ذلك حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري قال :- أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول اللَّهِ ، ونحن عنده فقال : يا رسول اللَّهِ أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ؟ قال : فصمت رسول اللَّهِ حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله ثم قال (( إذا صليتم علي فقولوا : اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد )) وهذا إسناد حسن متصل ، وأصل الحديث في الصحيحين ، ولكن اخترت هذا اللفظ لأن فيه موضع الشاهد وهو قوله (( إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا )) والصحيح أنها من واجبات الصلاة ، واختاره الشيخ ابن باز ، والصحيح أنها تقال أيضا في التشهد الأول ، واختاره الشيخ ابن باز ، الثاني :- في آخر دعاء القنوت ، لحديث الحسن بن علي قال علمني رسول الله هؤلاء الكلمات في الوتر قال ((قل اللهم اهدني فيمن هديت وبارك لي فيما اعطيت وتولني فيمن توليت وقني شر ما قضيت انك تقضي ولا يقضى عليك وانه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت وصلى الله على النبي)) وهو حديث جيد ، الثالث :- عند افتتاح الأدعية واختتامها ، لحديث علي رضي الله عنه قال كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني في الأوسط موقوفا ورواته ثقات ورفعه بعضهم والموقوف أصح ، قال الألباني ( صحيح لغيره ) ورواه الترمذي عن أبي قرة الأسدي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب موقوفا قال :- إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم . قال الألباني ( صحيح لغيره ) وفي حديث فضالة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم قال (( عجل هذا )) ثم قال ( ذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم يدعو بما شاء )) الرابع:- الصلاة عليه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ، لا خلاف في مشروعيتها فيها ، ولكن اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكمها في صلاة الجنازة ، والدليل عليها حديث أبي أمامة المذكور أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:- أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة " وهو حديث جيد ، الخامس :- الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكمها هنا ، والصحيح أنها من السنن لا من الواجبات ، فالخطبة بدونها صحيحة ، ولكن السنة قولها فيها ، لحديث عون بن أبي جحيفة قال كان أبي من شرط علي وكان تحت المنبر فحدثني أنه صعد المنبر يعني عليا رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر وقال يجعل الله الخير حيث شاء... إسناده حسن إن شاء الله تعالى ، وعن أبي الأحوص عن عبد الله أنه كان يقول بعدما يفرغ من خطبة الصلاة ويصلي على النبي اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وقلوبنا وذرياتنا... لا بأس به ، السادس:- الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة ، صلى الله عليه بها عشرا )) رواه مسلم ، السابع:- الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد ، والخروج منه ، لما روى ابن خزيمه في صحيحه وأبو حاتم ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال (( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي وليقل اللهم أجرني من الشيطان الرجيم )) وفي المسند والترمذي وسنن ابن ماجه من حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت كان رسول الله إذا دخل المسجد قال (( اللهم صل على محمد وسلم اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك )) وإذا خرج قال مثل ذلك إلا انه يقول (( أبواب فضلك )) ولفظ الترمذي: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم . الثامن :- الصلاة والسلام عليه على الصفا والمروة ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان يكبر على الصفا ثلاثا يقول لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ثم يصلي على النبي ثم يدعو ويطيل القيام والدعاء ثم يفعل على المروة مثل ذلك وهذا من توابع الدعاء أيضا...إسناده صحيح ، التاسع :- الصلاة والسلام عليه في المجلس قبل التفرق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي إلا كان عليهم من الله ترة إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم )) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وغيرهما، وهو صحيح ، وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت زينوا مجالسكم بالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ... موقوف صحيح ، العاشر :- الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، وقد قدمنا الأدلة على ذلك ، الحادي عشر :- يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصفقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يعني بليت فقال (( إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه وهو كما قال ، الثاني عشر :- الصلاة والسلام عليه عند الهم والشدائد والكروب ، لحديث الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال كان رسول الله إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه قال أبي قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال اجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك رواه الترمذي ، وهو حديث حسن .ومن أراد الاستزادة من ذلك فعليه بمراجعة جلاء الأفهام للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ، والله أعلى وأعلم .
{المسألة الرابعة} وقد عدد ابن القيم رحمه الله بعض الفوائد والفضائل المترتبة على الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر منها جملة طيبة ، نسوق لكم بعضها ، لعل الله تعالى أن ينفعنا بها ، وأن يجعلها خير افتتاح لهذا الشرح المبارك إن شاء الله تعالى فمما ذكر رحمه الله تعالى :- امتثال أمر الله سبحانه وتعالى ، ومنها :- موافقته سبحانه في الصلاة عليه وان اختلفت الصلاتان فصلاتنا عليه دعاء وسؤال وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف كما تقدم ، ومنها:- موافقة ملائكته فيها ، ومنها:- حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة ، ومنها:- أنه يرفع عشر درجات ، ومنها :- أنه يكتب له عشر حسنات ، ومنها:- أنه يمحي عنه عشر سيئات ، ومنها :- أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين ، ومنها :- أنها سبب لشفاعته إذا قرنها بسؤال الوسيلة له ، أو أفردها بذلك ، ومنها :- أنها سبب لغفران الذنوب ومنها:- أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمه ، ومنها :- أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة ومنها:- أنها تقوم مقام الصدقة لذي العسرة ، ومنها:- أنها سبب لقضاء الحوائج ، ومنها:- أنها سبب لصلاة الله على المصلي وصلاة ملائكته عليه ، ومنها:- أنها زكاة للمصلي وطهارة له ومنها:- أنها سبب لتبشير العبد بالجنة قبل موته ، ومنها:- أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة ومنها :- أنها سبب لرد النبي الصلاة والسلام على المصلي والمسلم عليه ، ومنها:- أنها سبب لتذكر العبد ما نسيه ، ومنها:- إنها سبب لطيب المجلس وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة ومنها:- أنها سبب لنفي الفقر ، ومنها :- أنها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكره ومنها:- أنها ترمي صاحبها على طريق الجنة وتخطئ بتاركها عن طريقها ، ومنها:- أنها تنجي من نتن المجلس الذي لا يذكر فيه الله ورسوله ويحمد ويثني عليه فيه ويصلي على رسوله ، ومنها:- إنها سبب لتمام الكلام الذي ابتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله ، ومنها:- إنها سبب لوفور نور العبد على الصراط ، ومنها :- أنه يخرج بها العبد عن الجفاء ، ومنها:- إنها سبب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه والجزاء من جنس العمل فلابد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك ومنها:- إنها سبب البركة في ذات المصلي وعمله وعمره وأسباب مصالحه لأن المصلي داع ربه يبارك عليه وعلى آله وهذا الدعاء مستجاب والجزاء من جنسه ، ومنها:- إنها سبب لنيل رحمة الله له لأن الرحمة إما بمعنى الصلاة كما قاله طائفة وأما من لوازمها وموجباتها على القول الصحيح فلا بد للمصلي عليه من رحمة تناله ، ومنها:- إنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به لان العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه والله أعلم وأعلى .
{المسألة الخامسة} واعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند العلماء رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز تخصيص عبادة قولية أو فعلية بمكان لم يأت دليل على التخصيص بها فيه ، وهذا هو عامة ما وقع فيه أهل البدع ، فإن عامة أهل البدع العملية ، إنما يأتون إلى عبادة مشروعة بأصلها ، ثم يقيدونها بزمان لا دليل على تقييدها فيه ، أو يقيدونها بمكان لا دليل على التقييد بها فيه ، أو يقيدونها بصفة لا دليل على التقييد ، والمتقرر في الشرع أنه تقييد العبادة بزمان معين أو مكان معين مبناه على التوقيف ، فلا يجوز لأحد أن يقيد شيئا من التعبدات القولية أو العملية بشيء من ذلك إلا وعليه دليل من الشرع ، لأن هذا التقييد لا يستفاد إلا من الشارع ، فالمتقرر أن ما ورد مطلقا وجب بقاؤه على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، والمتقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل وهذا التقييد إثبات لحكم شرعي ، والمتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وقد تقرر أن مشروعية الشيء بأصله لا تستلزم مشروعيته بوصفه ، إذا علمت هذا فالضابط عندنا يقول :- لا يجوز تخصيص الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بموضع أو زمان يعتقد أنها أفضل فيه بخصوصه إلا بدليل من الشرع . لأن الأصل عدم التخصيص ، فمن قال :- إن من مشروعات هذا الفعل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في ابتدائه أو انتهائه فإنه مطالب بالدليل الدال على هذا التخصيص ، فإن جاء به صحيحا فإننا نقول :- على العين والرأس ، وإلا فنحن نعتذر عن قبول هذا التخصيص ، الذي لا يؤيده الدليل ، ولا حق لأحد أن يخصص الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بمكان أو زمان بحجة أنها من جملة الأذكار المشروعة في الدين ، لأننا سنقول :- نعم ، لكنها مشروعة بالأصل وأنت تضيف على أصل مشروعيتها قيدا من زمان أو مكان ، فنحن لا نطالب بالدليل الدال على أصل مشروعيتها ، وإنما نطالب بالدليل الدال على تقييدها بهذا الزمان أو المكان ، وعليه :- فما ذكر فيه أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه مما لا تشرع فيه الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يعنون به منع الوصف المخصوص ، لا منع الأصل ، والمتقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف ، والله أعلم .
{المسألة السادسة} اعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن ما ليس بسنة ثابتة فإنه يجوز فعله أحيانا ، هكذا قال أبو العباس رحمه الله تعالى ، ويفرع على ذلك الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا في المواضع التي لم يثبت بتخصيصها فيه دليل, فنحن نقول في هذه المواضع أنه لا بأس بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ما لم يكن ذلك على صفة الديمومة والاستمرار ، فلا يكون قولها في بعض الأحيان من الممنوع ، وإنما الممنوع فيها أن يقولها دائما ، وهكذا نقول في صلاة الليل ، الأصل فيها الانفراد ، لكن لو صليت أحيانا جماعة فلا حرج ، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي ، وكصلاة الضحى ، فإن الأصل فيها الانفراد ، إلا أنها إن صليت جماعة أحيانا فلا حرج ، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام ، وكالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأذان أو عند الذبح ، إن قيل مرة أو مرتين ، فلا حرج ، ولكن إن اكتسب ذلك صفة الديمومة والاستمرار ، وهكذا ، فما ليس بسنة ثابتة إن فعل أحيانا فلا بأس إن شاء الله تعالى ، والله ربنا أعلى وأعلم .
{المسألة السابعة} اعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند العلماء رحمهم الله تعالى أن التعبير عن المعاني الشرعية بالألفاظ الواردة الصحيحة أولى من التعبير بغيرها ،وعليه :- فأنه لا ينبغي للعبد الناصح لنفسه قبول ما اخترعه كثير من أهل الإحداث في كيفيات الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما الطرق البدعية الصوفية ، فإن كل طريقة من هذه الطرق قد اخترعت من صفات الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز شرعا ، لما فيها من مخالفة اللفظ الشرعي ، ولما يتضمنه كثير منها من الغلو والإطراء الزائد عن الحد المشروع ، فعلى الناصح لنفسه أن يلتزم بالوارد في الأدلة الصحيحة من كيفية الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما أحدثه المحدثون واخترعه المخترعون ، فالحذر الحذر منه ، فإنه إن سلم من الشرك والغلو ، فلا أقل من أنه مخالف للفظ الشرعي ، وسبب لهجر ما ورد به الشرع ، وأفضل الصفات الواردة ما ورد في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:- قد أمرنا الله بالصلاة عليك فكيف نصلي عليك ؟ قال (( قولوا :- اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، والسلام كما علمتم )) وأما ما يسمى بصلاة الفاتح ، وصلاة الرفاعية ، والأحمدية وغيرها ، فدعك منها فإنها لا تسمن ولا تغني من جوع ، والزم جادة مذهب سلف الأمة وأئمتها ، فإنهم على الصراط المستقيم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، وكما قيل:- الخير كل الخير في اتباع من سلف ، والشر كل الشر في ابتداع من خلف ، وكما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى :-
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
{المسألة الثامنة} قوله ( مع سلام دائم ) وهذا هو الأفضل ، أعني جمع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تعالى به في الكتاب الحكيم في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فأمر بالصلاة والسلام جميعا ، وهذا هو الأكمل باتفاق أهل العلم رحمهم الله تعال ، والله أعلم
{المسألة التاسعة} إن قلت :- كيف تطلب السلامة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد مات ؟ فأقول:- الجواب عن ذلك في عدة أمور , الأول :- أن الألفاظ الشرعية الواردة يجب قولها كما وردت ، من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تغيير ولا تبديل ، ولا شأن لنا إلا بمراعاة اللفظ الشرعي فقط ، وأما كيف كذا وكيف كذا ، فإننا غير مطالبين بالجواب عليه ، الثاني :- أن السلامة تطلب للعبد ولو بعد الموت ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء يوم القيامة يقفون على جنبتي الصراط يقولون (( اللهم سلم ، سلم )) فالعبد سيواجهه من الآفات بعد موته ما يفتقر معه إلى السلامة من الرب جل وعلا ، الثالث :- أن السلامة يدخل فيها سلامة جسده من الاعتداء عليه ، وقد قام بعض من لا خلاق له ببعض المحاولات الفاشلة والتي قتلت في مهدها الرابع :- أن مما يدخل في المقصود أيضا سلامة سنته صلى الله عليه وسلم من عبث العابثين وانتحال المبطلين وكيد الأعداء المفترين ، لأن سنته هي طريقته ، فسلامة طريقة الرجل تعتبر من سلامته ، الخامس :- أنه يدخل في ذلك سلامة الشريعة التي بعث بها ، السادس:- أنه يدخل في ذلك أيضا سلامة أتباعه ، فإن سلامة الأتباع سلامة للمتبوع ، والله أعلم .
{المسألة العاشرة} قوله ( على الرسول القرشي الهاشمي ) الرسول في اللغة : مشتق من الإرسال وهو التوجيه , قال تعالى مخبرًا عن ملكة سبأ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ وهذا البيت فيه فروع , الأول :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في التفريق بين النبي والرسول ، فذكروا فروقا كثيرة ، والمشهور عند كثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه ، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، وهذا الفرق ليس بظاهر ، وأن كان هو المشهور ، لأن عدم الأمر بالبلاغ يشعر بأن لا فائدة من الشرع الذي أوحي به إليه ، وأصلا هذا الفرق ليس عليه دليل , فإن الله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على أولي العلم الذين لم يأتهم وحي أن يبينوه للناس، فكيف بمن أوحى الله إليه وحياً ، فلا معنى لهذا القول ، فإن قلت :- وما الفرق الصحيح ؟ فأقول :- الفرق الصحيح إن شاء الله تعالى هو ما اختاره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن النبي من بعث إلى قوم موافقين والغالب أنه يكون مجددا لشريعة من قبله فلا يبعث بشرع جديد ، وأما الرسول فإنه من بعث إلى قوم مخالفين في العقيدة ، وفي الغالب أنه يكون ذا شريعة جديدة ، ولذلك :- فالصحيح أن آدم نبي لأنه مبعوث إلى قوم موافقين له في العقيدة ، وفي الحديث لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال (( نبي مكلم )) والصحيح أن الأولية بين آدم ونوح يقال فيها :- أن نوحا أول الرسل لقوم مخالفين ، وآدم أول نبي لقوم موافقين ، والصحيح :- أن النبي مرسل أيضا لقول الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... الآية فوصف الله تعالى النبي بأنه مرسل, فهو من جملة الرسل ، ولكنه مرسل إلى قوم موافقين ، والحق الذي عليه سلف الأمة أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الرسالة ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، والصحيح أن من فضل على الولاية على مرتبة النبوة فإنه كافر ، كما هو الحال عند الغلاة من الصوفية أتباع ابن عربي والصحيح أن لفظ النبي والرسول من الألفاظ التي إن اجتمعت في اللفظ افترقت في المعنى ، وإن افترقت في اللفظ اجتمعت في المعنى ، فإن ذكر النبي وحده دخل معه الرسول تبعا ، وإن ذكر الرسول والنبي صار لكل معناها الخاص به ، والصحيح أن نزول عيسى في آخر الزمان لا على أنه نبي ، بل على أنه من جملة المجددين لهذه الأمة دينها ، والله أعلم .
{المسألة الحادية عشرة} واعلم رحمك الله تعالى أن الصلاة والسلام عليه من جملة حقوقه صلى الله عليه وسلم على الأمة ، وهناك حقوق أخرى لا بد من بيانها ، من باب إتمام الفائدة ، وقد قررها أهل العلم بما لا مزيد عليه ، وقد تكلمنا على الحق الأول :- وهو كثرة الصلاة والسلام عليه ، الثاني :- الإيمان به ، وأنه مرسل من عند الله تعالى حقا وصدقا ، قال تعالى إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، الثالث:- الاعتقاد الجازم بأنه خير الأنبياء والرسل ، فهو سيدهم وخاتمهم ، وإمامهم في الصلاة ، الرابع :- الاعتقاد الجازم بأنه آخر الأنبياء والرسل ، وأنه لا نبي بعده ، وأن كل دعوى للنبوة بعده فغي وهوى ، قال تعالى وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( وختم بي النبييون )) وقال عليه الصلاة والسلام (( يكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي )) وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على ذلك ، الخامس :- طاعته فيما أمر ، قال تعالى وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ في آيات كثيرة وقال وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وقال تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا السادس :- الانتهاء عن ما نهى عنه وزجر ، كما في الآية السابقة ، السابع :- تصديقه فيما أخبر وهذا أصل الدين وقاعدة الملة وأساس الشريعة ، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار في الكتاب والسنة فإنه مما يجب الإيمان به ، كالإخبار عن وحدانية الله تعالى في ذاته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وكإخباره بأن الساعة قائمة وأنه يبعث من في القبور ، وبعلامات الساعة الصغرى والكبرى ، وبأخبار الأمم الماضية ، وما أخبر به من مما سيكون من الغيب الذي أطلعه الله عليه ، وهكذا ، الثامن :- أن لا يعبد الله إلا بما شرع ، فكل طريق للتعبد لا يكون إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم ، فما قرره من التعبد فهو العبادة ، وما لا فلا ، فالتعبد لا مدخل فيه للآراء والاجتهادات الباطلة والقياسات المخالفة للنصوص ولا للعادات وأعراف القبائل ولا لسلوم أهل البادية ، ولا للأحلام والمنامات ، ولا للأحاديث الواهية الموضوعة ، أو الضعيفة التي لم تثبت قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )) وقال عليه الصلاة والسلام (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) وقبل ذلك قول الله تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ التاسع :- محبته صلى الله عليه وسلم ، وتقديم محبته على محبة الأهل والمال والولد ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) وقال عليه الصلاة والسلام (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )) متفق عليهما ، وقد ذكر الله تعالى في سورة التوبة محاب الناس الثمانية ، وحذر من تقديمها على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل محبة ، العاشر :- تقديم قوله صلى الله عليه وسلم على كل قول ، فلا يعارض قوله بقول أحد من الخلق كائنا من كان ، لا بقول عالم ولا بقول صحابي ولا برأي ولا بقياس ولا بأس شيء قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقال لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ والنصوص في هذا المعنى كثيرة جدا ، الحادي عشر :- تعظيمه وتوقيره وإنزاله منزلته ، بلا غلو في حقه ولا جفاء ، قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وهذا الباب باب خطير جدا ، لأنه بين هاويتين :- بين هاوية الجفاء والتفريط ، وبين هاوية الغلو والإفراط ، وقد وقع في الغلو به أقوام فتجاوزوا به الحد حتى رفعوه إلى مقام الربوبية ، فمن الغلو فيه دعوى أنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الأنبياء كلهم مخلوقون من نوره ، وهذا كفر وضلال ، بل النبي صلى الله عليه وسلم بشر من جملة البشر ، مخلوق مما خلق منه البشر ، مخلوق بين أبوين ، بين أبيه عبدالله ، وأمه آمنة ، هذا هو الحق المتفق مع نصوص القرآن والسنة ، ومن الغلو فيه دعوى أنه مطلع على أمور الغيب ، وأنه يعلم كل ما في اللوح المحفوظ وهذا من الكفر الصريح ، فإن العلم بالغيب من خصائص الله تعالى ، قال تعالى قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وقال تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ وقال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ولما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة أجابه بقوله (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ...الحديث )) فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله تعالى عليه فقط ، وأما ما عدا هذا فهو كغيره في عدم العلم به ، ومن الغلو فيه أيضا دعوى أنه يجيب الدعاء ويغفر الذنب ، ويغيث لهفة المضطرين ويكشف السوء ، وهذا هو عين الشرك ، لأن هذه الأفعال من خصائص الله تعالى ، لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ، قال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال تعالى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وقال تعالى أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ واتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن من دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإنه كافر مشرك الشرك الأكبر ، ومن جملة الغلو فيه :- دعوى أنه يعلم ما عليه الأمة على وجه التفصيل ، وأنه يحضر الموالد البدعية ، وأنه يكون مع الناس في الاحتفال بيوم مولده وكل هذا من الباطل والبهتان الكبير على النبي صلى الله عليه وسلم بل الحق أن جسده صلى الله عليه وسلم في قبره ، ولن يخرج منه إلا يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين ، وحضور الروح للموالد من أمور الغيب التي ليس مرد إثباتها العقل ، لأن المتقرر أن أمور الغيب مبناها على التوقيف على الدليل الصحيح الصريح ، والعقل ضعيف لا مدخل له في أمور شيء من أمور الغيب ، ومن الغلو فيه :- وصفه بالأوصاف التي لا تليق إلا بالله تعالى ، كوصف صاحب البردة له بأن من جوده الدنيا وضرتها , ومن علومه علم اللوح والقلم ، وكل هذا مما لا يجوز وصف النبي صلى الله عليه وسلم به ، بل هو من الكفر والشرك ، فالواجب الحذر منه واجتنابه ، ومن الغلو فيه أيضا :- ما يذكرونه أن آدم لما أكل من الشجرة ، توسل إلى الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الكذب ، ولا يصح فيه حديث ، والمرويات في هذا باطلة موضوعة لا خطام لها ولا زمام ، بل الحق أن آدم عليه السلام تاب الله تعالى عليه لما تلقى منه الكلمات المذكورة في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وهذه الكلمات هي المبينة في قوله تعالى قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وفضائل النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غزيرة لا تفتقر في كمالها إلى هذه المرويات الواهية والنقول العفنة المكذوبة ، فالحذر الحذر ، ومن الغلو فيه:- دعوى أنه يجوز التوسل إلى الله تعالى بذاته أو بجاهه ، وهذا من الأمور البدعية التي قرر بدعيتها أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى ، وذلك لأن التوسل إلى الله تعالى من الأبواب التوقيفية على الدليل الصحيح الصريح ، فلا يجوز للعبد أن يتوسل إلى الله تعالى إلا بما ثبت النص بجواز التوسل به ، وأما ما لم يرد فيه النص فلا يجوز لأحد أن يثبته ، فالتوسل إلى الله تعالى بذات النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز لعدم الدليل ، واعلم رحمك الله تعالى أن كل حديث يفيد جواز التوسل إلى الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف جدا لا يصح ، كما قرر ذلك أهل الحديث ، بل الأحاديث الواردة في هذه المسألة كلها باطلة ، وأما حديث الأعرابي - وهو أشف ما استدل به المخالف - فإنه لا يراد به التوسل بالذات ، بل يراد به طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في بعض الروايات ، والمتقرر أن السنة يفسر بعضها بعضا ، واعلم رحمك الله تعالى أن التوسل في عرف الصحابة إنما يراد به طلب الدعاء ، كقول عمر :- كنا نتوسل بنبيك فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ... فالمراد بذلك طلب الدعاء لا غير ، وبالمناسبة أقول :- لفظ التوسل والوسيلة من الألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف المتكلم بها ، فأما لفظها في القرآن فإنه لا يراد بها إلا سلوك الطرق الشرعية بفعل الأوامر وتكميلها بالمندوبات ، وترك المناهي وتكميلها بترك المكروهات ، فاتباع الشرع هو المراد بلفظ الوسيلة في القرآن ، كما قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وكما قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وإن ورد لفظ الوسيلة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه لا يراد به إلا المنزلة التي في الجنة والتي لا تصلح إلا لعبد من عباد الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو )) رواه مسلم ، وإن ورد لفظ التوسل في كلام الصحابة فاعلم أنه لا يراد به إلا طلب الدعاء فقط ، ومن ذلك ما ورد في كلام الأعرابي الأعمى ، فإنه إنما أراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فقط ، ولأن السلف رحمهم الله تعالى لم يفهموا من هذا الحديث ما فهمه أهل البدع ، بل فهموا أنه أراد منه أن يدعو له فقط ، فما فهمه أهل البدع من هذا الحديث من أنه دليل على جواز التوسل بذاته أو بجاهه هو في الحقيقة فهم غريب على فهم السلف ، والمتقرر أن كل فهم في الأدلة من الكتاب والسن يخالف فهم سلف الأمة فإنه باطل, كما قررناه بأدلته وفروعه في رسالة مستقلة ، فإن قلت :- وهل هناك أنواع من التوسل تجوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فأقول :- نعم ، وهي التوسل إلى الله تعالى بطاعته والإيمان به والتوسل إلى الله تعالى بمحبته ، والتوسل إلى الله تعالى بطلب الدعاء منه في حال حياته ، وأما التوسل إلى الله تعالى بذاته أو بجاهه فإنها لا تجوز ، فإن قلت :- هلا لخصت لنا ما تريد إثباته ؟ فأقول :- نعم خلاصة الكلام كما يلي :- التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم عدة أنواع , الأول :- التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به ، وهو أصل الدين وأساسه ، الثاني :- التوسل إلى الله تعالى بطاعته ، وهو أصل الدين أيضا ، الثالث :- التوسل إلى الله تعالى بمحبته ، وهو أصل الدين أيضا ، وهذه الأمور فقط لابعد مماته ، الخامس :- التوسل إلى الله تعالى بذاته ، وهو توسل بدعي لا يجوز ، السادس:- التوسل إلى الله تعالى بجاهه ، وهو توسل بدعي لا يجوز ، والله أعلى وأعلم ، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن من حقوقه على الأمة محبة آل بيته ، والترضي عن أصحابه ، والله أعلم .
{المسألة الثانية عشرة} واختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الصلاة والسلام على غير الأنبياء على أقوال ، والخلاصة في الجواب أن نقول :- أما سائر الأنبياء والمرسلين فيصلي عليهم ويسلم قال تعالى عن نوح عليه السلام وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وقال تعالى عن إبراهيم خليله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وقال تعالى في موسى وهارون وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وقال تعالى سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ، وأما من سوى الأنبياء فالراجح في هذه المسألة هو ما توصل إليه ابن القيم رحمه الله تعالى في جلاء الأفهام ، وهو قوله ( وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الصلاة على غير النبي إما أن يكون آله وأزواجه وذريته أو غيرهم فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبي وجائزة مفردة ، وأما الثاني :- فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموما الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم جاز ذلك أيضا فيقال اللهم صل على ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين ، وإن كان شخصا معينا أو طائفة معينة ، كُرِهَ أن يتخذ الصلاة عليه شعارا لا يخل به, ولو قيل بتحريمه لكان له وجه ولاسيما إذا جعلها شعارا له ومنع منها نظيره أو من هو خير منه وهذا كما تفعل الرافضة بعلي رضي الله عنه فإنهم حيث ذكروه قالوا عليه الصلاة و السلام ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه فهذا ممنوع لاسيما إذا اتخذ شعارا لا يخل به فتركه حينئذ متعين وأما أن صلى عليه أحيانا بحيث لا يجعل ذلك شعارا كما صلي على دافع الزكاة وكما قال ابن عمر للميت صلى الله عليه وكما صلى النبي على المرأة وزوجها وكما روي عن علي من صلاته على عمر فهذا لا بأس به , وبهذا التفصيل تتفق الأدلة وينكشف وجه الصواب والله الموفق ) وما ذكره ابن القيم هنا ، هو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، والله أعلم .