محب الدعوة
01-05-2012, 06:45 PM
قال الشيخ أبو زيد الشنقيطي حفظه الله :
(نَحْنُ قَسَمْنَا)..
حمداً لله , وصلاةً وسلاماً على نبيِّـهِ ومُنتَـقَاهُ ومُجْتَبَـاهُ , ومن سارَ عَلَى سيرتهِ واتَّبعَ هُدَاهُ ليوم الدِّين.
وبعد: فإنَّ من عَلاَمات الضَّعف التي لم يجرُؤ أحدٌ , ولن يجرُؤ على نفيها حاجةَ الإنسان لغيرهِ في كُل دقيقٍ وجليلٍ من أمور معاشهِ فالناسُ جميعاً يحتاجُ بعضُهم بعضاً بحسب القانون الإلهيِّ القائلِ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وإن تعجَب من بلاغة هذه الآية اللفظية فعجبٌ أن لا يستوقفَكَ ما فيها من بلاغة وجلال المعنى , الذي يدلُّ إشارةً وصراحةً على أن القوَّة والغِنى المُطلقَ لله جميعاً فما احتاجَ , ولن يحتاجَ , ولا يحتاجُ – تعالى وتقدَّسَ - لأيِّ شيئٍ , ولا يستغني عنهُ أيُّ شَيئٍ.
نَحْنُ قَسَمْنَا عبارةٌ جليلةٌ لا تليقُ في هذا السياق بغير الله تعالى , وعلى كثرة المخبولين في تأريخ البشرية ممَّن ادَّعوا الربوبيةَ , وفرضَ إبليسُ لكل منهم حظاً معلوماً من أوهام تحقُّقها فيهم كإحياء الموتى , وإجراء الأنهار , وقتال الله في سمائه , غيرَ أنَّ عاقلاً ولا مخبولاً ولا براً ولا فاجراً لم يَسبقْ أن زعَم لنفسه مفهومَ جُملة نَحْنُ قَسَمْنَا , ولن يزعُمهُ أحدٌ ما دامت السماوات والأرضُ.
وإذا كانَ الحالُ كذلكَ فلا يليقُ بعاقلٍ أن يخفَى عليهِ معنى نَحْنُ قَسَمْنَا ففيها إيحاءٌ وطمأَنَـةٌ للفقير المعدِم الذي قُدرَ عليه رزقُـهُ يقول: إنَّ الذي قدَر عليكَ رزقَك وبسطهُ لغيركَ حكيمٌ لا ينبغي له أن يفعل ذلك لعباً أو عبثاً أو مُصادَفةً , فلهُ في تفاوت الأرزاقِ الحكمَةُ البالغةُ والقُدرة النَّافذةُ , وما دامَ أمرُ القسمة إليهِ وهو العدلُ فلا ظُلمَ ولا هضمَ , وما دامُ أمرُ القسمة إليه وهو العليمُ فلا سهوَ ولا نسيانَ , وما دام أمرُ القسمة إليه وهو الغنيُّ فلا إملاقَ , وما دام أمرُ القسمة إليه وهُو الوهَّابُ الكريمُ المُنعمُ المنَّانُ فلا شُحَّ ولا تقتير , فتوجَّه إليه بما رغَّبك فيه من قوله وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
وإذا كانَ الحالُ كذلكَ فلا يليقُ بعاقلٍ أن يخفَى عليهِ معنى نَحْنُ قَسَمْنَا ففيها إيحاءٌ وتذكيرٌ وزجرٌ للغنيِّ الواجِدِ بأنَّ كُل ما وَجَدَ ويَجِدُ فهُو محضُ الفَضل الربَّانيِّ , وليس لكَ فيه غير أنْ شاءَكَ اللهُ تعالى ظَرفاً للقَسْم فحسْبُ , ليبلوكَ فيما آتاكَ أتشكُرُ أم تكفُر, وإيحاءٌ للغنيِّ الواجدِ يوقظُ فيه الضميرَ ويُحيي فيه البصيرة ليتأمَّل ويُفكِّرَ ويقدِّرَ حتى يستبينَ على وجه الحقيقةِ أنَّ كُلَّ المَحسُودينَ إنَّما يُحسَدُون على مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ , وأنَّ كل الفرحينَ بالنعمِ والثَّراء والجِدةِ إنَّما يفرَحون بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ, وأنَّ كلَّ الباخلينَ إنَّما يبخلون بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ , وأنَّ كُلَّ المنفقين المُتصدِّقينَ إنَّما يُنفقونَ ممَّا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ , وأنَّ كُل الجاحدينَ الشَّاكِينَ الكافرينَ بالنِّعمَة إنَّما يَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وفي قوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا تمهيدٌ لما ينتُجُ عن هذه القسمة العادلة , فالتفاوت في المعاش والمقدَّرات يلزَمُ منهُ تفاوت درجات النَّاس عند الله الذي خصَّ الغنيَّ بعباداتٍ ليست للفقير كالزَّكاة, وأباح للفقير ما حرَّم على الغنيِّ من الدُّخُول ومصادر الكَسبِ كالزَّكَوات والكفَّارات وغيرها , وهذا التفاوت في التَّشريعِ تفسيرٌ لـ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.
والتَّفاوت في المعاش والمقدَّرات يلزَمُ منهُ تفاوت درجات النَّاس عند بعضِهم , فهم ينظُرون للفقير بعين لا يُنظَر بها لأثَـر مسير الغنيِّ فضلاً عن ذاته , وهذه فطرةٌ لا يتغلَّبُ عليها إلا من جعلَ موازين التفضيل مُتَّفقةً مع الشَّريعة فأنزَل كلَّ إنسانٍ بحسب ما يعتقدُ ويرى فيه من الصلاح والاستقامة بغض النَّظَر عن النِّعَم التي شاءهُ الله ظَرفاص لقسمتِها , ولو كان يسلمُ من هذه النَّظرةِ مُجتمَعٌ في أغلبه لسَلمَ منها مُجتَمع الصحابة رضي الله عنهم يوم قال لهم نبي الهُدى وقد مرَّ بهم أحدُ فقراء المُسلمينَ كما في الصحيح مَا تَقُولُونَ في هَذا.؟ قالوا هَذا حَرِيّ إن خَطَبَ أن يُنكَحَ ، وإن شَفَع أن يُشفَّع فسكت فمرَّ آخَرُ فسألهم فقالوا هذا حَرِيّ إن خطب أنْ لا يُنكح، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ ، وإن قال : أن لا يُسْمَعَ لقَوله فقال رسولُ الله هَذَا خَيرٌ من مِلءِ الأرض مِثلِ هَذا , ولا يُفهَم من هذا التفضيلُ المطلقُ للغنيِّ على الفقير أو العكس فالفيصلُ بينهما التَّقوَى , فالغني التقيُّ جُمع لهُ نورٌ على نور , والفقير الفاجرُ استجمَع حَسرَتيةِ , وخرَّب دارَيه , وذلكَ هو الخُسرانُ المُبين , والسعيدُ من ربطَ حالهُ بالتَّقوى فقراً كانَ أو غِنَى , لكنَّ هذا الحديثَ يدُلُّ على غَلَبة طبع إجلال النَّاس بحسب مواقعهم الاجتماعيَّة في نفوس الناس , وهو تعليمٌ لمنهج الإجلال الإسلامي المُرتبط بالتَّقوى وظاهر أمر الشخص فهذه هي السُّنَّـةُ والتوفيقُ في التعامل والإجلال والتقدير.
إذا اتُّفِقَ على ذلكَ حسنٌ منَّا العَـوْدُ إلى صدر المقالةِ وعلامةِ الضَّعف التي لمْ ولن يجرُؤ عاقلٌ على نفيها , وهي (حاجةُ الإنسان لغيرهِ في كُل دقيقٍ وجليلٍ من أمور معاشهِ) وهذا ما عَناهُ الله بقوله لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ومفادُ هذه الجُملة أنَّ الله تعالى جعل بعض الخلق سبَباً لمَعاش البعضِ الآخَر , ولو لم يجدهُ لما صفا ليهٌ ليلٌ أو نَهَارٌ , وحتى تتضِحَ هذه الصُّورةُ بمفهوم حياتنا البسيطِ فلنتأمَّل من امتهنَ (السِّبَاكةَ) لنَجدَهُ سبباً في معاشِ كلِّ النَّاس حينَ يُتقنُ تدبير أمر الكَنيفِ (الحمَّام) وتنظيفَهُ وفكَّ انسداداتهِ فمهنتُه سببٌ في معاش غيره , وأجرتُه التي يأخُذُها من الطَّبيب والقاضي ولاعب الكرة والحمَّال سببٌ في معاشِه هو لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا , وقس على ذلك كُل صاحب مهنةٍ إلى غيره من النَّاس لترتسم لكَ صورةُ البَشر تكامُليَّـةً طيلة حياتهم بدءً بمهنة القابلةِ التي تأخُذ المولود من بطن أمه , وخَتماً بمهنَة الغاسل وحافر القبر الذي يُسلمه لأول منازل قيامتِه , ومرُرواً على ما بينَهُما , وحتى أهلُ الثَّراء الفاحشِ لو لم يجِدوا البهَاليلَ والحلاَّقينَ والمُزارعينَ والمدَّاحينَ والطُّهاةَ والطَّواهي والماشطَاتِ وسالخي الأنعام والحَرَس .... الخ , لصار ثراؤهم وعدمُه بمنزلةٍ سواء.
ومن حكَم وعِلَلِ نَحْنُ قَسَمْنَا علَّةُ وحِكمَةُ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا فلو اتَّحَدَت وتماثَلتْ مُستوياتُ المعيشة فأي ربِّ مالٍ هذا الذي سيَبْني , ويحفرُ , ويَطلي وينحِتُ , ويسوسُ الخيلَ , ويُعبِّدُ الطُرق , ويلتَزم بالتأذين للصلوات , ويسلخُ للنَّاس ويحفرُ قبورَهم , ولو تساوت مُستويات معيشة النَّاس فأي سيدة قصرٍ هذه التي ستكُون ماشطةً , وقابلةً , وممرضةً , وغاسلةً , ومعلِّمةً , فسُبحان الحكيم العليم.
إنَّ الله تعالى وتقدَّسَ لما نسَبَ لنَفسِهِ هذه القسمَـةَ الإلهيَّةَ الخَارقَةَ التي لا يقدرُ عليها عُمَّارُ السَّماوات والأرَضينَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا , ذيَّل الآيةَ بقَولهِ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ , وهذه الجُملَةُ غايَةٌ في البَلاغَةِ والإيجَازِ والتَّأديبِ والوَعْظِ , فالرَّحمَـةُ هُنا مصروفَة إلى أحدِ معانيها ومقصُورةٌ عليه ويُرادُ بها (الجنَّـةُ) والمعنى على ذلك: (وجنَّتي التي أعددتها للصالحين خيرٌ مما يجمعُ أهلُ الدُّنيا من هذه المعائش التي قسمناها بينَهم), ولو ردَّدنا هذه الخاتمةَ ورجعنا لأوَّل الآية لما وجدنا فيها مفاضلةً بين الغنيِّ والفقير , ولا تقريراً للحالين أيهما أحبُّ إلى الله , وإنَّما العبرةُ بالخاتمة والعاقبة والمصير الأخروي , فالله تعالى ذكر أصناف النَّاس ودرجاتهم ومِهَنَـهُم , وأشار إلى أنَّ السعيد من آلت به مهنتُه أو فقرهُ أو غناهُ إلى رحمة الله (الجنَّة) وهذا تأكيدٌ على أنَّ الغنيَّ والفقيرَ والخادمَ والمخدُومَ والسيدَ والعَبدِ مطلوبٌ من جميعهم أن ينظروا الحالةَ التي هُم عليها وما يحبُّهُ الله من أهلها فيأتوهُ لينتهي بهم مطافُ الدُّنيا إلى رحمة الله (الجنَّة) فالغنيُّ يشكُرُ ويُنفقُ ويرحَمُ من دونَهُ , والفقيرُ يتعفَّفُ ويصبرُ ولا يحسِدُ ولا يبغي , والعامل المُستَخدَمُ يعمل ويُتقنُ ويُخلص , والمخدُوم المستأجِرُ يعطي الأجرة ولا يظلمُ ولا يُماطل , ولو شاعت هذه الثقافةُ في هذه الأقسام الأربعة التي تُشكِّلُ كل أفراد الأمة الإسلامية لامتلأت بهم جنَّـةُ الخُلدِ.
ولا يصلُ إلى هذه المرتبة العَليَّة (الجنَّة) إلا من رحمه الله في دُنياهُ بأن قذَفَ في قلبه الإيمان والهدايةَ لينفقَ ويرحَمَ إن كان غنياً , ويصبِرَ ولا يحسدَ ولا يسخط إن كان فقيراً , ويُعطي الأجرةَ ويعدل ويُقسط إن كان مُستأجِراً مُستَخدِماً , ويوفي بالعقد ويتقن العمل إن كانَ أجيراً , وبهذا يكون اختلافُ المفسرينَ في المراد بـ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ خلافٌ لفظيٌّ لأن دخول الجنَّة لازمُه الإيمانُ والهداية.
ختاماً أسأل الله أن يجعلني وإيَّاك من أهل الفلاحِ الذين ذكرَ لهم النبي ثلاث علاماتٍ في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ , وَرُزِقَ كَفَافًا , وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ , وأنتَ أيها الغني الواجدُ أو متوسط الحالِ بلا شكٍّ أوتيتَ الأولى والثانيةَ (الإسلام والكفاف) وهذان ثلُثا الفلاحِ فاستكملهُ بالقناعةِ فخزائنُ الله ملأى من القناعة , وليس بينك وبين استكمال الفلاح باستنزالها وامتلاء نفسك بها إلا أن تمدَّ لله يديك بصدق وإخلاص.
ويا أيها الفقيرُ المعدمُ لقد آتاك الله ثلث الفلاح (الإسلام) وقدَرَ عليكَ رزقَك ليكتُب لك أجر الكدِّ والضَّرب في الأرض طلباً للحَلال , فطب نفساً بكدحكَ وشقائكَ واعلم أنَّك مأجور على كل ما تُلاقيه , فأكمل ثُلُثي فلاحك بالسؤال الصادق لله تعالى , فمن جاد عليك بالثلث الأول من غير سؤال ولا وعدٍ ولا استحقاقٍ لن يمنعكَ الثلثينِ الآخَرينِ وأنت تسألهُ إياهما , فاسأل الله الثانية والثالثة فإنه سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدُّعاء.
من الأدعية الواردة عن نبينا والمناسبة لهذا المقام:
اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَنْ مَنْ سِوَاكَ .
اللهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ (مُختَلفٌ في وقفه على ابن عباس ورفه إلى النبي , وكذلك في تصحيحه وتضعيفه والأمر في مثل هذا واسعٌ).
اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي، وَوَسِّعْ عَلَيَّ فِي ذَاتِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي .
أن يقول المسلمُ إذا أوى لفراشه ليلاً اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْر .
(نَحْنُ قَسَمْنَا)..
حمداً لله , وصلاةً وسلاماً على نبيِّـهِ ومُنتَـقَاهُ ومُجْتَبَـاهُ , ومن سارَ عَلَى سيرتهِ واتَّبعَ هُدَاهُ ليوم الدِّين.
وبعد: فإنَّ من عَلاَمات الضَّعف التي لم يجرُؤ أحدٌ , ولن يجرُؤ على نفيها حاجةَ الإنسان لغيرهِ في كُل دقيقٍ وجليلٍ من أمور معاشهِ فالناسُ جميعاً يحتاجُ بعضُهم بعضاً بحسب القانون الإلهيِّ القائلِ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وإن تعجَب من بلاغة هذه الآية اللفظية فعجبٌ أن لا يستوقفَكَ ما فيها من بلاغة وجلال المعنى , الذي يدلُّ إشارةً وصراحةً على أن القوَّة والغِنى المُطلقَ لله جميعاً فما احتاجَ , ولن يحتاجَ , ولا يحتاجُ – تعالى وتقدَّسَ - لأيِّ شيئٍ , ولا يستغني عنهُ أيُّ شَيئٍ.
نَحْنُ قَسَمْنَا عبارةٌ جليلةٌ لا تليقُ في هذا السياق بغير الله تعالى , وعلى كثرة المخبولين في تأريخ البشرية ممَّن ادَّعوا الربوبيةَ , وفرضَ إبليسُ لكل منهم حظاً معلوماً من أوهام تحقُّقها فيهم كإحياء الموتى , وإجراء الأنهار , وقتال الله في سمائه , غيرَ أنَّ عاقلاً ولا مخبولاً ولا براً ولا فاجراً لم يَسبقْ أن زعَم لنفسه مفهومَ جُملة نَحْنُ قَسَمْنَا , ولن يزعُمهُ أحدٌ ما دامت السماوات والأرضُ.
وإذا كانَ الحالُ كذلكَ فلا يليقُ بعاقلٍ أن يخفَى عليهِ معنى نَحْنُ قَسَمْنَا ففيها إيحاءٌ وطمأَنَـةٌ للفقير المعدِم الذي قُدرَ عليه رزقُـهُ يقول: إنَّ الذي قدَر عليكَ رزقَك وبسطهُ لغيركَ حكيمٌ لا ينبغي له أن يفعل ذلك لعباً أو عبثاً أو مُصادَفةً , فلهُ في تفاوت الأرزاقِ الحكمَةُ البالغةُ والقُدرة النَّافذةُ , وما دامَ أمرُ القسمة إليهِ وهو العدلُ فلا ظُلمَ ولا هضمَ , وما دامُ أمرُ القسمة إليه وهو العليمُ فلا سهوَ ولا نسيانَ , وما دام أمرُ القسمة إليه وهو الغنيُّ فلا إملاقَ , وما دام أمرُ القسمة إليه وهُو الوهَّابُ الكريمُ المُنعمُ المنَّانُ فلا شُحَّ ولا تقتير , فتوجَّه إليه بما رغَّبك فيه من قوله وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
وإذا كانَ الحالُ كذلكَ فلا يليقُ بعاقلٍ أن يخفَى عليهِ معنى نَحْنُ قَسَمْنَا ففيها إيحاءٌ وتذكيرٌ وزجرٌ للغنيِّ الواجِدِ بأنَّ كُل ما وَجَدَ ويَجِدُ فهُو محضُ الفَضل الربَّانيِّ , وليس لكَ فيه غير أنْ شاءَكَ اللهُ تعالى ظَرفاً للقَسْم فحسْبُ , ليبلوكَ فيما آتاكَ أتشكُرُ أم تكفُر, وإيحاءٌ للغنيِّ الواجدِ يوقظُ فيه الضميرَ ويُحيي فيه البصيرة ليتأمَّل ويُفكِّرَ ويقدِّرَ حتى يستبينَ على وجه الحقيقةِ أنَّ كُلَّ المَحسُودينَ إنَّما يُحسَدُون على مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ , وأنَّ كل الفرحينَ بالنعمِ والثَّراء والجِدةِ إنَّما يفرَحون بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ, وأنَّ كلَّ الباخلينَ إنَّما يبخلون بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ , وأنَّ كُلَّ المنفقين المُتصدِّقينَ إنَّما يُنفقونَ ممَّا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ , وأنَّ كُل الجاحدينَ الشَّاكِينَ الكافرينَ بالنِّعمَة إنَّما يَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وفي قوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا تمهيدٌ لما ينتُجُ عن هذه القسمة العادلة , فالتفاوت في المعاش والمقدَّرات يلزَمُ منهُ تفاوت درجات النَّاس عند الله الذي خصَّ الغنيَّ بعباداتٍ ليست للفقير كالزَّكاة, وأباح للفقير ما حرَّم على الغنيِّ من الدُّخُول ومصادر الكَسبِ كالزَّكَوات والكفَّارات وغيرها , وهذا التفاوت في التَّشريعِ تفسيرٌ لـ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.
والتَّفاوت في المعاش والمقدَّرات يلزَمُ منهُ تفاوت درجات النَّاس عند بعضِهم , فهم ينظُرون للفقير بعين لا يُنظَر بها لأثَـر مسير الغنيِّ فضلاً عن ذاته , وهذه فطرةٌ لا يتغلَّبُ عليها إلا من جعلَ موازين التفضيل مُتَّفقةً مع الشَّريعة فأنزَل كلَّ إنسانٍ بحسب ما يعتقدُ ويرى فيه من الصلاح والاستقامة بغض النَّظَر عن النِّعَم التي شاءهُ الله ظَرفاص لقسمتِها , ولو كان يسلمُ من هذه النَّظرةِ مُجتمَعٌ في أغلبه لسَلمَ منها مُجتَمع الصحابة رضي الله عنهم يوم قال لهم نبي الهُدى وقد مرَّ بهم أحدُ فقراء المُسلمينَ كما في الصحيح مَا تَقُولُونَ في هَذا.؟ قالوا هَذا حَرِيّ إن خَطَبَ أن يُنكَحَ ، وإن شَفَع أن يُشفَّع فسكت فمرَّ آخَرُ فسألهم فقالوا هذا حَرِيّ إن خطب أنْ لا يُنكح، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ ، وإن قال : أن لا يُسْمَعَ لقَوله فقال رسولُ الله هَذَا خَيرٌ من مِلءِ الأرض مِثلِ هَذا , ولا يُفهَم من هذا التفضيلُ المطلقُ للغنيِّ على الفقير أو العكس فالفيصلُ بينهما التَّقوَى , فالغني التقيُّ جُمع لهُ نورٌ على نور , والفقير الفاجرُ استجمَع حَسرَتيةِ , وخرَّب دارَيه , وذلكَ هو الخُسرانُ المُبين , والسعيدُ من ربطَ حالهُ بالتَّقوى فقراً كانَ أو غِنَى , لكنَّ هذا الحديثَ يدُلُّ على غَلَبة طبع إجلال النَّاس بحسب مواقعهم الاجتماعيَّة في نفوس الناس , وهو تعليمٌ لمنهج الإجلال الإسلامي المُرتبط بالتَّقوى وظاهر أمر الشخص فهذه هي السُّنَّـةُ والتوفيقُ في التعامل والإجلال والتقدير.
إذا اتُّفِقَ على ذلكَ حسنٌ منَّا العَـوْدُ إلى صدر المقالةِ وعلامةِ الضَّعف التي لمْ ولن يجرُؤ عاقلٌ على نفيها , وهي (حاجةُ الإنسان لغيرهِ في كُل دقيقٍ وجليلٍ من أمور معاشهِ) وهذا ما عَناهُ الله بقوله لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ومفادُ هذه الجُملة أنَّ الله تعالى جعل بعض الخلق سبَباً لمَعاش البعضِ الآخَر , ولو لم يجدهُ لما صفا ليهٌ ليلٌ أو نَهَارٌ , وحتى تتضِحَ هذه الصُّورةُ بمفهوم حياتنا البسيطِ فلنتأمَّل من امتهنَ (السِّبَاكةَ) لنَجدَهُ سبباً في معاشِ كلِّ النَّاس حينَ يُتقنُ تدبير أمر الكَنيفِ (الحمَّام) وتنظيفَهُ وفكَّ انسداداتهِ فمهنتُه سببٌ في معاش غيره , وأجرتُه التي يأخُذُها من الطَّبيب والقاضي ولاعب الكرة والحمَّال سببٌ في معاشِه هو لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا , وقس على ذلك كُل صاحب مهنةٍ إلى غيره من النَّاس لترتسم لكَ صورةُ البَشر تكامُليَّـةً طيلة حياتهم بدءً بمهنة القابلةِ التي تأخُذ المولود من بطن أمه , وخَتماً بمهنَة الغاسل وحافر القبر الذي يُسلمه لأول منازل قيامتِه , ومرُرواً على ما بينَهُما , وحتى أهلُ الثَّراء الفاحشِ لو لم يجِدوا البهَاليلَ والحلاَّقينَ والمُزارعينَ والمدَّاحينَ والطُّهاةَ والطَّواهي والماشطَاتِ وسالخي الأنعام والحَرَس .... الخ , لصار ثراؤهم وعدمُه بمنزلةٍ سواء.
ومن حكَم وعِلَلِ نَحْنُ قَسَمْنَا علَّةُ وحِكمَةُ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا فلو اتَّحَدَت وتماثَلتْ مُستوياتُ المعيشة فأي ربِّ مالٍ هذا الذي سيَبْني , ويحفرُ , ويَطلي وينحِتُ , ويسوسُ الخيلَ , ويُعبِّدُ الطُرق , ويلتَزم بالتأذين للصلوات , ويسلخُ للنَّاس ويحفرُ قبورَهم , ولو تساوت مُستويات معيشة النَّاس فأي سيدة قصرٍ هذه التي ستكُون ماشطةً , وقابلةً , وممرضةً , وغاسلةً , ومعلِّمةً , فسُبحان الحكيم العليم.
إنَّ الله تعالى وتقدَّسَ لما نسَبَ لنَفسِهِ هذه القسمَـةَ الإلهيَّةَ الخَارقَةَ التي لا يقدرُ عليها عُمَّارُ السَّماوات والأرَضينَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا , ذيَّل الآيةَ بقَولهِ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ , وهذه الجُملَةُ غايَةٌ في البَلاغَةِ والإيجَازِ والتَّأديبِ والوَعْظِ , فالرَّحمَـةُ هُنا مصروفَة إلى أحدِ معانيها ومقصُورةٌ عليه ويُرادُ بها (الجنَّـةُ) والمعنى على ذلك: (وجنَّتي التي أعددتها للصالحين خيرٌ مما يجمعُ أهلُ الدُّنيا من هذه المعائش التي قسمناها بينَهم), ولو ردَّدنا هذه الخاتمةَ ورجعنا لأوَّل الآية لما وجدنا فيها مفاضلةً بين الغنيِّ والفقير , ولا تقريراً للحالين أيهما أحبُّ إلى الله , وإنَّما العبرةُ بالخاتمة والعاقبة والمصير الأخروي , فالله تعالى ذكر أصناف النَّاس ودرجاتهم ومِهَنَـهُم , وأشار إلى أنَّ السعيد من آلت به مهنتُه أو فقرهُ أو غناهُ إلى رحمة الله (الجنَّة) وهذا تأكيدٌ على أنَّ الغنيَّ والفقيرَ والخادمَ والمخدُومَ والسيدَ والعَبدِ مطلوبٌ من جميعهم أن ينظروا الحالةَ التي هُم عليها وما يحبُّهُ الله من أهلها فيأتوهُ لينتهي بهم مطافُ الدُّنيا إلى رحمة الله (الجنَّة) فالغنيُّ يشكُرُ ويُنفقُ ويرحَمُ من دونَهُ , والفقيرُ يتعفَّفُ ويصبرُ ولا يحسِدُ ولا يبغي , والعامل المُستَخدَمُ يعمل ويُتقنُ ويُخلص , والمخدُوم المستأجِرُ يعطي الأجرة ولا يظلمُ ولا يُماطل , ولو شاعت هذه الثقافةُ في هذه الأقسام الأربعة التي تُشكِّلُ كل أفراد الأمة الإسلامية لامتلأت بهم جنَّـةُ الخُلدِ.
ولا يصلُ إلى هذه المرتبة العَليَّة (الجنَّة) إلا من رحمه الله في دُنياهُ بأن قذَفَ في قلبه الإيمان والهدايةَ لينفقَ ويرحَمَ إن كان غنياً , ويصبِرَ ولا يحسدَ ولا يسخط إن كان فقيراً , ويُعطي الأجرةَ ويعدل ويُقسط إن كان مُستأجِراً مُستَخدِماً , ويوفي بالعقد ويتقن العمل إن كانَ أجيراً , وبهذا يكون اختلافُ المفسرينَ في المراد بـ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ خلافٌ لفظيٌّ لأن دخول الجنَّة لازمُه الإيمانُ والهداية.
ختاماً أسأل الله أن يجعلني وإيَّاك من أهل الفلاحِ الذين ذكرَ لهم النبي ثلاث علاماتٍ في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ , وَرُزِقَ كَفَافًا , وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ , وأنتَ أيها الغني الواجدُ أو متوسط الحالِ بلا شكٍّ أوتيتَ الأولى والثانيةَ (الإسلام والكفاف) وهذان ثلُثا الفلاحِ فاستكملهُ بالقناعةِ فخزائنُ الله ملأى من القناعة , وليس بينك وبين استكمال الفلاح باستنزالها وامتلاء نفسك بها إلا أن تمدَّ لله يديك بصدق وإخلاص.
ويا أيها الفقيرُ المعدمُ لقد آتاك الله ثلث الفلاح (الإسلام) وقدَرَ عليكَ رزقَك ليكتُب لك أجر الكدِّ والضَّرب في الأرض طلباً للحَلال , فطب نفساً بكدحكَ وشقائكَ واعلم أنَّك مأجور على كل ما تُلاقيه , فأكمل ثُلُثي فلاحك بالسؤال الصادق لله تعالى , فمن جاد عليك بالثلث الأول من غير سؤال ولا وعدٍ ولا استحقاقٍ لن يمنعكَ الثلثينِ الآخَرينِ وأنت تسألهُ إياهما , فاسأل الله الثانية والثالثة فإنه سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدُّعاء.
من الأدعية الواردة عن نبينا والمناسبة لهذا المقام:
اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَنْ مَنْ سِوَاكَ .
اللهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ (مُختَلفٌ في وقفه على ابن عباس ورفه إلى النبي , وكذلك في تصحيحه وتضعيفه والأمر في مثل هذا واسعٌ).
اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي، وَوَسِّعْ عَلَيَّ فِي ذَاتِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي .
أن يقول المسلمُ إذا أوى لفراشه ليلاً اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْر .