محب الدعوة
05-26-2012, 08:15 AM
خشية الله تعالى
خالد بن سعود البليهد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن خشية الله تعالى من أجل أعمال القلوب التي تقوم عليها العبادة وتكف المؤمن عن ركوب المعاصي واستباحة المحرمات والاستهانة بشرع الله وشعائره. وقد أثنى الله على عباده تخلقهم بالخشية فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ). وقال تعالى: (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). ووالله ما استعان العبد على دينه بمثل الخشية من الله.
وخشية الله تعني انزجار قلب المؤمن ووجله وخوفه وهربه من سخط الله وغضبه وعقوبته ووعيده في الآخرة. قال سعيد بن جبير: (الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل). والعبد إذا خاف مخلوقا هرب منه وإذا خاف الخالق هرب إليه قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). قال ابن عباس: (فروا منه إليه واعملوا بطاعته).
ومنشأ الخشية لله تكون من جلال الله واتصافه بالقوة والانتقام والغضب ممن عصاه قال تعالى: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين). وتكون من عذابه وعقوبته ووعيده في الآخرة كما قال تعالى: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
وكل مؤمن بالله مستقر في قلبه خشية الله في الأصل ولا يمكن خلو قلبه من ذلك ولكن أهل الإيمان يتفاوتون في درجات الخوف وهم على أقسام ثلاثة:
1-كامل الخوف وهو من حمله الخوف على فعل الفرائض والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات واجتنب الشبهات.
2-مقتصد الخوف وهو من حمله على المحافظة على فعل الفرائض وترك المحرمات ولم يجتنب الشبهات والمكروهات.
3-ناقص الخوف وهو من قصر في فعل الفرائض وارتكب المحرمات وأسرف في الموبقات.
وأهل الخشية والإنابة لله هم من عمر وقته بالطاعات وبالغ في اجتناب المحرمات وخشي من الوقوع في الآثام فبالغ في ترك الشبهات والمكروهات وفضول المباحات خشية الانجرار إلى المحظورات واتباع الخطوات.
والخشية المحمودة شرعا هي الشعور بالتقصير والاعتراف بالذنب والندم الموجب للكف عن ركوب المحرمات وتغيير الحال إلى الأحسن والمبادرة بالتوبة وعمل الصالحات لتكفير السيئات كما جاء في حديث الترمذي: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن سلعة الله غالية إلا أن سلعة الله هي الجنة). أما الخشية التي تقعد العبد عن العمل وتوصله للإحباط وسوء الظن بالله فمذمومة شرعا وليست من العبادة وخور وضعف في البصيرة ويجب على المؤمن إذا ابتلي بذلك أن يتخلص منه ويسعى في توظيف الخشية في غرض صحيح.
وينبغي على العبد أن لا يقتصر في عبادته لربه على مقام الخوف لأن ذلك يوجب له اليأس والقنوط وسوء الظن بالرب وهذا هو مسلك الخوارج وقد ذم السلف ذلك بل عليه أن يقرن الخوف بالرجاء ويوازن بينهما ويغلب أحدهما على الآخر إذا اقتضى الحال فإذا كان في حال الصحة وزينت له المعصية غلب الخوف وإذا كان في حال الضعف والخوف غلب الرجاء كما هو مقرر في النصوص وكلام السلف.
والمؤمنون يخافون الله في الدنيا ويخشون عذابه كما قال تعالى: (قَالُوَاْ إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ). أما الكفار والمنافقون فيأمنون عذاب الله في الدنيا ويفرحون ويمرحون بملذات الدنيا ولا يحسبون ليوم الحساب حسابا ولا يقيمون له وزنا. وقال الحسن البصري: (إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة وإن المنافق جمع إساءة وأمنا).
ومن مقتضى الخشية لله أن لا يخاف أحدا من شياطين الإنس والجن قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). وكذلك تبليغ شرع الله وعدم محاباة أحد في دين الله قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا).
وقد ورد ثواب عظيم للبكاء والحزن الناشئ عن الخوف من الله لأنه عبادة وطاعة فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشيه الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم). رواه الترمذي. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار). وقال أبو رجاء: (رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس خشية لله وأعظمهم خوفا منه كما قال: (إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية). رواه البخاري. وكان قلبه معلقا بالآخرة حذرا من الذنوب والتعلق بالدنيا ولذلك روى البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته قال : (ذكرت شيئاً من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته).
وقد ورد عن السلف أفعال وأقوال تدل على امتلاء قلوبهم بالخشية وكمال الخوف من الله. قالت عائشة رضي الله عنها: (فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا). وكان عبد الله بن شداد إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم فيقول: (اللهم إن النار قد أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يصبح). وقال الرشيد: (ما رأت عيني مثل فضيل بن عياض دخلت عليه فقال لي: فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويبعداك عن النار). وقال ابن مهدي: (كنت أرمق سفيان الثوري في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوبا ينادي: النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات). وقال المروذي: (سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول: الخوف منعني أكل الطعام والشراب فما اشتهيته وما أبالي أن يراني أحد ولا أراه وإني لأشتهي أن أرى عبد الوهاب قل لعبد الوهاب أخمل ذكرك فإني قد بليت بالشهرة).
وأعظم الناس خشية هم أهل العلم بالله وأمره ونهيه كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). فكلما ازداد العلم ازدادت خشيته لله وكلما نقص علمه نقصت خشيته وكل من كان بالله أعرف كان منه أخوف والعلم المورث للخشية والإنابة هو علم الكتاب والسنة وآثار السلف التي تدل عليهما ليس علم المنطق والفلسفة والرأي وعلوم الدنيا فإن هذه العلوم تورث الغفلة والزهد في الآخرة كما قال تعالى عن الكفار: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
وخشية الله توقد قلب المؤمن وتجعله حذرا من الوقوع في الغفلة والوقوع في الشبهات وتجعل نفسه لوامة على التقصير وتحمله على شدة محاسبة النفس والبعد والهروب من المهلكات والموبقات. قال إبراهيم بن سفيان: (إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها).
وإذا خلا القلب من الخشية والخوف أظلم وسكنت فيه شياطين الإنس والجن وصار خاويا من الخير لا يسمع الحق و لا ينزجر بالزواجر ولا ينتفع بموعظة ويستبيح أقبح الجرائم كشربة الماء قال أبو سليمان الداراني: (ما فارق الخوف قلبا إلا خرب).
ومن أعظم أحوال الخشية خشية الرب في الغيب عند استتار المؤمن من أعين الخلق وخلوته بربه كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). فخشيته بالسر أجل وأعظم من الخشية بالشهادة لأنها خالية من الرياء لا يشوبها شرك وتصنع للخلق ولا يوفق لها إلا كامل الإيمان.
ولخشية الله أسباب توجبها:
1-ذكر الله قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
2-التفكر في شدة غضب الجبار وقوة انتقامه قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
3-التفكر في الملكين الذين وكلهما الله بكتابة السيئات والحسنات. قال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
4- التفكر في الموت وسكراته وشدة أحواله قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). وجلس يوما النبي صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى وقال: (يا أخواني لمثل هذا فأعدوا ). رواه أحمد.
5-التفكر في أهوال الموقف وشدة الحساب يوم القيامة. قال تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد).
6-التدبر في ندم أهل الإيمان يوم القيامة في تفريطهم في الغفلة وارتكاب الذنوب في الدنيا ومصاحبة البطالين.
7-التفكر في خطر الجوارح يوم القيامة حيث تشهد على صاحبها في ارتكاب المعاصي وتفضحه على رؤوس الأشهاد.
8-التفكر في خطر سوء الخاتمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). رواه البخاري.
وثمة موانع لسكون الخشية في القلب:
1-حب الدنيا فإن تعلق القلب بالدنيا وافتتانه بجمعها يطرد الخوف منه.
2-طول الأمل فإن العبد إذا أحب الخلود في الدنيا لم يخش هول الآخرة وأمن الحساب.
3-الغفلة وكثرة الذنوب فإن القلب إذا حجب بالظلمات رحل عنه الخوف.
4-الجهل بشدة عذاب الله وقوة بطشه وانتقامه بمن عصاه فإن جهل العبد بذلك يورثه الاستخفاف بربه ويذهب عنه الخوف.
5-صحبة الفجار الذين يأمنونه من مكر الله ويجرؤنه على ارتكاب الفواحش فتزول عنه الخشية لله.
6-تضييع الفرائض والإعراض عن ذكر الله حتى يقسو القلب وإذا قسى القلب زالت عنه الخشية.
ومن خاف الله في الدنيا أمنه الله يوم القيامة ومن أمن عذابه في الدنيا أخافه الله يوم القيامة فلا يجمع الله على عبده أمنين وخوفين. فهنيئا لمن خافه حق الخوف وخشي من عقوبته وغضبه في الدنيا ليفوز بأمنه يوم القيامة والموفق من فتح عليه باب الخشية والإنابة وأغلق عليه باب الأمن والغفلة وطول الأمل.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
6/5/1433
خالد بن سعود البليهد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن خشية الله تعالى من أجل أعمال القلوب التي تقوم عليها العبادة وتكف المؤمن عن ركوب المعاصي واستباحة المحرمات والاستهانة بشرع الله وشعائره. وقد أثنى الله على عباده تخلقهم بالخشية فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ). وقال تعالى: (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). ووالله ما استعان العبد على دينه بمثل الخشية من الله.
وخشية الله تعني انزجار قلب المؤمن ووجله وخوفه وهربه من سخط الله وغضبه وعقوبته ووعيده في الآخرة. قال سعيد بن جبير: (الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل). والعبد إذا خاف مخلوقا هرب منه وإذا خاف الخالق هرب إليه قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). قال ابن عباس: (فروا منه إليه واعملوا بطاعته).
ومنشأ الخشية لله تكون من جلال الله واتصافه بالقوة والانتقام والغضب ممن عصاه قال تعالى: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين). وتكون من عذابه وعقوبته ووعيده في الآخرة كما قال تعالى: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
وكل مؤمن بالله مستقر في قلبه خشية الله في الأصل ولا يمكن خلو قلبه من ذلك ولكن أهل الإيمان يتفاوتون في درجات الخوف وهم على أقسام ثلاثة:
1-كامل الخوف وهو من حمله الخوف على فعل الفرائض والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات واجتنب الشبهات.
2-مقتصد الخوف وهو من حمله على المحافظة على فعل الفرائض وترك المحرمات ولم يجتنب الشبهات والمكروهات.
3-ناقص الخوف وهو من قصر في فعل الفرائض وارتكب المحرمات وأسرف في الموبقات.
وأهل الخشية والإنابة لله هم من عمر وقته بالطاعات وبالغ في اجتناب المحرمات وخشي من الوقوع في الآثام فبالغ في ترك الشبهات والمكروهات وفضول المباحات خشية الانجرار إلى المحظورات واتباع الخطوات.
والخشية المحمودة شرعا هي الشعور بالتقصير والاعتراف بالذنب والندم الموجب للكف عن ركوب المحرمات وتغيير الحال إلى الأحسن والمبادرة بالتوبة وعمل الصالحات لتكفير السيئات كما جاء في حديث الترمذي: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن سلعة الله غالية إلا أن سلعة الله هي الجنة). أما الخشية التي تقعد العبد عن العمل وتوصله للإحباط وسوء الظن بالله فمذمومة شرعا وليست من العبادة وخور وضعف في البصيرة ويجب على المؤمن إذا ابتلي بذلك أن يتخلص منه ويسعى في توظيف الخشية في غرض صحيح.
وينبغي على العبد أن لا يقتصر في عبادته لربه على مقام الخوف لأن ذلك يوجب له اليأس والقنوط وسوء الظن بالرب وهذا هو مسلك الخوارج وقد ذم السلف ذلك بل عليه أن يقرن الخوف بالرجاء ويوازن بينهما ويغلب أحدهما على الآخر إذا اقتضى الحال فإذا كان في حال الصحة وزينت له المعصية غلب الخوف وإذا كان في حال الضعف والخوف غلب الرجاء كما هو مقرر في النصوص وكلام السلف.
والمؤمنون يخافون الله في الدنيا ويخشون عذابه كما قال تعالى: (قَالُوَاْ إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ). أما الكفار والمنافقون فيأمنون عذاب الله في الدنيا ويفرحون ويمرحون بملذات الدنيا ولا يحسبون ليوم الحساب حسابا ولا يقيمون له وزنا. وقال الحسن البصري: (إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة وإن المنافق جمع إساءة وأمنا).
ومن مقتضى الخشية لله أن لا يخاف أحدا من شياطين الإنس والجن قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). وكذلك تبليغ شرع الله وعدم محاباة أحد في دين الله قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا).
وقد ورد ثواب عظيم للبكاء والحزن الناشئ عن الخوف من الله لأنه عبادة وطاعة فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشيه الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم). رواه الترمذي. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار). وقال أبو رجاء: (رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس خشية لله وأعظمهم خوفا منه كما قال: (إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية). رواه البخاري. وكان قلبه معلقا بالآخرة حذرا من الذنوب والتعلق بالدنيا ولذلك روى البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته قال : (ذكرت شيئاً من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته).
وقد ورد عن السلف أفعال وأقوال تدل على امتلاء قلوبهم بالخشية وكمال الخوف من الله. قالت عائشة رضي الله عنها: (فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا). وكان عبد الله بن شداد إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم فيقول: (اللهم إن النار قد أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يصبح). وقال الرشيد: (ما رأت عيني مثل فضيل بن عياض دخلت عليه فقال لي: فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويبعداك عن النار). وقال ابن مهدي: (كنت أرمق سفيان الثوري في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوبا ينادي: النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات). وقال المروذي: (سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول: الخوف منعني أكل الطعام والشراب فما اشتهيته وما أبالي أن يراني أحد ولا أراه وإني لأشتهي أن أرى عبد الوهاب قل لعبد الوهاب أخمل ذكرك فإني قد بليت بالشهرة).
وأعظم الناس خشية هم أهل العلم بالله وأمره ونهيه كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). فكلما ازداد العلم ازدادت خشيته لله وكلما نقص علمه نقصت خشيته وكل من كان بالله أعرف كان منه أخوف والعلم المورث للخشية والإنابة هو علم الكتاب والسنة وآثار السلف التي تدل عليهما ليس علم المنطق والفلسفة والرأي وعلوم الدنيا فإن هذه العلوم تورث الغفلة والزهد في الآخرة كما قال تعالى عن الكفار: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
وخشية الله توقد قلب المؤمن وتجعله حذرا من الوقوع في الغفلة والوقوع في الشبهات وتجعل نفسه لوامة على التقصير وتحمله على شدة محاسبة النفس والبعد والهروب من المهلكات والموبقات. قال إبراهيم بن سفيان: (إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها).
وإذا خلا القلب من الخشية والخوف أظلم وسكنت فيه شياطين الإنس والجن وصار خاويا من الخير لا يسمع الحق و لا ينزجر بالزواجر ولا ينتفع بموعظة ويستبيح أقبح الجرائم كشربة الماء قال أبو سليمان الداراني: (ما فارق الخوف قلبا إلا خرب).
ومن أعظم أحوال الخشية خشية الرب في الغيب عند استتار المؤمن من أعين الخلق وخلوته بربه كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). فخشيته بالسر أجل وأعظم من الخشية بالشهادة لأنها خالية من الرياء لا يشوبها شرك وتصنع للخلق ولا يوفق لها إلا كامل الإيمان.
ولخشية الله أسباب توجبها:
1-ذكر الله قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
2-التفكر في شدة غضب الجبار وقوة انتقامه قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
3-التفكر في الملكين الذين وكلهما الله بكتابة السيئات والحسنات. قال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
4- التفكر في الموت وسكراته وشدة أحواله قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). وجلس يوما النبي صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى وقال: (يا أخواني لمثل هذا فأعدوا ). رواه أحمد.
5-التفكر في أهوال الموقف وشدة الحساب يوم القيامة. قال تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد).
6-التدبر في ندم أهل الإيمان يوم القيامة في تفريطهم في الغفلة وارتكاب الذنوب في الدنيا ومصاحبة البطالين.
7-التفكر في خطر الجوارح يوم القيامة حيث تشهد على صاحبها في ارتكاب المعاصي وتفضحه على رؤوس الأشهاد.
8-التفكر في خطر سوء الخاتمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). رواه البخاري.
وثمة موانع لسكون الخشية في القلب:
1-حب الدنيا فإن تعلق القلب بالدنيا وافتتانه بجمعها يطرد الخوف منه.
2-طول الأمل فإن العبد إذا أحب الخلود في الدنيا لم يخش هول الآخرة وأمن الحساب.
3-الغفلة وكثرة الذنوب فإن القلب إذا حجب بالظلمات رحل عنه الخوف.
4-الجهل بشدة عذاب الله وقوة بطشه وانتقامه بمن عصاه فإن جهل العبد بذلك يورثه الاستخفاف بربه ويذهب عنه الخوف.
5-صحبة الفجار الذين يأمنونه من مكر الله ويجرؤنه على ارتكاب الفواحش فتزول عنه الخشية لله.
6-تضييع الفرائض والإعراض عن ذكر الله حتى يقسو القلب وإذا قسى القلب زالت عنه الخشية.
ومن خاف الله في الدنيا أمنه الله يوم القيامة ومن أمن عذابه في الدنيا أخافه الله يوم القيامة فلا يجمع الله على عبده أمنين وخوفين. فهنيئا لمن خافه حق الخوف وخشي من عقوبته وغضبه في الدنيا ليفوز بأمنه يوم القيامة والموفق من فتح عليه باب الخشية والإنابة وأغلق عليه باب الأمن والغفلة وطول الأمل.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
6/5/1433