محب الدعوة
06-24-2010, 08:17 PM
الشيخ الغديان..وجهلة علم الأصول
سعد مقبل العنزي
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول ابن بدران الحنبلي رحمه الله: «واعلم أنه لا يمكن للطالب أن يصير متفقهاً ما لم تكن له دراية بالأصول ولو قرأ الفقه سنين وأعواماً، ومن ادعى غير ذلك كان كلامه إما جهلاً وإما مكابرة».
في وفاة الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله, تفقد الأمة الإسلامية علم من أعلام العلم الشرعي الراسخين فيه, وديوان من داويين علم الأصول, ممن جمعوا بين التدريس والفتيا والتحقيق, ومناقشة عشرات الباحثين.
بأفول هذا النجم اللامع في دنيا العلوم الشرعية, نحتاج أن نذكر بسر عناية الشيخ رحمه الله بعلم الأصول تنظيرا وتطبيقا. لأن المحزن أن ترى عزوف بعض طلاب العلم عن العناية بأصول الفقه, والتقليل من شأنه, بل الجهل أحيانا من قبل أناس دعاة بهذا العلم.
إن من الجوانب المهمة في علم الأصول القائم على أصول الاعتقاد عند السلف, أنه علم يربط العلوم الشرعية ببعضها, ويحدث بينها قدرا كبيرا من التجانس والوئام, مما ينعكس على الأصولي نفسه في نظرته للشريعة وعلومها, فيطرد منهجه, ولا يتناقض, وهذا ملاحظ في كلام علمائنا المعاصرين ممن لهم اهتمام كبير بعلم أصول الفقه, وعلى رأسهم العالم الجليل الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله.
تجد هذا في منهجهم العلمي والفكري على حد سواء, رحلوا رحمهم الله تعالى وما غيروا وما بدلوا, لتمسكهم بمنهج السلف الصالح أصولا وفروعا, ومن المقرر عند أهل السنة أن العصمة للمنهج وليس للأشخاص, وإنما ينال الشخص من بركة هذه العصمة بقدر قربه من هذا المنهج وارتباطه به.
يصور ذلك ابن تيمية رحمه الله بقوله:"وأما الفقهاء و أهل الحديث و الصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم فإنهم يثبتون السبب والحكمة, لكن كثير من هؤلاء يتناقض فيتكلم في الفقه بلون, وفي أصول الفقه بلون, و في أصول الدين بألوان, ففي الفقه يثبت الأسباب والحكم, وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات خلاف ما يقوله في الفقه, وفي أصول الدين ينفي الحكمة و التعليل بالكلية لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك, و القليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة و يبين رجوعها إلى الفاعل الحكيم مع حصول موجبها في مخلوقاته".
ومم يتناقله العلماء من العبارات الجميلة قولهم:" إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان".
ويقرر الشاطبي حقيقة هذا الاتساق الذي يثمره علم الأصول بين علوم الشريعة, وذلك في نظر الراسخين في العلم, الذين لاحظوا الشريعة بعلومها كالصورة الواحدة التي لا تكتمل بجزء منها بل بجميع أجزائها, أو كالجسد الواحد الذي لا يسد عضو منه مسد آخر.
وذلك:" بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها وعامها المرتب على خاصها ومطلقها المحمول على مقيدها ومجملها المفسر ببينها إلى ما سوى ذلك من مناحيها...
كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي دليل كان, وإن ظهر لبادى الرأى نطق ذلك الدليل. فإنما هو توهمى لا حقيقى... فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كاعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة.
وشأن متبعى المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفوا وأخذا أوليا وإن كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئى..."[1].
وما ضل من ضل قديما وحديثا في تلقي النصوص الشرعية, وتفسيرها, إلا لجهله بأصول الفقه, فيذهب في رأيه بناء على عمومات لم يلتفت إلى ما يخصصها, أومطلقات لم ينظر في مقيدها, أو مجملات تحتاج إلى ما يبينها, تجدهم لا يتتبعون سياقات النصوص في مقالها ومقامها, وما يحيط بها من قرائن وملابسات, فينشأ الخلل في الاستدلال بناء على القراءة الانتقائية للنص الشرعي.
فما أحوجنا لعلم الأصول في هذا العصر الذي ركب فيه خصوم الشريعة الصعب والذلول في جرأتهم على النصوص الشرعية, وتفسيرها, زاعمين إعادة قراءتها بروح عصرية, وهم في مسلكهم هذا يتنكبون سبيل العلماء الراسخين, ويترسمون نهج الزاغين الذين قال الله فيهم:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ).
وأختم بموقف رائع وقع للعلامة الشيخ عطية سالم مع شيخه الأصولي الكبيرالعلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله:
فقد جاء في شرح بلوغ المرام للشيخ عطية سالم(151 / 8) قوله:"سألت والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في هذا المسجد، في رمضان، بعدما انتهى من الدرس، وقد ذهب الناس، تقدمت إليه وقلت له: يا شيخ! أنا لي سؤال من زمان يتردد على لساني ولم أستطع أن أقوله.
قال: وما هو؟ وكان -رحمة الله تعالى علينا وعليه- يعطيني شيئاً من السعة قليلاً، قلت له: منذ أن جئتَ إلى هذه البلاد وأنت مقتصر على تدريس التفسير وأصول الفقه، ما غيرت، مع أنك بحر في علوم العربية: نحو، صرف، بلاغة، أدب، وكل ما يتعلق بها، والفقه ما أظن مسألة في مذهب مالك في تخوم وبطون الكتب إلا وهي في دماغك، والحديث ما أعتقد أنه يعجزك معرفة رواة الحديث ومعاني متون الحديث، والتوحيد نسمع منك فيه الشيء الكثير وهكذا.
فقال لي: ما الذي حملك على هذا السؤال؟! قلت: الذي حملني عليه أن هذا السؤال ورد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقرأت عنه أنه قيل له: يا أبا حنيفة ! أنت في زمن تدوين الحديث، وما رأيناك تشتغل بالرواية! وأنت في زمن اشتهر فيه علم الكلام، وما رأيناك تتكلم في علم الكلام -يعني: التوحيد والعقائد، ومعلوم أنه في ذاك الوقت كانت العلوم متوافرة من فقه وحديث وتوحيد وتفسير- ورأيناك تشتغل بالفقه فقط! قال: نعم، أما رواية الحديث فإن هناك رجالاً يتتبعون الرواة، وهم علماء الرجال، فيتتبعون أحوال كل راوٍ من مولده إلى موته، فإن وجدوا عليه هفوة تركوه، وصارت سبة فيه إلى الأبد، وأنا لست في حاجة إلى هذا.
أما علم الكلام فلو أن شخصاً سمع منك هفوة بدون قصد في التوحيد رماك بالزندقة، وأنا في غنىً عن هذا.
وأما التفسير فالقرآن ميسر، وعلماء التفسير كثيرون.
أما الفقه فإني نظرت فإذا العامة والخاصة والغني والفقير والرجال والنساء في أمس الحاجة إليه؛ فاشتغلت به.
فقال رحمه الله: والله! معه الحق في هذا.
قلت: وأنت؟ قال: أقول لك: أما علم العربية الذي ذكرت فهو وسيلة وليس بغاية.
وفعلاً علوم العربية بأجمعها ليست غاية، فلا ينبغي لإنسان أن يضيع عمره كله في أن المبتدأ مرفوع، والخبر مرفوع، والجملة الفعلية والجملة الاسمية، ولكن تكون دراسة علم اللغة لمعاني كلمات القرآن، وللبلاغة، فهي وسيلة وليست بغاية.
قال: وأما علم الكلام فليس علماً يثار على الحاضرين على اختلاف طبقات عقولهم وأفهامهم؛ لأن فيه من الشبهات وفيه من المزالق ما تزل فيه أقدام الفحول، فكيف يثار على عوام الناس! فليس عملياً.
وأما علم الحديث فهو تتبع الرواة وعدالتهم وقبولهم وتصحيحهم، وتتبع المتن في فقهه ومعارضته، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه .
إلخ.
وأما الفقه فيحتاج إلى اجتهاد كثير، ولا يمكن أن تبحث مسألة؟ بجميع أطرافها هنا في المدينة، وكنا في بلادنا نقتصر على فقه مالك ، وهنا في المدينة يأتيها أناس من كل المذاهب، ولا يتأتى لإنسان أن يتعرض لمسألة فقهية خلافية إلا إذا استوعب أقوال الأئمة الأربعة فيها؛ من أجل أن الحاضرين من أهل المذاهب الأربعة، وإذا جمعت أقوال مسألة وغبت عنها مدة، ثم رجعت إليها احتجت إلى تجديد البحث فيها مرة أخرى، فهو متعب.
أما التفسير -وهذا محل الشاهد عندي- فما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها! ابن تيمية يقول: كنت أقرأ مائة تفسير، والشيخ الأمين يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي في حافظتي وفي ذاكرتي جميع ما قيل فيها من علماء التفسير جميعاً! قلت: إذا كان الأمر كذلك فلك الحق في اقتصارك على تدريس التفسير.
والأصول ما هو السبب في تدريسه؟ قال: نعم، أما الأصول فهو ضروري لطالب العلم؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء، وقال: ثم اعلم أن التفسير يأتي فيه اللغة متناً وإعراباً وصرفاً وبلاغةً، ويأتي فيه التوحيد، فآيات التوحيد في كتاب الله كثيرة، ويأتي فيه الأحكام الفقهية، فالفقه أكثره يؤخذ من كتاب الله، ويأتي...ويأتي . وعدد كل العلوم التي تصب في كتاب الله".
وصدق الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله "جهلة الأصول عوام العلماء". وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
------------------------
[1] الاعتصام (1 / 245)
سعد مقبل العنزي
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول ابن بدران الحنبلي رحمه الله: «واعلم أنه لا يمكن للطالب أن يصير متفقهاً ما لم تكن له دراية بالأصول ولو قرأ الفقه سنين وأعواماً، ومن ادعى غير ذلك كان كلامه إما جهلاً وإما مكابرة».
في وفاة الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله, تفقد الأمة الإسلامية علم من أعلام العلم الشرعي الراسخين فيه, وديوان من داويين علم الأصول, ممن جمعوا بين التدريس والفتيا والتحقيق, ومناقشة عشرات الباحثين.
بأفول هذا النجم اللامع في دنيا العلوم الشرعية, نحتاج أن نذكر بسر عناية الشيخ رحمه الله بعلم الأصول تنظيرا وتطبيقا. لأن المحزن أن ترى عزوف بعض طلاب العلم عن العناية بأصول الفقه, والتقليل من شأنه, بل الجهل أحيانا من قبل أناس دعاة بهذا العلم.
إن من الجوانب المهمة في علم الأصول القائم على أصول الاعتقاد عند السلف, أنه علم يربط العلوم الشرعية ببعضها, ويحدث بينها قدرا كبيرا من التجانس والوئام, مما ينعكس على الأصولي نفسه في نظرته للشريعة وعلومها, فيطرد منهجه, ولا يتناقض, وهذا ملاحظ في كلام علمائنا المعاصرين ممن لهم اهتمام كبير بعلم أصول الفقه, وعلى رأسهم العالم الجليل الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله.
تجد هذا في منهجهم العلمي والفكري على حد سواء, رحلوا رحمهم الله تعالى وما غيروا وما بدلوا, لتمسكهم بمنهج السلف الصالح أصولا وفروعا, ومن المقرر عند أهل السنة أن العصمة للمنهج وليس للأشخاص, وإنما ينال الشخص من بركة هذه العصمة بقدر قربه من هذا المنهج وارتباطه به.
يصور ذلك ابن تيمية رحمه الله بقوله:"وأما الفقهاء و أهل الحديث و الصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم فإنهم يثبتون السبب والحكمة, لكن كثير من هؤلاء يتناقض فيتكلم في الفقه بلون, وفي أصول الفقه بلون, و في أصول الدين بألوان, ففي الفقه يثبت الأسباب والحكم, وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات خلاف ما يقوله في الفقه, وفي أصول الدين ينفي الحكمة و التعليل بالكلية لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك, و القليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة و يبين رجوعها إلى الفاعل الحكيم مع حصول موجبها في مخلوقاته".
ومم يتناقله العلماء من العبارات الجميلة قولهم:" إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان".
ويقرر الشاطبي حقيقة هذا الاتساق الذي يثمره علم الأصول بين علوم الشريعة, وذلك في نظر الراسخين في العلم, الذين لاحظوا الشريعة بعلومها كالصورة الواحدة التي لا تكتمل بجزء منها بل بجميع أجزائها, أو كالجسد الواحد الذي لا يسد عضو منه مسد آخر.
وذلك:" بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها وعامها المرتب على خاصها ومطلقها المحمول على مقيدها ومجملها المفسر ببينها إلى ما سوى ذلك من مناحيها...
كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي دليل كان, وإن ظهر لبادى الرأى نطق ذلك الدليل. فإنما هو توهمى لا حقيقى... فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كاعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة.
وشأن متبعى المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفوا وأخذا أوليا وإن كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئى..."[1].
وما ضل من ضل قديما وحديثا في تلقي النصوص الشرعية, وتفسيرها, إلا لجهله بأصول الفقه, فيذهب في رأيه بناء على عمومات لم يلتفت إلى ما يخصصها, أومطلقات لم ينظر في مقيدها, أو مجملات تحتاج إلى ما يبينها, تجدهم لا يتتبعون سياقات النصوص في مقالها ومقامها, وما يحيط بها من قرائن وملابسات, فينشأ الخلل في الاستدلال بناء على القراءة الانتقائية للنص الشرعي.
فما أحوجنا لعلم الأصول في هذا العصر الذي ركب فيه خصوم الشريعة الصعب والذلول في جرأتهم على النصوص الشرعية, وتفسيرها, زاعمين إعادة قراءتها بروح عصرية, وهم في مسلكهم هذا يتنكبون سبيل العلماء الراسخين, ويترسمون نهج الزاغين الذين قال الله فيهم:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ).
وأختم بموقف رائع وقع للعلامة الشيخ عطية سالم مع شيخه الأصولي الكبيرالعلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله:
فقد جاء في شرح بلوغ المرام للشيخ عطية سالم(151 / 8) قوله:"سألت والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في هذا المسجد، في رمضان، بعدما انتهى من الدرس، وقد ذهب الناس، تقدمت إليه وقلت له: يا شيخ! أنا لي سؤال من زمان يتردد على لساني ولم أستطع أن أقوله.
قال: وما هو؟ وكان -رحمة الله تعالى علينا وعليه- يعطيني شيئاً من السعة قليلاً، قلت له: منذ أن جئتَ إلى هذه البلاد وأنت مقتصر على تدريس التفسير وأصول الفقه، ما غيرت، مع أنك بحر في علوم العربية: نحو، صرف، بلاغة، أدب، وكل ما يتعلق بها، والفقه ما أظن مسألة في مذهب مالك في تخوم وبطون الكتب إلا وهي في دماغك، والحديث ما أعتقد أنه يعجزك معرفة رواة الحديث ومعاني متون الحديث، والتوحيد نسمع منك فيه الشيء الكثير وهكذا.
فقال لي: ما الذي حملك على هذا السؤال؟! قلت: الذي حملني عليه أن هذا السؤال ورد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقرأت عنه أنه قيل له: يا أبا حنيفة ! أنت في زمن تدوين الحديث، وما رأيناك تشتغل بالرواية! وأنت في زمن اشتهر فيه علم الكلام، وما رأيناك تتكلم في علم الكلام -يعني: التوحيد والعقائد، ومعلوم أنه في ذاك الوقت كانت العلوم متوافرة من فقه وحديث وتوحيد وتفسير- ورأيناك تشتغل بالفقه فقط! قال: نعم، أما رواية الحديث فإن هناك رجالاً يتتبعون الرواة، وهم علماء الرجال، فيتتبعون أحوال كل راوٍ من مولده إلى موته، فإن وجدوا عليه هفوة تركوه، وصارت سبة فيه إلى الأبد، وأنا لست في حاجة إلى هذا.
أما علم الكلام فلو أن شخصاً سمع منك هفوة بدون قصد في التوحيد رماك بالزندقة، وأنا في غنىً عن هذا.
وأما التفسير فالقرآن ميسر، وعلماء التفسير كثيرون.
أما الفقه فإني نظرت فإذا العامة والخاصة والغني والفقير والرجال والنساء في أمس الحاجة إليه؛ فاشتغلت به.
فقال رحمه الله: والله! معه الحق في هذا.
قلت: وأنت؟ قال: أقول لك: أما علم العربية الذي ذكرت فهو وسيلة وليس بغاية.
وفعلاً علوم العربية بأجمعها ليست غاية، فلا ينبغي لإنسان أن يضيع عمره كله في أن المبتدأ مرفوع، والخبر مرفوع، والجملة الفعلية والجملة الاسمية، ولكن تكون دراسة علم اللغة لمعاني كلمات القرآن، وللبلاغة، فهي وسيلة وليست بغاية.
قال: وأما علم الكلام فليس علماً يثار على الحاضرين على اختلاف طبقات عقولهم وأفهامهم؛ لأن فيه من الشبهات وفيه من المزالق ما تزل فيه أقدام الفحول، فكيف يثار على عوام الناس! فليس عملياً.
وأما علم الحديث فهو تتبع الرواة وعدالتهم وقبولهم وتصحيحهم، وتتبع المتن في فقهه ومعارضته، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه .
إلخ.
وأما الفقه فيحتاج إلى اجتهاد كثير، ولا يمكن أن تبحث مسألة؟ بجميع أطرافها هنا في المدينة، وكنا في بلادنا نقتصر على فقه مالك ، وهنا في المدينة يأتيها أناس من كل المذاهب، ولا يتأتى لإنسان أن يتعرض لمسألة فقهية خلافية إلا إذا استوعب أقوال الأئمة الأربعة فيها؛ من أجل أن الحاضرين من أهل المذاهب الأربعة، وإذا جمعت أقوال مسألة وغبت عنها مدة، ثم رجعت إليها احتجت إلى تجديد البحث فيها مرة أخرى، فهو متعب.
أما التفسير -وهذا محل الشاهد عندي- فما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها! ابن تيمية يقول: كنت أقرأ مائة تفسير، والشيخ الأمين يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي في حافظتي وفي ذاكرتي جميع ما قيل فيها من علماء التفسير جميعاً! قلت: إذا كان الأمر كذلك فلك الحق في اقتصارك على تدريس التفسير.
والأصول ما هو السبب في تدريسه؟ قال: نعم، أما الأصول فهو ضروري لطالب العلم؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء، وقال: ثم اعلم أن التفسير يأتي فيه اللغة متناً وإعراباً وصرفاً وبلاغةً، ويأتي فيه التوحيد، فآيات التوحيد في كتاب الله كثيرة، ويأتي فيه الأحكام الفقهية، فالفقه أكثره يؤخذ من كتاب الله، ويأتي...ويأتي . وعدد كل العلوم التي تصب في كتاب الله".
وصدق الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله "جهلة الأصول عوام العلماء". وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
------------------------
[1] الاعتصام (1 / 245)