محب الدعوة
02-06-2014, 11:33 AM
اهدنا الصراط المستقيم
طلال الدوسري | 2/1/1426 هـ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المتأمل لآي القرآن الكريم والقارئ له قراءة تدبر: يوقفه إعجاز القرآن البلاغي، ويوقفه دقة الألفاظ فيه، وكل هذا من أعظم الأدلة أنه تنزيل من حكيم حميد.
وفي فاتحة الكتاب ربما استوقف المتأمل فيها الدعاء العظيم "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" (الفاتحة:6)، وربما دار في خاطره ماذا عساه يكون السبب في اختياره من بين سائر الأدعية ليكون هو الدعاء الذي يدعو به المصلي في صلاته في كل يوم سبع عشرة مرة - على الأقل - وفي ست مرات منها يجهر الإمام بهذا الدعاء ويؤمن المأمومون خلفه عليه! وفي ما يأتي محاولة قاصرة للإشارة إلى شيء من أسرار هذا الدعاء العظيم.
إن "الفاتحة" بجميعها دائرة على هذا الدعاء، حيث إن ما سبقه من الآيات إنما هي توسل إلى الله _سبحانه_: بحمده "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، وتوسل إليه بالثناء عليه "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، ثم توسل إليه سبحانه بتمجيده "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، ثم توسل إلى الله _سبحانه_ بإخلاص العبادة له "إِيَّاكَ نَعْبُدُ"، ثم توسل إليه _سبحانه_ بإفراده بطلب الإعانة على إخلاص العبادة له "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، وتأمل ما تدل عليه الآية من التبرؤ من الحول والقوة فيما قام به العبد من صنوف العبادة، بل ما حصل؛ فهو محض توفيق من الله _سبحانه_ ثم بعد تلك الأنواع من التوسلات العظيمة يأتي المقصود "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"؛ فكما أن الله – سبحانه - يفرد بالعبادة وبطلب العون عليها فكذلك يفرد – سبحانه - بطلب الهداية "وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ" (الإسراء: من الآية97). ثم ما بعد هذا الدعاء العظيم الكبير هو وصف وتجلية لذلك "الصراط" الذي يطلب العبد الهداية إليه، وهذا ينبئك بما في قلب الداعي من كمال التشوف للهداية له!
ما أعظمه من دعاء حين خص بهذه الميزة، وحين خص بقول الرب _سبحانه_:
"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"(1)، وحين يكلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأ صحابه ـ رضي الله عنه ـ أن يدعو به مراراً كل يوم مع أنهم من أخص الداخلين في قوله _سبحانه_: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ" (النساء: من الآية69)، فكيف بمن دونهم؟
وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة - والله أعلم-؛ لأن العبد في كل أحواله وأوقاته بأمس الحاجة إلى هذا الدعاء، وذلك لأنه في كل لحظاته بين أمر يأمر به أو نهي ينهى عنه فهو بحاجة إلى الهداية لفعل المأمور، والهداية لاجتناب المنهي، ولهذا تأويل الآية بالهداية لأصل الإيمان، أو الثبات عليه فقط قصر للآية عن معناها الواسع، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: "وأما سؤال من يقول: فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى، وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى؛ فكلام من لم يعرف حقيقة حال الأسباب، وما أمر به، فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم ما أمر به في ذلك الوقت وما نهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور، وهذا العلم المفصل، والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل في كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت"(2)، وكلامه الأخير يبين حاجة العبد إلى دوام اللهج بهذا الدعاء.
وربما لا يوجد دعاء بمثل شمول هذا الدعاء العظيم فإنه قد جمع مصالح الدارين فإنه علاوة على ما فيه من طلب الهداية في الآخرة "يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" (الطلاق: 2، 3)،و كان ممن ينصر الله ورسوله، ومن نصر الله نصره، وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون"(3).
و بعد "فلو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيراه وقرنه بأنفاسه، فإنه لم يدع شيئاً من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه"(4) وليس للعبد شيء أنفع "ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يثبت قلوبنا على دينه"(5).
وبعد فهذا نزر يسير من أسرار هذا الدعاء وإشارات عابرة في عظمته، وما أحوج العبد في خضم الواقع المعقد الذي جمع أنواعاً من الخلافات الفكرية والثقافية، والنوازل العصرية، وقبلها النزاعات العقدية ؛ أن يكثر اللهج بالدعاء العظيم الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح به صلاة الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(6)، والحمدلله رب العالمين(7).
___________
(1) رواه الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( 395)
(2) جامع الرسائل: [1/99].
(3) المصدر السابق: [1/100]، وفيه مزيد إفادة يحسن مراجعتها.
(4) انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم: [2/419]
(5) المرجع السابق: [2/450].
(6) رواه الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (770)
(7) لابن القيم كلام نفيس حول هذا الدعاء، في البدائع: [2/406-450]، فيحسن الرجوع إليه.
طلال الدوسري | 2/1/1426 هـ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المتأمل لآي القرآن الكريم والقارئ له قراءة تدبر: يوقفه إعجاز القرآن البلاغي، ويوقفه دقة الألفاظ فيه، وكل هذا من أعظم الأدلة أنه تنزيل من حكيم حميد.
وفي فاتحة الكتاب ربما استوقف المتأمل فيها الدعاء العظيم "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" (الفاتحة:6)، وربما دار في خاطره ماذا عساه يكون السبب في اختياره من بين سائر الأدعية ليكون هو الدعاء الذي يدعو به المصلي في صلاته في كل يوم سبع عشرة مرة - على الأقل - وفي ست مرات منها يجهر الإمام بهذا الدعاء ويؤمن المأمومون خلفه عليه! وفي ما يأتي محاولة قاصرة للإشارة إلى شيء من أسرار هذا الدعاء العظيم.
إن "الفاتحة" بجميعها دائرة على هذا الدعاء، حيث إن ما سبقه من الآيات إنما هي توسل إلى الله _سبحانه_: بحمده "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، وتوسل إليه بالثناء عليه "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، ثم توسل إليه سبحانه بتمجيده "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، ثم توسل إلى الله _سبحانه_ بإخلاص العبادة له "إِيَّاكَ نَعْبُدُ"، ثم توسل إليه _سبحانه_ بإفراده بطلب الإعانة على إخلاص العبادة له "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، وتأمل ما تدل عليه الآية من التبرؤ من الحول والقوة فيما قام به العبد من صنوف العبادة، بل ما حصل؛ فهو محض توفيق من الله _سبحانه_ ثم بعد تلك الأنواع من التوسلات العظيمة يأتي المقصود "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"؛ فكما أن الله – سبحانه - يفرد بالعبادة وبطلب العون عليها فكذلك يفرد – سبحانه - بطلب الهداية "وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ" (الإسراء: من الآية97). ثم ما بعد هذا الدعاء العظيم الكبير هو وصف وتجلية لذلك "الصراط" الذي يطلب العبد الهداية إليه، وهذا ينبئك بما في قلب الداعي من كمال التشوف للهداية له!
ما أعظمه من دعاء حين خص بهذه الميزة، وحين خص بقول الرب _سبحانه_:
"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"(1)، وحين يكلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأ صحابه ـ رضي الله عنه ـ أن يدعو به مراراً كل يوم مع أنهم من أخص الداخلين في قوله _سبحانه_: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ" (النساء: من الآية69)، فكيف بمن دونهم؟
وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة - والله أعلم-؛ لأن العبد في كل أحواله وأوقاته بأمس الحاجة إلى هذا الدعاء، وذلك لأنه في كل لحظاته بين أمر يأمر به أو نهي ينهى عنه فهو بحاجة إلى الهداية لفعل المأمور، والهداية لاجتناب المنهي، ولهذا تأويل الآية بالهداية لأصل الإيمان، أو الثبات عليه فقط قصر للآية عن معناها الواسع، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: "وأما سؤال من يقول: فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى، وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى؛ فكلام من لم يعرف حقيقة حال الأسباب، وما أمر به، فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم ما أمر به في ذلك الوقت وما نهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور، وهذا العلم المفصل، والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل في كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت"(2)، وكلامه الأخير يبين حاجة العبد إلى دوام اللهج بهذا الدعاء.
وربما لا يوجد دعاء بمثل شمول هذا الدعاء العظيم فإنه قد جمع مصالح الدارين فإنه علاوة على ما فيه من طلب الهداية في الآخرة "يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" (الطلاق: 2، 3)،و كان ممن ينصر الله ورسوله، ومن نصر الله نصره، وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون"(3).
و بعد "فلو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيراه وقرنه بأنفاسه، فإنه لم يدع شيئاً من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه"(4) وليس للعبد شيء أنفع "ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يثبت قلوبنا على دينه"(5).
وبعد فهذا نزر يسير من أسرار هذا الدعاء وإشارات عابرة في عظمته، وما أحوج العبد في خضم الواقع المعقد الذي جمع أنواعاً من الخلافات الفكرية والثقافية، والنوازل العصرية، وقبلها النزاعات العقدية ؛ أن يكثر اللهج بالدعاء العظيم الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح به صلاة الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(6)، والحمدلله رب العالمين(7).
___________
(1) رواه الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( 395)
(2) جامع الرسائل: [1/99].
(3) المصدر السابق: [1/100]، وفيه مزيد إفادة يحسن مراجعتها.
(4) انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم: [2/419]
(5) المرجع السابق: [2/450].
(6) رواه الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (770)
(7) لابن القيم كلام نفيس حول هذا الدعاء، في البدائع: [2/406-450]، فيحسن الرجوع إليه.