محب الدعوة
09-03-2014, 10:58 AM
الموقع: هو المكان كما هو معلوم، ومعناه يختلف باختلاف السياق والاصطلاح؛ فالموقع الإعرابي _على سبيل المثال_ عند النحاة هو موقع الجملة، أو الكلمة؛ إذ قد تكون الجملة لا محل لها من الإعراب، وقد يكون لها محل، والكلمة _كذلك_ قد تكون عمدة، وقد تكون فضلة، والفضلة _كذلك_ قد يصلح الاستغناء عنها، وقد لا يصلح؛ إذا كان الكلام لا يستقيم إلا بوجودها، كما في قوله _تعالى_: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ] فكلمة لاعبين حال، والحال فضلة، وهي في هذا السياق لا يصح الاستغناء عنها.
والحديث ههنا ليس عن مسائل النحو، وإنما هو عن بَرمجةِ الإنسانِ نَفْسَهُ، ومعرفتهِ موقِعَه؛ فإن ذلك يكفيه كثيراً من الشرور، وينقذه من المواقف المحرجة، ويرفعه في سماء المجد درجات.
ولمزيد من إلقاء الضوء على هذا الأمر يقال: إن من أعظم ما يحسن بالإنسان معرفته أن يعرف موقعه في كل زمان ومكان؛ إذ قد يحسن به إذا جلس في مجلس أن يكون هو الصدر، وإذا جلس في مجلس ثانٍ أن ينزوي، وإذا جلس في مجلس ثالث أن يكون بين بين.
وكذلك الحال بالنسبة للمواقف؛ فتارة يجمل به أن يكون رأساً، وتارة يكون بخلاف ذلك.
ثم إن معرفته بنفسه قد تجعله يُقْدِمُ أو يُقْصِر، وقد يلائمه ما لا يلائم غيره، والعكس.
ويدخل في هذا القبيل معرفة الإنسان إمكاناتِه؛ بحيث لا يتقحم إلى أمور لا طاقة له بها، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن أمور يطيقها.
والحاصل أن معرفةَ الإنسانِ موقعَهُ تريحه من أعباء كثيرة، وتجلب له خيرات وفيرة؛ فيتكلم حيث يَحْسُن به الكلام، ويصمت حيث يحسن به الصمت، ويقدم حيث يحسن به الإقدام، ويحجم حيث يحسن به الإحجام، وهكذا.
أما إذا فَرَّط الإنسان بهذا الشأن فلا تسل عما يعقب ذلك من الخلل، والتخطي إلى المقامات التي لا يحسن تخطيها؛ فتسود بذلك روح الفوضى، والتخبط.
وكم تلاحظ من أناسٍ يتكلمون في مناسبات أو مجالس دون أن يراعوا حدود اللياقة واللباقة، وكم من الناس من يظن أنه جدير بصدارة كل مجلس.
وكم من أناس يسوق أحاديث وهي لا تليق بذلك المكان، أو الجلاس.
وكم من أناس يريدون الهَزْل فلا يحسنونه، ويرومون التوقر فيَثْقُلون، ويُثْقِلون.
وبالجملة فإن الأمثلة على ذلك كثيرة، والمقام لا يحتمل الإطالة.
ودعني أيها القارئ الحصيف أضرب لك بعض المواقف على شيء مما مضى ذكره؛ يُحَدِّثني أحد الأصدقاء أن قريباً له كان يعمل عند ذي وجاهة ومنزلة، وفي يوم من الأيام قام ذلك الوجيهُ ذو القدرِ والمكانةِ بمدِّ يده على ذلك الرجل الذي يعمل عنده إما على سبيل الغضب، أو على سبيل المزاح، أو نحو ذلك، فَقَبِلها ذلك الرجل، ولم يبدِ أيَّ تبرم، أو شكوى.
ولكنه فوجئ في الوقت نفسه أن أحد زملائه ممن يصحبون ذلك الوجيه يقوم بضربه؛ ليكمل ما بدأه ذلك الوجيه؛ فما كان من ذلك الرجل إلا أن أخذ بزميله الذي ضربه، ورَفَعه عن مستوى الأرض، ثم ألقى به؛ فاستغرب ذلك الزميل، وقال: ما هذا؟
فقال له صاحبه: ما الذي حملك على ضربي؟ أغَرَّك أنْ ضَرَبَني فلان؟ هو يستحق أن أحتمل زلته، أو غضبته، أو دالته؛ لما له من المكانة، والمنزلة، والحقِّ عَلَيّ.
أما أنت فَمِثْلِي؛ فلا يحق لك أن تتعدى حداً من حدودك؛ فلما رأى الوجيه هذا المشهد، وسمع التسويغ _ انفجر ضاحكاً، وأيَّد ذلك التصرف.
ولو أن صاحبنا الذي جارى الوجيه كان عالماً موقعَه، وما يليق به_ لما وَقَعَ في ذلك الخطأ.
وأذكر أن أحد المجالس يتصدره عالمٌ كبيرٌ، والناس من حوله من أكابر أهل العلم سكوتٌ، وكأن على رؤوسهم الطير؛ فلا يكاد أحدٌ منهم ينبس ببنت شفة.
وكان في المجلس إنسان عاديٌّ، وعنده شيء من العلم؛ فما كان منه إلا أن أخذ يجادل ذلك العالم، ويسوق مسائل باردة أثقلت على الحاضرين، وأورثتهم الضيق، والإحراج.
وفي يوم من الأيام كان هناك مجلس أنسٍ، ومطارحةٍ، ومسامرةٍ، وتجاذبٍ لأطراف الأحاديث.
وكان من ضمن الحاضرين رجلٌ معروف بحسن الكلام، والتفنُّن في إيراد القصص، والأخبار، والأشعار.
وكان الحاضرون على درجةٍ عاليةٍ من المتعة والأنس بتلك الأحاديث العالية التي يسوقها ذلك الرجل، بل كانوا يستمطرونه الحديث كلما هَمَّ بالسكوت.
وكان من بين القوم مَنْ ينازع الحديث، ويثقل على الحاضرين بأحاديثه الباهتة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فكان كما قال الحكيم العربي:
أتى زيدٌ وأسرف في هَذاءٍ
يُحَدِّثنا فلا يروي غريباً
كمثل رَحىً تجعجع طولَ ليلٍ
تضيق به صدورُ السامرينا
ولا يبدي لنا رأياً رصينا
ولا تُلْقِي على ثُفْلٍ طحينا
ولو أنه أدرك مكانَهُ، وعرف موقعَه _ لما أوقع نفسه بذلك الحرج.
وأعرف أناساً يثق أحدهم بنفسه ثقة عمياء، فإذا دهمت الناس داهية دهياء، فقيل: من يقوم بشأنها؟ بادر إلى التصدي لها، وهو ليس في عيرها ولا نفيرها؛ فإذا توغل في لُجَجِها طاش لُبُّه، وحارَ في أمره، وصار يبحث عن الخلاص.
والمقصود أن البصير بنفسه يعلم أنه ليس كلُّ ميدانٍ ميدانَه ولا كل مناسبة مناسبته، ولا كلُّ جوٍّ جوَّه؛ إذ قد يكون مقبولاً عند قوم، ثقيلاً عند آخرين، وقد يكون عَذْباً في مناسبة، وعذاباً في أخرى؛ فلا يليق به أن يوقع نفسه في مواقع لا تحمد.
ثم إن الأحاديث التي تطرح قد يكون هو سيدَها، وقد يكون له نصيب منها، وقد لا يليق به أن يخوض في شيء من ذلك حتى يخوضوا في غيره.
وصفوة المقال أن معرفةَ الإنسانِ موقِعَهُ، وماذا يراد منه في كل وقت، ومناسبة _ سبيل إلى السلامة، وأمان من الندامة.
وذلك كله راجع إلى توفيق الله _عز وجل_ ثم إلى ذوق الإنسان، ودَرَبَتِه، وتقلبه في الأحوال، وسبره سيرَ عظماءِ الرجال.
كتبه الشيخ محمد الحمد حفظه الله ...
والحديث ههنا ليس عن مسائل النحو، وإنما هو عن بَرمجةِ الإنسانِ نَفْسَهُ، ومعرفتهِ موقِعَه؛ فإن ذلك يكفيه كثيراً من الشرور، وينقذه من المواقف المحرجة، ويرفعه في سماء المجد درجات.
ولمزيد من إلقاء الضوء على هذا الأمر يقال: إن من أعظم ما يحسن بالإنسان معرفته أن يعرف موقعه في كل زمان ومكان؛ إذ قد يحسن به إذا جلس في مجلس أن يكون هو الصدر، وإذا جلس في مجلس ثانٍ أن ينزوي، وإذا جلس في مجلس ثالث أن يكون بين بين.
وكذلك الحال بالنسبة للمواقف؛ فتارة يجمل به أن يكون رأساً، وتارة يكون بخلاف ذلك.
ثم إن معرفته بنفسه قد تجعله يُقْدِمُ أو يُقْصِر، وقد يلائمه ما لا يلائم غيره، والعكس.
ويدخل في هذا القبيل معرفة الإنسان إمكاناتِه؛ بحيث لا يتقحم إلى أمور لا طاقة له بها، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن أمور يطيقها.
والحاصل أن معرفةَ الإنسانِ موقعَهُ تريحه من أعباء كثيرة، وتجلب له خيرات وفيرة؛ فيتكلم حيث يَحْسُن به الكلام، ويصمت حيث يحسن به الصمت، ويقدم حيث يحسن به الإقدام، ويحجم حيث يحسن به الإحجام، وهكذا.
أما إذا فَرَّط الإنسان بهذا الشأن فلا تسل عما يعقب ذلك من الخلل، والتخطي إلى المقامات التي لا يحسن تخطيها؛ فتسود بذلك روح الفوضى، والتخبط.
وكم تلاحظ من أناسٍ يتكلمون في مناسبات أو مجالس دون أن يراعوا حدود اللياقة واللباقة، وكم من الناس من يظن أنه جدير بصدارة كل مجلس.
وكم من أناس يسوق أحاديث وهي لا تليق بذلك المكان، أو الجلاس.
وكم من أناس يريدون الهَزْل فلا يحسنونه، ويرومون التوقر فيَثْقُلون، ويُثْقِلون.
وبالجملة فإن الأمثلة على ذلك كثيرة، والمقام لا يحتمل الإطالة.
ودعني أيها القارئ الحصيف أضرب لك بعض المواقف على شيء مما مضى ذكره؛ يُحَدِّثني أحد الأصدقاء أن قريباً له كان يعمل عند ذي وجاهة ومنزلة، وفي يوم من الأيام قام ذلك الوجيهُ ذو القدرِ والمكانةِ بمدِّ يده على ذلك الرجل الذي يعمل عنده إما على سبيل الغضب، أو على سبيل المزاح، أو نحو ذلك، فَقَبِلها ذلك الرجل، ولم يبدِ أيَّ تبرم، أو شكوى.
ولكنه فوجئ في الوقت نفسه أن أحد زملائه ممن يصحبون ذلك الوجيه يقوم بضربه؛ ليكمل ما بدأه ذلك الوجيه؛ فما كان من ذلك الرجل إلا أن أخذ بزميله الذي ضربه، ورَفَعه عن مستوى الأرض، ثم ألقى به؛ فاستغرب ذلك الزميل، وقال: ما هذا؟
فقال له صاحبه: ما الذي حملك على ضربي؟ أغَرَّك أنْ ضَرَبَني فلان؟ هو يستحق أن أحتمل زلته، أو غضبته، أو دالته؛ لما له من المكانة، والمنزلة، والحقِّ عَلَيّ.
أما أنت فَمِثْلِي؛ فلا يحق لك أن تتعدى حداً من حدودك؛ فلما رأى الوجيه هذا المشهد، وسمع التسويغ _ انفجر ضاحكاً، وأيَّد ذلك التصرف.
ولو أن صاحبنا الذي جارى الوجيه كان عالماً موقعَه، وما يليق به_ لما وَقَعَ في ذلك الخطأ.
وأذكر أن أحد المجالس يتصدره عالمٌ كبيرٌ، والناس من حوله من أكابر أهل العلم سكوتٌ، وكأن على رؤوسهم الطير؛ فلا يكاد أحدٌ منهم ينبس ببنت شفة.
وكان في المجلس إنسان عاديٌّ، وعنده شيء من العلم؛ فما كان منه إلا أن أخذ يجادل ذلك العالم، ويسوق مسائل باردة أثقلت على الحاضرين، وأورثتهم الضيق، والإحراج.
وفي يوم من الأيام كان هناك مجلس أنسٍ، ومطارحةٍ، ومسامرةٍ، وتجاذبٍ لأطراف الأحاديث.
وكان من ضمن الحاضرين رجلٌ معروف بحسن الكلام، والتفنُّن في إيراد القصص، والأخبار، والأشعار.
وكان الحاضرون على درجةٍ عاليةٍ من المتعة والأنس بتلك الأحاديث العالية التي يسوقها ذلك الرجل، بل كانوا يستمطرونه الحديث كلما هَمَّ بالسكوت.
وكان من بين القوم مَنْ ينازع الحديث، ويثقل على الحاضرين بأحاديثه الباهتة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فكان كما قال الحكيم العربي:
أتى زيدٌ وأسرف في هَذاءٍ
يُحَدِّثنا فلا يروي غريباً
كمثل رَحىً تجعجع طولَ ليلٍ
تضيق به صدورُ السامرينا
ولا يبدي لنا رأياً رصينا
ولا تُلْقِي على ثُفْلٍ طحينا
ولو أنه أدرك مكانَهُ، وعرف موقعَه _ لما أوقع نفسه بذلك الحرج.
وأعرف أناساً يثق أحدهم بنفسه ثقة عمياء، فإذا دهمت الناس داهية دهياء، فقيل: من يقوم بشأنها؟ بادر إلى التصدي لها، وهو ليس في عيرها ولا نفيرها؛ فإذا توغل في لُجَجِها طاش لُبُّه، وحارَ في أمره، وصار يبحث عن الخلاص.
والمقصود أن البصير بنفسه يعلم أنه ليس كلُّ ميدانٍ ميدانَه ولا كل مناسبة مناسبته، ولا كلُّ جوٍّ جوَّه؛ إذ قد يكون مقبولاً عند قوم، ثقيلاً عند آخرين، وقد يكون عَذْباً في مناسبة، وعذاباً في أخرى؛ فلا يليق به أن يوقع نفسه في مواقع لا تحمد.
ثم إن الأحاديث التي تطرح قد يكون هو سيدَها، وقد يكون له نصيب منها، وقد لا يليق به أن يخوض في شيء من ذلك حتى يخوضوا في غيره.
وصفوة المقال أن معرفةَ الإنسانِ موقِعَهُ، وماذا يراد منه في كل وقت، ومناسبة _ سبيل إلى السلامة، وأمان من الندامة.
وذلك كله راجع إلى توفيق الله _عز وجل_ ثم إلى ذوق الإنسان، ودَرَبَتِه، وتقلبه في الأحوال، وسبره سيرَ عظماءِ الرجال.
كتبه الشيخ محمد الحمد حفظه الله ...