عرض مشاركة واحدة
قديم 08-06-2010, 03:02 PM   #2
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: ضوابط الصيام الفقهية للشيخ وليد السعيدان حفظه الله

الضابط الثاني
مفسدات الصوم توقيفية

أقول : لقد طرحنا في تلقيح الأفهام أن العبادات المنعقدة بالدليل الشرعي لا تنقض إلا بالدليل الشرعي ، وأن العبادات تفتقر إلى دليل في أصل إثباتها وتفتقر إلى الدليل في إثبات صفاتها وشروطها وكذلك تفتقر إلى الدليل في إبطالها ، فليس باب إبطال العبادات مفتوحاً لكل أحد يقرر فيه ما يشاء وإنما هو باب توقيفي على الدليل الصحيح الصريح من الكتاب أو السنة الصحيحة أو ما تفرع عنها من الإجماع والقياس المستوفي لأركانه ، فمن زعم أن قولاً من الأقوال أو فعلاً من الأفعال مبطل لهذه العبادة فإننا نطالبه بالدليل لأن الأصل عدم الإبطال ومن خالف الأصل فعليه الدليل ، لأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، ومن هذه العبادات الصيام ، فإنه عبادة دل الدليل الشرعي على أن حكمها ينعقد بالإمساك عن المفطرات بالنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، فحيث انعقد الصوم بالدليل الشرعي فإن الأصل استمرار حكمه وبقاؤه ومن ادعى أن حكمه ينتقض بكذا وكذا فإن قوله هذا موقوف على الدليل الشرعي فإن جاء به فعلى العين والرأس وإن لم يأت به فلا قبول ، وليس له حق أن يطالبنا هو بالدليل على عدم الإبطال لأن الأصل معنا ومن كان الأصل معه فإنه لا يطالب بالدليل ، وهذا الكلام من تعظيم حرمات الله وشعائره التي هي علامة تقوى القلوب نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل التقوى في الظاهر والباطن والسر والعلانية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن قلت : فما هي مفسدات الصوم التي دل الدليل الشرعي على أنها مفسدة ؟ أقول : إن أهل العلم – رحمهم الله – وأعلى نزلهم في الجنة وغفر لهم ورحم أمواتهم وثبت أحياءهم قد استقرؤا الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح فوجدوا أن هناك من المفسدات ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه اختلافا قد نصر الدليل أحد طرفيه وهناك مفسدات خاضعة للاجتهاد ولا ينكر على المخالف فيها وهي كما يلي :-
منها : الجماع بشرطه الذي سيأتي إن شاء الله تعالى ، فإنه من مفسدات الصوم ودليله قوله تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم )(1) فدل ذلك على أن الجماع إنما هو حلال في ليلة الصيام فقط وإن تركه عند تبين الخيطين من بعضهما من إتمام الصيام فلا يتم إلا بذلك ولما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -  - : (أن رجلا جاء إلى النبي  قال يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك قال وقعت على أهلي وأنا صائم قال : هل تجد رقبة تعتقها قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين . قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً قال : لا ، فجلس فأتى النبي  بعرق من تمر فقال : أين السآئل ، قال : ها أناذا يا رسول الله ، فقال خذ هذا فتصدق به ، قال : أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لا بتيها أهل بيت أفقر مني ، فضحك النبي  وقال : أطعمه أهلك )(2) وفي الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة -  - : ( يدع طعامه وشرابه وشهـوته من أجلي )(3) .
ومنها : الأكل والشرب بشرطه الآتي إن شاء الله تعالى فإنه من مفسدات الصوم بل هو أصل الباب ودليل ذلك الآية المتقدمة فإن فيها : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام – أي ترك الأكل والشرب – إلى الليل )(4) فأباح الله تعالى الأكل والشرب إلى نهاية ثم أمر بالإمساك عنهما إلى نهاية الليل وفي الحديث السابق :( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه )(1) فهذا منطوقه ويفهم منه أنه إن أكل أو شرب عامداً ذاكراً لصومه أن صومه يفسد بهذا وقد تقرر في القواعد أن مفهوم المخالفة حجة ، والله أعلم .
ومنها : استدعاء القيء أي تعمده فمن استقاء عمداً فإن صومه يفسد وذلك لحديث أبي هريرة -  - قال : قال رسول الله  : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء عمداً فليقضي )(2) رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وقال : العمل عليه عند أهل العلم ، وقال الدارقطني : إسناده كلهم ثقات وعن عمر نحوه موقوفاً وقال الإمام البغوي والخطابي وابن تيميه وغيرهم : أجمعوا على أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه وأن من استقاء عمداً أن عليه القضاء . والله أعلم .
ومنها : الاستمناء إما بمداعبة أو بمباشرة أو باليد أو بتعمد النظر لما يهيج الشهوة أو بالتفكير المقدور على قطعه ، فإذا نزل المني بالاختيار فإنه يكون مفسداً للصوم ودليل ذلك حديث ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )(3) وهو مذهب جمهور أهل العلم ، ولأن الإنزال بالاختيار كالجماع لأنه إنزال بمباشرة ، واختاره أبو العباس شيخ الإسلام – رحمه الله – تعالى وقالت عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – ( كان النبي  يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه )(1). فعلمنا بذلك أن المراد بقوله ( وشهوته ) أي الجماع والإنزال ولو بدون جماع ، وأما مقدمات الجماع من مباشرة وتقبيل فلا بأس بها إن لم يترتب عليها ما يفسد الصوم من الإنزال وهذا مرجعه غلبة الظن وسيأتي للمسألة زيادة بحث إن شاء الله .
ومنها : الحجامة ، وهي شرط ظاهر الجلد لاستخراج الدم الفاسد فإنه قد ثبت الدليل بأنها مفطرة وهو حديث شداد بن أوس مرفوعاً : ( أفطر الحاجم والمحجوم )(2) وصححه ابن خزيمة وغيره وقال الإمام أحمد والبخاري : إنه أصح شيء في الباب ، قال أبو العباس قدس الله روحه : والأحاديث الواردة عن النبي  في قوله ( أفطر الحاجم والمحجوم ) كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ ، والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم وأهل الحديث الفقهاء فيه الحاملون به أخص الناس باتباع محمد  والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح ( أن النبي  احتجم وهو محرم صائم )(3) . وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله ( وهو صائم ) وقالوا : الثابت أنه احتجم وهو محرم ، قال أحمد : قال يحي بن سعيد : قال شعبة : لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم ، يعني حديث شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس ( أن النبي  احتجم وهو صائم محرم ) . قال مهنا : سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون ابن مهران عن ابن عباس ( أن النبي  احتجم وهو صائم محرم ) : سمعت أبا عبدالله رد هذا الحديث وضعفه ، وقال : كانت كتب الأنصاري قد ذهبت في أيام المنتصر فكان بعد يحدث من كتب غلامه وكان هذا – أي الزيادة – من تلك – أي بسبب ذلك إلى أن قال أبو العباس قدس الله روحه : وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم ولم يثبت إلا حجامة المحرم إهـ كلام أبي العباس – رحمه الله – تعالى قلت: ويؤيده أيضاً ما رواه الإمام أحمد في المسند من حديث ثوبان أن رسول الله  أتى على رجل وهو يحتجم في رمضان فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم )(1) قال الترمذي من حديث حسن صحيح وصححه ابن المديني والإمام الدارمي على الجميع – رحمة الله – تعالى فهذه الأدلة تفيد بمجموعها أن الحجامة من مفسدات الصوم وهو اختيار أبي العباس النحرير الهزبر فارس المنقول والمعقول وجزاه الله خير ما جزى عالماً عن أمته ، وقد بين قدس الله روحه وجعل جنة الفردوس نزله العلة في إفطار الحاجم والمحجوم فقال : وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس ، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء ، وإذا كان ذلك كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر ، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر سواء جذب القيء بإدخال يده أو بشم ما يقيئه أو ضع يده تحت بطنه واستخرج القيء فتلك طرق لاستخراج القيء وهذه – أي الحجامة والفصاد – طرق لإخراج الدم إلى أن قال : وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه والهواء يجتذب ما فيها من الدم فربما صعد مع الهواء شيء من الدم فدخل حلقه وهو لا يشعر والحكمة إذا كانت خفية أو مستترة علق الحكم بالمظنة كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري ، وأما الشارط فليس بحاجم وهذا المعنى متفق فيه فلا يفطر الشارط وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة بل يمتص غيرها أو يأخذ الدم بطريق آخر لم يفطروا لأن النبي  خرج كلامه على الحاجم المعروف المعتاد إهـ كلامه – رحمه الله – فهذا يبين لك أن القول الراجح إن شاء الله تعالى في هذه المسألة هو القول الذي اختاره أبو العباس - رحمه الله –والله أعلم.
ومنها : دم الحيض والنفاس فإنه مفسد للصوم بالإجماع ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي  قال : ما رأيت من ناقصات عقلٍ دين ، وفيه : (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم ، قلن : بلى ، قال : فذلك نقصان دينها )(1) الحديث .
ومنها : الردة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى ، لأن الصوم عبادة ومن شرط صحتها الإسلام والردة قاطعة لهذا الشرط فعاد النهي إلى فقدان شرط الصحة وقد تقرر في القواعد أن النهي إذا عاد إلى ذات المنهي عنه أو شرط صحته دل على فساده فصوم المرتد فاسد ، ولأن من شروط صحته أيضاً استمرار حكم النية بأن لا ينوي قطعها والردة قاطعة لحكم النية لتخلف المصحح له وهو الإسلام ، ولقوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) قال الموفق : لا نعلم فيه خلافاً والله أعلم .
فهذه الأشياء المذكورة هي التي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على أنها مفسدة للصوم ، ويبقى ما عداها موقوفاً على الدليل فإن صح به الدليل قبلناه وإن لم يصح به الدليل لم نقبله لأن مفسدات الصوم توقيفية . ومن هذا الضابط نعرف حكم المذي هل هو من جملة المفسدات أو لا ؟ أقول : الأصل أنه ليس من المفسدات ومن قال بأنه مفسد فعليه الدليل لأن مفسدات الصوم توقيفية ، والقول بأنه من جملة مفسدات الصيام هو المعتمد أساسه الشهوة فهو كالمني ، وعنه : ليس المذي من جملة المفسدات وهو مذهب الحنفية والشافعية ، بل هي مذهب الجمهور واختارها من أصحابنا الآجري وأبو محمد موفق الدين بن قدامة والشيخ تقي الدين أبو العباس وصوبها في الإنصاف واستظهرها ابن مفلح في الفروع ، وهي الرواية الراجحة إن شاء الله تعالى وذلك عملاً بالأصل ، وقياسه على المني قياس مع الفارق فإنه يفارق المني في تركيبه ومخرجه وأثره فيفارقه في حكمه لأن القياس مع الفارق باطل ، قال أبو العباس قدس الله روحه : ولا يفطر بمذي بسبب قبلة أو لمس أو تكرار نظر إهـ وفي الصحيحين من حديث عائشة ( أن النبي  كان يباشر وهو صائم ويقبل وهو صائم ولكنه كان أملككم لأربه )(1) والمباشرة هي المس باليد ولما سئل عن القبلة قال : ( أرأيت لو تمضمضت بالماء )(2) ولمس اليد والقبلة هي مقدمات الجماع ومفتاحه كما أن المضمضة هي مقدمه الشرب ومفتاحه فكما أن المضمضة لا تنقض مع أنها مقدمة الشرب ومفتاحه فكذلك المس باليد والقبلة لا تبطل الصوم مع أنها مقدمة الجماع ومفتاحه ولم يسأل النبي  السائل هل أمذى أو لا ؟ وقد تقرر في القواعد أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منـزل منـزلة العموم في المقال ، ولأن الأصل عدم الإبطال إلا بدليل ولم يأت دليل يفيد بطلان الصوم بمجرد خروج المذي ومن ذلك أيضاً أنه لا يفسد الصوم بالغيبة وقول الزور والعمل به والجهل وإنما هو منقص لأجر الصائم بل قد يذهبه بالكلية مع سقوط الفرض عنه ، وهذا هو المراد بقوله  : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )(1) والله أعلم . وسوف يأتي إن شاء الله تعالى في الضابط الذي بعد هذا بقية الفروع المخرجة على هذا الضابط ولكن لارتباطها بالذي بعده أخرت البحث فيها إلى الكلام عليه . والله أعـلم .
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس