عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:21 PM   #8
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

مسائل:
الأولى: من توكل عن غيره في الرمي، فلا بد أن يرمي أولاً سبعاً عن نفسه ثم عن واحد ممن وكله ثم الثاني ثم الثالث، بمعنى أن يميز كل واحد بالسبع، وكان بعض الفقهاء يقولون: لا بد أن يرمي الجمرات الثلاث عن نفسه، ثم يعود ويرمي الثلاث عن موكله الأول، ثم يعود ويرمي الثلاث عن موكله الثاني، وهذا ليس عليه دليل واضح فلا نلزم الناس به إذ لو ألزمنا الناس به لحصل مشقة عظيمة.
الثانية: قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: إذا أراد أن يرمي عن الصبي، فالأفضل أن يجعلها في يد الصبي، ثم يأخذها ويرمي عنه، يعني يحملونهم معهم.
الثالثة: هل يجوز أن يوكل في الرمي من لم يحج؟
قال فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ: لا بد أن يكون الوكيل قد حج هذا العام.
قوله: «ويجزئ بعد نصف الليل» ، أي: يجزئ الرمي بعد
__________
(1) لحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس».
أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الحج/ باب رمي الجمار؛ ووصله مسلم في الحج/ باب بيان وقت استحباب الرمي (1299) (314).
نصف ليلة النحر، وظاهر كلام المؤلف أنه يجزئ مطلقاً للقوي والضعيف والذكر والأنثى، وسبق بيان ذلك، وأما من قال: إن العاجز يدفع من مزدلفة في آخر الليل ولكنه لا يرمي حتى تطلع الشمس، فقوله ضعيف لأنه ليس عليه دليل، ولأن أكبر فائدة لمن دفع آخر الليل أن يرمي، ولهذا كان النساء اللاتي يبعث بهن الصحابة في آخر الليل يرمين مع الفجر أو قريباً من الفجر متى وصلوا، فمتى وصل الإنسان فإنه يرمي سواء وصل قبل طلوع الشمس أو بعد طلوعها.
قوله: «ثم ينحر هدياً إن كان معه» ، عبَّر بالنحر من باب التغليب، أو من باب مراعاة لفظ الحديث حيث قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: «ثم انصرف إلى المنحر فنحر» (1) ، ومن المعلوم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أهدى إبلاً (2) فمن كان أهدى إبلاً فإننا نقول له: انحر، ومن أهدى بقراً أو أهدى غنماً فإننا نقول له: اذبح، فإن لم يكن معه هدي ذهب واشترى من السوق، ونحره.
وقوله: «إن كان معه» ، هل كلام المؤلف على ظاهره؟ بمعنى أنه إن كان يحتاج إلى شراء وطلب فإنه يحلق أولاً أو نقول هذا بناء على الغالب؟
الثاني هو الظاهر وأنه حتى الذي يحتاج إلى شراء، نقول: الأفضل أن تنحر بعد الرمي ثم تحلق، وقد انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رمى جمرة العقبة إلى رحله فنحر هديه ثم حلق (3) .
__________
(1) - (2) سبق تخريجه ص(76).
(3) سبق تخريجه من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
قوله: «ويحلق أو يقصر من جميع شعره» ، لو قال المؤلف: «ثم يحلق...» لكان أولى حتى نعرف أنه مرتب، ويحلق جميع الشعر وذلك بالموسى وليس بالماكينة حتى ولو كانت على أدنى درجة، فإن ذلك لا يعتبر حلقاً، فالحلق لا بد أن يكون بموسى، والحكمة من حلق الرأس أنه ذل لله ـ عزّ وجل ـ لا للتنظيف؛ ولهذا لم يؤمر به في غير الإحرام، فلم نؤمر بحلق رؤوسنا، وأمرنا بحلق العانة ونتف الإبط للتنظيف، وعليه فيكون حلق الرأس عبادة لله نتقرب به إلى الله ـ عزّ وجل ـ.
وقوله: «أو يقصر» هنا للتخيير، ولكنه تخيير بين فاضل ومفضول، والفاضل الحلق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة (1) ، وأتى بحرف العطف دون أن يقول: «اللهم ارحم المقصرين» للدلالة على أن مرتبة التقصير نازلة جداً.
ولأن الله قدمه في الذكر، فقال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} [الفتح: 27] .
ويحلق هو بيده، أو يكلف من يحلقه خلافاً لما قاله بعض العلماء: إنه إذا حلق نفسه بنفسه فعل محظوراً، فنقول لم يفعل محظوراً، بل حلق للنسك.
وأشار المؤلف بقوله: «من جميع شعره» ، إلى أن التقصير لا بد
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب الحلق والتقصير (1727)، (1728)؛ ومسلم في الحج/ باب تفضيل الحلق على التقصير (1301)، (1302) عن ابن عمر وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ.
أن يكون شاملاً لرأسه بحيث يظهر لمن رآه أنه مقصر، لا من كل شعرة بعينها، وذكر ذلك خلافاً لما قاله بعض أهل العلم: إنه يكفي أن يقصر من ثلاث شعرات، أو من ربع الرأس، أو ما أشبه ذلك، بل الصواب ما ذكره المؤلف، وهو أنه لا بد أن يقصر من جميع شعره.
قوله: «وتقصر منه المرأة قدر أنملة» ، أي: أنملة الأصبع وهي مفصل الإصبع، أي أن المرأة تمسك ضفائر رأسها إن كان لها ضفائر، أو بأطرافه إن لم يكن لها ضفائر، وتقص قدر أنملة، ومقدار ذلك اثنان سنتمتر تقريباً، وأما ما اشتهر عند النساء أن الأنملة أن تطوي المرأة طرف شعرها على إصبعها فمتى التقى الطرفان فذاك الواجب فغير صحيح.
وإنما كان المشروع للمرأة التقصير؛ لأنها محتاجة إلى التجمل والتزين، والشعر جمال وزينة، وإنما كان الواجب بقدر الأنملة لئلا يجحف برأسها، وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية تراعي حوائج الناس وميولهم، وأنها لا تأتي أبداً بما فيه العسر والحرج ـ والحمد لله ـ.
ثُم قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ والحِلاَقُ والتَّقْصِيرُ نُسُكٌ لاَ يَلْزَمُ بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ، وَلاَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الرَّمْي والنَّحْرِ.
قوله: «ثم قد حل له كل شيء إلا النساء» ، أي: بعد الحلق المسبوق بالرمي والنحر، حل له كل شيء إلا النساء، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (1) ، فعندنا ثلاثة أشياء:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/143)؛ وابن خزيمة (2937) والدارقطني (2/276)؛ وزاد: «وذبحتم» والبيهقي (5/136) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ انظر: نصب الراية (3/81) والتلخيص (1057).
الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، إذا فعل هذه حلّ من كل شيء إلا النساء وطأً، ومباشرةً، وعقداً، وهذا هو المشهور من المذهب.
وقيل: وطأ، ومباشرة، لا عقداً وخطبة، وأنه يجوز العقد والخطبة بعد التحلل الأول؛ لأن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إلا النساء» ، فيه احتمال قوي أن المراد الاستمتاع بجماع أو غيره، خاصة وأن من تحلل التحلل الأول لا يطلق عليه أنه محرم إحراماً كاملاً.
فعلى المذهب لو أن أحداً من الناس رمى، ونحر، وحلق، ثم تزوج قبل أن يطوف بالبيت، فالنكاح محرم وغير صحيح، وهذا ربما يقع في غير هذه الصورة التي ذكرت، فربما يطوف الإنسان طواف الإفاضة على وجه لا يجزئه، ثم يرجع إلى بلده، ويتزوج في هذه المدة، قبل أن يصحح خطأه في الطواف فعلى المذهب لا يصح نكاحه.
وعلى القول الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الصحيح، أنه يجوز عقد النكاح بعد التحلل الأول ويصح.
وهذا من الأمور التي ينبغي أن يسلك الإنسان فيها الاحتياط، فإذا جاءنا رجل ابتلي وعقد النكاح قبل أن يطوف طواف الإفاضة أو خطب امرأة قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فنقول: لا تعد؛ لأن التحريم وإبطال العقد بعد أن وقع فيه صعوبة، ولكن لو جاءنا يستشير ويقول: هل تفتونني بأن أخطب أو أعقد النكاح وقد حللت التحلل الأول؟
فنقول له: لا.
وقوله: «ثم قد حل له كل شيء» ، ظاهره أنه لا يحل هذا الحل إلا بعد الرمي والنحر والحلق أو التقصير؛ أي: فعل الثلاثة، والظاهر أن اشتراط النحر غير مراد وأنه يحل التحلل الأول بدونه والحكمة من ذلك، والله أعلم، أن النحر لا يجب على كل حاج، فلا يجب على المفرد ولا على القارن والمتمتع إذا عدماه، وظاهر كلامه ـ أيضاً ـ أنه لا يحل بمجرد الرمي، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم:
فقال بعض العلماء: إنه يحل بالرمي، أي رمي جمرة العقبة، سواء حلق أم لم يحلق وهذا رواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا لذلك بأن الإنسان يقطع التلبية إذا شرع في الرمي، وهذا يعني أن نسكه انتهى، ولكن هذا التعليل فيه نظر لأننا نقول إن المعتمر يقطع التلبية إذا شرع في الطواف، ومع ذلك لم يشرع في التحلل، وبأنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعليق الحل بالرمي فقط (1) .
__________
(1) فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء». أخرجه الإمام أحمد (1/234).
وقال أحمد شاكر في تحقيق «المسند» (3090): إسناده منقطع.
وأخرج أبو داود في المناسك/ باب رمي الجمار (1978)؛ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء».
قال أبو داود: هذا حديث ضعيف.
انظر: «نصب الراية» (3/81)؛ و«التلخيص» (2/260)؛ و«الإرواء» (4/235).
ولكن الذي يظهر لي أنه لا يحل إلا بعد الرمي والحلق وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد لحديث: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (1) ، ولكن الزيادة هذه «حلقتم» في ثبوتها نظر؛ لأن فيها الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف عندهم، ولحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «كنت أطيب النبي صلّى الله عليه وسلّم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» (2) ، ولو كان يحل بالرمي لقالت: ولحله قبل أن يحلق، فهي ـ رضي الله عنها’>;ـ جعلت الحل ما بين الطواف والذي قبله، والذي قبله هو الرمي والنحر والحلق، لا سيما وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر» (3) .
فالاستدلال بحديث عائشة على ظاهره صحيح، ولكن إذا علمنا أن السبب في ذلك أنه حصل خلاف، هل يجوز للمحرم إذا حل التحلل الأول أن يتطيب قبل أن يطوف؟ فأرادت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تبين جواز التطيب قبل الطواف فيكون سبب اقتصارها على الطواف أنه محل الخلاف؛ وذلك أن الطيب مما يعطي النفس نشوة ورغبة في النكاح، والنكاح ممنوع بعد التحلل الأول، فكره بعض السلف أن يتطيب الإنسان قبل أن يطوف بالبيت، فأرادت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تبين أن هذه الكراهة لا وجود لها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتطيب قبل أن يطوف.
__________
(1) سبق تخريجه ص(330).
(2) سبق تخريجه ص(64).
(3) أخرجه البخاري في الحج/ باب التمتع والقران والإفراد بالحج (1566)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان أن القارن لا يتحلل... (1229) عن حفصة ـ رضي الله عنها ـ.
تنبيه: من لم يتبين له في هذه المسألة الدليل الذي يحصل به رجحان أحد القولين على الآخر، فأيهما أحوط أن نقول: إنه لا يحل حتى يرمي ويحلق، أو نقول إن الأحوط أن يحل بالرمي؟
قد يكون الأحوط أن نقول بالأول وهو أنه يحل برمي جمرة العقبة، وقد نقول: إن الأحوط الثاني فإذا جامع رجل امرأته بعد رمي جمرة العقبة وقبل الحلق، فإن قلنا إنه يحل بالرمي لم يفسد نسكه لأن الوطء وقع بعد التحلل الأول، والوطء لا يفسد النسك إلا إذا كان قبل التحلل الأول، وأيضاً لا نوجب عليه فدية إلا شاة، وإذا قلنا إنه لم يحل ألزمناه ببدنة، فأيهما الأحوط الآن؟
الجواب: الأحوط أن يتحلل بالرمي، وألا نلزمه بشيء لم يتبين لنا لزومه، ولكن إذا قلنا: إنه لا يتحلل إلا بالرمي والحلق صار أحوط من جهة أننا نمنعه من محظورات الإحرام حتى يحلق.
ولعلنا نقول: ما دامت المسألة لم تتبين فلنتبع الأسهل، فإن جاءنا رجل يسأل أنه جامع بعد رمي جمرة العقبة وقبل الحلق نقول له حجك لم يفسد؛ لأنه ليس عندنا ما نستطيع به أن نجشمه المصاعب بأن نقول: حجك فاسد وعليك أن تمضي فيه وأن تقضيه من العام القادم وأن تفدي فعلك ببدنة، وأما إذا جاء يسأل هل يجوز أن يلبس ويتطيب قبل الحلق؟ قلنا: لا؛ لأن هذا أحوط وأبرأ للذمة.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ توسعوا في ذلك، فقالوا: إذا فعل اثنين من ثلاثة حل التحلل الأول، فلو رمى وحلق، أو رمى
وطاف، أو حلق وطاف حل التحلل الأول، مع أن الذي ورد في السنة أنه يحل بالرمي، أو بالرمي مع الحلق، لكنهم قالوا: لما كان طواف الإفاضة مؤثراً في التحلل الثاني فليكن مؤثراً في التحلل الأول، وذلك أنه إذا رمى وحلق وطاف حل التحلل الثاني.
ولو قال قائل: بأن سائق الهدي يتوقف إحلاله على نحره أيضاً؛ لكان له وجه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر» (1) .
قوله: «والحلاق والتقصير نسك» ، أي: أن الحلق والتقصير نسك، وإنما نص على هذا دفعاً لقول من يقول: إنه إطلاق من محظور، وليس نسكاً، وبناءً على هذا ينوب مناب الحلق فعل أي محظور؛ لأن المقصود أن يعلم أنه تحلل من إحرامه، كما قال بعضهم في التسليم في الصلاة: إن المراد فعل ما ينافي الصلاة، وأنه إذا فعل ما ينافي الصلاة فإنه يغني عن التسليم.
وهذا قول ضعيف، يقول شيخ الإسلام: لو كان الأمر كذلك لكان لا فرق بين حلق الرأس وحلق العانة، على القول بأن محظورات الإحرام تشمل جميع شعور البدن، وصدق رحمه الله تعالى، وعلى القول بأنه إطلاق من محظور، قالوا: يجزئ لو يقص شعرتين أو ثلاثاً فيكفي، وهذه كلها أقوال لا أصل لها يعني ليس لها دليل، والصواب أنه نسك، وعبادة وقربة لله.
__________
(1) سبق تخريجه ص(332).
والدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا للمحلقين، وللمقصرين (1) ولا يدعو إلا لشيء مطلوب شرعاً.
قوله: «لا يلزم بتأخيره دم ولا بتقديمه على الرمي والنحر» أي: لو أخر الحلق أو التقصير عن أيام التشريق، أو عن شهر ذي الحجة، أو أخره إلى ربيع، أو إلى رمضان أو إلى السنة الثانية فليس عليه شيء لكن يبقى عليه التحلل الثاني؛ لأنه لا يمكن أن يتحلل التحلل الثاني حتى يحلق أو يقصر.
ولكن الذي يظهر أنه لا يجوز تأخيره عن شهر ذي الحجة؛ لأنه نسك، وقد قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] .
لكن إن كان جاهلاً وجوب الحلق، أو التقصير، ثم علم فإننا نقول احلق، أو قصر، ولا شيء عليك فيما فعلت من محظورات.
وقوله: «ولا بتقديمه على الرمي والنحر» ، يعني أنه لو قدم الحلق والتقصير على الرمي والنحر كان جائزاً، فإن قيل: أو ليس الله تعالى قال: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ؟ فالجواب: بلى، ولكن الآية ليست صريحة في تحريم تقديم الحلق على النحر؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ولم يقل حتى تنحروا، وقد بينت السنة جواز تقديمه على النحر.
فالسنة إذا وصل إلى منى أن يبدأ برمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، ثم السعي، فإن
__________
(1) سبق تخريجه ص(328).
قدم بعضها على بعض فالصحيح أن ذلك جائز، سواء كان لعذر كالجهل والنسيان، أو لغير عذر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان يسأل في ذلك اليوم عن التقديم والتأخير فيقول: «افعل ولا حرج» (1) .
وتأمل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «افعل ولا حرج» ، ولم يقل: «لا حرج» فقط، بل قال: «افعل» فعل أمر للمستقبل، أي: أنك إذا فعلت في المستقبل، فلا حرج.
وقال بعض العلماء المحققين كابن دقيق العيد وغيره: إن هذا إنما يكون لمن كان معذوراً؛ لأنه في بعض ألفاظ الحديث: «لم أشعر فظننت أن كذا قبل كذا»، فقال: «افعل ولا حرج» (2) ، ولكن لما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «افعل ولا حرج» وهي للمستقبل، ولم يقتصر على قوله: «لا حرج» علم أنه لا فرق بين الناسي والجاهل وبين الذاكر والعالم، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكرة حين أسرع وركع قبل الصف: «زادك الله حرصاً ولا تعد» (3) ، فلو كان الترتيب بين هذه الأنساك واجباً لقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للسائل: لا حرج ولا تعد وهذا الذي قررناه، كما أنه ظاهر الأدلة، فهو الموافق لمقاصد الدين الإسلامي في إرادة اليسر على العباد لا سيما في مثل هذه الأزمان؛ لأن ذلك أيسر للناس.
وأما السعي قبل الطواف، فإن من العلماء من قال: لا
__________
(1) - (2) أخرجه البخاري في الحج/ باب الفتيا على الدابة (1736)، (1737)؛ ومسلم في الحج/ باب من حلق قبل النحر (1306) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما.
(3) أخرجه البخاري في الأذان/ باب إذا ركع دون الصف (783).
يجزئ السعي قبل الطواف؛ لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *} [الحج] ، فذكر الطواف بالبيت بعد قضاء التفث وإيفاء النذور.
وأما قوله في الحديث: «سعيت قبل أن أطوف» (1) ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا حرج، فطعنوا فيه، أو أوَّلوه، وقالوا: المراد بذلك سعي الحج لمن كان قارناً أو مفرداً.
والصحيح جواز تقديم سعي الحج على طواف الإفاضة والجواب عن المعارض.
أولاً: بالنسبة للحديث فالحديث صحيح، ولا مطعن فيه، وبالنسبة لتأويله: فإن هذا الرجل لم يسأل عن سعي سبق منذ أيام وإنما سأل عن سعي حصل في ذلك اليوم كما تقتضيه حال السائل.
وأيضاً فقد علم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان سعى بعد طواف القدوم فالسؤال عنه ضرب من اللغو.
ثانياً: وأما بالنسبة للآية فإن السعي لم يذكر فيها لأنه لا يلزم جميع الناس، فالقارن والمفرد لا سعي عليهما بعد طواف الإفاضة إن كانا فعلاه بعد طواف القدوم، والمتمتع في وجوب السعي عليه في الحج قولان للعلماء وقد سبق.
__________
(1) سبق تخريجه ص(273).
فَصْلٌ
ثُمَّ يُفِيضُ إِلى مَكَّةَ، ويَطُوفُ القَارِنُ والمُفْرِدُ بنِيَّةِ الفَريضَةِ طَوافَ الزِّيارَةِ وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَيُسَنُّ فِي يَوْمِهِ، وَلَهُ تَأخِيْرُهُ.......
قوله: «ثم يفيض إلى مكة» ، يفيض مأخوذ من فاض الماء إذا ساح، أي: يفيض الحاج إلى مكة، أي: ينزل الحجاج من منى إلى مكة، في ضحى يوم النحر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أفاض إليها في الضحى (1) .
قوله: «ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة» أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن هذا طواف فرض؛ لقوله: «بنية الفريضة» ، وأنه لا بد من نيته وأنه فرض، وسبق الخلاف في هذه المسألة، وبينا أن الطواف، والسعي، والرمي، وما أشبهها كلها تعتبر أجزاء من عبادة واحدة، وأن النية في أولها كافية عن النية في بقية أجزائها؛ لأن الحج عبادة مركبة من هذه الأجزاء، فإذا نوى في أولها أجزأ عن الجميع، كما لو نوى الصلاة من أولها.
وقوله: «ويطوف القارن والمفرد» ، أفاد أن المتمتع لا يطوف وليس كذلك، وإنما أراد ـ رحمه الله ـ بالنص على المفرد والقارن دفع ما قيل من أن المفرد والقارن يطوفان للقدوم أولاً إذا لم يكونا دخلا مكة من قبل، ثم يطوفان للزيارة، فيطوفان طوافين:
الأول للقدوم، والثاني للزيارة، فيلزمهما على هذا طوافان إذا لم يكونا دخلاها من قبل؛ لأنه من الجائز لهما شرعاً أن يذهبا من الميقات رأساً، إلى منى أو إلى عرفة دون أن يطوفا
__________
(1) سبق تخريجه ص(76).
للقدوم بخلاف المتمتع، فالمتمتع لا يتأتى في حقه ذلك؛ لأنه لا بد أن يدخل مكة، ويتم عمرته.
وما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ هو الصواب، بل المتعين؛ وذلك أنه اجتمع عند المفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة من قبل طواف قدوم وطواف فرض، فاكتفي بطواف الفرض عن طواف القدوم، كما لو دخل الإنسان المسجد وقد أقيمت الصلاة، أو لم تقم وأراد أن يصلي الفريضة، فإن ذلك يجزئ عن تحية المسجد.
والقياس هنا قياس جلي واضح، ثم إنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أن أحداً منهم طاف مرتين في يوم العيد، مع أن بعض أصحابه لم يكن دخل مكة، مثل عروة بن مضرس رضي الله عنه (1) .
والمذهب أن المتمتع أيضاً يطوف طواف القدوم، لكن يطوف للقدوم بلا رمل، ولا يقال بلا اضطباع؛ لأنه قد حل ولبس ثيابه.
والصواب خلاف ذلك، وأنه لا طواف للقدوم، لا في حق المفرد والقارن مطلقاً، ولا في حق المتمتع كذلك.
وقوله: «طواف الزيارة» ، سمي بذلك لأنه يقع بعد رجوع الحجاج من عرفة، وهي من الحل فكان القادم منها كالزائر ويسمى أيضاً طواف الإفاضة لأن الناس يفيضون إليه بعد وقوفهم
__________
(1) سبق تخريجه ص(231).
في عرفة، قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] .
قوله: «وأول وقته بعد نصف ليلة النحر» ، الضمير يعود على طواف الزيارة، أي: أول وقته بعد نصف ليلة النحر، ولكن بشرط أن يسبقه الوقوف بعرفة وبمزدلفة، فلو طاف بعد منتصف ليلة النحر، ثم خرج إلى عرفة ومزدلفة، فإنه لا يجزئه، ولو أن المؤلف ـ رحمه الله ـ قيد ذلك لكان أوضح، على أنه ربما يقال: إن هذا معلوم من قوله في أول الفصل «ثم يفيض» لكن لا بد من ذكره.
والدليل قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *} [الحج] ، ولا يمكن قضاء التفث، ووفاء النذر إلا بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة.
قوله: «ويسن في يومه» ، أي: ويسن طواف الزيارة في يوم العيد اتباعاً لسنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: فإنه طاف في يوم العيد (1) .
قوله: «وله تأخيره» ، أي: تأخير طواف الإفاضة عن أيام منى، وعن شهر ذي الحجة، وله تأخيره إلى ربيع، وإلى رمضان وإلى عشر سنوات وأكثر؛ لأن المؤلف لم يقيده بزمن فلم يقل له تأخيره إلى كذا.
ولكن يبقى عليه التحلل الثاني، حتى يطوف، وما ذهب إليه
__________
(1) كما في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ في صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ص(76).
المؤلف ـ رحمه الله ـ من أن له تأخيره إلى ما لا نهاية له ضعيف.
والصواب أنه لا يجوز تأخيره عن شهر ذي الحجة، إلا إذا كان هناك عذر، كمرض لا يستطيع معه الطواف لا ماشياً، ولا محمولاً، أو امرأة نفست قبل أن تطوف طواف الإفاضة، فهنا ستبقى لمدة شهر أو أكثر.
أما إذا كان لغير عذر، فإنه لا يحل له أن يؤخره، بل يجب أن يبادر به قبل أن ينتهي شهر ذي الحجة.
وعُلم من كلام المؤلف أنه لا يجب أن يطوف طواف الإفاضة يوم العيد؛ لقوله: «ويسن في يومه، وله تأخيره» .
وعُلم منه أيضاً أنه يبقى على حله الأول إذا أخر طواف الإفاضة عن يوم العيد، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، بل حكي إجماعاً أنه لا يعود حراماً، لو أخره حتى تغرب الشمس من يوم العيد.
ولكن ذكر في هذا خلاف عن بعض التابعين لحديث ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك: «إن هذا اليوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به» (1) . ولكنه لا يعوّل عليه لشذوذه، وعدم عمل
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/295)، (303)؛ وأبو داود في المناسك/ باب الإفاضة في الحج (1999)؛ وابن خزيمة (2958)؛ والبيهقي (5/136، 137) عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قال البيهقي: لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول بذلك.
الأمة به وقد قيل: إن أول من عمل به عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، فحكم شرعي لم يعمل به إلا واحد من التابعين، لا يمكن أن يقال: إنه حديث صحيح؛ وذلك أن الأمة لا يمكن أن تخالف مثل هذا الحديث الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله والعمل به، لأنه من المعلوم أنه ليس كل الحجيج يطوفون طواف الإفاضة في يوم العيد.
ثم إنه إذا انتهى من إحرامه فقد حل، ولا يعود لكونه محرماً إلا إذا عقد إحراماً جديداً، أما مجرد عدم المبادرة بطواف الإفاضة، فإنه لا يمكن أن يكون سبباً لعود التحريم بلا نية؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
ثُمَّ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ إِنْ كَان مُتَمَتِّعاً، أَوْ غَيْرهُ، وَلَمْ يَكُنْ سَعَى مَعَ طَوَافِ القُدُومِ ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ،.........
قوله: «ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً» ، أي: يسعى بين الصفا والمروة على صفة ما سبق يبدأ بالصفا أولاً، ويختم بالمروة إن كان متمتعاً، والمتمتع هو الذي أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم حلَّ منها، وأحرم بالحج من عامه.
فيلزمه أن يسعى مطلقاً؛ وذلك لأنه يلزمه طوافان، وسعيان، طواف للعمرة، وطواف للحج، وسعي للعمرة وسعي للحج.
قوله: «أو غيره» ، أي: غير متمتع، وهو المفرد والقارن.
قوله: «ولم يكن سعى مع طواف القدوم» ، أي: فإن سعى فلا يعيد السعي، لقول جابر ـ رضي الله عنه ـ: «لم يطف النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) سبق تخريجه ص(70).
ولا أصحابه بالصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول» (1) . ولأنه لا يجب في الحج سعيان، فإن قال قائل: قد أوجبتم طوافين، طواف القدوم وطواف الإفاضة؟ فالجواب: أننا لم نوجب طواف القدوم، بل هو سنة؛ وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سعوا بعد طواف القدوم، وظاهر هذا الحديث أن المتمتع لا يسعى؛ لأن كثيراً من الصحابة تمتعوا؛ لأنهم لم يسوقوا الهدي، وقد أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتمتع، ولكن هذا الظاهر يجب حمله على أن المراد بأصحابه الذين بقوا على إحرامهم لسوقهم الهدي، فهو عام أريد به الخاص، ويدل على هذا ما رواه البخاري من حديثي عائشة (2) وابن عباس (3) ـ رضي الله عنهم ـ، ثم إن نسك العمرة انفصل عن نسك الحج فبينهما حل تام، فكيف يقال: إن السعي
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1215).
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب طواف القارن (1638) ولفظه: «فطاف الذين أهلوا بالعمرة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحداً»؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211)؛ ولفظه: «فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا إلى منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً».
(3) أخرجه البخاري في الحج/ باب قوله تعالى: «ذلك لمن لم يكن أهله حاضري...» (1572) ولفظه: «أهل المهاجرون والأنصار، وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا، وعلينا الهدي».
الذي قام به المتمتع أولاً يكفي عن سعي الحج، هذا لا يمكن أن يقال به، ثم يقال: لو قلتم إنه سعيُ الحج قُدِّمَ فلا يَصح كيف يقدم سعي الحج قبل الإحرام بالحج؟ وهل يمكن أن يركع الإنسان قبل أن يدخل في الصلاة؟ لا يمكن، وليس لمن قال: إن المتمتع يكفيه سعي واحد إلا ما يفيده ظاهر حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ: «لم يطف النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً الطواف الأول» (1) ، والإجابة عن هذا سهلة جداً بأن يقال المراد بأصحابه الذي لم يحلوا وكانوا مثله.
وهذا هو الصحيح أن المتمتع يلزمه سعي للحج، كما يلزمه سعي للعمرة.
وقوله: «ولم يكن سعى مع طواف القدوم» ، يفهم من كلام المؤلف أن القارن والمفرد، يجوز لهما أن يقدما سعي الحج بعد طواف القدوم، ويجوز أن يؤخراه، وكل هذا جائز، ولكن الأفضل ـ والله أعلم ـ أن يقدماه بعد طواف القدوم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدمه.
على أنه قد يقول قائل: أنا أنازع في هذا الاستدلال؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدمه ليعلم أصحابه كيف يسعون، وعامة أصحابه يحتاجون إلى معرفة السعي؛ لأنهم تمتعوا، فلا يدل تقديمه إياه على وجه قطعي أن الأفضل تقديم السعي للمفرد والقارن بعد طواف القدوم، لكن نجيب عن هذا الإيراد بأن الأصل، في فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سنة، واحتمال أن يكون ذلك من أجل أن يعلم
__________
(1) سبق تخريجه ص(343).
أصحابه وارد، لكن إبقاء النص على ظاهره أولى، ولأنه في الغالب إذا سعى بعد طواف القدوم يكون أسهل؛ لأن الزحام حينئذٍ يكون أخف من الزحام في يوم العيد، وأيام التشريق.
وقوله: «ولم يكن سعى مع طواف القدوم» ، يفيد بأن تقديم سعي الحج للقارن والمفرد لا يكون إلا إذا وقع بعد طواف القدوم، أريد بهذا لو قدم السعي على طواف القدوم لا يجزئ؛ لأنه لم يكن بعد طواف نسك، وبه نعرف خطأ من أفتى أهل مكة الذين يحرمون بالحج من مكة أن يطوفوا بالبيت وبالصفا والمروة بنية سعي الحج؛ ووجه الخطأ أن هؤلاء لا قدوم لهم؛ لأن طواف القدوم يشرع لمن يأتي من خارج مكة، وأهل مكة طوافهم ليس طواف قدوم، فلا يجزئهم تقديم السعي وهذه الفتوى وهم لا أساس لها من الأدلة.
قوله: «ثم قد حل له كل شيء» ، أي: حلَّ للحاج كل شيء، وهذا عام أريد به الخاص، أي: كل شيء حرم عليه بالإحرام، فإنه يحل له إذا طاف طواف الإفاضة، وسعى سعي الحج، إذا كان متمتعاً، أو كان مفرداً، أو قارناً ولم يكن سعى مع طواف القدوم.
وفي هذا دليل على أن العام ولو كان بلفظ «كل» قد يراد به الخاص، والذي يعين أن المراد به الخاص السياق أو القرينة.
ومن ذلك قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] ، أي: ريح عاد، فهل دمرت السموات والأرض؟
الجواب: لا، بل ولا المساكن لم تدمرها، قال تعالى:
{فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] ، فالمراد بـ «كل شيء» ، أي: مما أمرت أن تدمره، أو «كل شيء» مما يتعلق بهؤلاء القوم الذين كذبوا هوداً عليه السلام.
وقوله: «ثم قد حل له كل شيء» ، أي: حتى النساء، فيمكن للرجل إذا كان أهله معه أن يستمتع بأهله في آخر يوم العيد، بعد أن يرمي، ويحلق أو يقصر، ويطوف ويسعى.
وهل يمكن أن يستمتع بأهله ليلة العيد؟
الجواب: على كلام المؤلف، إذا كان يجوز الدفع من مزدلفة بعد منتصف الليل فدفع ورمى، وذهب إلى مكة وطاف وسعى، قبل الفجر فيمكن، وخصوصاً في أيامنا هذه حيث المواصلات سهلة، لكن على الذي اخترناه من أنه لا يدفع إلا في آخر الليل فقد يكون هذا متعذراً.
ثُمَ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْرَمَ لِمَا أَحَبَّ وَيَتَضلَّعُ مِنْهُ وَيَدْعُو بِمَا وَرَد،..
قوله: «ثم يشرب من ماء زمزم» ، ظاهر كلامه أنه يشرب من ماء زمزم بعد السعي، وليس مراداً بل يشرب من ماء زمزم بعد الطواف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شرب من ماء زمزم بعد الطواف كما يدل عليه حديث جابر (1) ، إذ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسع للحج؛ لأنه سعى مع طواف القدوم.
مسألة: هل الشرب من ماء زمزم بعد الطواف سنة مقصودة؟
الجواب : عندي في هذا تردد يعني كونه يقع بعد الطواف، أما أصل الشرب من ماء زمزم فسنة، ولكن كونه بعد الطواف،
__________
(1) في صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد سبق ص(76).
يحتمل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعل هذا لأنه أيسر له أو أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عطش بعد الطواف، أو ليستعد للسعي، لكن اشرب فهو خير.
مسألة: القول بأن يشرع شرب ماء زمزم واقفاً ليس بصواب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما شرب واقفاً لضيق المكان، فإن الدلو إذا رفع للنبي صلّى الله عليه وسلّم فالمكان واسع ولكنه لو جلس لضاق المكان.
قوله: «لما أحب» اللام للتعليل، أي: أن ينويه لما أحب، فإذا كان مريضاً وشرب من أجل أن يذهب مرضه فليفعل ويشفى بإذن الله، وإذا كان عطشان وشرب لأجل الري فليفعل ويروى بإذن الله، وإذا كان كثير النسيان فشرب ليقوى حفظه فليفعل، وقد فعل ذلك بعض المحدثين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له» (1) ، والحديث حسن، وهذا فيه تردد، أما شربه لإزالة العطش فواضح، ولرفع الجوع واضح، وللمرض واضح، لأن المرض علة بدنية عضوية يمكن أن يزول بشرب زمزم كما يزول العطش والجوع، لكن المسائل المعنوية العقلية، الإنسان يشك في هذا، إلا أن نقول: لا يضرك، انوِ ما تريد، إن كان الحديث يتناوله حصل المقصود، وإلا لم تأثم، لو شربه الفقير للغنى؟ نقول: إذا كنا نتردد في شربه للحفظ فمن باب أولى للغنى، ولو شربه إنسان خطب امرأة وهو بين الرد والإجابة، وشربه لأجل أن يجيبوه إذا أخذنا بالعموم قلنا: «لما شرب له» ، ولكن مثل هذا لا يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أراده؛ لأن هذه لا علاقة لها بالبدن الذي يستفيد بالشرب.
__________
(1) سبق تخريجه ص(270).
قوله: «ويتضلع منه» ، أي: يملأ بطنه حتى يمتلئ ما بين أضلاعه؛ لأن هذا الماء خير، وقد ورد حديث في ذلك لكن فيه نظر وهو: «أن آية ما بيننا وبين المنافقين إنهم لا يتضلعون من ماء زمزم» (1) ، لأن المؤمن يؤمن بأنه شفاء، ونافع، والمنافق لا يؤمن بهذا، فالمنافق لا يشرب منه إلا عند الضرورة لدفعها فقط، والمؤمن يتضلع رجاء بركته التي جاءت في الحديث: «ماء زمزم لما شرب له» ، وذلك لأن ماء زمزم ليس عذباً حلواً، بل يميل إلى الملوحة، والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيماناً بما فيه من البركة، فيكون التضلع منه دليلاً على الإيمان.
قال بعضهم: ويستقبل القبلة، ولكن هذا ضعيف لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شرب من زمزم ولم يرد عنه أنه استقبل القبلة ولا أنه رفع يديه يدعو بعد ذلك.
فإن قال قائل: هل يفعل شيئاً آخر كالرش على البدن وعلى الثوب، أو أن يغسل به أثواباً يجعلها لكفنه، كما كان الناس يفعلون ذلك من قبل؟
فالجواب: لا، فنحن لا نتجاوز في التبرك ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا نتجاوز إليه، فما ثبت عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخذنا به وإلا فلا.
قوله: «ويدعو بما ورد» ، أي: إذا شرب من ماء زمزم دعا بما ورد.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المناسك/ باب الشرب من زمزم (3061)؛ والدارقطني (2/288)؛ والبيهقي (5/146) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما، وضعفه الألباني في «الإرواء» (4/325).
قال في الروض: «يقول: بسم الله، اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً، وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك» (1) ، وقال أيضاً: «يرش على ثوبه، ويستقبل القبلة ويتنفس ثلاثاً» (2) ، وهذا أيضاً يحتاج إلى إثبات، لكن التنفس ثلاثاً في الشرب ثبتت به السنة (3) .
ثُمَّ يَرْجعُ فيبيتُ بِمِنَى ثَلاَثَ ليالي، فَيرمي الجَمْرَةَ الأولى، وَتَلِي مَسْجِدَ الخِيفِ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ، وَيَتَأخر قَلِيلاً، ويَدْعُو طَويلاً، ثُمَّ الوُسْطَى مِثْلَهَا،..
قوله: «ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليالي» ، أي: ثم يرجع من مكة بعد أن يطوف ويسعى فيبيت ثلاث ليالي، هذا إن تأخر، وإن تعجل فليلتين، فيبيت الحادية عشرة، والثانية عشرة، والثالثة عشرة إن تأخر، وإن تعجل فالحادية عشرة والثانية عشرة.
قوله: «فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات ويجعلها عن يساره» .
__________
(1) لما رواه عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء».
أخرجه الدارقطني (2/288)؛ والحاكم (1/473) وقال: «صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي وقد سبق الكلام على رواية الحاكم عند الكلام على حديث: «ماء زمزم لما شرب له»، وأما رواية الدارقطني فقد ضعف إسنادها في «الإرواء» (4/333).
(2) هذا من فعل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقد سبق في حديث إن آية ما بيننا وبين المنافقين التضلع من زمزم وليس فيه الرسن على الثوب.
(3) أخرجه البخاري في الأشربة/ باب الشرب بنفسين أو ثلاثة (5631) ومسلم في الأشربة/ باب كراهة التنفس في نفس الإناء واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء (2028) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
صفة الرمي على المذهب: أن يرمي الجمرة الأولى، وتلي مسجد الخيف، وتسمى الجمرة الصغرى، ويجعلها عن يساره حال الرمي بسبع حصيات متعاقبات ويستقبل القبلة، ولا يرمي تلقاء وجهه.
قوله: «ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً» ، أي: يبعد إلى موضع لا يناله فيه الحصا، ولا يتأذى بالزحام، ويدعو طويلاً مستقبل القبلة، وقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه بقدر ما يقرأ سورة البقرة (1) ، رافعاً يديه.
قوله: «ثم الوسطى مثلها» لكن يجعلها عن يمينه، والقبلة أمامه على كلام الأصحاب ـ رحمهم الله ـ فيرميها بسبع حصيات متعاقبات.
ثُمَّ جَمَرَةَ العَقَبَة، وَيَجْعَلُهَا عَن يَمِيِنِه، وَيَستَبْطِنُ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا،..
قوله: «ثم جمرة العقبة، ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي» ، أي: يرميها بسبع حصيات متعاقبات، ويستقبل القبلة، ويرمي من بطن الوادي، ويجعلها عن يمينه كالوسطى.
ولكن الصحيح خلاف ما ذكره المؤلف، والصحيح أنه يرمي مستقبل القبلة في الأولى والوسطى، ويجعل الجمرة بين يديه، وما ذكره من الصفات مردود بأنه لا دليل عليه.
أما الثالثة فيرميها من بطن الوادي مستقبل الجمرة، وتكون الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه؛ لأن عبد الله بن
__________
(1) سبق تخريجه ص(325).
مسعود ـ رضي الله عنه ـ رماها كذلك وقال: «هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة» (1) ، يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذ يستثنى من استقبال القبلة في رمي الجمرات جمرة العقبة، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن تستقبل القبلة، وترمي جمرة العقبة بحيث تكون بين يديك، لأجل الجبل، لأنها ملاصقة للجبل، وفي هذا دليل واضح على أن المقصود هو استقبال الجمرة، سواء استقبلت القبلة أم لم تستقبلها، لكن في الجمرة الأولى والوسطى يمكن أن تجمع بين استقبال القبلة واستقبال الجمرة، أما في العقبة فلا يمكن أن تجمع بين استقبال القبلة واستقبال الجمرة، ولذلك فُضِّل استقبال الجمرة.
قوله: «ولا يقف عندها» ، أي: لا يقف عند جمرة العقبة فإذا رماها انصرف، وإنما يقف بعد الأولى والوسطى.
قال بعض العلماء: لأن المكان ضيق، فلو وقف لحصل منه تضييق على الناس وتعب في نفسه.
وقال بعض العلماء: لأن الدعاء التابع للعبادة يكون في جوف العبادة ولا يكون بعدها، ولذلك دعا بعد الأولى ودعا بعد الوسطى وهذه انتهت بها العبادة؛ وهذا على قاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية واضح، ولهذا يرى أن الإنسان إذا أراد أن يدعو في الصلاة، فليدع قبل أن يسلم؛ لا بعد أن يسلم، لا في الفريضة، ولا في النافلة.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (321) الجزء المفقود موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما وإسناده صحيح كما قال الحافظ في الفتح (3/683) ط/الريان.
وبه نعرف أيضاً أن الدعاء على الصفا والمروة يكون في ابتداء الأشواط لا في انتهائها، وأن آخر شوط على المروة ليس فيه دعاء؛ لأنه انتهى السعي، وإنما يكون الدعاء في مقدمة الشوط كما كان التكبير أيضاً في الطواف في مقدمة الشوط، وعليه فإذا انتهى من السعي عند المروة ينصرف، وإذا انتهى من الطواف عند الحجر ينصرف، ولا حاجة إلى التقبيل، أو الاستلام، أو الإشارة، والذي نعلل به دون أن يعترض معترض أن نقول هكذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
يَفْعَلُ هَذَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ مُرَتِّباً فَإِن رَمَاهُ كُلَّهُ فِي الثَّالثِ أجْزَأه، وَيُرتِّبهُ بِنِيَّتِهِ فَإِن أخَّرَهُ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَبِتْ بِهَا، فَعَلَيهِ دَمٌ.
قوله: «يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال» يفعل هذا، أي: رمي الجمرات الثلاث، على ما وصف في كل يوم من أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد العيد سميت أيام التشريق لأن الناس يشرقون فيها اللحم أي ينشرونه إذا طلعت الشمس، فتشرق عليه الشمس وييبس ولا يُعفِّن، وقيل: إنها تسمَّى أيام التشريح أيضاً؛ لأن الناس يشرحون فيها اللحم.
قوله: «بعد الزوال»، أي زوال الشمس ويكون الزوال عند منتصف النهار، وعليه يكون وقت الرمي من زوال الشمس إلى غروبها، فلا يجزئ الرمي قبل الزوال، ولا يجزئ بعد الغروب؛ لأن ذلك خارج عن اليوم، والدليل على أنه لا يجزئ قبل الزوال ما يلي:
أولاً : أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رمى بعد الزوال» (1) ، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص(326).
(2) سبق تخريجه ص(240).
ثانياً : ولأنه لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها من وجه، ولما فيه من التيسير على العباد من وجه آخر، لأن الرمي في الصباح قبل الزوال أيسر على الأمة من الرمي بعد الزوال؛ لأنه بعد الزوال يشتد الحر ويشق على الناس أن يأتوا من مخيمهم إلى الجمرات، ومع شدة الحر يكون الغم مع الضيق والزحام، فلا يمكن أن يختار النبي صلّى الله عليه وسلّم الأشد ويدع الأخف، فإنه ما خيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً (1) ، فنعلم من هذا أنه لو رمى قبل الزوال صار ذلك إثماً، ولذلك تجنبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولعل هناك فائدة وهي ابتلاء العباد هل يرمون مع المشقة أو يتقدمون خوف المشقة؟ وليس هذا ببعيد أن يبتلي الله عباده بمثل هذا، ولما فيه من تطويل الوقت من وجه ثالث، فلما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتعمد أن يؤخر حتى تزول الشمس مع أنه أشق على الناس، دل هذا على أنه قبل الزوال لا يجزئ.
ثالثاً : أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يبادر بالرمي حين تزول الشمس فيرمي قبل أن يصلي الظهر (2) ، وكأنه يترقب زوال الشمس ليرمي ثم ليصلي الظهر، ولو جاز قبل الزوال لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولو مرة بياناً للجواز، أو فعله بعض الصحابة وأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو القول الراجح، أعني القول بمنع الرمي قبل الزوال.
__________
(1) أخرجه البخاري في «المناقب»/ باب صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم (3560)؛ ومسلم في «الفضائل»/ باب مباعدته صلّى الله عليه وسلّم للآثام (2327) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) لما روى وبرة قال: سألت ابن عمر ـ رضي الله عنهما: «متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا»، أخرجه البخاري في الحج/ باب رمي الجمار (1746).
وقد رخص بعض العلماء في اليوم الثاني عشر لمن أراد أن يتعجل أن يرمي قبل الزوال، ولكن لا يتعجل إلا بعد الزوال وبعضهم أطلق جواز الرمي في اليوم الثاني عشر قبل الزوال، ولكن لا وجه لهذا إطلاقاً مع وجود السنة النبوية، فلو قال قائل إن الله يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، والأيام تكون في أول النهار وآخر النهار؟
فالجواب: أن هذا المطلق في القرآن بينته السنة، وليس هذا أول مطلق تبينه السنة، فما دام النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الله برمي الجمرات في هذا الوقت فإنه لا يجزئ قبله.
وأما الرمي بعد غروب الشمس فلا يجزئ على المشهور من المذهب، لأنها عبادة نهارية فلا تجزئ في الليل كالصيام.
وذهب بعض العلماء إلى إجزاء الرمي ليلاً، وقال: إنه لا دليل على التحديد بالغروب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: حدد أوله بفعله ولم يحدد آخره.
وقد سئل الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في صحيح البخاري فقيل: «رميت بعدما أمسيت ، قال: «لا حرج» (1) والمساء يكون آخر النهار، وأول الليل (2) ، ولما لم يستفصل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل بعدما أمسيت في آخر النهار، أو في أول الليل، علم أن الأمر واسع في هذا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب إذا رمى بعدما أمسى (1735) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما.
(2) انظر: «لسان العرب» مادة «مسا».
ثم إنه لا مانع أن يكون الليل تابعاً للنهار، فالوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، والليل فيه تابع للنهار، فإن وقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر.
ولهذا نرى أنه إذا كان لا يتيسر للإنسان الرمي في النهار، فله أن يرمي في الليل، وإذا تيسر لكن مع الأذى والمشقة، وفي الليل يكون أيسر له وأكثر طمأنينة، فإنه يرمي في الليل؛ لأن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من المتعلق بزمن العبادة، وما دام أنه ليس هناك دليل صحيح صريح يحدد آخر وقت الرمي، فالأصل عدم ذلك.
قوله: «مستقبل القبلة مرتباً» ، سبق القول في قوله مستقبل القبلة، والمراد بالترتيب هنا الترتيب في الجمرات أن يرمي الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لتأخذوا عني مناسككم» (1) ، فإن نكس ورمى العقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى صحت الأولى فقط، ووجب عليه أن يرمي الثانية، والثالثة (2) .
وقال بعض أهل العلم: إن الترتيب ليس بشرط، لكنه ندب وقال: إن هذا ليس أولى من عدم الترتيب في أنساك يوم العيد، وأنساك يوم العيد لا يشترط فيها الترتيب، وعورض هذا بأن الرمي عبادة واحدة فلا بد أن تفعل كما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بخلاف أنساك يوم العيد، فإنها عبادات متنوعة، كل عبادة مستقلة عن الأخرى.
__________
(1) سبق تخريجه ص(240).
(2) وهذا هو المذهب.
ولكن نقول: ما دام الإنسان في سعة فيجب الترتيب، وأنه لو سألنا في أيام التشريق، فقال: إنه رمى منكساً لسهل علينا أن نقول: اذهب وارم مرتباً، لكن إذا كان الأمر قد فات بفوات أيام التشريق، وجاء وسأل فقال: إني رميت من غير أن أعلم فبدأت بجمرة العقبة، فلا بأس بإفتائه بأن رميه صحيح؛ لأنه ليس هناك قول عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوجوب الترتيب بينها، وليس هناك إلا مجرد الفعل، وعموم: «لتأخذوا عني مناسككم».
ولا سيما أن كثيراً من العلماء قالوا: يسقط الترتيب بين أعضاء الوضوء بالجهل والنسيان، وبين الفوائت بالجهل والنسيان، وبين الصلاتين المجموعتين بالجهل، فهذا يدل على أنه إذا اختل الترتيب لعذر من الأعذار، فإنه يسقط عن الإنسان؛ لأنه أتى بالعبادة لكن على وجه غير مرتب.
قوله: «فإن رَمَاهُ كله في الثالث أجزأه» ، الضمير يعود على حصى الجمار، أي: رماه كله في اليوم الثالث، وهو الثالث عشر أجزأه، وظاهر كلام المؤلف أنه لا شيء عليه.
قوله: «ويرتبه بنيته» ، أي يرتب الأيام بنيته، فمثلاً يبدأ برمي أول يوم بالأولى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، ثم يعود فيرمي لليوم الثاني يبدأ بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، ثم يعود فيرمي للثالث يبدأ بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة، فلا بد أن يأتي بعبادة اليوم الأول قبل عبادة اليوم الثاني.
ولا يجزئ أن يرمي الأولى عن ثلاثة أيام، ثم الوسطى عن ثلاثة أيام، ثم العقبة عن ثلاثة؛ لأن ذلك يفضي إلى تداخل
العبادات، أي: إدخال جزء من عبادة يوم في عبادة يوم آخر.
وما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ من جواز جمع الرمي في آخر يوم ضعيف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رمى كل يوم في يومه، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» (1) ، لأنه «رخص للرعاة أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً» (2) .
وكلمة «رخص» تدل على أن من سواهم، لا رخصة له، وعلى هذا فالقول الصحيح، أنه لا يجوز أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم إلا في حال واحدة مثل أن يكون منزله بعيداً، ويصعب عليه أن يتردد كل يوم، لا سيما في أيام الحر والزحام، فهنا لا بأس أن يؤخر الرمي إلى آخر يوم ويرميه مرة واحدة؛ لأن هذا أولى بالعذر من الرعاة الذين رخص لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجمعوا الرمي في يوم.
وأما من كان قادراً، والرمي عليه سهل لقربه من الجمرات،
__________
(1) سبق تخريجه ص(240).
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/450)؛ وأبو داود في الحج/ باب في رمي الجمار (1976)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء في الرخصة للرعاة أن يرموا يوماً... (954)؛ والنسائي في المناسك/ باب رمي الرعاة (5/273)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب تأخير رمي الجمار من عذر (3036) وصححه ابن خزيمة (2976)، (2977)؛ وابن حبان (3888) عن عاصم بن عدي ـ رضي الله عنه ـ وأخرجه الإمام أحمد (5/450)؛ وأبو داود (1975)؛ والترمذي (955)؛ والنسائي (5/273)؛ وابن ماجه (3037)؛ وصححه ابن خزيمة (1979) عن عاصم بن عدي ـ رضي الله عنه ـ بلفظ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رخص لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد النحر فيرمونه في أحدهما»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: إنه أصح من اللفظ الأول.
أو لكونه يستطيع أن يركب السيارات حتى يقرب من الجمرات، فإنه يجب أن يرمي كل يوم في يومه.
قوله: «فإن أخره عنه» ، أي: عن آخر يوم من أيام التشريق فعليه دم، أي: ولو لعذر، لكن إذا كان لعذر يسقط عنه الإثم، وأما جبره بالدم فلا بد منه.
فلو فرض أن رجلاً من الناس ظن أن رمي الجمرات غير واجب، أو ظن أن الترتيب فيها غير واجب، وجاء يسألنا بعد أن مضت أيام التشريق، فعلى ما مشى عليه المؤلف يجب عليه دم.
فإذا قال: أنا جاهل؟ قلنا: نعم أنت جاهل ويسقط عنك الإثم، لكن هذا العمل الذي فات بجهلك له بدل، وهو الدم، فيجب عليك أن تذبح فدية توزعها على الفقراء في مكة.
تنبيه: ظاهر كلام المؤلف أنه إذا أخره عن اليوم الثالث رماه وعليه دم، وهذا غير مراد لأنه إذا مضت الأيام انتهى وقت الرمي فيسقط.
قوله: «أو لم يبت بها فعليه دم» ، الضمير يعود على منى، أي: لم يبت بها ليلتين إن تعجل أو ثلاث ليالٍ إن تأخر فعليه دم وسبق ما يراد بالدم عند الإطلاق في قول المؤلف «والدم شاة» إلخ.
وقوله: «أو لم يبت بها» ، عُلم منه أنه لو ترك ليلة من الليالي، فإنه ليس عليه دم، وهو كذلك (1) ، بل عليه إطعام مسكين
__________
(1) وهذا هو المذهب.
إن ترك ليلة، وإطعام مسكينين إن ترك ليلتين، وعليه دم إن ترك ثلاث ليالي.
وقيل: إن ترك المبيت، ليس فيه دم مطلقاً، وهذا مبني على أن المبيت سنة، وليس بواجب.
واستدل لهذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «رخص لعمه العباس في السقاية أن يبيت بمكة من أجل سقي الناس ماء زمزم» (1) ، وهذا ليس بضرورة إذ من الجائز أن تترك زمزم، وكل من جاء شرب منها، ولكن كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرخص للعباس يدل على أن المبيت سنة.
والصحيح أنه واجب، لأن كلمة «رخص للعباس أن يبيت في مكة من أجل سقايته» ، يدل على أن ما يقابل الرخصة عزيمة لا بد منه.
ولكن لا نفعل كما يفعل بعض المفتين اليوم، يأتيه السائل، ويقول أنا لم أدرك الليل كله في منى، فات علي بعض الليل وأنا في مكة؛ لأنني نزلت إلى مكة أقضي الحج، وأطوف ثم تأخر بي السير، ولم أصل إلى منى إلا بعد الفجر.
فيقول عليك دم، فهذا غلط؛ لأن إلزام المسلمين بما لم يلزمهم الله به قول على الله بلا علم.
مسألة: لو أن مفتياً أفتى بغير علم، وقال للحاج: عليك
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم ليالي منى (1743)؛ ومسلم في الحج/ باب وجوب المبيت بمنى (1315) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ واللفظ للبخاري.
دم، فذهب الحاج واشترى دماً بخمسمائة ريال، وتصدق به على الفقراء، هل يمكن أن نقول بتضمين المفتي؟
الجواب: نعم نقول بتضمينه؛ لأنه هو الذي أفتاه بغير علم، وألزمه بما لم يلزمه الله به، ونحن نستفيد من هذا التضمين أن هذا الذي أفتى بغير علم اليوم لا يفتي بمثله أبداً، ولا يفتي بمسألة إلا وقد علمها أو غلب على ظنه أن هذا حكمها.
وَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَينِ خَرجَ قَبْلَ الغُروب، وإِلاَّ لَزِمَه المَبِيتُ والرَّميُ مِن الغَدِ فَإِذَا أرادَ الخُرُوج مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَخْرُج حَتَى يَطُوف لِلوَدَاعِ .
قوله: «ومن تعجل في يومين» ، أتى بلفظ الآية ونعم ما صنع، لأنه متى أمكن الإنسان أن يأتي بلفظ الدليل فهو أولى؛ لأنه يجمع بين المسألة ودليلها مثل قول الماتن ـ رحمه الله ـ: «وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» ، فهذا لفظ المتن وهو أيضاً لفظ الحديث (1) ، فمتى أمكنك الإتيان بالألفاظ الشرعية فهو خير وأسلم لذمتك، ويفهم الناس منها ما يفهمون من الدليل، والمراد باليومين الحادي عشر والثاني عشر؛ لقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] . أي: من هذه الأيام المعدودات، والأيام المعدودات هي أيام التشريق.
وبعض العوام يظنون أن المراد بقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} يوم العيد والحادي عشر، فيتعجلون في الحادي عشر، ولكن هذا غلط، لم يقل به أحد من أهل العلم، وإنما المراد من تعجل في يومين من هذه الأيام الثلاثة أيام التشريق.
__________
(1) سبق تخريجه ص(276).
قوله: «خرج قبل الغروب» ، أي: خرج من منى قبل أن تغرب الشمس، وذلك ليصدق عليه أنه تعجل في يومين؛ إذ لو أخر الخروج إلى ما بعد الغروب لم يكن تعجل في يومين؛ لأن اليومين قد فاتا.
قوله: «وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد» ، أي: وإلا يخرج قبل غروب الشمس لزمه المبيت ليلة الثالث عشر، والرمي من الغد، بعد الزوال، كاليومين قبله.
والدليل أن الله قال: {فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] وفي للظرفية، والظرف لا بد أن يكون أوسع من المظروف، وعليه فلا بد أن يكون الخروج في نفس اليومين.
وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أَنَّ مَنْ أدركه المساء فإنه يلزمه البقاء (1) .
مسألة: لو أن جماعة حلوا الخيام وحملوا العفش وركبوا، ولكن حبسهم المسير؛ لكثرة السيارات فغربت عليهم الشمس قبل الخروج من منى، فلهم أن يستمروا في الخروج، لأن هؤلاء حبسوا بغير اختيار منهم.
قوله: «فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع» ، قوله: «لم يخرج» تحريماً، لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
__________
(1) أخرجه البيهقي (5/152)؛ وأخرجه مالك في «الموطأ» (1/407)؛ ومن طريق البيهقي (5/152) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما.
وصححهما النووي في «المجموع» (8/283) وروى مرفوعاً ولا يثبت، كما قال البيهقي.
«أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض» (1) ، فقوله: «إلا أنه خفف عن الحائض» يدل على الوجوب على غيرها؛ لأنه لو كان غير واجب على غيرها لكان خفيفاً على كل الناس؛ لأن ما لا يجب ليس الإنسان ملزماً به فله تركه، فالصواب أن طواف الوداع واجب، وقد عكس بعض الأئمة ـ رحمهم الله ـ فقال: إن طواف الوداع سنة وطواف القدوم واجب، مع أن السنة تدل على العكس، بدليل حديث عروة بن المضرس ـ رضي الله عنه ـ (2) أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يقل: «هل طفت للقدوم».
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أراد الخروج من مكة إلى أي بلد كان فإنه لا يخرج حتى يطوف للوداع.
وصرح بعض الأصحاب أنه إذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لم يخرج حتى يطوف للوداع.
ووجه التقييد بالبلد أنه إذا أراد الخروج إلى بلد آخر فإنه لم يزل في سفر، ولم يرجع.
مثاله: لو كان في مكة وبعد انتهاء الحج خرج إلى جدة، وليس من أهل جدة، أو خرج إلى الطائف وليس من أهل الطائف، فإنه على هذا التقييد لا يطوف للوداع؛ لأنه لم يرد الخروج إلى بلده، وهو في حكم المسافر، وهذا التقييد تقييد حسن.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب طواف الوداع (1755)؛ ومسلم في الحج/ باب وجوب طواف الوداع (1328).
(2) سبق تخريجه ص(231).
والدليل على هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: لم يأمر أصحابه أن يطوفوا للوداع حين خرجوا من مكة إلى المشاعر، وإن كان قد يقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يأمرهم بذلك؛ لأنهم لم يتموا حجهم حتى يلزمهم بالوداع، والذي يظهر أن التقييد أصح من الإطلاق لكن بشرط أن يكون خرج إلى البلد الذي أراده بنية الرجوع إلى مكة لينشئ السفر منها إلى بلده.
ولكن لو أن الإنسان عمل بالأمرين فطاف إذا أراد الخروج من مكة إلى بلد آخر، وإذا رجع إلى مكة طاف إذا أراد الخروج إلى بلده لكان خيراً.
لكن إذا كان الأمر فيه مشقة أن يطوف مرتين، فلا يظهر الإلزام بالطواف إذا أراد الخروج إلى غير بلده؛ لأنه في الواقع لم يغادر مكة فسوف يرجع إليها.
أما لو أراد الخروج إلى بلد آخر عبر سفره إلى بلده فهنا يطوف، كما لو أراد الخروج إلى بلده عن طريق المدينة فاتجه إلى المدينة، وهو يريد السفر إلى بلده فإن هذا يلزمه الطواف؛ لأنه حقيقة غادر مكة.
وقوله: «لم يخرج حتى يطوف للوداع» يستثنى من ذلك الحائض فإنها لا تطوف للوداع، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أخبر أن صفية ـ رضي الله عنها ـ قد حاضت وكانت قد طافت طواف الإفاضة، قال: «انفروا» (1) ، فأسقط عنها طواف الوداع،
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت (1757)؛ ومسلم في الحج/ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (1211) (382) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
ويدل لهذا أيضاً حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «إلا أنه خفف عن الحائض» (1) ؛ ولأن طواف الوداع ليس من النسك بل هو تابع له، فسقط بتعذره شرعاً بخلاف طواف الإفاضة فلا يمكن أن يسقط عن الحائض والنفساء.
فإن قال قائل: هل تجعلون العجز الحسي كالعجز الشرعي؟
يعني لو كان الإنسان مريضاً لا يستطيع أن يطوف لا بنفسه ولا بغيره هل يسقط عنه طواف الوداع؟
الجواب: لا؛ لأن إحدى أمهات المؤمنين استأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تدع طواف الوداع لكونها مريضة، قال لها: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» (2) ، فهذا المريض نقول له: الأمر ميسر ـ والحمد لله ـ هناك عربات يمكن أن يركبها يطوف أو يطوف على المحمل.
إذاً فلا يسقط طواف الوداع إلا عن الحائض والنفساء فقط.
فَإِن أَقَامَ، أَوْ اتَّجَرَ بعْدَهُ أَعَادَهُ وَإِنْ تَرَكَهُ غَيْرُ حَائِضٍ رَجَعَ إِليهِ، فَإِن شَقَّ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دَمٌ،..
قوله: «فإن أقام» ، أي: أقام في مكة بعد طواف الوداع.
أفادنا المؤلف بهذا أنه لا بد أن يكون هذا الطواف آخر أموره، وهو كذلك؛ لقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» (3) ، وبه تعرف أن ما يفعله بعض الحجاج من كونهم يطوفون للوداع، ثم يخرجون إلى منى، ويرمون الجمرات، ثم يغادرون فإن فعلهم خطأ؛ لأن آخر عهدهم يكون بالجمار، وليس
__________
(1) سبق تخريجه ص(361).
(2) سبق تخريجه ص(22).
(3) سبق تخريجه ص(361).
بالبيت، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما طاف بالبيت للوداع بعد انتهاء النسك كله.
وقوله: «فإن أقام» ظاهره أنه إذا أقام بعد طواف الوداع وجبت عليه إعادته سواء كانت الإقامة طويلة أو قصيرة، إلا أنهم استثنوا من ذلك إذا أقام لانتظار الرفقة فإنه لا يلزمه إعادة الطواف ولو طال الوقت؛ لأن إيجاب الإعادة عليهم يلزم منه التسلسل، أو أنه لما انتهى من الطواف أُذِّن للصلاة فلا بأس أن يصلي، لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لما طاف للوداع صلى الفجر ثم سافر متجهاً إلى المدينة (1) .
وكذلك لو فرض أنه تبين له عطل في سيارته بعد الطواف فجلس في مكة من أجل إصلاحه، فإنه لا يلزمه إعادة هذا الطواف لأنه إنما أقام لسبب متى زال واصل سفره.
قوله: «أو اتجر بعده أعاده» ، أي: اشترى شيئاً للتجارة، أو باع شيئاً للتجارة، فإنه يعيده، وعلم من ذلك أنه لو اشترى حاجة، أو باع حاجة في طريقه، أو هدايا لأهله، لا تجارة فإنه لا بأس به، على أننا نرغب أن يكون شراؤه قبل طوافه.
مسألة: ما الذي يوجب إعادة طواف الوداع إذا تأخر الإنسان بعده؟
__________
(1) كما يفهم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ عند البخاري في الحج/ باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج (1788)، ومسلم في الحج/ باب وجوه الإحرام (1211) (123)، وحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ عند البخاري في الصلاة/ باب إدخال البعير في المسجد للعلة (464)؛ ومسلم في الحج/ باب جواز الطواف على بعير وغيره (1276).
الجواب: الذي يوجب إعادة طواف الوداع فيما لو تأخر بنية الإقامة ولو ساعة لغير ما استثنى.
وعلم من كلام المؤلف: أنه إذا طاف للوداع، فإنه لا يرجع القهقرى إذا أراد أن يخرج من المسجد، والقهقرى أي: الرجوع على الخلف، ولا يقف عند الباب فيكبر ثلاثاً ويقول: السلام عليك يا بيت الله، فإن هذا كله من البدع، فإذا طفت للوداع فامض في سبيلك، واستدبر الكعبة ولا شيء عليك؛ لأن تعظيم الكعبة إنما يكون باتباع ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن يرجع القهقرى إذا أراد الخروج، ولم يكن إذا انتهى إلى باب المسجد وقف، ونظر إلى الكعبة وودعها.
قوله: «وإن تركه غير حائض رجع إليه» ، أي: لزمه أن يرجع فيطوف، فإن تركته الحائض فإنه لا يلزمها الرجوع، إلا إذا طهرت قبل مفارقة بنيان مكة فإنه يلزمها الرجوع، أما إذا طهرت بعد مفارقة البنيان ولو بيسير، ولو داخل الحرم، فإنه لا يلزمها أن ترجع.
والدليل على هذا: قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «إلا أنه خفف عن الحائض» (1) ، والنفساء مثلها.
قوله: «فإن شق أو لم يرجع فعليه دم» ، أي: إن شق الرجوع ولم يرجع فعليه دم، وكذلك إذا لم يرجع بلا مشقة فعليه دم، لكن الفرق أنه إذا تركه للمشقة لزمه الدم ولا إثم، وإذا تركه لغير مشقة لزمه الدم مع الإثم؛ لأنه تعمد ترك واجب.
__________
(1) سبق تخريجه ص(361).
وقوله: «وإن تركه غير حائض رجع إليه» ، ظاهره وجوب الرجوع قرب أم بَعُدَ ما لم يشق، وأنه إذا رجع ولو من بعيد سقط عنه الدم، لكن المذهب أنه إذا جاوز مسافة القصر استقر عليه الدم، سواء رجع أو لم يرجع، وكذلك لو وصل إلى بلده، فإن الدم يستقر عليه، سواء رجع أم لم يرجع، وعلى هذا فأهل جدة لو خرجوا إلى جدة قبل طواف الوداع، ثم رجعوا بعد أن خف الزحام وطافوا فإن الدم لا يسقط عنهم؛ لأنه استقر بمسافة القصر، أو بوصوله إلى بلده، حتى ولو فرض أن أناساً من بلد دون جدة كأهل بحرة، وصلوا إلى بلدهم استقر عليهم الدم.
وقوله: «فعليه دم» . الدليل على وجوب الدم الأثر المشهور عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «من ترك شيئاً من نسكه، أو نسيه فليهرق دماً» (1) ، وهذا نسك واجب أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيكون في تركه دم، وهذا الأثر مشهور عند العلماء واستدلوا به، وبنوا عليه وجوب الفدية بترك الواجب، وقالوا في تقرير هذا الدليل: إن هذا قول صحابي ليس للرأي فيه مجال فوجب العمل به؛ لأن قول الصحابي الذي ليس للرأي فيه مجال يكون له حكم الرفع.
وقال بعض العلماء: يمكن أن يكون صادراً عن اجتهاد، ويكون للرأي فيه مجال، وجهه أن يقيس ترك الواجب على فعل المحرم، أي فعل محظورات الإحرام التي فيها دم؛ لأن في الأمرين معاً انتهاكاً لحرمة النسك، فترك الواجب انتهاك
__________
(1) سبق تخريجه ص(187).
لحرمة النسك، وفعل المحظور انتهاك لحرمة النسك، فيكون ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بنى هذا الحكم على اجتهاد، وإذا بناه على اجتهاد، فإنه يكون قول صحابي وليس مرفوعاً.
ويبقى النظر، هل قول الصحابي حجة؟
الجواب: فيه خلاف بين العلماء مشهور في أصول الفقه، وهو عند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ حجة ما لم يخالف نصاً أو قول صحابي، فإن خالف نصاً فلا عبرة به، العبرة بالنص، وإن خالف قول صحابي طلب الترجيح بين القولين.
إذاً المسألة على هذا التقرير تكون من باب الاجتهاد، ونحن نفتي الناس بالدم، وإن كان في النفس شيء من ذلك، لكن من أجل انضباط الناس، وحملهم على فعل المناسك الواجبة بإلزامهم بهذا الشيء؛ لأن العامي إذا قلت له: ليس عليك إلا أن تستغفر الله وتتوب إليه، سهل الأمر عليه، مع أن التوبة النصوح أمرها صعب.
وفهم من قوله: «فإن شق أو لم يرجع فعليه دم» ، أن الإنسان ليس مخيراً بين أن يقوم بالواجب أو يذبح عنه فدية كما يظنه بعض الجهال، فبعض الجهال يقول: وقفت بعرفة ونزلت إلى مكة، وطفت طواف الإفاضة وسعيت وبقي المبيت بمزدلفة وبمنى ورمي الجمار وطواف الوداع، أو أذبح عشرة ذبائح وليس أربعة، فهذا ليس بجائز؛ لأن المسألة ليست مسألة تخيير لكن المسألة أنه إذا فات الواجب ولم يمكن تداركه فإنه يفدي بدم، وبعض الجهال يظن أنه مخير، ولهذا تجده يقول: أنا لا يهمني أتجاوز
الميقات بلا إحرام، متى شئت أحرمت، والمسألة سهلة أذبح فدية، فهذا ليس بصحيح، ولكن إذا فات الواجب ولم يمكن تداركه فحينئذٍ نلزمه بالفدية، وهكذا بقية كفارات المعاصي ليس معناها أن الإنسان مخير بين فعل المعصية والكفارة، أو تركها، فهذا ليس بجائز، ولذلك يجب أن ننبه العوام وبعض طلبة العلم الذين علمهم قاصر، أن هذه الكفارات والفداءات ليس معناها أن الإنسان مخير بين أن يفعل المعصية أو يترك الواجب ويفعل هذه الفدية، بل إذا فات الأمر ولم يمكن تداركه فالفدية.
وَإِنْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَة فَطَافَهُ عِنْدَ الخُرُوجِ أَجْزَأ عَن الوَدَاعِ ...
قوله: «وإن أخر طواف الزيارة، فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع» . طواف الزيارة هو طواف الإفاضة، أي: طواف الحج.
فإن قيل: كيف يجزئه عن طواف الوداع الذي هو واجب، وطواف الإفاضة ركن؟
فالجواب: أن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهده بالبيت وقد حصل بطواف الإفاضة، فيكون مجزئاً عن طواف الوداع، وهذا واضح فيما إذا كان من قارن، أو مفرد سعى بعد طواف القدوم؛ لأنه في هذه الحال ليس عليه إلا الطواف وينصرف، لكنه مشكل فيما إذا كان من متمتع؛ لأن المتمتع لا بد أن يطوف ويسعى؟
فقيل: إنه يقدم السعي على الطواف؛ لأن تقديم السعي على الطواف في الحج جائز؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا حرج» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص(336).
وقال بعض العلماء: بل لا حاجة إلى ذلك، بل يقدم الطواف ويأتي بالسعي بعده، والسعي تابع للطواف فلا يضر أن يفصل بين الطواف وبين الخروج، واستدل البخاري ـ رحمه الله ـ على ذلك بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذن لعائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تأتي بعمرة بعد تمام النسك، فأتت بعمرة فطافت وسعت وسافرت (1) ، فحال السعي بين الطواف والخروج، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف للوداع ثم صلى صلاة الفجر وقرأ بالطور (2) ثم خرج، فهذا يدل على أن مثل هذا الفصل لا يضر، وهذا عندي أقرب من القول بتقديم السعي؛ لأن هذا يحصل فيه الترتيب المشروع، وهو أن يقدم الطواف على السعي.
مسألة: جمع طواف الإفاضة وطواف الوداع لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن ينوي طواف الإفاضة فقط.
الثانية: أن ينويهما جميعاً.
الثالثة: أن ينوي طواف الوداع فقط.
والصورة التي ذكرها المؤلف هي الصورة الأولى فقط.
فعلى هذا نقول: الصورة الأولى إذا نوى طواف الإفاضة ولم يكن عنده نية طواف الوداع، فيجزئ كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد.
وهذه أحسن الصور، لأن بعض العلماء قال: «إذا نواهما جميعاً لم يصح».
__________
(1) سبق تخريجه ص(51).
(2) سبق تخريجه ص(22).
والصورة الثانية: إذا نواهما جميعاً فيجزئ أيضاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
والصورة الثالثة: إذا نوى طواف الوداع فقط ولم ينو طواف الإفاضة، فإنه لا يجزئه عن طواف الإفاضة ولا عن طواف الوداع.
وهذه مسألة يجب أن ينبه الناس عليها؛ لأن أكثرهم إذا أخر طواف الإفاضة فطافه عند الخروج نوى الوداع فقط، ولا طرأ على باله طواف الإفاضة، فنقول في هذه الحال: إنه لا يجزئه؛ لأن طواف الإفاضة ركن وطواف الوداع واجب فهو أعلى منه، ولا يجزئ الأدنى من الأعلى ولأنه لم ينو طواف الإفاضة، ولا يجزئه عن طواف الوداع، لأن من شرط طواف الوداع أن يكون بعد استكمال النسك، والنسك لم يتم.
لكن لو قال قائل: ألستم تقولون إن الرجل إذا حج عن نفسه قبل الفريضة ونواها نافلة فإنها تقع عن الفريضة؟
فالجواب: بلى نقول ذلك، وكذلك لو حج عن غيره ولم يحج عن نفسه مع وجوب الحج عليه فإن الحج يقع عن نفسه، والفرق أن مسألتنا جزء من حج بخلاف الحج كاملاً، فالحج كاملاً تكون الذمة فيه مشغولة بالفريضة، فإذا أدى ما دون الفريضة صار للفريضة، وأما هذا فهو جزء من عبادة، فإن طواف الوداع إن قلنا إنه من الحج فهو جزء منه، وإن قلنا: إنه مستقل فإنه لا يمكن أن يجزئ واجب عن ركن.
__________
(1) سبق تخريجه ص(70).
وَيَقفُ غَيْرُ الحَائِضِ بَيْنَ الرُّكْنِ والبَابِ دَاعِياً بِمَا وَرَدَ وَتَقِفُ الحائِضُ ببَابِه وَتَدْعُو بِالدُّعَاء...
قوله: «ويقف غير الحائض بين الركن والباب داعياً بما ورد» ، أي: الحاج إذا ودع يقف بين الركن، أي: الحجر الأسود والباب، أي: باب الكعبة، ومسافته قليلة.
قال في الروض: «يلصق به وجهه وصدره وذراعيه وكفيه مبسوطتين» ، وهذا يسمى «الالتزام» عند أهل العلم، والمكان هذا يسمى «الملتزم»، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء مع أنها لم ترد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وإنما جاءت عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ (2) .
فهل الالتزام سنة، ومتى وقته، وهل هو عند القدوم، أو عند المغادرة، أو في كل وقت؟
وسبب الخلاف بين العلماء في هذا أنه لم ترد فيه سنة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يفعلون ذلك عند القدوم.
والفقهاء قالوا: يفعله عند المغادرة فيلتزم في الملتزم، وهو
__________
(1) أخرجه أبو داود في المناسك/ باب الملتزم (1898)؛ والبيهقي (5/92) عن عبد الرحمن بن صفوان ـ رضي الله عنه ـ وضعفه المنذري في «تهذيب السنن» (1818)؛ وأخرجه أيضاً أبو داود في المناسك/ باب الملتزم (1899)؛ وابن ماجه في الناسك/ باب الملتزم (2962)؛ وعبد الرزاق (9043، 9044)؛ والدارقطني (2/289)؛ والبيهقي (5/93) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما، وضعفه المنذري في «تهذيب السنن» (1819)؛ والبيهقي وابن التركماني في «الجوهر النقي».
(2) صح ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما عند عبد الرزاق (9047) بسند صحيح كما قال الحافظ في «الدراية» (2/30، 31).
ما بين الركن الذي فيه الحجر والباب، على الصفة التي ذكرها في الروض ويقول ما ورد، ثم ذكر صاحب الروض ـ رحمه الله ـ دعاءً طويلاً ومنه: «اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي إن أنت أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير» ، ويدعو بما أحب، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا فالالتزام لا بأس به ما لم يكن فيه أذية وضيق.
قوله: «وتقف الحائض ببابه» ، أي: باب المسجد.
قوله: «وتدعو بالدعاء» هكذا قال، ولا دليل لما قال إن الحائض تأتي وتقف بباب المسجد تدعو بهذا، والنبي صلّى الله عليه وسلّم، لما قيل له: إن صفية قد أفاضت قال: «فلتنفر» (1) ، ولم يقل فلتأت إلى المسجد وتقف ببابه، مع دعاء الحاجة إلى بيانه لو كان مشروعاً، وعلى هذا فيكون هذا القول ضعيفاً لا يعمل به.
__________
(1) سبق تخريجه ص(363).
وبهذا انتهى الكلام على صفة الحج والعمرة، واعلم أن كل ما ذكرناه فإنه مبني على ما نعلمه من الأدلة، ومع هذا لو أن إنساناً اطلع على دليل يخالف ما قررناه فالواجب اتباع الدليل، لكن هذا جهد المقل ـ نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا ـ.
وَتُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَبْرَيْ صَاحِبيه
قوله: «وتستحب زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبري صاحبيه» .
والدليل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بزيارة القبور، وهو عام يشمل قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر غيره، وأما ما استدل به بعضهم من حديث: «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» ، رواه الدارقطني (1) ، فالحديث ضعيف بل موضوع (2) مكذوب على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم كله حق وهذا الحديث باطل.
فهل الذي يزور قبره بعد وفاته كالذي يزوره في حياته؟!
أبداً ولا يشبهه بأي حال من الأحوال.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ: أن الحاج إذا انتهى من الحج يشد الرحل إلى المدينة ليزور قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبري صاحبيه، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فمنهم من قال: إن شد الرحل إلى القبور لا بأس به؛ لأنه شد لعمل صالح، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر بزيارة القبور، ولم ينه عن شد
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/278)؛ والطبراني في «الكبير» (13497)؛ وابن عدي (2/790)؛ والبيهقي (5/246) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما.
(2) انظر كلام شيخ الإسلام على هذا الحديث في التوسل والوسيلة ص(143) حيث حكم عليه بالوضع، وأيضاً الصارم المنكي لابن عبد الهادي ص(62)، وضعفه الحافظ في «التلخيص» (1075).
الرحل إليها بل قال: «زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة» (1) ، وخير قبور يشد إليها الرحل قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبرا صاحبيه.
ومنهم من قال: إن شد الرحال لزيارة القبور مكروه.
ومنهم من قال: إنه محرم، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وقرره بأدلة إذا طالعها الإنسان تبين له أن ما ذهب إليه هو الحق.
وَصِفَةُ العُمْرَةِ: أنْ يُحْرِمَ بِهَا مِن المِيقَاتِ، أوْ مِن أدنْىَ الحِلّ مِن مَكِّي وَنَحْوِهِ.
قوله: «وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل من مكي ونحوه» فهي إحرام وطواف، وسعي، وحلق أو تقصير أربعة أشياء.
وقوله: «أن يحرم بها من الميقات» يعني إن مر به أو من محاذاته إن لم يمر به، أو مما دونه إن كان دون الميقات فيحرم بها على حسب ما مر في المواقيت.
وقوله: «أو من أدنى الحل، من مكي ونحوه» ، وأدنى الحل بالنسبة إلى الكعبة التنعيم، أما بالنسبة لمن أراد العمرة، فقد يكون التنعيم، وقد يكون غير التنعيم، فالذي في مزدلفة مثلاً أدنى الحل إليه عرفة، والذي في الجهة الغربية من مكة أدنى الحل إليه الحديبية، ولا يلزمه أن يقصد التنعيم، الذي عينه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ، أو الجعرانة التي أحرم منها النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنائز/ باب استئذان النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه ـ عزّ وجل ـ في زيارة قبر أمه (976) (108) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
حين رجع من غزوة حنين؛ لأن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة أن تحرم من التنعيم (1) لكونه أقرب الحل إليها، وإحرامه من الجعرانة (2) لكونه نازلاً بها.
وقوله: «من مكي ونحوه» المكي هو ساكن مكة، ونحوه: هو الآفاقي المقيم بمكة، فكلاهما يحرم من أدنى الحل، وقد سبق تقرير ذلك، وبيان شبهة من قال من أهل العلم: إن المكي يحرم من مكة لعموم الحديث، وهو قوله: «حتى أهل مكة من مكة» (3) .
لاَ مِن الحَرَمِ، فَإِذا طَافَ وسَعَى وَقَصَّرَ حَلَّ، وَتُبَاحُ كَلَّ وَقْتٍ، وَتُجْزئ عَن الفَرْضِ.
قوله: «لا من الحرم» ، أي: لا يحرم للعمرة من الحرم، فإن فعل انعقد إحرامه، ولكن يلزمه دم؛ لتركه الواجب، وهو الإحرام من الحل.
قوله: «فإذا طاف وسعى وقصر حل» ، لأن العمرة مكونة من إحرام، وطواف، وسعي، وحلق أو تقصير، وأسقط المؤلف ذكر الحلق بناء على أن مراده عمرة المتمتع.
قوله: «وتباح كل وقت» العمرة تباح في كل وقت حتى في يوم عيد النحر، وفي يوم عرفة، وفي أيام التشريق، فمثلاً لو أن أحداً قدم إلى مكة في يوم عرفة للعمرة صحت منه؛ لكن إن كان يريد الحج قلنا له: اذهب إلى عرفة ولا تتمتع؛ لأن وقت التمتع قد فات، ولكن أدخل الحج على العمرة لتكون قارناً.
__________
(1) - (2) سبق تخريجه ص(51).
(3) سبق تخريجه ص(48).
وقوله: «تباح كل وقت» ، وأما الحج فله وقت مخصوص قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، وأما العمرة فتباح كل وقت، ولكن على المشهور من المذهب بشرط ألا يحرم بها على الحج، ولذلك قالوا ـ رحمهم الله ـ: القران أن يدخل الحج على العمرة لا أن يدخل العمرة على الحج، وخالف في ذلك أصحاب الشافعي فقالوا: يجوز أن يدخل العمرة على الحج ويصير قارناً.
لم يذكر ـ رحمه الله ـ هل يسن أن يعتمر كل وقت، أو في السنة مرة، أو في الشهر مرة؟
لكن ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في الفتاوى اتفاق السلف على أنه يكره تكرار العمرة.
وقال الإمام أحمد: «لا يعتمر إلا إذا حمَّمَ رأسُه» حمم أي: اسود من الشعر، وبناء على هذا يكون ما يفعله العامة الآن من تكرار العمرة، ولا سيما في رمضان كل يوم، إن لم يكن بعضهم يعتمر في النهار عمرة وفي الليل عمرة، خلاف ما عليه السلف.
قال في الروض: «ويكره الإكثار والموالاة بينها باتفاق السلف قاله في المبتدع» لابن مفلح.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» (1) ، فهو مطلق مقيد بعمل السلف رضوان الله عليهم.
__________
(1) سبق تخريجه ص(54).
قال في الروض: «ويستحب تكرارها في رمضان؛ لأنها تعدل حجة» هذا ليس بصحيح؛ لأن كراهة السلف لتكرارها عام في رمضان وفي غيره.
ولكن هل لها أوقات فاضلة؟ نعم، وفي رمضان تعدل حجة كما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، والصحيح أنها عامة خلافاً لمن قال: إن هذا الحديث ورد في المرأة التي تخلفت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحج فقال لها: «عمرة في رمضان تعدل حجة معي» (2) ، فإن بعض العلماء قال: إن هذا خاص بهذه المرأة يريد أن يطيب قلبها، ولكن الصواب أنها عامة، وتسن أيضاً في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خصها بالعمرة، وقد تردد ابن القيم ـ رحمه الله ـ أيهما أفضل: العمرة في أشهر الحج أو العمرة في رمضان؟ ولكن الظاهر أن العمرة في رمضان أفضل لقوله: «تعدل حجة» وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كرر العمرة في أشهر الحج؛ لتزول عقيدة أهل الجاهلية الذين يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ويقولون: إذا عفا الأثر وبرأ الدبر ودخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر، حتى يأتي الناس في غير أشهر الحج إلى مكة فيحصل ارتفاع اقتصادي.
مسألة: هل تباح يوم العيد؟
__________
(1) أخرجه البخاري في العمرة/ باب عمرة في رمضان (1782)؛ ومسلم في الحج/ باب فضل العمرة في رمضان (1256) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب حج النساء (1863)؛ ومسلم من الكتاب السابق (1256)، (222) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما.
أما غير الحاج فيجوز في عيد الأضحى أن يأتي بعمرة، أما الحاج فلا إلا إذا تحلل التحلل الأول، فإنه يجوز أن يأتي بعمرة لأن إحرامه بالحج حينئذٍ ناقص، فقد تحلل من أكثر المحظورات، ولذلك عبر صاحب الفروع لما ذكر نص الإمام أحمد فيمن جامع بعد التحلل الأول، أنه يأتي بعمرة أو كلاماً نحو هذا، قال: فدل على أنه لو أحرم بعد تحلله الأول صح.
ولكن هل يشرع هذا؟
الجواب: لا يشرع بل يمنع.
قوله: «وتجزئ عن الفرض» ، أي: العمرة تجزئ عن الفرض في أي وقت أدّاها، فعمرة المتمتع تجزئ عن الفرض، وعمرة القارن تجزئ عن الفرض؛ لأن القارن أتى بعمرة وحج؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك» (1) ، فأثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم لها حجاً وعمرةً.
مسألة: لو جعل القارن عمرته لشخص، وحجه لآخر؛ فقال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: يجوز؛ لأن القران وإن كان فعلاً واحداً لكنه نسكان، وإذا كان نسكين أجزأ أن يجعل نسكاً عن شخص، ونسكاً عن شخص آخر.
وأميل إلى أنه لا ينبغي، لكن لو فعل فلا أقول بالتحريم؛ لأن النبي جعلهما نسكين.
وأما المتمتع فواضح أنه يجوز؛ لأن كل نسك منفصل عن الآخر.
__________
(1) سبق تخريجه ص(84).
وَأَرْكَانُ الحَجِّ: الإِحْرام، والوُقُوفُ، وَطَوافُ الزِّيَارةِ والسَّعْيُ وَوَاجِبَاتُهُ: الإِحْرَامُ مِن المِيقَاتِ المُعْتَبَرِ لَهُ، والوقُوفُ بِعَرفَةَ إِلَى الغُرُوبِ وَالمَبِيتُ لِغَيرِ أهْلِ السِّقَايَةِ والرّعَايَة بِمِنَى ومُزدَلِفَةَ إِلَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ والرَّميُ، وَالحِلاَقُ، والوَدَاعُ، ...
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس