عرض مشاركة واحدة
قديم 10-30-2011, 08:26 AM   #6
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: تبصير الناسك بأحكام المناسك ( تشمل عامة أحكام الحج مختصرة محررة ) للشيخ وليد السعيدان

مسألة :- يجوز للحاج أن يبيع ويشتري في الحج, ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك شاغلاً له عن المقصود الأعظم من مجيئه إلى هذه المشاعر المعظمة وعليه بالصدقة والأمانة في بيعه وشرائه وليتق الله تعالى وليراقبه في كل مصادره وموارده وليبعد كل البعد عن الأيمان في تنفيق السلع, وبرهان ذلك قوله تعالى  ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم  قال المفسرون:- أي بالتجارة والبيع والشراء وطلب الرزق في الحج والله أعلم .
مسألة :- ينبغي للحاج إذا عزم على الحج أن يقدم بين ذلك توبة صادقة نصوحاً, وأن يعزم كل العزم المقرون بالعمل على الإقلاع عن الذنوب والمعاصي فإن القبول إنما يكون من المتقين قال تعالى  إنما يتقبل الله من المتقين  وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة  قال قال رسول الله  (( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )) ورواه مسلم أيضاً, وقال تعالى  فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج  ومن تمام ذلك رد المظالم إلى أهلها والحقوق إلى أصحابها ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله  (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كانت له حسنات أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحل عليه )) وينبغي له أن يتزود للسفر الزاد المعنوي بالتقوى والعمل الصالح وإتقان مسائل العلم في هذا الباب, والزاد الحسي بأن يأخذ من المال ما يكفيه ويغنيه عن سؤال الناس حتى يرجع إلى أهله قال تعالى  وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب  وينبغي له أن يحرص كل الحرص أن يكون هذا الزاد من الحلال الطيب وليحذر من الأموال الربوية والسرقات ونحوها من المكاسب المحرمة, فعن أبي هريرة  قال قال رسول الله  (( ياأيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:  ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً  وقال ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم  ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ))"رواه مسلم" وينبغي له أيضاً أن يحرص على الاستخارة وهي ركعتان في غير وقت النهي يقرأ فيهما ما تيسر من القرآن وإذا فرغ منهما رفع يديه ودعا الله بنية خالصة وقلب حاضر قائلاً ( اللهم إني استخيرك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق...إلخ ) الحديث معروف. ويستحب له أن يكون خروجه في بكرة الصباح لحديث (( اللهم بارك لأمتي في بكورها ))"حديث حسن" وليحرص على دعاء السفر وعلى التأمير لحديث (( إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم ))"حديث حسن" وعليه أن يحرص على كتابة الوصية فإن سفرة الحج تحفها المخاطر مع أن كتابة الوصية تشرع بتأكد ولو بلا سفر فمع السفر من باب أولى ففي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله  قال (( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه )) والله تعالى أعلم وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن من كان دون المواقيت فإن مهله من حيث أنشأ حتى أهل مكة فإن إحرامهم بالحج يكون من مكة للحديث السابق وفيه (( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة )) إلا أن المكي أو المقيم بمكة إذا أراد العمرة فإنه لا يحرم بها من مكة على القول الصحيح وإنما يحرم بها من أدنى الحل لحديث عائشة وأن النبي  أعمرها من التنعيم وهو أدنى الحل ولو كان إحرام من مكة بالعمرة يكون بمكة لما تكلف النبي  هذا التأخير الطويل بالناس مما يدل على أن إحرام المكي أو مَنْ بمكة بالعمرة يكون من أدنى الحل, فيكون هذا الحديث مخصصاً لحديث (( ممن أراد الحج أو العمرة )) وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام والله أعلم .
مسألة :- اعلم أرشدنا الله وإياك لطاعته أن العبد إذا وصل إلى الميقات وكان مريداً لأحد النسكين فإن له أن يقلم أظافره وأن يقص شاربه ويحلق عانته وينتف إبطه, إن كان محتاجاً إلى ذلك وليس هذا من السنن الخاصة بالإحرام إذ لا دليل عليها وإنما هي من السنن العامة لأنها من خصال الفطرة وفعلها من جملة تعظيم شعائر الله الذي هو دليل على تقوى القلوب ولأن إزالة ذلك من باب تكميل الطهارة ولأنه قد يحتاج إلى فعل شيء من ذلك بعد إحرامه فلا يستطيع لأن دخوله في الإحرام يمنعه من ذلك, ولأن المحرم مع كثرة مشيه وحركته وشدة الحر قد تنبعث من هذه الأماكن الروائح الكريهة التي تؤذيه وتؤذي من حوله, ولأن في فعل هذه الخصال سعادة الروح وانشراح القلب كما هو معلوم مجرب ولكن كما ذكرت لك ليس فعل هذه الأشياء من السنن الخاصة في الإحرام, لا, وإنما هي من السنن العامة التي يطلب من العبد تحقيقها لحديث ((الفطرة خمس الختان والاستحداد وتقليم الأظافر ونتف الإبط وقص الشارب )) ويتأكد ذلك تأكداً تاماً إذا مر عليها أربعون يوماً لحديث (( وقَّت لنا رسول الله  في قص الشارب وتقليم الأظافر وحلق العانة نتف الإبط ألا تترك أكثر من أربعين يوماً )) وإن فعل هذه الأشياء في بيته قبل سفره فقد تحقق المطلوب فلا داعي إلى فعلها عند الإحرام والله أعلم.
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه يستحب للمحرم إذا أراد الإحرام أن يغتسل لأن النبي  (( تجرد لإهلاله واغتسل ))"حديث صحيح", وهو سنة في حق الذكور والإناث بل هو سنة حتى في حق الحائض والنفساء لحديث جابر الطويل في صحيح مسلم وفيه (( فولدت أسماء بنت عميس فأمرها النبي  أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم )) وفي الصحيحين (( أن النبي  أمر عائشة لما حاضت وقد أحرمت بعمرة أن تغتسل وتحرم بالحج وتفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر )) ولأنه أبلغ في التنظيف والمراد منه تحصين النظافة وإزالة الرائحة ولا نعلم في ذلك خلافاً .
مسألة :- اعلم أرشدك الله لطاعته أنه لا يشترط لصحة الإحرام الطهارة, بل لو أحرمت النفساء والحائض فإن إحرامها يقع صحيحاً وتترتب عليه أحكامه ولو أحرمت الحائض فإن إحرامها يقع صحيحاً وتترتب عليه أحكامه ولو أحرم الجنب فإن إحرامه يقع صحيحاً وتترتب عليه أحكامه, برهان ذلك أن أسماء بنت عميس نفست قبل إحرامها فأمرها النبي  أن تغتسل وتحرم ومن المعلوم بالاتفاق أن هذا الغسل لا يرفع حدث النفاس وكذلك صح إحرام عائشة مع أنها قد حاضت بعد إحرامها بالعمرة,وقال أبو داود في سننه :- حدثنا محمد بن عيسى وإسماعيل بن إبراهيم أبو معمر, قالا حدثنا مروان بن شجاع عن خصيف عن عكرمة عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي  قال (( الحائض و النفساء إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت ))"حديث صحيح" فإذا كان هذا حال الحائض والنفساء والجنب, فمن كان عليه حدث أصغر يصح إحرامه من باب أولى وهذا إجماع من أهل العلم على حسب علمنا والله أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه يستحب لمريد الإحرام قبل نية الدخول في النسك أن يتطيب في رأسه وسائر بدنه ولا سيما ما غابنه بأطيب ما يجد من الطيب, ولكن لا يقع على ملابس إحرامه منه شيء وبرهان ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت :- (( طيبت رسول الله  بيدي لحرمه حين أحرم ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت )) وفي لفظ آخر (( طيبت رسول  بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام )) وهو في الصحيحين, ولمسلم عن عروة قال :- سألت عائشة رضي الله عنها, بأي شيء طيبتِ رسول الله  عند حرمه؟ قالت (( بأطيب الطيب )) وفي لفظ (( كنت أطيب رسول الله  بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم )) وعنها رضي الله عنها قالت (( كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله  وهو محرم ))"متفق عليه" وعنها رضي الله عنها قالت (( كان رسول الله  إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك )) وفي لفظ (( كأني أنظر إلى وبيص المسك )) فإن قلت :- فقد ثبت في صحيح ابن عمر أن محمد بن المنتشر سأله عن الطيب للمحرم فقال (( ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيباً لأن أطَّلي بالقطران أحب من أن أفعل ذلك )) فأقول:- إن الحجة إنما في فعل النبي  لا في قول أحد من الناس كائناً من كان وقد تقرر في قواعد الدين وأصوله أن قوله  وفعله لا يجوز معارضته بقول أحد أو فعله, وتقرر أيضاً أن من حفظ حجة على من لم يحفظ, فابن عمر لم يحفظ الطيب للمحرم وعائشة حفظت, فإن قلت :- كيف يتطيب المحرم وقد ثبت أن المحرم ممنوع من الطيب ومن المعلوم أن هذا الطيب سيبقى أثره في بدنه بعد عقد الإحرام؟ فأقول:- إن الذي حرم على المحرم هو ابتداء الطيب وأما بقاء أثره فلا بأس به وهذا يدخل تحت قاعدة يغتفر في البقاء مالا يغتفر في الابتداء, وقد ورد في بعض الروايات حديث عائشة رضي الله عنها قولها (( كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله  وهو يلبي )) فإن قلت :- وما الدليل على أن مريد الإحرام ممنوع من تطييب ثياب إحرامه؟ فأقول:- الدليل على ذلك حديث صاحب الجبة المعروف وفيه (( أما الطيب فاغسله أما الطيب فاغسله أما الطيب فاغسله )) الحديث, وسيأتي في سياق محظورات الإحرام إن شاء الله تعالى, لكن إذا تطيب في بدنه ثم مع جريان العرق نزل من الرأس طيب على بعض ثياب الإحرام فلا بأس بذلك لأنه لم يبتدئ الطيب فيها, ويغتفر في البقاء مالا يغتفر في الابتداء, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- إذا عدم المحرم الماء في ابتداء إحرامه فهل له أن يتيمم ؟
أقول :- فيه خلاف وقليل من تعرض له ولكن الأقرب والله تعالى أعلى وأعلم أن التيمم يشرع حينئذٍ وذلك لأن قاعدة الشريعة أنه إذا تعذر الأصل فإنه يصار إلى البدل وقد تقرر في الضوابط الفقهية :- أن الطهارة الترابية بدل عن الطهارة المائية عند عدمها وأن التيمم يقوم مقام الماء في كل ماهو من خصائص الماء, فيجب فيما يجب ويستحب فيما يستحب, ولعموم قوله تعالى  فلم تجدوا ماءً فتيمموا  وهذا وإن كان في الطهارة للصلاة لكن قد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذا مذهب الشافعي وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى فإنه قال في الأم ( أن من عجز عن الماء يتيمم ) ا.هـ. والغسل للإحرام وإن كانت علته التنظيف, لكن هذا التعليل مستنبط, فلا تكون هذه العلة حاكمة على الدليل بحيث يزول بزوالها, بل ونقول:- إن التراب أحد الطهورين فهو يقوم مقام الماء حكماً وشرعاً وإن كان الماء أبلغ منه في التنظيف لكن هذا لا يمنع من مشروعيته عند فقد الماء, فالأقرب هو أن مريد الإحرام إذا عدم الماء عدماً حقيقياً أو حكمياً فإنه يشرع له الانتقال إلى بدله وهو التيمم وله مع النية الصالحة ما للمتطهر بالماء من الأجر والله واسع الفضل والله أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن التجرد من المخيط قبل نية الإحرام واجب،وليس هو مستحباً فقط, واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى, فإنه قال ( والتجرد من اللباس واجب في الإحرام ) ا.هـ. ولكن ما الحكم لو أحرم وعليه ثياب؟ أقول :- لو أنه أحرم وعليه ثياب فإن إحرامه ينعقد صحيحاً ذلك لأن التجرد من المخيط واجب من واجبات الإحرام فقط ولكن ليس هو شرطاً فيه, فلو أحرم وعليه ثياب صح إحرامه قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى : وليس – أي التجرد من الثياب – شرطاً فيه فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله  وباتفاق أئمة أهل العلم وعليه أن ينزع اللباس المحظور.ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى, وعليه فيجب عليه أن يخلعها فوراً بلا شق ولا فدية عليه ولكن لو استدام لبسها مع قدرته على خلعها فإن عليه الفدية ودليل صحة إحرامه بالثياب وعدم الفدية إن خلعها حديث يعلى بن أمية  (( فإنه أحرم في جبة فأمره  بخلعها ))"متفق عليه" ولأبي داود (( فخلعها من رأسه )) ولم يأمره  بإعادة إحرامه, ولم يوجب عليه الفدية فلو كان ذلك مما يجب لأَمَرَهُ به لأن المتقرر عند الأصوليين أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن السنة للرجل أن يحرم في ثوبين أبيضين جديدين أو غسيلين أحدهما يجعله رداءً والآخر يجعله إزاراً, وكذلك يندب له أن يحرم في نعلين برهان ذلك قوله  (( وليحرم أحدكم في إزار ورداءٍ ونعلين ))"رواه أحمد" وقال ابن المنذر:- ثبت ذلك عن النبي  , وستأتي إن شاء الله تعالى لبس النعل بعد قليل بحول الله وقوته, وأما كونها أبيضين فلأن البياض هو سيد الألوان وخيرها وأحبها إلى الشارع لحديث ابن عباس مرفوعاً (( البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ))"رواه الخمسة إلا الترمذي وسنده صحيح" وإن لبس البرد الأخضر فحسن لحديث يعلى بن أمية  قال (( طاف النبي  مضطبعاً ببردٍ أخضر ))"رواه الخمسة إلا النسائي وهو حديث صحيح" وكل هذا بالنسبة للرجل وأما المرأة فتحرم فيما شاءت من الثياب من غير اعتقاد استحباب ثوبٍ بعينه لا أبيض ولا أخضر ولا ينبغي أصلاً أن تتكلف المرأة الإحرام في الأبيض أو الأخضر, ولكن عليها أن تجتنب ثياب الزينة الفاتنة لأنها ستكون في مجامع الناس ولا يجوز لها أيضاً أن تمس الطيب لأنها ستمر على الرجال والأحاديث في النهي عن ذلك معروفة وخوفاً من أن تكون بهذه الثياب وهذا الطيب من الفتن للرجال الأجانب في الطواف والسعي وغير ذلك من مجامع الناس, وحق هذا التنبيه أن يكون عند الكلام على طيب المحرم لكن نسيته نعوذ بالله من نسيان العلم والله أعلم .
مسألة :- اعلم وفقنا الله وإياك لطاعته أن المحرم إذا لم يجد النعلين فله أن يلبس الخفين برهان ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما... وفيه (( ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ))"متفق عليه" وعنه  أن النبي  قال في سياق المحرمات من الألبسة (( إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين... الحديث )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله  قال (( السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين )) وعن جابر  قال قال رسول الله  (( من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل )) ولكن إذا لبس الخفين فهل يقطعهما أم لا؟ فيه خلاف, فمن العلماء من أوجب القطع ومنهم من لم يوجبه وسبب الخلاف أن هناك أحاديث تأمر بالقطع وأحاديث ذكرت لبس الخف بلا قطع, وذهب كثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أن القطع منسوخ لأن حديث ابن عباس وحديث جابر متأخران عن حديث ابن عمر لأن حديث ابن عمر كان في المدينة قبل خروجهم في سفرة الحج وأما حديث ابن عباس فإنه كان في خطبة عرفات وكذلك حديث جابر فإنه كان في أثناء الحج فلو كان القطع واجباً لبينه لاسيما أنه قد حضر الحج من لم يحضر في المدينة, ولكن هذا ليس هو الراجح بل الراجح حسب الصناعة الأصولية هو وجوب القطع وذلك لأن حديث ابن عباس وجابر مطلقان وحديث ابن عمر مقيد وقد تقرر في الأصول وجوب بناء المطلق على المقيد إذا اتفقا في الحكم و السبب, وهذه الأحاديث قد اتفقت في حكمها وسببها فيجب حينئذٍ حمل المطلق على المقيد, وتقرر أيضاً أن هذا الحمل لا يؤثر فيه كون المطلق متأخراً عن المقيد, بل يجب الحمل ولو كان المقيد متقدماً على المطلق, كما قلنا في الخاص والعام, فإننا نبني العام على الخاص ولو كان العام متأخراً عن الخاص فكذلك هنا وتقرر في الأصول أيضاً أن إعمال الكلام أولى من إهماله, وقوله (( وليقطعهما أسفل من الكعبين )) من كلام الشارع وإعماله ممكن بلا كلفة, فحيث أمكن إعماله فإنه لايجوز حينئذٍ إلغاؤه وإهماله, فإذا كان إعمال سائر الناس واجب إذا أمكن فكيف بكلام الشارع  وتقرر في الأصول أيضاً أن الجمع بين الدليلين مقدم على النسخ فإذا أمكن الجمع بين الدليلين فإنه يكون هو الواجب لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ماأمكن كما تقرر في القواعد, وهنا يمكن إعمال الدليلين بحمل المطلق على المقيد فإن قلت :- إن في القطع إفساداً للخف؟ فأقول:- لا شأن لك بذلك لأنك عبد مأمور فلا حق لك أن تعارض في أمر الشارع ولا خيرة لك فيه أصلاً كما قال تعالى  وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً  إنما عليك أن تقول سمعنا وأطعنا كما قال تعالى  إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا  وإتلاف جزء يسير من الخف امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله  ليس بشيء فوا عجبي من النفوس إذا استثقلت ذلك وقامت تبحث فيه عن المخارج, فالحق الراجح في هذه المسألة أن المحرم إذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين, فإن قلت :- إنه قد سمع الحديث المطلق عن القطع من لم يسمع حديث القطع فأقول :- وهل النبي  مأمور أن يبلغ الشريعة لكل واحد من الأمة بعينه؟ بالطبع لا بل يكفيه أن يبلغه لمن تقوم بهم الكفاية في البلاغ وقد بلغه أتم البلاغ في المدينة والصحابة من أحرص الناس على نشر العلم والخير لاسيما وأهل المدينة الذين سمعوه فإنهم سادات الناس علماً وديناً واتباعاً, فلا نحمل الأدلة مالا تحتمل من أجل هذا القطع اليسير, فاللهم أغفر لأهل العلم وارحمهم الرحمة الواسعة واجزهم خير الجزاء وارفع نزلهم في الفردوس الأعلى وبارك في علمهم إنك خير مسئول والله أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم أرشدك الله لطاعته أنه من المشروع في حق المحرم إذا خاف مانعاً من عدوٍ أو مرضٍ ونحوهما من الموانع التي تعيقه عن إكمال نسكه أن يشترط, فيقول :- ومحلي حيث حبستني, ولا يشرع هذا في حق كل محرم بل في حق من يخاف المانع من إتمام النسك, وبرهان ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت :- دخل رسول الله  على ضباعة بنت الزبير فقال لها:(( أردتِ الحج )) قالت :- والله ما أجدني إلا وجعة فقال لها:(( حجي واشترطي وقولي:- اللهم محلي حيث حبستني ))"متفق عليه" وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب أتت رسول الله  فقالت :- إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فما تأمرني ؟ فقال (( أهلي بالحج واشترطي أن محلي حيث تحبسني )) قال:- فأدركت"رواه مسلم" وقد تقرر في الأصول:- أن ماثبت في حق واحدٍ من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, فهذا الاشتراط لها ولسائر الأمة من بعدها إلى أن تقوم الساعة- أعني ممن خاف مانعاً- وقلنا:- في حق من خاف مانعاً فقط لأنه قد حج معه  الجمع الكثير ولم يثبت عنه أنه جعل ذلك شرعاً عاماً وإنما لم يقله إلا لضباعة بنت الزبير, ولم يقله ابتداءً وإنما قاله لما علم أنها مريضة وثقيلة وأنها تخاف المانع فعندها قال لها ذلك, فدل ذلك على أن الاشتراط ليس مشروعاً في حق كل محرم وإنما يشرع فقط في حق من خاف المانع الذي يعيقه عن إكمال نسكه فإن قلت:- وما الفائدة الشرعية من الاشتراط؟ فأقول:- فائدته أنه إذا تحقق المانع الذي يمنع من إكمال النسك فله أن يحل مجاناً من غير شيء واختار هذا القول أعني تخصيص الاشتراط بمن خاف المانع فقط, شيخ الإسلام ابن تيمية, وأما إنكار ابن عمر رضي الله عنهما للاشتراط فإنه مذهب له, وقد تقرر في الأصول أن مذهب الصحابي ليس بحجة بالاتفاق إذا خالف النص, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم هدانا الله وإياك أن القول الصحيح أن الصلاة المذكورة في حديث جابر (( فصلى رسول الله  في المسجد ثم ركب القصوى )) أن المراد بها صلاة الفريضة واعلم أن الصحيح أن هذه الصلاة التي أحرم بعدها النبي  هي صلاة الظهر واختاره ابن القيم وغيره من المحققين, وهذا هو الصحيح بلا ريب, برهان ذلك مارواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(( صلى رسول الله  الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج )) وبناءً عليه فأقول:- المستحب للمحرم أن يكون إحرامه عقيب فريضة إن تيسر له ذلك, بل المستحب له أن يتحين ذلك لما رواه البخاري من حديث الأوزاعي قال :- حدثني محيي عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر أن النبي  قال (( أتاني آتٍ من ربي:- أن صل في هذا الوادي المبارك وقل :- عمرة في حجة )) وليس المراد من هذا الحديث أمره بالصلاة فقط لأنه سوف يصلي بلا شك, وقد صلى فيه قبل ذلك العصر والمغرب والعشاء والفجر, ولم يأته الأمر بالصلاة في هذا الوادي إلا قبيل الظهر ثم جاء بعده الأمر له بأن يقول (( عمرة في حجة )) وهذا مشعر بأفضلية الإحرام بعد فريضة, وبناءً عليه فالمستحب للمحرم أن يتحين أن يكون إحرامه بعد فريضة إن تيسر له ذلك بلا كلفة فإن لم يتيسر له ذلك فليعلم أنه ليس للإحرام صلاة تخصه لكن لو صادف أنه توضأ وصلى ركعتين بنية سنة الوضوء أو دخل المسجد بقصد الجلوس وصلى تحية المسجد فأحرم بعدها فلا بأس, أما أن يركع ركعتين بقصد أنهما سنة الإحرام فهذا لم يرد به نص والأصل في العبادات التوقيف والأصل أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وقد تقرر في القواعد:- أن كل إحداثٍ في الدين فهو رد واختار هذا القول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الإحرام ليس هو لبس الثياب فقط, لا, بل الإحرام هو نية الدخول في النسك والنية من عمل القلب, ذلك لأن بعض الناس هداه الله تعالى يظن خطأً أن أحكام الإحرام تترتب مباشرة بلبسه لثياب الإحرام ولو لم ينوي الدخول في النسك, وهذا خطأ وقد تقرر في القواعد أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه, فإذا قيل لك عرف الإحرام:- فقل:- هو نية الدخول في النسك, فلا تترتب أحكام الإحرام ولا يمنع العبد من شيء من محظورات الإحرام إلا إذا نوى الدخول في النسك والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الصحابة  اختلفوا في المكان الذي أهل منه رسول الله , فمنهم من قال:- إنه أهل بالبيداء بعدما ركب, والمراد بالبيداء أي الشرف الذي قدام ذي الحليفة سميت بيداء لأنه ليس فيها بناءٌ ولا أثر واستدلوا بحديث ابن عباس السابق وفيه (( فلما استوت به على البيداء أهل بالحج )) وقال بعضهم إنه أهل عند الشجرة قبل ارتحاله واستدلوا بما رواه الشيخان (( أن ابن عمر كان إذا قيل له:- الإحرام من البيداء قال:- البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله , ما أهل رسول الله  إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره )) والصحيح إن شاء الله تعالى أنه أهل بعد صلاته وفي المسجد لمارواه مسلم من حديث مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبدالله أنه سمع أباه يقول (( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله  فيها, وما أهل رسول الله  إلا من المسجد – يعني ذا الحليفة – )) وكذلك أخرج الترمذي والنسائي عن عبدالسلام عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أن رسول الله  أهل في دبر الصلاة )) ومن نقل عن النبي  أنه أهل بعد ذلك فلأنه لم يسمعه إلا في هذا الموطن حيث إن الصحابة كثير لا يمكن أن يسمعوا إهلاله كلهم في كل موطن فمن كان قريباً منه في المسجد سمعه يهل فنقل ذلك ومن كان قريباً منه عند ركوبه على الدابة سمعه يهل فنقل ذلك ولما ركب وكان على البيداء رآه كثير من الصحابة فرأوه يهل فنقلوا ذلك فكل حدث بما سمع فلا تعارض بين الروايات أصلاً لكن مبدأ إهلاله كان بعد الفراغ من الصلاة في المسجد, وروى أبو داود والبيهقي عن خصيف بن عبدالرحمن الجزري عن سعيد بن جبير قال:- قلت لابن عباس: ياأبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله  في إهلال رسول الله  حين أوجب, فقال:- إني لأعلم الناس بذلك, إنها إنما كانت من رسول الله  حجة واحدة فمن هناك اختلفوا, خرج رسول الله  حاجاً فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه, فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل, وأدرك ذلك منه أقوام وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاًَ فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا:- إنما أهل رسول الله  حين استقلت به ناقته, ثم مضى رسول الله  فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا:- إنما أهل حين علا شرف البيداء, قال سعيد:- وأيم الله, لقد أوجب في مصلاه, وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا شرف البيداء والحديث فيه ضعيف, لكن هذا هو الراجح أن كلاً حدث بما سمع وأدرك, فهذا الخلاف من باب خلاف التنوع لا التضاد, لكن الصحيح أن مبدأ إهلاله كان بعد الفراغ من صلاته في المسجد فالمستحب للعبد أن يحرم عقيب الفراغ من الصلاة والله أعلى أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن القاعدة المتقررة في الشريعة أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة فلا يجوز إثبات شيء منها إلا بالدليل ولنا في هذه القاعدة رسالة مستقلة, والمراد هنا:- أن نقرر لك ضابطاً في في محظورات الإحرام لا بد أن تحفظه وهذا الضابط يقول:- محظورات الإحرام توقيفية, أي أن الأصل عدم الحظر فمن ادعاه فعليه بالدليل لأنه مخالف للأصل, وقد تقرر في الأصول أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه, وقد تقرر في القواعد أيضاً أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, فلا يجوز إثبات شيء من هذه المحظورات إلا بالدليل, وقد سيرنا المحظورات التي ثبتت بالدليل فوجدنا كما يلي :-
الأول :- الجماع ومقدماته, والدليل على ذلك قوله تعالى  فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج  والصحيح أن الرفث شامل لمباشرة النساء بالجماع ومقدماته وشامل أيضاً للكلام بذلك كأن يقول المحرم لامرأته إن حللنا من إحرامنا فعلنا كذا وكذا والدليل على أن الرفث يراد به الجماع قوله تعالى  أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم  فالمراد بالرفث في الآية المباشرة بالجماع والمتقرر في الشريعة أنها إذا نهت عن شيء فإنه يدخل ضمناً النهي عن وسائله من باب سد الذرائع, والكلام بالجماع مع الزوجة مذكر به ومرغب فيه ووسيلة من وسائله فلا بد من سده, قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الرفث اسم للجماع قولاً وفعلاً ) ا.هـ. وهذا محظور على المحرم بالإجماع, وقد تقرر في الأصول أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها والمصير إليها وتحرم مخالفتها .
الثانـي :- حلق الشعر لقوله تعالى  ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله  والنتف كالحلق, وقد أجمع أهل العلم على ذلك .
الثالـث :- تغطية الرأس وهذا بالنسبة للذكر فقط, أي هو محظور في حق الرجال خاصة, والضابط في ذلك يقول :- من غطى رأسه بملاصق معتاد فعليه الفدية, وقد شرحناه في كتابنا ضوابط الحج, والدليل على ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن رجلاً سأل رسول الله  : مايلبس المحرم من الثياب؟ فقال (( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس...الحديث )) والشاهد منه النهي عن العمائم والبرانس, فهذه ثبتت بالنص ودخل سائر مايغطى به الرأس عادة من باب القياس فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه لا بطاقية ولا بغترة ولا طربوش ولا قلنسوة ولا بخرقة يربطها على رأسه ولا عمامة ونحو ذلك وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في المحرم الذي سقط عن راحلته فوقصته فمات فقال عليه الصلاة والسلام (( اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً )) وقد أجمع أهل العلم على ذلك .
الرابـع :- لبس المخيط, وهذا في حق الذكر خاصة والدليل على ذلك حديث ابن عمر السابق وفيه (( لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم ولا البرانس ولا السراويلات ...الحديث )) وفي حديث يعلى بن أمية في الصحيح (( أنزع عنك هذه الجبة )) وفي لفظ (( وأما الجبة فانزعها )) وفي لفظ (( انزع عنك جبتك )) وقد أجمع أهل العلم على ذلك والمراد بالمخيط ما حيك على قدر العضو كالفنيلة والسراويلات والثياب المكممة وكذلك البشت والبرانس وقفاز الأيدي والتبان والشراب قال في الإنصاف في تفسير المخيط :( ما عمل على قدر العضو إجماعاً ) وهذا المحظور كما ذكرت لك خاص بالذكور فقط .
الخامـس :- الطيب وهو عام, وقد أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من ابتداء الطيب لأنه  أمر يعلى بن أمية أن يغسل عنه أثر الطيب بقوله (( أما الطيب فاغسله – ثلاثاً- )) وفي حديث ابن عمر السابق (( ولا ثوباً مسه الزعفران أو الورس )) وفي لفظ (( ولا تلبسوا شيئاً مسه زعفران ولا ورس )) وقال في المحرم الذي وقصته ناقته (( ولا تمسوه طيباً )) وفي لفظ (( ولا تحنطوه )) وبناءً عليه فيحرم الطيب على المحرم ادهاناً أو استعمالاً في أكل أو شرب فالقهوة المزعفرة لا يجوز شربها للمحرم لأن الزعفران نوع من الطيب, بل ولا يجوز له أن يتعمد شم الطيب, قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( ومما ينهى عنه المحرم أن يتطيب بعد الإحرام في بدنه أو ثيابه أو يتعمد شم الطيب) ا.هـ. قال صاحب الروض ( ومن الطيب المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والبنفسج والينوفر والياسمين والبان وماء الورد ) ا.هـ. وأما شم الفواكه كالبرتقال والأترج والتفاح والسؤجل والخزامى والإذخر والقيصوم ونحوها فلا بأس به لأنه ليس من الطيب لا شرعاً ولا عرفاً, ويجوز له أن يدهن بدهن غير مطيب, وليحذر من باب الاحتياط من المنظفات التي وضع فيها الطيب قصداً والله أعلم .
السـادس :- الصيد لقوله تعالى  لاتقتلوا الصيد وأنتم حرم  وقال تعالى  غير محلي الصيد وأنتم حرم  وقال تعالى  وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً  فلا يجوز للمحرم مباشرة الصيد ولا الإشارة إليه ولا الإعانة على قتله بشيء, بل ولا يجوز له أن يقبله على وجه الهدية إذا كان صيد له, ففي الصحيح عن أبي قتادة قال :- خرجنا مع رسول الله  حتى إذا كنا بالقاحة, فمنا المحرم ومنا غير المحرم إذا بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً فنظرت فإذا هو حمار وحش, فأسرجت فرسي وأخذت رمحي ثم ركبيت فسقط سوطي فقلت لأصحابي وكانوا محرمين:- ناولوني السوط, فقالوا:- والله لا نعينك عليه بشيء, فنزلت فتناولته ثم ركبت فأدركت الحمار من خلفه وهو من وراءِ أكمه فطعنته برمحي فعقرته فأتيت به أصحابي فقال:- بعضهم كلوه وقال بعضهم:- لا تأكلوه وكان النبي  أمامنا, فحركت فرسي فأدركته فقال (( هو حلال فكلوه )) وفي لفظ (( هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟)) قالوا: لا, قال (( فكلوا ما بقي من لحمها )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن الصعب بن جثامة الليثي  أنه أهدى لرسول الله  حمار وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله  فلما رأى رسول الله  ما في وجهه قال (( إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ))"متفق عليه" وفي لفظ (( لولا أنا محرمون لقبلناه منك )) وفي لفظ من حديث زيد بن أرقم (( ليس بنا رد عليك ولكنا حرم )) وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن المحرم ممنوع من صيد البر, والمراد الحيوان البري المأكول فقولنا ( الحيوان البري ) يخرج حيوان البحر فإنه حلال إن لم يكن في الحرم قاله الشيخ تقي الدين وغيره وقوله ( المأكول ) يخرج غير المأكول, وسيأتي فدية من فعل هذا المحظور إن شاء الله تعالى في المسألة الخاصة بها, والله أعلم .
السابـع :- عقد النكاح أو الخطبة له ولغيره, برهان ذلك حديث عثمان  قال قال رسول الله  (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ))"رواه مسلم" وقال الوزير:- أجمعوا على أن المحرم لا يعقد عقد نكاح لنفسه ولا لغيره ا.هـ.فإن قلت:- فكيف تقول في حديث ابن عباس في الصحيحين أنه قال (( تزوج رسول الله  ميمونة وهو محرم ))؟ فأقول:- لقد تقرر في الأصول أن الأدلة التي ظاهرها التعارض فإننا نوفق بينهما بالجمع أولاً إن استطعنا, وهنا لا نستطيع الجمع, أو نوفق بينهما بأن نجعل أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً, وهنا لايمكننا ذلك أيضاً, أو نوفق بينهما بالترجيح, وهذا ممكن هنا, فنظرنا في الدليلين فوجدنا أن حديث المنع أرجح وذلك لأمور:-
أولهـا:- أن أئمة هذا الشأن كأحمد وابن المسيب وغيرهما قالوا:- إن حديث ابن عباس هذا وَهَم ويوضح هذا الوجه الثاني:- وهو أن صاحبة القصة قد بينت هي بنفسها أن عقد النبي  كان في حاله كونه حلالاً لا محرماً برهان ذلك حديث يزيد بن الأصم عند مسلم قال ((حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله  تزوجها وهو حلال)) وقد تقرر في الأصول في باب الترجيح أن رواية صاحب القصة التي وقعت عليه إذا حدث بها هو نفسه مقدمة على رواية غيره إذا عارضتها لأن صاحب القصة أدرى بما وقع له من غيره ويوضح ذلك أيضاً الوجه الثالث:- وهو أن الوسيط بينهما في النكاح كان أبو رافع وقد حدث هو نفسه أن النبي  تزوج ميمونة وهو حلال فقد قال الترمذي في جامعه:- حدثنا قتيبة قال حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة ابن أبي عبدالرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع  قال (( تزوج رسول الله  وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما )) وقد تقرر في الأصول أن رواية من باشر القصة وعرف تفاصيلها مقدمة على غيرها عند التعارض, ويوضح هذا الوجه الرابع:- وهو أن ابن عباس لم يحضر هذه الواقعة أصلاً لأنه كان صغيراً في المدينة وهذه الواقعة حصلت في عمرة الحديبية وابن عباس إذ ذاك كان صغيراً, فالواقعة قد نقلت له وأما ميمونة فإنها صاحبة القصة وأبو رافع باشر كل تفاصيلها فدخول الوهم في رواية ابن عباس هو الأقرب من دخوله في رواية من باشر القصة وعرف جميع تفاصيلها ولذلك قال الإمام أحمد وابن المسيب وغيرهما أن رواية ابن عباس هذه وهم, وعلى هذا فلا إشكال حينئذٍ بين هذه الأحاديث لأن حديث ابن عباس وَهَم فهو شاذ. فالمعتمد في هذه المسألة هو حديث عثمان وحديث ميمونة وحديث أبي رافع, فإن قلت:- إن حديث عثمان لا حجة فيه على تحريم العقد لأن قوله (( لا ينكح المحرم )) إنما يراد به الوطء لا مجرد العقد, فأقول:- هذا كلام من لم يدقق في لفظ الحديث, وفي القرائن التي تحف به, وبيان ذلك من وجوه:- أحدهما:- أن لفظ الحديث هكذا (( لا ينكح المحرم ولا يُنكحُ )) بضم الياء وهذا دليل على أن المراد لا يزوج ولا يمكن أن يكون المراد بذلك الوطء لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام وطلب الزوج وطء زوجته في إحرام وليها فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعاً فدل ذلك على أن المراد بقوله (( ولا ينكح )) ليس الوطء, بل التزويج كما هو ظاهر. والوجه الثاني:- أنه  قال (( ولا يخطب )) والمراد خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها وذلك دليل على أن المراد العقد لأنه هو الذي يطلب بالخطبة وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم. والوجه الثالث:- أن أبان بن عثمان راوي الحديث وهو من أعلم الناس بمعناه فسره بأن المراد بقوله (( ولا ينكح )) أي لا يزوج لأن السبب الذي أورد فيه الحديث هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأنكر أبان بن عثمان ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي  دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ولا نعلم أن أحداً من التابعين أنكر عليه هذا التفسير, وقد تقرر في قواعد الأصول أن تفسير الراوي مقدم على غيره مالم يخالف ظاهر الحديث, فهذه الأوجه تفيد إفادة صريحة أن المراد بقوله (( لا ينكح المحرم ولا ينكح )) العقد لا الوطء والله أعلى وأعلم .
الثامـن :- تقليم الأظافر, وهذا المحظور لم أجد منه نصاً يجب المصير إليه, فليس فيه شيء من المرفوعات, ولكن قد نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم عليه, وقال الموفق:- أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره, وقد تقرر لنا أن الإجماع حجة شرعية يجب الأخذ بها واعتمادها والمصير إليها لأن المتقرر أن الأمة لا تجتمع على ضلالة, واستدلوا على ذلك أيضاً بالقياس الصحيح المستوفي لجميع أركانه, فقالوا:- إن المحرم ممنوع من أخذ شعره لأنه يحصل به الترفه, فكذلك تقليم الأظفار يحصل به الترفه فهو مثله في العلة وقد تقرر في الأصول أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات, ولكن أقول:- إن كان هذا القياس مدخولاً فيكفينا في ذلك الإجماع الذي نقله ابن المنذر وابن قدامة وهما معروفان بإتقانهما لمذاهب أهل العلم وتتبع الأقوال ومعرفة مواقع الوفاق من مواضع الخلاف فالعمدة في عَدِّ تقليم الأظفار من المحظورات في حق المحرم هو الإجماع الذي ذكراه والله تعالى وأعلم .
التاسـع :- لبس النقاب والقفازين بالنسبة للمرأة, ويقاس عليه من باب أولى البرقع فلا يجوز للمحرمة أن تلبس هاتين الشيئين فقط, برهان ذلك قوله  (( ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين ))"رواه البخاري" قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:- كراهية البرقع ثابتة عن سعيد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحداً خالف فيه ا.هـ. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:- وخالف فيه أبو حنيفة وسنة رسول الله  أولى بالاتباع ا.هـ. ولكن يجب أن أنبهك على أمر مهم وهو:- أن المحرم على المرأة هو أن تغطي وجهها بالنقاب أو البرقع فقط, وهذا ليس أمراً لها بأن تكشفه, بل نهي لها عن هذا الغطاء المخصوص فقط, وبناءً عليه فإنها إن مرت بمجامع الرجال أو مر بها أجانب فإنه يجب عليها أن تغطي وجهها ويديها لكن تغطيها بالطرحة وبأطراف الكمين أو بأطراف العباءة ولا يجوز لها أن يراها أحد من الأجانب, وليس هناك دليل على وجوب كشف وجهها حال الإحرام, لكن ورد الدليل على نهيها عن التغطية بالنقاب, فيكون النقاب والقفاز هو المحرم بخصوصه, وأما حديث (( إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه )) فإنه لا يصح مرفوعاً للنبي  ولا أصل له ولا تقوم به الحجة, قاله ابن القيم رحمه الله تعالى وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا الحديث:- لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي  أنه قال:- إحرام المرأة في وجهها, وإنما هذا قول لبعض السلف ا.هـ.كلامه, وقال ابن القيم أيضاً:- وإنما يحرم ستره – أي الوجه – بما أعد للعضو كالنقاب ونحوه لا مطلق الستر كاليدين وليس عن رسول الله  حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام ا.هـ. وأنبهك على أمر آخر:- وهو أن المرأة لا يجب عليها إذا غطت وجهها أن تجافيه عن وجهها كما يفعله بعض النساء, فإن هذا لا أصل له, قال أبو العباس رحمه الله تعالى:- ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق وإن كان يمسه فالصحيح جوازه أيضاً ا.هـ. فلا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيدها ولا غير ذلك فإن النبي  لم يثبت عنه نقل بخصوص ذلك, وقد كان أزواجه رضي الله عنهن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة, وقد تقرر في الأصول أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة والله أعلى وأعلم, فهذه الأمور التسعة هي محظورات الإحرام وهذا هو الذي نعلمه منها وهو الذي يقرره أهل العلم في كتبهم وما زاد على ذلك مما يذكره بعض الفقهاء في كتبهم فإنه موقوف على النظر في دليله فإن كان يصح للاعتماد اعتمدناه وإلا فالأصل عدم الحظر والله ربنا أعلى وأعلم .
مسألة :- قاعدة:- لا يؤثر فعل المنهي عنه إلا بذكرٍ وعلمٍ وإرادة وهذه قاعدة مفيدة جداً جداً وقد شرحناها في كتابنا تلقيح الأفهام ويتفرع عليها عدد من الضوابط المهمة في كثير من أبواب الفقه, ومن هذه الضوابط قولهم:- ( لا يؤثر فعل المحظور عنه إلا بذكر وعلم وإرادة ) أي أن من قارف شيئاً من هذه المحظورات ناسياً إحرامه أو كان جاهلاً بالحكم ومثله يجهل أو كان مكرهاً على هذه المقارفة, فإن هذه المقارفة لا تضره ولا يترتب عليها أثرها, فلا يترتب الأثر على فعل شيء من هذه المحظورات إلا بالذكر والعلم والإرادة, فأما الذكر فضده النسيان قال تعالى  ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا  وقال عليه الصلاة والسلام (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))"حديث حسن" وقد تقرر في الضوابط أن النسيان من جملة موانع التكليف, وبناءً عليه فمن فعل شيئاً من هذه المحظورات ناسياً فلا شيء عليه, من غير تفصيل بين هذه المحظورات على القول الصحيح, حتى لو وطء ناسياً أنه محرم فإنه لا شيء عليه, وأما العلم فضده الجهل, لكن لا بد أن نقيد هذه الجهل بقولنا (ومثله يجهل) فإذا كانت القرائن المصاحبة لدعوى الجهل تصحح هذه الدعوى فإنه لايؤثر عليه مفارقة شيء منها, وقد تقرر في القواعد أن الشريعة منوطة بالعلم, وبعبارة أخرى نقول:- الشرائع لا تلزم إلا بالعلم, أو نقول:- لا تكليف إلا بعلم قال الناظم :-


وأما الإرادة فضدها الإكراه, فالإكراه من مسقطات التكليف, فمن فعل شيئاً من هذه المحظورات مكرهاً فلا شيء عليه, قال تعالى  إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان  وكذلك يستدل بالحديث السابق, بل الحديث السابق أعني حديث (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) دليل على هذه الشروط الثلاثة, فالخطأ دليل على اشتراط العلم, والنسيان دليل على اشتراط الذكر, وقوله (( وما استكرهوا عليه )) دليل على اشتراط الإرادة, وقد شرحنا هذه الشروط في ضوابط كتاب الحج من إتحاف النبهاء يشرح ضوابط الفقهاء فلا بد قبل الإفتاء يلزوم شيء من آثار من هذه المحظورات أن يتأكد المفتي من توفر هذه الشروط الثلاثة والله أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الصحيح هو أن السلطان لا يجوز له حال إحرامه أن يزوج بالولاية العامة, لأنه من المعلوم أن المرأة التي لا ولي لها فإن السلطان وليها,لكن إذا كان محرماً فإنه لا يجوز له أن يتولى عقد تزويج هذه المرأة التي لا ولي لها, ذلك لأنه يدخل في عموم حديث (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب )) فقوله (( المحرم )) مفرد دخلت عليه الألف واللام المفيدة للاستغراق وقد تقرر في الأصول أن الألف واللام إذا دخلت على المفرد أو الجمع فإنها تفيده العموم فيدخل في ذلك كل من الصنف بأنه محرم, وقد تقرر أيضاً في الأصول أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل والأصل هنا العموم فالأصل هو البقاء على هذا العموم حتى يرد المخصص, ولا نعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح يخصص السلطان من عموم هذا الحديث, فحيث لا مخصص فالأصل بقاؤه داخلاً في هذا العموم وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى, والله تعالى أعلم وأعلى .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن القول الصحيح إن شاء الله تعالى أن عقد النكاح إذا جرى بين المحلين أي كان الزوج حلالاً والمرأة حلالاً والولي حلالاً فإنه يجوز للمحرم أن يكون شاهداً على هذا العقد, فالشهادة على العقد جائزة, وهو مذهب الشافعية وغيرهم, وبرهان ذلك أن الأصل الذي قررناه سابقاً هو أن محظورات الإحرام توقيفية على الدليل, فلا يجوز لنا أن نقول:- هذا حرام على المحرم إلا بدليل, ولم يرد الدليل إلا بقوله (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب )) وعقد النكاح هو الإيجاب والقبول الإيجاب الصادر من الولي والقبول الصادر من الزوج والشاهد لا صنع له في ذلك, فلا يشمله هذا النهي, فالأصل عدم تحريم الشهادة على عقد النكاح الصحيح, والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, فأين الناقل من الإباحة إلى التحريم, لاسيما وأن التحريم من أحكام الشريعة وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, فالراجح في هذه المسألة الجواز واعلم أن كل نص يمنع المحرم من الشهادة على عقد النكاح فإنه باطل لا يصح, فما ورد في بعض طرق هذا الحديث (( ولا يشهد )) فإنها لا تصح قاله في المبدع, وأما الذين كرهوا لها الشهادة فأقول لهم:- لقد تقرر عندنا أن الكراهة حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للدليل الصحيح الصريح, ولا نعلم على هذه الكراهة دليلاً يصح الاعتماد عليه, ولكن لا يخفاك – بارك الله فيك – أنه إذا اشتد الخلاف بين أهل العلم وكان للمكلف فرضه للخروج منه فالأفضل له الخروج منه, فإذا لم يحتج إلى شهادة المحرم فالأفضل له ألا يشهد خروجاً من الخلاف وقد تقرر في القواعد أن الخروج من الخلاف مستحب ومن المعلوم أنه لولم يشهد لما أنكر عليه أحد لكنه لو شهد لأنكر عليه القائلون بالتحريم أو الكراهة وقد تقرر في القواعد أن فعل ما اتفق عليه العلماء أولى من فعل من انفرد به أحدهما ما أمكن وقد شرحنا هذه القاعدة في كتابنا تلقيح الأفهام بأوسع مما هنا والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم أن المحرم لو خالف وعقد عقد الزواج حال إحرامه فإن هذا العقد عقد فاسد لا يترتب عليه أثره, وهذا القول هو مذهب الجمهور, وهو القول الصحيح بلا شك بل أقول:- أننا لا نعلم بين الصحابة  خلافاً في فساد هذا العقد, إلا ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما, وبرهان ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب )) فهذا نهي وقد تقرر في الأصول أن النهي يقتضي الفساد إلا بدليل يصححه, قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في شرح العمدة:- وأيضاً فقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة ا.هـ. وروى مالك في الموطأ عن أبي غطفان بن طريف المري (( أن أباه طريفاً تزوج وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه )) "وسنده صحيح" وعن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول (( لا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره ))" رواه مالك وسنده صحيح أيضاً" وعن الحسن أن علياً قال (( من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولا نجيز نكاحه ))"رواه البيهقي وابن حزم في المحلى" وعن شوذب المدني مولى زيد بن ثابت (( أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد بن ثابت )) وهو أثر صحيح, قال ابن حزم في المحلى:- صح عن عمر بن الخطاب وزيدبن ثابت فسخ نكاح المحرم إذا نكح ا.هـ. وقال ابن تيمية بعد أن ساق هذه الآثار ( وهؤلاء أكابر الصحابة لم يقدموا على إبطال نكاح المحرم والتفريق بينهما إلا بأمر بين وعلم اطلعوه ربما يخفى على غيرهم بخلاف من نقل عنه إجازة نكاح المحرم فإنه يجوز أ، يكون قد بنى على استصحاب الحال ا.هـ. قلت:- وقد تقرر في الأصول أن رواية الناقل عن الأصل مقدمة على قول مبني على استصحاب الحال فقط, فالصحيح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة من أن عقد النكاح حال الإحرام عقد فاسد لا يترتب عليه أثره والله ربنا أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم أرشدك الله لطاعته أن الناسك بالحج إذا تحلل التحلل الأول ثم عقد النكاح فإن نكاحه في هذه الحالة صحيح, لكن لا يجوز له الوطء إلا بعد التحلل الثاني وقد اختار الصحة شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عثيمين وغيرهما من أهل العلم رحمهم الله تعالى, والله تعالى أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن العلماء قد اتفقوا على أن المحرم إذا جامع امرأته قبل الوقوف أن حجه يفسد بذلك, نقل ذلك ابن المنذر, وابن حزم في المحلى, واتفقوا أيضاً على أنه لا يفسد الحج من محظورات الإحرام إلا الجماع خاصة, قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:- ليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث - إلى أن قال- وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا يفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين, وحيث كانت هاتين المسألتين إجماع فلا نطيل الكلام فيهما والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أننا حيث حكمنا على من جامع قبل الوقوف بعرفة أن حجه فاسد فلا يعني ذلك أنه يتحلل منه, لا, بل يجب عليه المضي فيه إلى تمامه وعليه وجوباً أن يقضي هذا الحج عاماً قابلاً وعليه بدنة من باب الفدية, قال الوزير وغيره اتفقوا على أن عليهما القضاء سواءً كان الحج تطوعاً أو واجباً ا.هـ. قلت:- والأظهر أن قضاءه على الفور أي في العام القابل ولا يجوز له التأخير مع القدرة, والأظهر أيضاً أنهما في حجة القضاء لا بد أن يتفرقا كما قاله الجمهور وذلك لئلا يفسدا حجة القضاء بجماع آخر, والعمدة في هذه المسألة ماهو ثابت من الآثار من الصحابة  فقد روى مالك في الموطأ بلاغاً (( أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة  سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج؟ فقالوا:- ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي )) قال: (( وقال علي بن أبي طالب  :- وإذا أهلاَّ بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما )) وفيه انقطاع, وفي الموطأ أيضاً عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: (( ماترون في رجل وقع بامرأته وهو محرم؟ فبعث إلى المدينة يسأل عن ذلك فقال بعض الناس يفرق بينهما إلى عام قابل, فقال سعيد بن المسيب:- لينفذا لوجههما فليتما حجهما الذي أفسداه فإذا فرغا رجعا فإن أدركهما حج قابلٍ فعليهما الحج والهدي ويهلان به من حيث أهلاَّ بحجهما الذي أفسداه ويتفرقان حيث يقضيان حجهما )) وفي الموطأ أيضاً عن مالك عن أبي الزبيري المكي عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه (( سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيضا فأمره أن ينحر بدنة )) وروى البيهقي في سننه الكبرى بإسناده عن عطاء أن عمر بن الخطاب  قال في المحرم بحجة أصاب امرأته يعني وهي محرمة؟ قال: (( يقضيان الحج وعليهما الحج من قابل من حيث كانا أحرما وعليهما بدنة واحدة )) وفيه انقطاع لأن عطاء لم يدرك عمر  . وروى البيهقي بإسناده (( أن مجاهداً سئل عن المحرم يواقع امرأته؟ فقال:- كان ذلك على عهد عمر  قال:- يقضيان حجهما ثم يرجعان حلالاً كل واحد منهما لصاحبه فإذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا في المكان الذي أصابها فيه )) وروى البيهقي بإسناده أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل وقع على امرأته وهو محرم؟ فقال: (( اقضيا نسككما وارجعا إلى بلدكما فإذا كان عام قابل فاخرجا حاجين فإذا أحرمتما فتفرقا ولا تلقيا حتى تقضيا نسككما وأهديا هدياً )) قال النووي إسناده صحيح. وروى البيهقي بإسناده أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه (( أن رجلاً أتى عبدالله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأته؟ فأشار إلى عبدالله بن عمر فقال: إذهب إلى ذلك فسله, قال شعيب:- فلم يعرفه الرجل فذهبت معه فسأل ابن عمر فقال:- بطل حجك, فقال الرجل:- فما أصنع؟ فقال:- اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون فإذا أدركت قابلاً فحج وأهد, فرجع إلى عبدالله بن عمرو وأنا معه, فأخبره فقال:- اذهب إلى ابن عباس فسأله قال شعيب:- فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله فقال له كما قال ابن عمر فرجع إلى عبدالله بن عمرو وأنا معه فأخبره بما قال ابن عباس ثم قال:- ما تقول أنت؟ فقال:- قولي مثل ما قالا )) قال البيهقي:- هذا إسناد صحيح وبهذا يقين لك إن شاء الله تعالى صحة ما ذكرناه في هذه المسألة والخلاصة أن من جامع قبل الوقوف بعرفة فعليه أمور:- أحدهما:- فسد حجه, الثاني:- عليه التوبة النصوح الثالث:- عليه قضاؤه فوراً من العام المقبل, الرابع:- عليه مع حجة القضاء بدنة يذبحها ويوزعها جميعها على فقراء الحرم, الخامس:- عليه الاستمرار في حجه هذا حتى يكمل مناسكه, السادس:- عليه مع حجة القضاء أن يتفرقا فلا يراها ولا تراه حتى يقضيا حجهما من باب الاحتياط, والله تعالى أعلى وأعلم .
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس