عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:25 PM   #9
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

قوله: «وأركان الحج» ، سبق في أول المناسك شروط الحج: شروط وجوبه، وشروط صحته، وشروط إجزائه، وقد اعترض بعض الناس على هذا التقسيم: على الشروط، وعلى الأركان، وعلى الواجبات، والسنن، وقال أين هذا في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ وإذا لم نجد ذلك في كتاب الله أو في سنة رسوله فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، فيرد على صاحبه، فيقال:
الأمور قسمان:
أمور غائية، وأمور وسيلة.
فأما الأمور الغائية فهي التي هي غاية ومقصودة لذاتها، فإنها لا تفعل إلا بإذن من الشرع، ولا يمكن لأحد أن يشرعها أو يتعبد لله بها.
وأما الأمور التي هي وسيلة فيقصد بها الوصول إلى الغاية، فهذه ليس لها حد شرعي، بل لها قاعدة شرعية وهي أن الوسائل لها أحكام المقاصد، والوسائل تختلف باختلاف الأزمان، واختلاف الأحوال، واختلاف الأماكن، واختلاف الأمم، وإذا كان كذلك فالوسائل بابها مفتوح، فالعلماء ـ رحمهم الله ـ رأوا أن من وسائل تقريب العلم إلى الأذهان، وإلى الحصر أن يقولوا: هذه شروط، وهذه أركان، وهذه واجبات، وهذه سنن، وقالوا: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد فعل هذا المبدأ فنجده أحياناً يقول: «ثلاثة
__________
(1) سبق تخريجه ص(158).
لا يكلمهم الله» (1) ، «سبعة يظلهم الله في ظله» (2) ، مع أنهم لا ينحصرون في سبعة، ولا ينحصرون في ثلاثة، ولكن هذا من باب تقريب العلم للأفهام.
يبقى النظر فيما إذا قال: هذا شرط، أو هذا واجب، فهنا يطالب بالدليل فيقال له: من أين لك أن هذا شرط، وأن هذا واجب، وأن هذا ركن، وأن هذه سنة؟ هذا هو الذي يطالب فيه الإنسان بالدليل، أما تقسيم الأشياء إلى أقسام تقريباً للأفهام فإنه من باب الوسائل، ولو أردنا أن نسلك هذا المسلك لقلنا أيضاً تقسيم العلم إلى توحيد، وطهارة، وصلاة وزكاة وصيام وحج وبيوع ورهان وما أشبه ذلك، أيضاً هذا بدعة، أين في السنة أنها قسمت هكذا؟ فينبغي للإنسان أن يكون فهمه واسعاً، وأن يعرف مقاصد الشريعة، وأن لا يجعل الوسائل مقاصد، فإنه بذلك يضل، ويبدع أناساً كثيرين من أهل العلم المحققين.
حينئذٍ نقول: تقسيم العلم إلى أبواب ليس به بأس، وتقسيم الأبواب إلى شروط، وأركان، وواجبات، ومستحبات ليس به بأس؛ لأننا نريد أن نقرب العلم كما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستعمل تقريب العلم، لكن بأساليب مختلفة.
وقوله: «وأركان» : جمع ركن، والركن هو جانب البيت
__________
(1) انظر على سبيل المثال: «صحيح مسلم» (106)، (107)، (108).
(2) أخرجه البخاري في الأذان/ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة... (660)؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل إخفاء الصدقة (1031) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
الأقوى، وهي التي تسمى عندنا بالزاوية، وهي أقوى ما في الجدار، وسمي ركناً؛ لأن بعضه يسند بعضاً حيث يتلاقى به طرفا الجدار لأن جانب الشيء الأقوى يسمى ركناً.
قوله: «الإحرام» هذا هو الركن الأول، سبق لنا أن الإحرام هو نية النسك، وليس لبس ثوب الإحرام؛ لأن الإنسان قد ينوي النسك فيكون محرماً ولو كان عليه قميصه وإزاره، ولا يكون محرماً ولو لبس الإزار والرداء إذا لم ينو.
والنية محلها القلب فيكون داخلاً في النسك إذا نوى أنه داخل فيه، لكن يجب أن تعرف الفرق بين من نوى أن يحج، ومن نوى الدخول في الحج، فالثاني هو الركن، أما من نوى أن يحج فلم يحرم، فلا صلة له بالركن ولهذا ينوي الإنسان الحج من رمضان ومن رجب ومن قبل ذلك، ولا نقول إن الرجل تلبس بالنسك أو دخل في النسك أو أحرم.
وهل يشترط مع النية لفظ؟ الصحيح أنه لا يشترط.
ومن العلماء من قال: إنه لا بد من التلبية مع النية، وجعل التلبية بمنزلة تكبيرة الإحرام في الصلاة.
والدليل على أن الإحرام ركن، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
قوله: «والوقوف» هذا هو الركن الثاني، أي: بعرفة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» (2) ، ولقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
__________
(1) سبق تخريجه ص(68).
(2) سبق تخريجه ص(19).
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، فقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} يدل على أن الوقوف بعرفة لا بد منه، وأنه أمر مسلم وأن الوقوف بالمزدلفة بعد الوقوف بعرفة.
قوله: «وطواف الزيارة» ، هذا هو الركن الثالث.
ويقال له: طواف الإفاضة، وهو الطواف الذي يقع في يوم العيد أو ما بعده ومراده الطواف بالبيت.
ويشترط أن يقع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة، فلا يصح أن يطوف قبل عرفة ولا مزدلفة، لا بد أن يطوف بعدهما لقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، فمزدلفة تلي عرفة، وقال لما ذكر ذكر النحر والذبح: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *} [الحج] ، فجعل الطواف بعد الوصول إلى منى هو كذلك، وعليه فيشترط لصحة طواف الإفاضة أن يكون بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة، وعليه فلو أن الإنسان انطلق من عرفة ليطوف طواف الإفاضة، ثم عاد إلى مزدلفة وبات بها، فطوافه لا يصح ويكون نفلاً.
ودليل ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *} [الحج] الشاهد قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا}؛ لأن الجملة هذه فعل مضارع مقرون بلام الأمر فيكون أمراً.
قوله: «والسعي» هذا هو الركن الرابع، وهو المذهب، وقيل: إنه واجب يجبر بدم، وقيل: إنه سنة، وهذا أضعف
الأقوال، وأصح الأقوال أنه ركن لا يتم الحج إلا به، والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] .
ثانياً : قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» (1) .
ثالثاً : قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «والله ما أتم الله حج رجل ولا عمرته لم يطف بهما» (2) ، أي: بالصفا والمروة.
فإن قال قائل: كيف تقولون: إن السعي بين الصفا والمروة ركن، وقد قال الله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ونفي الجناح لا يدل على الوجوب، بل يدل على رفع الإثم فقط، فكيف تجعلونه ركناً لا يصح الحج إلا به؟! هذا إيراد وارد.
قلنا: إن قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} يكفي دليلاً في مشروعية السعي حيث جعلهما من شعائر الله، وقد قال الله تعالى: {ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} والطواف بهما تعظيم لهما، فيكون قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} دليلاً على أن من طاف بهما فقد عظم شعائر الله وأنه لا جناح عليه.
وأما قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فهذا رفع توهم وقع من بعض الناس حين نزول الآية، وذلك أنه كان على
__________
(1) سبق تخريجه ص(269).
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن... (1277).
الصفا والمروة صنمان يعبدان من دون الله، فتحرج المسلمون من أن يطوفوا بالصفا والمروة، وعليهما صنمان قبل الإسلام، فنفى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك الجناح؛ ليرتفع الحرج عن صدورهم، فكان الغرض من نفي الجناح رفع الحرج عن صدورهم، حتى لا يبقى فيها قلق.
هذه أربعة أركان.
مسألة: زاد بعض العلماء المبيت بالمزدلفة، واستدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 198، 199] ، ويقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عروة بن المضرس ـ رضي الله عنه ـ: «من شهد صلاتنا هذه ـ يعني الفجر ـ ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» (1) ، ففهم منه أن من لم يقف بالمزدلفة لم يتم حجه، وإلى هذا ذهب بعض السلف والخلف، وهو بلا شك قول قوي وقد مال إليه ابن القيم.
لكن الذين قالوا: إنه ليس بركن، قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحج عرفة، من جاء قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك» (2) .
وأجابوا عن حديث عروة ـ رضي الله عنه ـ بأن الإتمام يكون على وجوه: تارة يكون إتماماً لا يصح الشيء إلا به، وتارة
__________
(1) سبق تخريجه ص(231).
(2) سبق تخريجه ص(19).
يكون إتماماً يصح الشيء بدونه مع التحريم، وتارة يكون إتماماً يصح الشيء بدونه مع نفي التحريم، والمراد بالإتمام في حديث عروة بالنسبة للمزدلفة إتمام الواجب الذي تصح العبادة بدونه، وهذا هو رأي الجمهور.
ومن العلماء من قال: إن الوقوف بالمزدلفة سنة وليس بركن ولا واجب؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة».
لكن أعدل الأقوال وأصوبها أنه واجب، وليس بركن والإنسان يتحرج أن يقول لشخص وقف بعرفة وطاف وسعى ولكنه يقف بالمزدلفة: إنه لا حج لك، ولكن يقول له: حجك صحيح وعليك دم، كما سيأتي في الواجبات.
قوله: «وواجباته» ، أي: واجبات الحج. والفرق بين الواجب والركن أن الواجب يصح الحج بدونه، والركن لا يصح إلا به.
قوله: «الإحرام من الميقات المعتبر له» ، هذا هو الأول من واجبات الحج، الإحرام من الميقات المعتبر له، أما أصل الإحرام فهو ركن.
ولو قال المؤلف: أن يكون الإحرام من الميقات لكان أوضح؛ لأنه إذا قال: الإحرام من الميقات، فقد يظن الظان أن الإحرام من الميقات ـ أيضاً ـ من الواجبات، وقد سبق أن المواقيت خمسة، وأن من مر بها يريد النسك وجب عليه الإحرام، ومن كان دونها فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة يحرمون من مكة إلا في العمرة، فيحرمون من أدنى الحل، وقد سبق بيان ما هو الميقات المعتبر، فالميقات المعتبر هي المواقيت الخمسة.
والدليل على الوجوب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يهل أهل المدينة....» (1) ، وهذا خبر بمعنى الأمر، والدليل على أنه بمعنى الأمر قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل المدينة ذا الحليفة» (2) .
قوله: «والوقوف بعرفة إلى الغروب» ، هذا هو الثاني من واجبات الحج، الوقوف بعرفة إلى الغروب، أي: أن يستمر في عرفة إذا وقف نهاراً إلى أن تغرب الشمس، وعلى هذا فلا يحل أن يخرج الإنسان من عرفة قبل غروب الشمس؛ لأن البقاء فيها حتى تغيب الشمس أمر واجب.
وزعم بعض العلماء أنه لا يجب الوقوف إلى الغروب، لحديث عروة بن المضرس ـ رضي الله عنه ـ حين قال صلّى الله عليه وسلّم: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه» (3) ، فمن وقف نهاراً، ودفع قبل الغروب صدق عليه هذا الحكم الذي نطق به النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه قد تم حجه وقضى تفثه، ولكن الصحيح أن الوقوف بعرفة إلى الغروب واجب للأدلة الآتية:
أولاً: مكث النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها إلى الغروب (4) مع أنه لو دفع بالنهار لكان أرفق بالناس؛ لأنه لو دفع بالنهار كان ضوء النهار معيناً للناس على السير، وإذا دفع بعد الغروب حل الظلام، ولا
__________
(1) سبق تخريجه ص(52).
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب فرض مواقيت الحج والعمرة (1522).
(3) سبق تخريجه ص(231).
(4) سبق تخريجه ص(76).
سيما في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والناس يمشون على الإبل والأقدام فينتشر الظلام قبل الوصول إلى مزدلفة.
فإن قال قائل: في تلك الليلة يكون القمر مضيئاً فلا يحصل بالسير بعد الغروب مشقة؟
فالجواب أن نقول: أفلا يمكن في تلك الليلة أن يوجد سحاب؟
الجواب: بلى يمكن أن يكون هناك سحاب، إما في السنة التي حج فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإما في غيرها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن مفاتيح السماء بيد الله ـ عزّ وجل ـ هو الذي ينشئ السحاب، وإذا لم يكن سحاب في تلك السنة، فيمكن أن يكون في السنوات الأخرى، إذاً فتأخير الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدفع من عرفة إلى ما بعد الغروب، وتركه للأيسر يدل على أن الأيسر ممتنع، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً» (1) .
ثانياً: أن الدفع قبل الغروب فيه مشابهة لأهل الجاهلية حيث يدفعون قبل غروب الشمس، إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال، كعمائم الرجال على رؤوس الرجال، فلو دفع إنسان في مثل هذا الوقت لشابههم، ومشابهة الكفار في عباداتهم محرمة.
ثالثاً: أن تأخير الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدفع إلى ما بعد غروب الشمس، ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب ـ مع أن وقت
__________
(1) سبق تخريجه ص(352).
المغرب قد دخل ـ يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت، وأنه صلّى الله عليه وسلّم ممنوع من الدفع حتى تغرب الشمس، ولذلك بادر، فلو كان الدفع قبل غروب الشمس جائزاً لدفع قبل غروب الشمس، ووصل إلى مزدلفة في وقت المغرب، وصلى فيها المغرب مطمئناً.
وعلى هذا فإن قيل: ما الجواب عن حديث عروة؟
قلنا: الجواب عن حديث عروة ـ رضي الله عنه ـ: ما أسلفنا أن تمام الشيء قد يكون تمام واجب، أو ركن، أو سنة.
وأيضاً حديث عروة مطلق: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً» ، فقيد بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه وقف إلى الغروب، والمقيد يحكم على المطلق.
قوله: «والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل» ، هذا هو الركن الثالث والرابع من واجبات الإحرام.
فقوله: «والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى...» ، المراد المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق دون المبيت في ليلة التاسع، فإن المبيت في منى ليلة التاسع ليس بواجب، بل هو سنة، أما المبيت ليالي أيام التشريق بمنى فواجب، والدليل ما يلي:
أولاً : ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رخص لعمه العباس أن يبيت في مكة ليالي التشريق من أجل السقاية» (1) ،
__________
(1) سبق تخريجه ص(199).
والرخصة تقابلها عزيمة؛ لأن السقاية كانت بيد العباس، فكان ـ رضي الله عنه ـ يسقي الحجاج ماء زمزم مجاناً تعبداً لله ـ عزّ وجل ـ، وإظهاراً لكرم الضيافة، وفي الجاهلية استجلاباً للناس أن يحجوا لأن أهل مكة ينتفعون اقتصادياً من الحجاج، فيسهلون لهم الأمور، ويخدمونهم من أجل تشجيعهم على الحج.
ثانياً : قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لتأخذوا عني مناسككم» (1) ، وقد بات في منى.
وقيل: إنه سنة وليس بواجب، والإمام أحمد لما قيل له إن فلاناً يقول في تركه دم ضحك ـ رحمه الله ـ وقال: هذا شديد، وهذا يدل على أنه يرى أن المبيت بمنى سنة.
أما المبيت بمزدلفة فقوله ـ رحمه الله ـ أنه واجب من واجبات الحج قول وسط بين قولين:
أحدهما: أن المبيت بها ركن من أركان الحج والآخر أنه سنّة، وقد سبق بيان ذلك (2) .
وقوله: «لغير أهل السقاية والرعاية» ، أهل السقاية أي: سقاية الحجاج من زمزم، والرعاية رعاية إبل الحجاج، وذلك أن الناس فيما سبق يحجون على الإبل، فإذا نزلوا في منى احتاجوا إلى من يرعى إبلهم؛ لأن بقاءها في منى فيه تضييق، وربما لا يتوفر لها العلف الكافي؛ لهذا يذهب بها الرعاة إلى محلات أخرى من أجل الرعي، وقد رخص النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للرعاة أن يدعوا
__________
(1) سبق تخريجه ص(204).
(2) انظر ص(384).
المبيت بمنى ليالي منى لاشتغالهم برعاية الإبل (1) .
مسألة: هل يلحق بهؤلاء من يماثلهم ممن يشتغلون بمصالح الحجيج العامة كرجال المرور، وصيانة أنابيب المياه، والمستشفيات وغيرها أو لا؟
الجواب: نعم يلحقون بهؤلاء لتمام أركان القياس، فإن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، وهذا موجود تماماً فيمن يشتغلون بمصالح الحجيج، وعليه فيقاس على الرعاة والسقاة من يشتغلون بمصالح الناس في هذه الأيام، فيرخص لهم أن يبيتوا خارج منى.
ومن له عذر خاص كمريض ينقل للمستشفى خارج منى، هل يقاس على هؤلاء أو لا يقاس؟
قال بعض أهل العلم: إنه يقاس بجامع العذر في كل منهم.
وقال بعض العلماء: إنه لا يقاس على هؤلاء؛ لأن هذا عذره خاص، والسقاة والرعاة عذرهم عام للمصلحة العامة، فهو لا يشبه الرعاية والولاية، والذي عذره خاص فهذا ينظر في أمره هل يرخص له في ترك المبيت ويقال: إن عليك فدية لترك المبيت، أو يقال لا فدية عليك؟ ولكن قياسه على الرعاة والسقاة قياس مع الفارق.
ولكن ليعلم أن المبيت في منى ليس بذاك المؤكد كالرمي مثلاً، والدليل على هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يسقط الرمي عن
__________
(1) سبق تخريجه ص(357).
الرعاة، وأسقط المبيت عنهم (1) ، فدل هذا على أن المبيت في منى ـ وإن عددناه من الواجبات ـ أهون من الرمي؛ ولهذا يخطئ بعض الناس ـ فيما نرى ـ أنه إذا قيل له: رجل لم يبت في منى ليلة واحدة قال: عليه دم، وهو لو قال: عليه دم إذا ترك ليلتين لكان له شيء من الوجه؛ لأنه ترك جنساً من الواجبات، أما إذا ترك ليلة من الليالي فنقول: عليه دم، مع أن الوجوب فيه نظر، ثم الوجوب إنما يكون إذا ترك هذا الجنس من الواجب، أما إذا ترك جزءاً منه فإيجاب الدم عليه فيه نظر واضح، ولهذا كان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أحياناً يقول: عليه قبضة من طعام، أي: ملئ اليد. وبعض العلماء يقول: درهم وما أشبه ذلك.
وقوله: «لغير أهل السقاية والرعاية» .
يفهم منه أن أهل السقاية والرعاية يجوز لهم ترك المبيت بالمزدلفة، ولا أعلم لهذا دليلاً من السنة أن الناس يسقون ليلة المزدلفة، ولا أن الرعاة يذهبون بالإبل ليلة المزدلفة لما يلي:
أولاً: الرعاة لا حاجة لهم إلى الرعي في ليلة المزدلفة، بل الرواحل عند الناس؛ لأنهم سيرتحلون، فكيف تذهب ترعى في الليل وهم جاؤوا بها من عرفة وأناخوها في مزدلفة وستبقى تنتظر ارتحالهم في صباح تلك الليلة، هل في هذا حاجة للرعاة؟ لا والسقاة أيضاً، فإن الناس لن يذهبوا إلى مكة يشربون ماء زمزم قبل أن يستوطنوا في منى، فاستثناء السقاة والرعاة من وجوب المبيت بالمزدلفة فيه نظر ظاهر.
__________
(1) سبق تخريجه ص(357).
ثانياً: لعدم ورود السنة به.
ولكن قد يقول قائل: ما رأيكم في جنود المرور، وجنود الإطفاء، والأطباء، والممرضين، هل ترخصون لهم؟
الجواب نقول: لا نرخص لهم؛ لأن المبيت في المزدلفة أوكد من المبيت في منى بكثير، فإن منى لم يقل أحد من العلماء إن المبيت بها ركن من أركان الحج، والمزدلفة قال به بعض العلماء، وهو قول قوي كما سبق، إلا أن الأقوى منه أنه واجب وليس بركن، وعلى هذا فلا بد من المبيت في المزدلفة، ثم يفرق أيضاً بينه وبين ليالي منى أنه ليلة واحدة، أو بعض ليلة للإنسان الذي يريد أن يدفع مبكراً في آخر الليل، أي: لا يقضي ليله كله، فلا يصح قياسه على ليالي منى.
مسألة: يشكل على بعض الإخوة أنه يقول: لا بد أن أبيت وأضطجع، وهذا ليس بلازم، وأن المراد بالمبيت المكث في المزدلفة ليلة العيد، سواء أنام أم لم ينم، لكن المبيت بمعنى النوم أفضل من إحيائها بقراءة أو بحث في علم أو تهجد اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تعرضنا في أثناء الحديث على صفة الحج إلى بحث مسألة الوتر في تلك الليلة، وقلنا: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يدع الوتر حضراً أو سفراً، وهذا عام يشمل حتى ليلة العيد في المزدلفة، وأوردنا على أنفسنا حديث جابر: «ثم اضطجع حتى طلع الفجر» (1) ، وقلنا: إن هذا مبلغ علم جابر، وإلا فإن
__________
(1) سبق تخريجه ص(76).
الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «بعث أهله من المزدلفة بليل» (1) ، هذا يقتضي أن يكون في آخر الليل مستيقظاً، فعلى هذا نقول إن الوتر في تلك الليلة كغيرها من الليالي، لكن التهجد وإحياء الليلة غير مشروع.
مسألة: في هذه العصور الأخيرة نشأ إشكال بالنسبة للمبيت بمنى؛ وهو أن الناس لا يجدون مكاناً، فماذا يصنعون؟
الجواب: نقول: ينزلون عند آخر خيمة من خيام أهل منى، استدلالاً بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
فإن قال قائل: لماذا لا تجعلون هذا من جنس الحصر، والحصر عن الواجب فيه دم كما قاله الفقهاء؟
قلنا: لأن المكان هنا ممتلئ فلا مكان أصلاً، أما الحصر فالمكان باقٍ لكن يُمْنَعُ منه، أما هنا فلا مكان فهو مثل قطع اليد يسقط غسلها في الوضوء، فيسقط المبيت في هذه الحال، وأن الإنسان يجب أن يكون عند آخر خيمة، أما فعل بعض الناس إذا لم يجد مكاناً في منى ذهب إلى مكة إو إلى الطائف أو ما أشبه ذلك، وقال: ما دام لم نجد مكاناً في منى فلنبت حيث شئنا، فإن هذا ليس بصحيح؛ لأننا نقول: إن المسجد إذا امتلأ وجب اتصال الصفوف ولا تصح الصلاة من بعيد، وهذا كذلك نقول: يجب عليك أن تكون عند آخر خيمة في منى، وإذا سألنا سائل هل يجب أن أكون عند آخر خيمة في الجهة البعدى من مكة أو في أي جهة؟
__________
(1) سبق تخريجه ص(306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فالجواب: في أي جهة، وعلى هذا فيصح أن تكون في الجهة التي تلي مكة من وراء جمرة العقبة، ولا حرج ما دامت الخيام متصلة.
وقوله: «إلى بعد نصف الليل» ، هذا منتهى وجوب المبيت على المشهور من المذهب، فإذا انتصف الليل في المزدلفة انتهى الوجوب فلك أن تدفع، ولا فرق بين العاجز والقادر، ونصف الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، أو إلى طلوع الشمس أيهما أحوط؟ الأحوط إلى طلوع الشمس؛ لأنه أطول فيزيد ساعة ونصفاً تقريباً فنقول: انتظر زيادة ساعة إلا ربعاً على انتصاف الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وبعد ذلك لك الدفع.
ولكن القول الصحيح أن الدفع إنما يكون في آخر الليل كما سبق، وكانت أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ تنتظر غروب القمر فإذا غاب دفعت، ثم ذهبت إلى منى ورمت، ثم عادت إلى مكانها في منى وصلت الفجر (1) .
ولعدم ورود نص في ليالي منى خاصة فإن المعتبر البقاء فيها معظم الليل، من أوله أو وسطه أو آخره، فإذا قدرنا أن الليل اثنتا عشرة ساعة فمعظمه سبع ساعات، من أوله أو وسطه أو آخره.
قوله: «والرمي» ، هذا هو الواجب الخامس، أي رمي الجمار في يوم العيد جمرة واحدة، وفي الأيام الثلاثة التي بعد
__________
(1) سبق تخريجه ص(307).
العيد ثلاث جمرات، ولا بد أن تكون مرتبة، وسبق ذلك في صفة الحج، لكن الرمي من الواجبات. والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الرمي: «إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (1) ، وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم» (2) ، وقال: «بأمثال هؤلاء فارموا» (3) ، وكونه يحافظ عليه ويأمر أن نرمي بمثل هذه الحصيات يدل على أنه واجب، ولأنه عمل يترتب عليه الحل فكان واجباً، ليكون فاصلاً بين الحل والإحرام.
ولا بد أن يكون الرمي مرتباً، وأن يكون بحجر، وأن يكون بسبع حصيات، وسبق الكلام على هذا مفصلاً في صفة الحج فلا حاجة لإعادته.
قوله: «والحلاق» ، هذا هو الواجب السادس، الحلاق أي: الحلق وينوب عنه التقصير، ولهذا قال المؤلف في الشرح: «أو التقصير» ، ودليل الحلق فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم (4) ، وأن الله تعالى جعله وصفاً في الحج والعمرة فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} [الفتح: 27] ، قال العلماء: وإذا عبر بجزء من العبادة عن العبادة كان دليلاً على وجوبه فيها.
قوله: «والوداع» ، وهذا هو الواجب السابع، أي: طواف الوداع، وهو الطواف بالبيت فقط بدون سعي ولا إحرام، وهو من واجبات الحج، هكذا عده المؤلف، وكثير من العلماء؛ لأن
__________
(1) سبق تخريجه ص(322).
(2) سبق تخريجه ص(240).
(3) سبق تخريجه ص(318).
(4) سبق تخريجه ص(76) من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ.
حكمه حكم الواجبات في وجوب فعله، ومن لم يفعله فعليه دم.
والصحيح أنه ليس من واجبات الحج؛ لأنه لو كان من واجبات الحج لوجب على المقيم والمسافر، وهو لا يجب على المقيم في مكة، وإنما يجب على من سافر، وعلى هذا فلا يتوجه عده في واجبات الحج، إذ إن واجبات الحج لا بد أن تكون واجبة على كل من حج، لكنه واجب على من أراد الخروج من مكة، ودليل هذا حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما’>;ـ قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض» (1) ، وهذا الأمر للوجوب، ودليل كونه للوجوب قوله: «إلا أنه خفف عن الحائض» ، لأنه لو كان للاستحباب لكان مخففاً على كل أحد؛ لأن المستحب يجوز تركه، ولقوله ـ أيضاً ـ في اللفظ الآخر: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (2) .
والبَاقِي سُنَن، وَأَرْكَانُ العُمْرَةِ: إِحْرَامٌ، وَطَوَافٌ، وَسَعْيٌ، وَوَاجِبَاتُها: الحِلاَقُ وَالإِحْرَامُ مِن مِيقَاتها.
قوله: «والباقي سنن» ، أي: الباقي من أقوال الحج وأفعاله سنن، وسيأتي حكم كل من الركن والواجب والسنة.
قوله: «وأركان العمرة: إحرام، وطواف، وسعي» ، الإحرام نية الدخول في العمرة، والطواف، والسعي معروفان.
قوله: «وواجباتها الحلاق، والإحرام من ميقاتها» ، فصارت أركان العمرة ثلاثة، وواجباتها اثنين، أما الطواف والسعي فلأن
__________
(1) سبق تخريجه ص(361).
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب وجوب طواف الوداع (1327) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تطوف وتسعى وقال: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك» (1) .
وأما الإحرام من الميقات فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقّت المواقيت وقال: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة» (2) ، وأما الحلق فلما تقدم.
ولم يذكر طواف الوداع، فظاهر كلامه أنه لا يجب لها طواف وداع؛ لأن عدم الذكر في سياق البيان يدل على أنه لا عبرة به، وعلى هذا فيكون طواف الوداع في العمرة ليس بواجب على المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ، وهذه المسألة فيها قولان:
الأول: أنه واجب.
الثاني: أنه سنة.
والراجح عندي أنه واجب على المعتمر أن يطوف للوداع كما هو واجب على الحاج لما يلي:
أولاً : عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (3) .
فإن قال قائل: هذا القول قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع في الحج ولم يقله في العمرة؟
قلنا: نعم نسلم ذلك، ولكن لأنه لم يوجبه الله إلا في ذلك
__________
(1) سبق تخريجه ص(84).
(2) سبق تخريجه ص(397).
(3) سبق تخريجه ص(48).
الوقت وما قبل ذلك لم يجب أصلاً، والشرع كما نعلم يتجدد، فقد يجب في هذا الوقت ما لم يكن واجباً من قبل.
ثانياً : قوله صلّى الله عليه وسلّم ليعلى بن أمية ـ رضي الله عنه ـ: «اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك» (1) .
وهذا العموم يفيد أن كل ما يفعل في الحج يفعل في العمرة إلا ما قام النص أو الإجماع على أنه مستثنى، كالوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، أو بمنى، ورمي الجمار، فهذا مستثنى بالإجماع، وإلا فالأصل مشاركة العمرة الحج في أفعاله.
ثالثاً : أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سماها في حديث عمرو بن حزم الذي تلقته الأمة بالقبول الحج الأصغر فقال: «العمرة الحج الأصغر» (2) فسماها حجاً، وإذا سميت باسمه كان الأصل موافقتها له في الأحكام إلا ما استثني.
رابعاً : أنه لا فرق بين الحج والعمرة من حيث المعنى، بل لو قيل: إيجاب طواف الوداع في العمرة أولى من إيجابه في الحج؛ لأن أفعالها أقل وأخف.
خامساً : أن هذا الرجل دخل إلى البيت بطواف فليخرج منه بطواف. فإن قيل: ما الجواب على من قال: إنه لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه طاف للوداع في عُمَره؟
فالجواب: أما عمرة الجعرانة فهو قد طاف وسعى وخرج
__________
(1) أخرجه البخاري في العمرة/ باب يفعل في العمرة ما يفعل بالحج (1789)؛ ومسلم في الحج/ باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة (1180).
(2) سبق تخريجه ص(76).
في ليلته ولهذا كثير من الصحابة لم يعلم بها، وهذا لا إشكال فيه، وأما عمرة القضاء فيقال: إن أصل إيجاب طواف الوداع كان متأخراً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكره إلا في حجة الوداع، نعم لو فرض أنه قاله قبل عمرة القضاء ثم اعتمر ولم يطف للوداع قلنا: العمرة لا طواف لها، لكن أصل الإيجاب لم يجب إلا متأخراً.
ولكن لو أن أحداً قدم مكة وطاف وسعى وقصر وانصرف وخرج، فإن هذا يجزئه عن طواف الوداع، كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه (1) بأن المعتمر إذا طاف وسعى فإنه يكفيه عن طواف الوداع، واستدل بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما اعتمرت من التنعيم، فلا يقال: إن هذا لم يجعل آخر عهده بالبيت، نقول في الجواب: لأن السعي تابع للطواف؛ ولهذا ذكر الفقهاء أنه لو أخر طواف الإفاضة فطافه عند الوداع وسعى فإنه يجزئه ولم يعتبروا السعي فاصلاً؛ لأنه يثبت في التابع ما لا يثبت في المستقل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف للوداع في حجة الوداع، وبعد أن طاف صلى الفجر ثم انصرف (2) ، ولأن الفصل يسير، وإن كانت فإن هذه الصلاة فيما يظهر ليست تابعة للطواف بمعنى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم ينو كونها نائبة عن صلاة ركعتين بعد الطواف، وعلى كل حال إذا طاف الإنسان فإنه مثاب على القولين جميعاً، لكن إذا تركه فهل يأثم أو لا؟ ينبني على القول بالوجوب أو عدمه؟ إن قلنا بالوجوب فهو آثم وإلا فليس بآثم.
__________
(1) في كتاب الحج/ باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع.
(2) سبق تخريجه ص(364).
فَمَنْ تَرَكَ الإِحْرَامَ لَمْ يَنْعَقِدْ نُسُكُهُ وَمَنْ تَرَكَ رُكْناً غَيْرَهُ، أَوْ نِيَّتَه لَمْ يَتِمَّ نُسُكُهُ إِلاَّ بِهِ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِباً فَعَلَيْهِ دَمٌ، أَوْ سُنَّةً فَلاَ شَيْء عَلَيْهِ.
قوله: «فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه» ، «فمن ترك الإحرام » يعني النية، أي: الدخول في النسك، فإنه لا ينعقد نسكه حتى لو طاف وسعى، فإن هذا العمل ملغى، كما لو ترك تكبيرة الإحرام في الصلاة، وأتم الصلاة بالقراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، فصلاته ملغاة لم تنعقد أصلاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، وهذا الرجل لم ينو الدخول في النسك فلا يكون داخلاً فيه، ولكن تصوير هذه المسألة قد يكون صعباً، كيف نقول لرجل اغتسل في الميقات، ولبس ثياب الإحرام، ولبى: إنه لم ينو، هذا من أبعد ما يكون، لكن إذا قدر أن شخصاً فعل جميع ما يتعلق بالنسك إلا أنه لم ينو فإنه لا ينعقد نسكه، وكل أفعاله ذهبت هدراً، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان إذا فعل أفعال العبادة لا بد أن يكون قد نواها، وذكر عن ابن عقيل من أتباع الإمام أحمد «أن رجلاً جاءه وقال له: يا سيدي تصيبني الجنابة فأذهب إلى دجلة فأغتسل أنغمس فيها، ثم أخرج وأرى أنه لم يرتفع حدثي، فقال له ابن عقيل: لا تصل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق» (2) ، وأنت مجنون تذهب وتخلع ثيابك وتنغمس في الماء، ثم تقول: لم أنو، هذا ليس بمعقول»، فالظاهر أن الرجل انتقد
__________
(1) سبق تخريجه ص(70).
(2) أخرجه أبو داود في الحدود/ باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً (4398) والنسائي في الطلاق/ باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (6/156) وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041) وصححه ابن حبان (142) والحاكم (2/59) ووافقه الذهبي عن عائشة رضي الله عنها.
نفسه وعرف أنه أخطأ خطأً كبيراً، ولهذا قال الموفق ـ رحمه الله ـ في كتابه «ذم الموسوسين»: إن بعض العلماء قال: «لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق»، وهذا صحيح، فلو قيل لك: توضأ لكن لا تنو الوضوء، وصل، ولكن لا تنو الصلاة، فهذا لا يمكن، صحيح أن الإنسان قد يغيب عنه التعيين فهو ينوي الفعل لكن يغيب عنه التعيين، فيأتي إلى المسجد لصلاة الظهر، ثم يكبر ويصلي، لكن يغيب عن ذهنه أنه نوى الظهر مثلاً، لكن في نيته أنه نوى فرض الوقت، فهل يجزئ أو لا؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا تجزئ الصلاة؛ لأنه لا بد من التعيين، وقال بعض أصحاب الإمام أحمد وهو ابن شاقلا ـ رحمه الله ـ: إنه يكفيه أن ينوي فرض الوقت، وهذا ـ والحمد لله ـ فيه سعة للناس؛ لأنه كثيراً ما يأتي الإنسان ويحرم بالصلاة لا سيما إذا كان الإمام راكعاً، فإنه يأتي بسرعة وقد لا ينوي التعيين، ولكن لو سألته ماذا نويت قال: نويت أداء الفرض.
قوله: «ومن ترك ركناً غيره» ، أي: غير الإحرام لم يتم نسكه إلا به، فلو ترك الطواف، نسياناً فلم يطف طواف الإفاضة نقول: لم يتم حجه فلا بد أن يطوف، فإن كان الركن مما يفوت، فالحج ملغى، كما لو ترك الوقوف بعرفة حتى خرج فجر يوم العيد، فإن الحج انتهى ولا يمكنه الوقوف، فلو قال: أقف يوم العيد، أقضي، وأنا أسعد بالدليل منكم؛ لأنني ناسٍ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (1) ،
__________
(1) سبق تخريجه ص(202).
وأيهما أوكد الصلاة أو الحج؟ نقول له: الصلاة، قال: إذاً أنا نسيت أن اليوم هو التاسع فأقف اليوم العاشر، قلنا: لا يجوز، قال: هذا قياس صحيح أنتم الآن أقررتم بأن الصلاة أوكد، فإذا كان يصح قضاء الصلاة فليصح قضاء الوقوف بعرفة.
فيقال: هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى ليلة جمع قبل الصبح فقد أدرك» (1) ، مفهومه أن من أتى بعد الصبح فإنه لم يدرك، وهذا نص ولا يقاس مع وجود النص.
إذاً من ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به، لكن إن كان الركن يفوت ـ ولا يصح التمثيل إلا بالوقوف فقط ـ فإنه في هذه الحال يفوته الحج.
قوله: «أو نيته لم يتم نسكه إلا به» ، لو أن المؤلف قال: أو شرطه لكان أعم، مثل لو أنه طاف بالبيت من غير طهارة بناء على القول باشتراط الطهارة للطواف لم يصح طوافه.
وقوله: «لم يتم نسكه إلا به» ، أي: لا بد أن يأتي به، وظاهر كلام المؤلف حتى ولو كان ذلك للضرورة، فإن عجز عن ذلك فسوف يأتي في باب الفوات والإحصار حكمه.
وقوله: «أو نيته» .
الركن الذي يشترط له النية هو الطواف والسعي، أما الوقوف عند الفقهاء فإنه لا يشترط له النية.
والصحيح أن الطواف والسعي لا تشترط لهما النية؛ لأن الطواف والسعي جزء من عبادة مكونة من أجزاء فتكفي النية في
__________
(1) سبق تخريجه ص(19).
أولها كالصلاة، بدليل أن المصلي لا يشترط أن ينوي الركوع ولا السجود، ولا القيام ولا القعود، فليس الطواف شيئاً مستقلاً، ويقال: أيضاً إذا كنتم لا تشترطون النية في الوقوف، وهو أعظم أركان الحج حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» (1) ، فما مثله أو دونه من باب أولى، وهذا القول هو الذي رجحه الشنقيطي في تفسيره، وهو الصواب وفيه مصلحة للناس؛ لأن كثيراً من الناس عند الطواف لو سألته ماذا نويت في الطواف؟ قال: نويت الطواف، وليس على باله أنه للحج أو للعمرة، لكنه متلبس بالحج، وعلى رأي من يشترط النية طوافه غير صحيح، على القول الثاني طوافه صحيح، إذاً نحذف كلمة «أو نيته» لأنه ليس هناك ركن تشترط فيه النية، والإحرام هو نية النسك، وسبق أنه لا ينعقد النسك بفواته، والوقوف لا يشترط له نية.
وعليه فلا تشترط نية التعيين أي: أنه طواف للحج، أما نية الطواف فلا بد منها؛ لأنه لا بد أن ينوي الطواف لكن كونه للحج ليس شرطاً، فلو طاف من غير نية أنه للحج أو للعمرة فطوافه صحيح، أما لو أنه حُمِلَ كرهاً وطيف به، وهو لا ينوي فلا يصح طوافه؛ لأنه ما نوى.
والدليل على أن تارك الركن لا يصح حجه، أن الركن هو الماهية التي تنبني عليها العبادة، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم في الوقوف: «من أتى ليلة جمع قبل الصبح فقد أدرك» (2) ، يدل على أنه إذا فاته الوقوف بعرفة فاته الحج.
__________
(1) سبق تخريجه ص(19).
(2) سبق تخريجه ص(19).
قوله: «ومن ترك واجباً فعليه دم» ، الواجبات ذكرنا أنها سبعة، وإذا أطلق الدم في لسان الفقهاء فهو: سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو واحدة من الضأن أو المعز، ولا بد فيها من شروط الأضحية، وهي أن تكون قد بلغت السن المعتبر وهو في الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن نصف سنة ستة أشهر، ولا بد أيضاً أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء كالعور البين ونحوه.
وهذا الدم دم جبران لا دم شكران، وعليه فيجب في الحرم أن يتصدق به جميعه على فقراء الحرم، ويوزع في الحرم، فإن ذبحه خارج الحرم لم يجزئ، ولو ذبح هدي المتعة والقران في عرفة لم يجزئ؛ لأنه في غير المكان المعتبر شرعاً، فإذا ذبحه في عرفة فكأنما ذبحه في الصين، ولو ذبح في الصين مثلاً وجاء به إلى عرفة لم يجزئ، فالحل واحد من عرفة إلى أبعد الدنيا.
وقال بعض الشافعية: إذا ذبحه في الحل وفرقه في الحرم فلا بأس؛ لأن أهله هم أهل الحرم، وقد أداه إليهم، ولكن قد يقال: إن هذا غير صحيح؛ لأنه يفرق بين ذبحه في الحرم وذبحه في الحل، حيث إنه عبادة والعبادة في الحرم أفضل منها في الحل، فإذا ذبح في الحل فاتته الأفضلية، وحينئذٍ لا يصح، وإن كان المقصود التصدق على فقراء الحرم أن يصل إليهم لكن ـ أيضاً ـ الذبح نفسه عبادة، فكونه ينقل من محل فاضل إلى محل مفضول يقتضي عدم الإجزاء، كما لو نذر أن يصلي ركعتين بالمسجد الحرام فإنه لا يصح أن يصلي الركعتين في المسجد
النبوي؛ لأن المسجد الحرام أفضل، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ما عذر الصحابي الذي ذبح أضحيته في غير الوقت، فالقول بعدم الإجزاء هو الراجح نظراً، لكن إذا سألنا أناس وليس في المسألة دليل واضح ينهى عن الذبح في الحل، فينبغي أن يقال: لا تعيدوا ولا تعودوا، لا تعيدوا أي: لا تذبحوا مرة ثانية، ولا تعودوا أي: لا تعودوا لمثله، خصوصاً إذا كانوا أناساً يغلب عليهم الجهل وسلامة القلب، وأنهم ما تعمدوا المخالفة، والمقصود حصل بإعطاء اللحم إلى أهله، فإن قيل: أفلا نقول: إن من ذبحها في المكان الذي لا يذبح فيه ـ وإن كان معذوراً بجهل ـ نلزمه بالإعادة؟
هذا لا شك إيراد قوي؛ لأن المخالفة في المكان كالمخالفة في الزمان، ولكن الذي يمنع من إلحاق هذه بهذه أنه ليس هناك نص أن الذبح لا بد أن يكون في الحرم، أما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل منى منحر» (1) ، «وكل فجاج مكة طريق ومنحر» (2) ، فلا يدل على أن غيرها ليس بمنحر إلا بالمفهوم، ومثل هذه الأمور التي ليس فيها نص، والأمر قد انقضى وانتهى، لا حرج على الإنسان أن يراعي أحوال المستفتي، فلا يشق عليه في أمر لم يجد فيه نصاً، لكن يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على هذه المسألة لأنها مهمة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (1218) (149) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه أبو داود في المناسك/ باب الصلاة بجمع (1937) وابن ماجه في المناسك/ باب الذبح (3048) والحاكم (1/460) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وقوله: «فعليه دم» ما الدليل على أن تارك الواجب عليه دم؟
هذا ـ أيضاً ـ يحتاج إلى دليل واضح يستطيع أن يواجه الإنسان ربه به، إذا أوجب على عباد الله ما لم يوجبه الله عليهم؛ لأن إيجاب ما لم يجب كإسقاط ما وجب أو أشد؛ لأن إسقاط ما يجب تخفيف، وإيجاب ما لم يجب تشديد، والموافق للإسلام التخفيف، فإيجاب ما لم يجب أشد من إسقاط ما يجب؛ لأنه أعظم، وفيه قول على الله بلا علم، وإشقاق على العباد، وإسقاط ما وجب بمقتضى الاجتهاد ليس فيه إلا شيء واحد، وهو إسقاط ما عسى أن يكون واجباً، لكن هل فيه تكليف على العباد؟
الجواب: لا، وكذلك نقول في التحريم والتحليل، فتحريم ما كان مباحاً أشد من إباحة ما عسى أن يكون حراماً.
والدليل على هذا قول صحابي جليل وهو ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال: «من ترك شيئاً من نسكه، أو نسيه فليهرق دماً» (1) ، ومبنى هذا الاستدلال على أن مثل هذا القول لا يقال بالرأي، فيكون له حكم المرفوع؛ لأن الصحابي إذا قال قولاً أو فعل فعلاً لا يقال بالرأي ولا يفعل بالرأي حمل على أنه مرفوع حكماً، ولا يرد على هذا القول الشبهة التي أثيرت حول ما يخبر به عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن بني إسرائيل، وأنه ممن عرف بالتساهل في النقل عنهم، مع أن الأمر ليس بصحيح، بل يشدد في النقل عنهم، كما سبق، كما أن هذا حكم وليس خبراً، فعليه نقول ما يلي:
__________
(1) سبق تخريجه ص(187).
أولاً: هذا الحكم صدر من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي.
ثانياً: على فرض أن مثله يقال بالرأي وأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ اجتهد فأداه اجتهاده إلى وجوب الدم، فإنه قول صحابي لم يظهر له مخالف فكان أولى بالقبول من قول غيره، وهذا الاحتمال على تقدير أنه لم يثبت له حكم الرفع، وأنه قاله بالاجتهاد.
وكيف يكون بالاجتهاد؟
الجواب: لأنه ـ رضي الله عنه ـ رأى أنَّ تركَ ما يجب كفعل ما يحرم، كلاهما انتهاك للنسك، وفعل ما يحرم ثبت بالنص القرآني أن فيه نسكاً، قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ اختار أكمل الثلاثة فقال: «من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً» ، فيكون هذا الرأي مبنياً على اجتهاد، وهو قياس انتهاك النسك بترك الواجب على انتهاكه بفعل المحظور، فوجب الدم.
ونحن نقول: إن ثبت هذا من جهة النظر، أي إن سُلِّمَ الدليل من جهة النظر، وأن في ترك الواجب دماً فذاك، وإن لم يسلم، وقيل: الأصل براءة الذمة، وقول الصحابي المبني على الاجتهاد كقول غيره من الناس فيقال: في إيجاب الدم بترك الواجب مصلحة، وهي حفظ الناس عن التلاعب، فلو قيل: ليس
في ترك الواجب دم، وأن في تركه الاستغفار والتوبة، فأكثر الناس لا يهتمون، يقول: أملأ لك أجواء مكة كلها إلى المدينة استغفاراً وتوبة ولا مانع عندي، لكن لا تجعلني أخسر، ولو خمسين ريالاً، فكثير من الناس يهمه المال أكثر من انتهاك النسك.
فلو قيل: إن هذا واجب، ومن تركه فهو آثم، وعليه التوبة والاستغفار، فهل يحترم الناس هذا النسك، كما لو قلنا إن فيه الدم تذبحه في مكة، وتوزعه على الفقراء؟
الجواب: لا، لا يكون نظر الناس إلى الواجب سواء؛ لهذا نرى إلزام الناس بذلك، وإن كان ثبوته من حيث النظر والاستدلال فيه مناقشة واعتراض، فنقول: إن هذا من باب تربية المسلمين على التزامهم بالواجب، وما دمنا مستندين إلى قول صحابي جليل دعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم «أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل» (1) ، فإننا نرجو أن نكون قد أبرأنا ذمتنا بذلك، والله يعلم المفسد من المصلح.
ولهذا نحن نفتي بأنه يجب على من ترك واجباً أن يذبح فدية يوزعها على الفقراء في مكة لهذا النظر الذي ذكرناه، لكن إذا لم يجد دماً، فالمذهب الواجب عليه أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإن لم يتمكن من صيامها في الحج صامها في بلده.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/266)؛ والطبراني في الكبير (10614)؛ والحاكم (3/534) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
لكن هذا القول لا دليل عليه لا من أقوال الصحابة ولا من القياس.
وليس هناك دليل على أن من عدم الدم في ترك الواجب يجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ لأن قياس ذلك على دم المتعة قياس مع الفارق؛ فدم المتعة شكران، وأما الدم لترك الواجب فدم جبران، لذلك نرى أن القياس غير صحيح، وحينئذٍ نقول لمن ترك واجباً: اذبح فدية في مكة ووزعها على الفقراء بنفسك، أو وَكِّلْ من تثق به من الوكلاء، فإن كنت غير قادر فتوبتك تجزئ عن الصيام لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وهذا هو الذي نراه في هذه المسألة.
بَابُ الفَوَاتِ والإِحْصَار
مَنْ فَاتَهُ الوُقُوف فَاتَه الحَجُّ، وَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَيَقْضِي وَيُهْدِي إِنْ لَمْ يَكُنْ اشْتَرَطَ
قوله: «باب الفوات والإحصار» ، هذا الباب يتضمن مسألتين:
الأولى: الفوات.
الثانية: الإحصار.
أما الفوات فهو مصدر فات يفوت فَوْتاً وفواتاً، ومعناه أن يُسْبَق فلا يُدْرك، يقال: فاتني الشيء، أي: سبقني فلم أدركه، فالفوات سبق لا يدرك.
أما الإحصار: فهو من حَصَرَه إذا منعه، فالإحصار بمعنى المنع.
أي: أن يحصل للإنسان مانع يمنعه من إتمام النسك.
وسيأتي في الباب أن من الأركان ما له وقت محدد، ومنها ما ليس له وقت محدد، فالوقوف الذي هو الحج كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» (1) له وقت محدد، حده طلوع الفجر يوم النحر، فيقول المؤلف في حكم ذلك:
«من فاته الوقوف فاته الحج» ، وفوات الحج يكون بطلوع فجر يوم النحر لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من وقف ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك» (2) ، وإذا فاته الحج ينظر إن كان الإنسان قد اشترط
__________
(1) - (2) سبق تخريجه ص(19).
عند إحرامه أن محله حيث حبس فإنه يحل ولا شيء عليه، أي: يخلع ثياب الإحرام، ويلبس ثيابه ويرجع إلى أهله؛ لأنه قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وهذا حابس، وقد سبق هل الأولى أن يشترط، أو الأولى ألا يشترط إما مطلقاً أو بتفصيل؟ ورجحنا أن الصواب أنه لا يشترط إلا إذا كان يخاف من عدم إتمام النسك.
قوله: «وتحلل بعمرة» ، أي: إذا فاته الوقوف وطلع الفجر قبل أن يصل إلى عرفة تحلل بعمرة، أي: بقلب نية الحج إلى العمرة.
فطاف وسعى وحلق أو قصر، وإن شاء أن يبقى على إحرامه إلى الحج القادم فله ذلك، ولكن سيختار الأول بلا شك، لكن الفقهاء يقولون: إن اختار أن يبقى على إحرامه إلى أن يأتي الحج الثاني فلا بأس، ولكن يقال: الأولى أن يتحلل؛ لأن ذلك أيسر وأسهل، وكيف يمكن للإنسان أن يدع محظورات الإحرام لمدة سنة كاملة؟! فهذا بعيد، وفيه مشقة شديدة.
مسألة : ومن خاف أن يفوته الحج فقلب إحرامه بالحج عمرة قبل أن يفوته فهو جائز، ولا يعد هذا فواتاً على كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: لأنه يجوز للحاج أن يقلب إحرامه عمرة، ولكن هذا القول فيه نظر؛ لأنه لا يجوز للحاج أن يقلب إحرامه عمرة إلا إذا أراد التمتع، وإرادة التمتع هنا ممتنعة.
قوله: «ويقضي ويُهْدِي إن لم يكن اشترط» ، أي: يقضي هذا الحج الفائت.
وظاهر كلام المؤلف أنه يقضي سواء كان الحج واجباً أم تطوعاً؛ لأنه إن كان واجباً فوجوب القضاء ظاهر، وسواء كان واجباً بأصل الشرع ـ بأن يكون هذا فريضة الإسلام ـ أو واجباً بالنذر، ولكن إذا كان تطوعاً فهل يجب القضاء؟
نقول: نعم، يجب القضاء؛ وذلك لأن الإنسان إذا شرع في النسك صار واجباً، وهذا من خصائص الحج والعمرة أنَّ نفلهما يجب المضي فيه، بخلاف غيرهما فهو لما شرع وأحرم بالحج أو بالعمرة صار ذلك واجباً كأنما نذره نذراً، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *} [الحج] ، وعلى هذا فيجب القضاء سواء كان ذلك تطوعاً أو واجباً بأصل الشرع وهو الفريضة، أو بالنذر؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1) ، وعليه هدي في عام القضاء.
وقوله: «إن لم يكن اشترط» أي: إن كان اشترط فلا قضاء عليه، ولا هدي عليه، إلا إذا كان الحج واجباً بأصل الشرع، أو واجباً بالنذر فإنه يلزمه القضاء ولو اشترط، وعلى هذا فيكون قوله: «إن لم يكن اشترط» فيما إذا كان الحج نفلاً، فالمذهب وجوب القضاء.
والقول الثاني: لا قضاء عليه لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلزم الناس بقضاء العمرة؛ ولأننا لو ألزمناه بالقضاء لأوجبنا عليه الحج أو العمرة أكثر من مرة وبناء على هذا التعليل ينبغي أن يقال:
__________
(1) سبق تخريجه ص(12).
إن فاته بتفريط منه فعليه القضاء، وإن فاته بغير تفريط منه كما لو أخطأ في دخول الشهر فظن أن اليوم الثامن هو التاسع، ولم يعلم بثبوته فلا قضاء عليه، وهذا القول الذي فصلنا فيه قول وسط بين من يقول يلزمه القضاء ومن يقول لا يلزمه القضاء.
فالأقوال إذاً ثلاثة:
الأول: المذهب يلزمه القضاء.
الثاني: لا يلزمه القضاء، وهو الذي قدمه الموفق في المقنع.
الثالث: التفصيل، فإن فاته بتفريط منه لزمه القضاء، وإن كان بغير تفريط منه لم يلزمه القضاء.
وهذا هو القياس التام على الإحصار؛ لأن المحصر منع من إتمام النسك بدون اختياره.
مسألة: لم يتعرض المؤلف ـ رحمه الله ـ إلى مسألة ما إذا أخطأ الناس في يوم الوقوف بأن وقفوا، ثم ثبت ثبوتاً شرعياً أن وقوفهم كان في غير يوم عرفة، فهل حجهم صحيح أو باطل؟ وهذا في الوقت الحاضر قد يكون متعذراً، ولكن فيما سبق ربما يقف الناس، ثم يثبت ببينة أن وقوفهم كان في اليوم العاشر، وأن الهلال هلَّ قبل أن يراه الناس في مكة، فهل يلزمهم القضاء؟
الجواب: لا؛ لأن الهلال اسم لما اشتهر عند الناس؛ ولأنهم فعلوا ما أمروا به، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (1) ، فهؤلاء غم عليهم في هذه الحجة
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيام/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (1081) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
فيلزمهم أن يتموا ذا القعدة ثلاثين يوماً، ومن فعل ما أمر به على وجه أمر به فإنه لا يلزمه القضاء؛ لأننا لو ألزمناه بالقضاء لأوجبنا عليه العبادة مرتين.
وإن وقف يسير منهم فأخطأوا فإن حجهم غير صحيح، بل نقول: إذا وقف اليسير منهم فإنهم مخطئون بكل حال؛ لأن الواجب عليهم الرجوع إلى ما عليه الجماعة، فلو تعنَّت أناس فقالوا: لا يمكن أن يكون الهلال هَلَّ البارحة، فمنازل الهلال ضعيفة، ولا نقبل أن يكون اليوم التاسع عند هؤلاء هو اليوم التاسع بل هو اليوم الثامن، وسنقف في اليوم العاشر، والعاشر عند الناس التاسع على زعمهم، فإننا نقول لهؤلاء: إن حجهم غير صحيح.
ثم انتقل المؤلف إلى الإحصار فقال: «ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حل» ، أي: منع عن وصوله إلى البيت، سواء في عمرة أو في حج فإنه يهدي، أي يذبح الهدي ثم يحل لقول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، أي فعليكم ما استيسر من الهدي، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر أصحابه في الحديبية أن ينحروا ويحلوا، وأهدى ثم حل» (1) .
وَمَنْ صَدَّهُ عَدُوٌّ عَن البَيْتِ أهْدَى ثُمَّ حَلَّ، فَإِنْ فَقَدَه صَامَ عَشَرَةَ أيَّامٍ ثُمَّ حَلَّ وَإِنْ صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ..
وقوله: «ومن صده عدو»، «من» يجوز أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وعلى كل تقدير فهي للعموم، فتعم ما إذا كان الصد عاماً أو كان خاصاً، فالعام أن يصد كل الحجيج لا قدر الله
__________
(1) سبق تخريجه ص(13) من حديث مروان المسور بن مخرمة ـ رحمهما الله ـ.
ذلك، والخاص أن يصد واحد من الناس أو جماعة من الناس، فماذا يصنعون؟
قال المؤلف: «أهدى ثم حل» .
قوله: «فإن فقده صام عشرة أيام ثم حل» ، أي: إذا فقد الهدي، صام عشرة أيام ثم حل، والدليل القياس على هدي التمتع، وهذا القياس فيه نظر من وجهين هما:
الأول: أن ظاهر حال الصحابة الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديبية وهم ألف وأربعمائة نفر (1) أن فيهم الفقراء، ولم يرد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: من لم يجد الهدي فليصم عشرة أيام، والأصل براءة الذمة.
الثاني: أن الهدي الواجب في التمتع هدي شكران للجمع بين النسكين، أما هذا فهو عكس التمتع؛ لأن هذا حُرِم من نسك واحد فكيف يقاس هذا على هذا؟ فلذلك لا يصح القياس، ونقول: من لم يجد هدياً إذا أحصر فإنه يحل ولا شيء عليه.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ هنا أنه لا يجب الحلق ولا التقصير؛ لأنه لم يذكره بل قال: «أهدى ثم حل» ، ولكن الصحيح أنه يجب الحلق أو التقصير؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك بل إنه غضب لما توانى الصحابة في عدم الحلق (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة الحديبية (4154)؛ ومسلم في الإمارة/ باب استحباب متابعة الإمام الجيش عند إرادة القتال (1856) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ
(2) سبق تخريجه ص(13).
وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فيه إشارة إلى أنه لا بد من الحلق؛ لقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، لكن السنة صرحت بذلك بأنه لا بد من الحلق أو التقصير.
مسألة: المشهور من المذهب أن الحصر خاص بمنع العدو، وأما غير العدو فإنه لا إحصار فيه كضياع النفقة والمرض ونحو ذلك.
ومن حبس بغير حق، فهل هو كمن حصر بعدو؟
يقولون: إنه كمن حصر بالعدو؛ وذلك لأن هذا الذي حبسه بغير حق اعتدى عليه فيكون كالذي منعه العدو.
قوله: «وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة» ، الكلام في الأول فيمن صد عن البيت؛ لأن من صد عن البيت لا يمكن أن يتحلل بعمرة؛ لأن العمرة لا بد لها من طواف، ولكن من صد عن عرفة فقط بأن يكون في عرفة عدو يمنع الناس من الوصول إليها، فهنا يقول: «تحلل بعمرة» فيتحلل بعمرة، ولا شيء عليه إن كان قبل فوات وقت الوقوف، وإن كان بعده فإنه يقضي؛ لأنه فاته الحج، والأول الذي أحصر عن عرفة، ثم لما رأى أنه لا يمكن أن يقف جعل إحرامه عمرة فلا شيء عليه.
وعللوا ذلك بأنه يجوز لمن أحرم بالحج أن يجعله عمرة ولو بلا حصر ما لم يقف بعرفة، أو يسق الهدي كما مر بنا في التمتع، هكذا قالوا ـ رحمهم الله ـ: بأنه إذا صد عن عرفة تحلل بعمرة قبل فوات الوقوف، فإن لم يتحلل إلا بعده صار كمن فاته الوقوف يتحلل بعمرة ويقضي من العام القادم.
وَإِنْ حَصَرَهُ مَرَضٌ أَوْ ذَهَابُ نَفَقَةٍ، بَقيَ مُحْرِماً إِنْ لَمْ يَكُن اشْتَرَطَ.
قوله: «وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة، بقي محرماً إن لم يكن اشترط» ، أي: إن حصره مرض بأن أحرم وهو صحيح يستطيع أن يكمل النسك، فمرض ولم يستطع إكمال النسك، نقول: تبقى محرماً إلى أن تبرأ من المرض ثم تكمل، لكن إن فاتك الوقوف فتحلل بعمرة، وكذلك إذا حصره ذهاب نفقة.
مثاله: رجل سرقت نفقته، ولم يتمكن من إتمام النسك فإنه يبقى على إحرامه حتى يجد نفقة، ويتمم النسك إذا كان يمكن إتمامه، وإن كان حجاً وفاته الوقوف فقد فاته الحج.
وكذلك لو ضل الطريق، أي ضاع فلم يهتد إلى عرفة، فإنه يكون كما قال المؤلف: «فإذا فاته الوقوف فاته الحج» ، وتحلل بعمرة، فإن كان قد اشترط تحلل ولا شيء عليه.
والصحيح في هذه المسألة أنه إذا حصر بغير عدو فكما لو حصر بعدو؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أي عن إتمامهما، ولم يقيد الله تعالى الحصر بعدو.
وأما قوله تعالى: {نُسُكٍ فَإِذَا} [البقرة: 196] ، فهذا ذكر حكم بعض أفراد العام، وهذا لا يقتضي التخصيص، وهذه القاعدة مرت بنا أنه إذا ذكر حكم عام، ثم عطف عليه حكم يختص ببعض أفراده، فإنه لا يقتضي التخصيص، ألم تروا إلى قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] هل هذا الحكم يشمل كل المطلقات أو بعضاً منهن؟
الجواب: يشمل الرجعية مع أن المطلقة طلاقاً رجعياً أو غير رجعي تتربص ثلاثة قروء، وهذه القاعدة تنتقض على المذهب أيضاً بمثال آخر، وهو قول جابر ـ رضي الله عنه ـ: «قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» (1) .
فالحديث أوله عام في كل ما لم يقسم، فكل مشترك لم يقسم ففيه الشفعة، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق هذا حكم لا يتعلق بكل شيء، وإنما يتعلق بالعقار، والفقهاء ـ رحمهم الله ـ خصوا الشفعة بالعقار ولم ينظروا إلى عموم أول الحديث، وهذا ينتقض عليهم في مسألة المطلقات.
وكذا في الحصر خصوه بالعدو؛ لقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}، قالوا: فهذا إشارة إلى أن الحصر في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يراد به حصر العدو.
ولكن الصحيح أنه يشمل الحصر عن إتمام النسك بعدو أو بغير عدو.
مسألة: إذا حُصِرَ عن واجب، وليس عن ركن كأن يمنع من الوقوف في مزدلفة فلا يتحلل؛ لأنه يمكن جبره بالدم، فلا حاجة
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الشريك من شريكه (2213)؛ ومسلم في المساقاة/ باب في الشفعة (1608) (134) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ، وهذا لفظ البخاري.
إلى التحلل، فنقول تبقى على إحرامك، وتجبر الواجب بدم.
وقوله: «بقي محرماً إن لم يكن اشترط» ، فإن اشترط فإنه يحل بدون شيء.
مسألة: حكم قضاء المحصر: الصحيح أن القضاء ليس بواجب إن كان الحج أو العمرة تطوعاً، وأن عمرة القضاء ليس معناها العمرة المقضية، وإنما معنى القضاء المقاضاة، وهي المصالحة التي حصلت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش (1) ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلزم الناس بالقضاء، لأن الله لم يفرض الحج والعمرة في العمر إلا مرة، فلو أوجبنا عليه القضاء لأوجبنا العمرة أو الحج مرتين أو ثلاثاً أو أكثر.
__________
(1) سبق تخريجه ص(13).
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس