عرض مشاركة واحدة
قديم 10-30-2011, 08:29 AM   #8
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: تبصير الناسك بأحكام المناسك ( تشمل عامة أحكام الحج مختصرة محررة ) للشيخ وليد السعيدان

مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن أعمال القارن كأعمال المفرد بالضبط إلا في أمرين فقط:- أحدها:- في النية, فالقارن يقول:- لبيك عمرة وحجاً, وأما المفرد فيقول:- لبيك حجاً, الثاني:- في الهدي فإن القارن يلزمه الهدي على القول الصحيح, وأما المفرد فإنه لا يلزمه الهدي وإن ذبح الهدي فقد أحسن لكن يكون من باب الأفضل فقط وأما الوجوب فلا, فهذان الأمران هما محط الخلاف بينهما فقط, وأما سائر الأعمال فهي هي لااختلاف بينهما البتة, واعلم رحمك الله تعالى أن أعمال المتمتع كالقارن تماماً إلا أنهما يختلفان في ثلاثة أشياء فقط, أحدها:- في صفة الإهلال, فإن القارن يقول:- لبيك عمرة وحجاً وأما المتمتع فإنه يقول:- لبيك عمرة فقط أو يقول لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج, الثاني:- في الإحلال فإن المتمتع إذا طاف وسعى فإنه يحل بالتقصير وأما القارن فإنه لايحل بل يبقى على إحرامه حتى يوم النحر, الثالث:- أن المتمتع عليه سعي ثان غير سعيه الأول لأن سعيه الأول للعمرة وهذا السعي للحج. وسيأتي, وبناءً عليه فأقول:- كلهم أي المتمتع والقارن والمفرد إذا وصل للحرم فإنهم يطوفون, وهذا الطواف هو طواف القدوم بالنسبة للقارن والمفرد ولكنه طواف العمرة بالنسبة للمتمتع ثم يسعون:- وهذا السعي هي سعي الحج بالنسبة للقارن والمفرد ولكنه سعي العمرة بالنسبة للمتمتع, وبعد ذلك يتحلل المتمتع بالتقصير وهو أفضل من الحلق هنا ليوفر شعره ليوم النحر, وأما القارن والمفرد فيبقيان على إحرامهما, فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن فيسن للمتمتع أن يبادر قبل الظهر بالإحرام بالحج, ويبيت الجميع هذه الليلة في منى يصلون كل فرض في وقته بقصر الرباعية, وهذا المبيت سنة باتفاق أهل العلم رحمهم الله تعالى قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:- والسنة أن يبيت الحاج بمنى فيصلون بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبي , فالمبيت بها والمسير إذا طلعت الشمس سنة باتفاق العلماء ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى. فإذا طلعت الشمس توجه الجميع إلى عرفات ويصلون بها الظهر والعصر جمع تقديم مع القصر, ويقضون بها إلى غروب الشمس ثم يدفعون منها إلى مزدلفة ويصلون بها المغرب والعشاء جمع تأخير بقصر العشاء ويبيتون بها حتى يصلون فيها الفجر ويتريثون قليلاً حتى يسفرون جداً ثم يسيرون جميعاً إلى منى ويرمون جمرة العقبة بسبع حصيات يكبرون مع كل حصاة ثم ينحرون هديهم ويحلقون رؤوسهم ثم يفيضون جميعاً إلى البيت ويطوفون جميعاً طواف الإفاضة, فإذا فرغوا من الطواف, بقي على المتمتع سعي ثانٍ كما سيأتي الدليل عليه إن شاء الله تعالى, ثم إذا فرغوا يرجعون إلى منى ويبيتون بها تلك الليلة فإذا زالت الشمس من غدٍ ذهبوا جميعاً لرمي الجمرات الثلاث مبتدئين بالصغرى فالوسطى فالكبرى, ثم يبيتون تلك الليلة أيضاً في منى فإذا زالت الشمس من غدٍ رموا أيضاً الثلاث جميعاً كما فعلوا بالأمس, ومن أراد التعجل منهم فليخرج من منى قبل غروب الشمس, والأفضل التأخر فيرمون اليوم الثالث من أيام التشريق كما فعلوا في اليومين السابقين, ولم يبقى عليهم إلا طواف الوداع وبهذا يكونون قد أتموا نسكهم, وقضوا ما عليهم. هذه هي صفة الحج باختصار شديد وكل ذلك مفرع على حديث جابر السابق والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود فيستقبله ويستلمه ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر ثم يبتدئ الطواف جاعلاً البيت عن يساره ثم يمشي طائفاً بالبيت ثم يمر وراء الحجر ولا ينفذ في وسطه لأن بعض الحجر من البيت بمقدار ستة أذرع, فيكون طوافه من وراء الحجر, ويدور بالبيت فيمر على الركن اليماني ويستلمه إن قدر وإن لم يقدر فليمض ولا يؤشر إليه, ثم ينتهي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود, وهو المحل الذي ابتدأ طوافه منه, فإذا فعل ذلك فقد تمت له طوفة واحدة, وهكذا يفعل في سائر طوافه حتى يتم له سبعة أشواط. واعلم رحمك الله تعالى أن نقطة البداية في الطواف تتسع كلما ابتعدت عن البيت فلا يلزم الإنسان نفسه أن يتتبع الخط البني الموضوع هناك فإن هذا لا أصل له, والواجب إزالته فإنه قد فتح على كثير من الناسكين أبواب بدع كانوا في غنىً عنها وهو سبب كبير من أسباب المزاحمة التي نراها, مع أنه لا أصل له, والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه لا يستلم من أركان البيت شيء إلا الركنين الأسود واليماني فقط, فأما الحجر الأسود فإنه يقبل مع القدرة أو يستلم بشيء ويقبل ما استلمه به, أو يشير إليه إن عجز عن ذلك, وأما الركن اليماني فإنه يستلم باليد فقط ولكن لا يشرع تقبيله, وإن عجز عن استلامه بيده فإنه لا تشرع الإشارة إليه, وأما الركنان الآخران, أعني الركنين الشاميين فإنهما لا يستلمان مطلقاً, برهان ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال (( لم أرى رسول الله  يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين )) وعنه  أنه قال (( لم يكن رسول الله  يستلم من أركان البيت إلا الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين )) أي الركن اليماني, وعنه  (( أن رسول الله  كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني )) وعنه  أنه قال (( ماتركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله  يستلمهما في شدة ولا رخاء )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( لم أرى رسول الله  يستلم غير الركنين اليمانيين )) وكل هذه الأحاديث في الصحيح, فإن قلت:- فإنه قد ثبت عن ابن الزبير أنه كان يستلم الأركان كلها, فأقول:- وإن يكن فإن الحجة إنما هي فيما ثبت عنه  وأما فعل ابن الزبير  فإنه مذهب له, ومذهب الصحابي ليس بحجة بالاتفاق إذا خالف نصاً أو خالفه صحابي آخر وقد تحققت هنا كلها, فإن قلت:- فقد قال معاوية لابن عباس:- إنه ليس شيء من البيت مهجوراً, فأقول:- هذا قياس في مصادمة النص وقد تقرر أن القياس المصادم للنص باطل. وتقرر في القواعد أيضاً وجوب تقديم قوله  على كل قول وتقديم فعله على كل فعل. وبالجملة فلا حاجة لنا أن نجيب عن هذه المعارضات مع وضوح السنة وثبوتها, وقلنا:- إنه إن استلمه بشيء فيقبله لحديث أبي الطفيل  قال (( رأيت رسول الله  يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن ))"رواه مسلم وغيره" والله أعلم وأعلى .
مسألة :- اعلم أن استلام الحجر الأسود وتقبيله إنما هو للتبرك باتباعه  فقط لا طلباً للبركة من هذا الحجر فإنه حجر لا يضر ولا ينفع, وبركة هذا الحجر ليست بركة ذاتية منتقلة ولكنها بركة معنوية لازمة, برهان ذلك مافي الصحيح عن عمر  أنه مر على الحجر فقبله وقال (( والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وإنك لا تضر ولا تنفع ولو أني رأيت رسول الله  يقبلك ماقبلتك )) وعنه  أنه قبَّل الحجر والتزمه وقال ((رأيت رسول الله  بك حفياً )) أي معتنياً "رواه مسلم" وبناءً عليه فمسح الوجه وسائر الجسد باليد بعد استلام الحجر بها من المحدثات المنكرات, وكذلك مسح المحمول من الأطفال باليد التي استلم الحجر بها أيضاً هو من المبدع التي يجب إنكارها وقد تقرر في الأصول أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف وأن الأهواء والاستحسانات لا مدخل لها في التشريع. قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد )) وفي رواية (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ومن الأمور المنكرة أيضاً تقبيل الحجر من بعيد, فيقبل يديه ويشير بهما إلى الحجر وهذا من البدع ولا شك والواجب إنكاره بقدر المستطاع, ومن البدع أيضاً صلاة ركعتين على الخط البني الممتد من الحجر أو السجود عليه زعماً أن هذا هو تحية الحجر وأن هذا أكمل في تعظيمه, وهذا غلط فاحش وبدعة وخيمة, وعمل باطل لأنه تخلف فيه شرط المتابعة فإن هذه الأفعال لم يفعلها رسول الله  ولا أحد من صحابته ولا أحد من التابعين ولا أحد من سلف الأمة وأئمتها, فهو فعل محدث وقد تقرر في القواعد أن كل إحداثٍ في الدين فهو رد .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأُوَل من أول طواف يطوفه القادم إلى مكة سواءً كان طواف عمرة أو طواف قدوم في حج, وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها ولا يرمل وذلك ثابت عن النبي  في الصحيحين وغيرهما, فقد تقدم لك قول جابر  (( فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً )) وقال البخاري في صحيحه:- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( قدم رسول الله  وأصحابه فقال المشركون:- إنه يقدم عليكم اليوم قوم قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي  أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا مابين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم )) وقال:- حدثنا أصبغ بن الفرج قال أخبرني ابن وهبٍ عن يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه  قال (( رأيت رسول الله  حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع )) وقال أيضاً:- حدثني محمد قال حدثنا سريج بن النعمان قال حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (( سعى النبي  ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة )) وقال في صحيحه أيضاً بسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (( أن رسول الله  كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة )) وبهذه النقول الصحيحة الصريحة يتبين لك إن شاء الله تعالى أن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة من الطواف الأول أي في طواف العمرة أو القدوم, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- إن قلت:- كيف يكون الرمل من السنن في الطواف الآن وقد زالت علته فإن علته المذكورة في بعض النصوص السابقة إظهار القوة أمام المشركين وإبطالاً لدعواهم أن المسلمين قد وهنتهم حمى يثرب, وهذه العلة قد زالت وقد تقرر في الأصول أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فكيف نقول بمشروعية الرمل الآن وقد زالت علته؟ فأقول:- هذا الكلام من حيث التأصيل صحيح ولكن بقي لك النظر في عدة أمور:- أحدها:- أن النبي  رمل في حجته ولم يكن بالبيت مشركون, وقد كانت حجته بعد العمرة التي أمرهم فيها بالرمل, مما يدل على أن الرمل من السنن الثابتة في الأشواط الثلاثة الأُوَل من الطواف الأول, لأنه لو كان الرمل قد زال بزوال علته لما رمل عليه الصلاة والسلام, وهذا واضح, الثاني:- أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته لا ينافي أن لبقائه علة أخرى وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف, فيكون ذلك من باب الحكم المعلل بعده علل, والحكم إذا كان كذلك فإنه لا يلزم من زوال أحد هذه العلل, زوال الحكم بالكلية لأنه معلل بعللٍ أخرى والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن من سنن الطواف الأول الاضطباع, لثبوت ذلك عن النبي  قال أبو داود في سننه:- حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن ابن جريج عن ابن يعلى عن يعلى قال (( طاف النبي  مضطبعاً ببردٍ أخضر )) وقال أيضاً:- حدثنا أبو سلمة موسى, قال حدثنا حماد عن عبدالله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أن النبي  وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم, وقد قذفوها على عواتقهم اليسرى ))"حديثان صحيحان" وحديث ابن عباس هذا قد رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح أيضاً ولفظه (( اضطبع النبي  هو وأصحابه ورملوا ثلاثة أشواطٍ ومشوا أربعاً )) وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب  قال:- سمعت عمر يقول (( فيم الرملان والكشف عن المناكب وقد واطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله, ومع ذلك لا نترك شيئاً كنا نصنعه مع رسول الله  ))"رواه البيهقي" وقال النووي:- بإسنادٍ صحيح. وبذلك تعلم أن الاضطباع من سنن الطواف, ولا عبرة بقول أحدٍ يمنعه, فإن الأقوال توزن بالكتاب والسنة, والرجال يوزنون بما معهم من الحق ولا يوزن الحق بالرجال, واعلم أنه لا اضطباع إلا في ابتداء الطواف الأول ويستمر الاضطباع إلى نهاية الطواف, وأما في سائر المناسك فلا اضطباع لأنه لم ينقل عنه  الاضطباع إلا في هذا الموضع فقط وقد تقرر في الأصول أن الفعل لا عموم له, وصفة الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة والله تعالى أعلم .
مسألة :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في اشتراط الطهارة للطواف, فمذهب جماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أنها واجبة فلا يصح الطواف بدونها, وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال:- ليست الطهارة شرطاً في الطواف وإنما هي من جملة مستحباته وقوله أسعد بالدليل والتقعيد وبيان ذلك أن يقال:- أن الأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف, والاشتراط حكم شرعي والاحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, ولم يثبت عنه  أنه أمر بالوضوء قبل الطواف, وأما حديث عائشة رضي الله عنها إنما هو حكاية فعلٍ وقد تقرر في الأصول أن حكاية الأفعال لا تفيد إلا الاستحباب واقترانها بقوله  (( لتأخذوا عني مناسككم )) لا يفيد أن هذا الفعل صار واجباً لأن هذا الوضوء لا يدخل في حقيقة مسمى النسك, كما أننا قلنا في ركعتي الطواف بأنها سنة مع اقترانها بهذا القول واقترانها بقوله  واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى  وكما قلنا بأن طواف القدوم سنة مع أنه مقترن بقوله (( لتأخذوا عني مناسككم )) وقلنا إن المبيت في منى ليلة التاسع سنة مع أنه مقترن بقوله (( لتأخذوا عني مناسككم )) فهذا يفيدك أن هذا الوضوء جار على عادته  فإنه كان يطلب دائماً أن يكون على طهارة ولأن هذا القول أي استحباب الوضوء هو الأيسر على الناس ويتحقق فيه رفع الحرج عنهم ومن مقاصد الشريعة رفع الحرج والضيق عن الناس, ولأنه يبعد جداً أن يكون الوضوء من الشرائط المتحتمات ولا يبينه النبي  بياناً شافياً كافياً قاطعاً للعذر كما بين ماهو أدنى منه, فهذا يفيدك أن وضوءه في حديث عائشة هذا إنما هو لتكميل الطهارة فقط كعادته عليه الصلاة والسلام ألا ترى أنه  لما أفاض من عرفات بال في الطريق ثم توضأ, فهكذا كانت عادته وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن لم يرد عليه السلام إلا بعد التطهر (( إني كرهت أن أذكر الله إلا وأنا على طهارة )) ولأن الطواف من المحال التي يتأكد فيها الذكر حرص النبي  من باب الاستحباب أن يتوضأ قبله ليدخل في العبادة على أكمل أحواله عليه الصلاة والسلام, فحديث عائشة رضي الله عنها وإن كان صحيحاً في سنده إلا أنه ليس بصريح في الوجوب, فضلاً عن الشرطية والأصل في العبادات الإطلاق عن الشرط والله أعلى وأعلم. وأما حديث ابن عباس الذي فيه (( الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح الكلام فيه )) فإنه حديث لا تقوم به الحجة مرفوعاً والصحيح أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما وإن سلمنا صحته مرفوعاً فإننا لا نسلم أن المقارنة بين الصلاة والطواف هنا تختص بالحكم الشرعي وإنما بالمرتبة والمنزلة, وذلك لأن قوله (( إلا أن الله أباح الكلام فيه )) يفيد أن غيره لايباح وهذا غلط فالأكل فيه مباح والشرب فيه مباح والضحك فيه مباح, وغير ذلك مما لايجوز في الطواف فأراد ابن عباس رضي الله عنهما أن يبين منزلة الطواف في الشريعة وأنه بمنزلة الصلاة, ثم أراد أن يكشف شبهة قد تعرض للمكلف وهي:- كيف يكون صلاة ونحن نتكلم فيه؟ فأراد قطع ذلك بقوله (( إلا أنكم تتكلمون فيه )) أي أن كلامكم في الطواف لا يخرجه عن كونه صلاة لأن الكلام فيه شيء قد أباحه الله تعالى فهو بمنزلة الصلاة وإن كنتم تتكلمون فيه, ولا يقصد بهذا الكلام أنه يشترط للطواف جميع ما يشترط للصلاة فحديث ابن عباس هذا لا يفيد وجوب الطهارة للطواف فضلاً عن كونها شرطاً فيه وأما حديث عائشة (( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بابيت حتى تطهري )) وحديث (( أحابستنا هي )) فإن المنع هنا إنما لأن الحائض ممنوعة من دخول المسجد ومن لوازم طوافها دخول المسجد, أو يقال:- إن هذه الأدلة إنما تفيد اشتراط الطهارة الكبرى فقط, ولكن أي الطهارة من الحيض والنفاس والجنابة, أي الطهارة مما يوجب غسلاً, ولكن أين الدليل على اشتراط الطهارة الصغرى, وهذه احتمالات قوية ترد على هذا الدليل وقد تقرر في الأصول أن الدليل إذا تتطرق إليه الاحتمال المقبول بطل به الاستدلال, وبالجملة فإننا لا نعلم دليلاً واحداً يصلح أن يكون مستنداً للقول بشرطية الطهارة الصغرى للطواف, مع أن هذا القول فيه من المشقة على الناس الشيء الكثير فالراجح إن شاء الله تعالى هو القول بأن الطهارة للطواف ليس هو من الواجبات المتحتمات وإنما هو من المندوبات المستحبات والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم أنه يستحب الاستحباب الشديد الذي يقرب من الوجوب، بعد الفراغ من الطواف أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم, ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي  قل ياأيها الكافرون  و  قل هو الله أحد  كما ثبت ذلك في حديث جاب الطويل الذي تقدم سياقه. واعلم أن جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى لا يشترطون لصحة هاتين الركعتين أن تكون خلف المقام, بل الأفضل أن تكون خلفه مع القدرة وعدم المزاحمة, فإن لم تتيسر خلف المقام فليصليهما في أي جزء من أجزاء البيت, بل حتى لو صلاهما خارج البيت فلا بأس فقد ثبت أن عمر  صلاها بذي طوى, كما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً, واعلم رحمك الله تعالى أنه لو حصل الطواف في وقت النهي فإنه يصليهما على القول الصحيح, ذلك لأن هاتين الركعتين من ذوات الأسباب وقد تقرر في القاعدة أنه لا نافلة في وقت نهي إلا ماله سبب, ولو درست أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر والفجر لوجدتها من العام المخصوص, وحديث هاتين الركعتين عامة, كحديث جبير بن مطعم  قال قال رسول الله  (( يابني عبدمناف لا تمنعوا من طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليلٍ أو نهار ))"حديث صحيح" وهذا الحديث محفوظ أي ليس بمخصوص, وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض حديثان أحدهما محفوظ والآخر قد دخله الخصوص, فإن العام المحفوظ مقدم على العام المخصوص والله تعالى أعلى وأعلم. واعلم أن ما يفعله بعض الحجاج – هداه الله تعالى- من الصلاة خلف المقام مباشرة في طريق الناس مع شدة زحامهم ليس من الفقه في شيء لأنه سيفعل سنة بارتكاب محرم من إيذاء إخوانه وتعريض نفسه للتلف, ولن يتحقق في قلبه مقصود هاتين الركعتين من الخشوع والتدبر والخضوع لله تعالى ولو تعبد لله تعالى بالابتعاد عن هذا المكان كي لا يزاحم إخوانه لكان ذلك خير وأبر والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه إذا أقيمت الصلاة في أثناء الطواف أو السعي فإنه يتوقف عنهما ويصلي في مكانه أو قريباً منه, وعليه تحديده, فإذا فرغ من الصلاة فإنه يكمل طوافه أو سعيه من حيث انتهى, وهذا أظهر قولي أهل العلم, وهذا الانقطاع للصلاة المفروضة لا يؤثر لأنه انقطاع ضرورة, والانقطاع للضرورة لا يؤثر, والله أعلم.
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه لا رمل على المرأة في طواف القدوم, ولا سعي عليها بين العلمين أي لا يشرع في حقها أن تسرع بين العلمين في السعي, وذلك لأنه أستر لها وحتى لا يسقط حجابها أو تبين مع السعي مفاتنها ولأنه يخشى عليها أن تسقط أو يكثر اصطدامها بالرجال فتحل الفتن, وقد تقرر في الأصول أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, وأنه إذا تعارض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة, فلا حج إلا بسعي ولا عمرة إلا بسعي, برهان ذلك قوله تعالى  إن الصفا والمروة من شعائر الله  فتصريحه جل وعلا بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه لأن شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها, وتعظيم هذه الشعائر من تقوى القلوب قال تعالى  ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب  وكذلك فإن النبي  قد طاف سبعاً بين الصفا والمروة وقال (( خذوا عني مناسككم )) وقد تقرر في الأصول أن الفعل إذا اقترن بقولٍ يفيد الوجوب فإن الفعل للوجوب ومن الأدلة أيضاً:- مارواه البخاري في صحيحه قال:- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال عروة:- سألت عائشة رضي الله عنها فقلت:- إني لأظن رجلاً لولم يطف بين الصفا والمروة ما ضره؟ قالت:- لم, قلت:- لأن الله عزوجل يقول  إن الصفا والمروة من شعائر الله...الآية  فقالت (( ما أتم الله حج امرئٍ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة, ولو كان كما تقول لكان ( فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ) وهل تدري فيما كان ذاك إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما:- إساف وتائلة ثم يجئون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية, قالت فأنزل الله عزوجل:-  إن الصفا والمروة من شعائر الله... الآية  قالت فطافوا )) وهذا الحديث له حكم المرفوع. ومن الأدلة على ركنيته أيضاً حديث ابن عباس  أن النبي  قال (( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا )) وقد روي هذا الحديث أيضاً عن حبيبة بنت أبي تجارة ومن حديث تملك العبدرية ومن حديث صفية بنت شيبة, وهذا الحديث حديث صالح للاحتجاج ولا شك, فقد حسنه النووي, ويدل على ذلك أيضاً:- مارواه مسلم في صحيحه:- حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار, قال ابن المثنى:- حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال:- قدمت على رسول الله  منيخ بالبطحاء فقال لي (( أحججت؟ )) فقلت:- نعم, فقال (( بما أهللت )) قال قلت:- لبيك بإهلالٍ كإهلال النبي  قال (( قد أحسنت, طف بالبيت وبالصفا والمروة )) فقوله (( طف بالبيت )) هذا أمر وقوله (( وبين الصفا والمروة )) أمر أيضاً وقد تقرر في الأصول أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الوجوب, فهذه بعض الأدلة الدالة على أن السعي من أركان الحج والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الواجب في السعي هو استيفاء مابين الجبلين, فإذا استوفى الساعي مابين الجبلين فقد جاء بما عليه من الواجب, وأما صعود الجبل فإنه سنة وليس بواجب, وكذلك السعي الشديد بين العلمين أيضاً سنة وليس بواجب, ويستحب فيه الإكثار من الدعاء, وليس له دعاء مخصوص, وإنما يدعو بما أراد وعليه بجوامع الدعاء والصحيح أيضاً أنه لا تشترط له الطهارة من الحدث, فلو سعى وهو محدث لصح سعيه ولكن الأفضل للإنسان أن لا يسعى إلا وهو على طهارة كاملة, وبرهان عدم الاشتراط حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله  (( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) ومما يفعله الحاج السعي, فلما لم يأمرها بترك السعي دل على أنه يصح منها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز, والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الصحيح هو أن السعي لا يصح إلا مرتباً والمراد بالترتيب أي البدء بالصفا والختم بالمروة, فإن بدأ بالمروة قبل الصفا, لم يحسب له هذه السعية, وهذا هو مذهب الجمهور, وهو الحق بلا ريب, خلافاً للحنفية, رحمهم الله تعالى, ودليل صحة ما قلناه أن النبي  بدأ بالصفا وقال (( لتأخذوا عني مناسككم )) فتكون البداءة بالصفا من جملة هذه المناسك التي يلزمنا أن نأخذها عنه, وأما قول الحنفية فإنه مبني على قياسات صادمت النصوص وقد تقرر في القواعد أن القياس إذا صادم النص فإنه يكون فاسد الاعتبار, والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه نقله ابن المنذر وابن حزم والوزير والشنقيطي وغيرهم. وأجمعوا أيضاً على أن الوقوف بعرفة ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر, فمن طلع عليه فجر يوم النحر وهو لم يأتي عرفة فقد فاته الحج إجماعاً, وقال عليه الصلاة والسلام (( الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج )) .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن أرض عرفة كلها موقف فمن وقف في أي جزء منها فقد صح حجه ولا يلزم أن يقف في الموقف الذي وقف فيه رسول الله  بل عرفة كلها موقف, وقد أجمع أهل العلم على ذلك ويدل عليه أيضاً مع دلالة الإجماع قوله  (( ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ))"حديث صحيح" .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن القول الصحيح هو أن من اقتصر على في وقوفه بعرفة على الليل فقط ولم يقف فيها جزءاً من النهار أن وقوفه صحيح تام, ولا دم عليه على أصح أقوال أهل العلم رحمهم الله تعالى, فلو لم يقف بها إلا فيما بين مغيب الشمس وطلوع فجر يوم النحر, لو وقف في أي جزءٍ من هذا الليل فإنه قد وقف بعرفة وقوفاً صحيحاً ولا يلزمه دم, والمسألة خلافية, لكن هذا هو القول الصحيح, والدليل على ذلك مارواه أحمد أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بإسنادهم من حديث عبدالحمن بن يعمر الديلي  أن النبي  (( الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج ))"حديث صحيح" وهذا الإدراك المذكور في الحديث مطلق والأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل, والذي اقتصر في وقوفه على الليل فقط, يصدق عليه أنه قد أدرك عرفة, ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الروايات من هذا الحديث (( الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه )) وهذا لفظ أحمد في المسند, وفي رواية لأبي داود (( من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج )) وفي لفظ النسائي (( فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه )) وكلها ألفاظ صحيحة, ووجه الاستشهاد منها قوله  (( فقد تم حجه )) ولفظ التمام هنا صريح بأنه لا دم عليه, لأنه لو كان يحتاج إلى جبر لما صدق عليه وصف التمام فلما وصفه بالتمام علمنا أنه لا يحتاج إلى الجبر بالدم, وهذا واضح, وقد قال به الجمهور, فالصحيح هو أن من وقف بعرفة في الليل فقط دون النهار فقد صح حجه ولا دم عليه لما قدمنا والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن القول الصحيح هو أن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار فقط أن حجه صحيح ولا دم عليه على القول الصحيح, فإذا ابتدأ الوقوف مثلاً الساعة الثانية عشر ظهراً أي بعد الزوال ثم خرج منها قبل غروب الشمس, فهذا يسمى شرعاً وعرفاً أنه قد وقف بعرفة فقد جاء بركن الحج الأعظم, فلا حُجة للمالكية في القول بعدم الإجزاء, بل أصح قولي أهل العلم هو الإجزاء, بل والأصح أيضاً أنه لا يلزمه دم, وقد كنا سابقاً نقول إن عليه دماً لكن بعد إعادة النظر وزيادة التحقيق رأينا أنه لا دم عليه, وبرهان ذلك, حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لامٍ الطائي قال:- أتيت النبي  بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يارسول الله إني جئت من جبلي طيء, أكللت راحلتي, وأتعبت نفسي, والله ماتركت من جبلٍ إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله  (( من شهد صلاتنا هذه, ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى نفثه )) "صححه الترمذي والدارقطني والحاكم والنووي وأبو بكر بن العربي وهو كما قالوا" ووجه الاستشهاد منه هو أنه قال (( ووقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً )) فقوله (( أو نهاراً )) أي في أي جزءٍ من أجزاء النهار, ورتب على ذلك قوله (( فقد تم حجه )) وهذا يدل على أن الواقف نهاراً يتم حجه بذلك, والتعبير باللفظ التمام ظاهر في عدم لزوم الجبر بالدم, ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث, لأنه لو كان يلزمه بذلك دم لما كان حجه قد تم إلا بهذا الدم, لكن لما قال (( فقد تم حجه )) علمنا بذلك أن حجه تام لا يحتاج لجبر بدمٍ ولا بغيره, ولأن الأصل براءة الذمة من وجوب الدم, وأما قول ابن عباس (( من ترك نسكه أو شيئاً فعليه دم )) فإنه قول مقبول كما سيأتي إن شاء الله تعالى لكن في غير هذه المسألة لأن النبي  قد صرح التصريح الذي لا يحتمل أن من وقف بعرفة في أي جزءٍ من أجزاء النهار فقد تم حجه, وهذه شهادة منه  بتمام حجه وتمامه دليل على أنه لا دم عليه فلو أوجبنا الدم هنا لكنا بذلك ممن عارض قوله  بقول ابن عباس وهذا لا يجوز لأن قوله  مقدم على كل قولٍ, فانتبه لهذا, فالحق الحقيق بالقبول هو أنه لا دم على من اقتصر في وقوفه على النهار فقط, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن القول الصحيح هو أن الوقوف بعرفة يبدأ من أول نهار يوم التاسع, وهذا أصح قولي أهل العلم رحمهم الله تعالى, لكن الأفضل والأتم والأكمل في الاتباع, أن لا يبدأ وقوفه إلا بعد الزوال فقلنا بأن بدء الوقوف من أول النهار لحديث عروة بن مضرس الذي ذكرناه قبل قليل, فإن فيه (( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى نفثه )) ووجه الاستشهاد به أنه نوع بين الليل والنهار فقال (( ليلاً أو نهاراً )) ونحن قد قلنا:- بأن قوله (( ليلاً )) يدخل فيه كل أجزاء الليل, فكذلك نقول في قوله (( نهاراً )) يدخل فيه كل أجزاء النهار أيضاً, وكما أننا لا نقبل تخصيص جزءٍ من الليل إلا بدليل, فكذلك أيضاً لا نقبل تخصيص جزءٍ من النهار إلا بدليل, وأنت تعلم أن النهار اسم الأول جزءٍ بعد طلوع الفجر الثاني إلى قبيل الغروب, هذا إذا قرن بالليل, فقيل الليل والنهار, كما هنا, فهذا يدل على أن الوقوف بعرفة يبدأ من أول نهار اليوم التاسع, فإن قلت:- فالنبي  لم يبدأ الوقوف إلا بعد الزوال, فأقول:- نعم ولذلك قلنا بأن الأفضل أن لا يدخل عرفات ولا يبدأ الوقوف إلا بعد الزوال, وهذا هو الجمع بين الأدلة وقد تقرر في القواعد أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن فقلنا بأن الوقوف يبدأ من أول جزء من النهار لحديث عروة بن مضرس, وقلنا بأن الأفضل له أن لا يبدأ بالوقوف إلا بعد الزوال لأنه  لم يبدأ وقوفه إلا بعد الزوال وهذا القول هو الذي تتآلف به الأدلة ويعمل بها كلها وقد تقرر في القواعد أن إعمال الكلام أولى من إهماله ما أمكن, وتقرر أيضاً أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن, والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه قد اتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على عدم اشتراط الطهارة لصحة الوقوف فلو وقف بلا طهارة فإن وقوفه صحيح, وبناءً عليه فيصح وقوف الجنب والحائض والنفساء, ومن عليه حدث أصغر من باب أولى ويستدل على ذلك بالإجماع السابق وبحديث عائشة رضي الله عنهما أن النبي  قال لها لما حاضت (( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) ولأن الاشتراط حكم شرعي والأصل في الأحكام التوقيف على الدليل. والله أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن أهل العلم قد اختلفوا في وقوف المغمى عليه إذا استوفى الوقت كله وهو مغمى عليه, فذهب بعض أهل العلم إلى أن وقوف المغمى عليه لا يصح, وذهب بعضهم إلى صحة وقوفه, وهو القول الصحيح, وسبب الخلاف هو خلافهم في اشتراط نية خاصة للوقوف من عدم الاشتراط, فمن اشترط للوقوف نية خاصة قال لا يصح وقوف المغمى عليه, ومن قال لا يشترط قال:- يصح وقوفه والأصح أنه لا يشترط للوقوف نية خاصة بل يكتفى في ذلك بالنية العامة للحج وللمناسك على وجه العموم فإنه لما دخل في الإحرام بالحج كان ناوياً أنه يقف ويطوف ويسعى ويرمي, وهذه النية كافية لا سيما إذا تعذرت النية الخاصة, بسبب الإغماء ولأنه قد يطرأ كثيراً على كثير من الحجاج لا سيما مع شدة الحر وكثرة الزحام وحيث لا دليل يبطل وقوفه فالأصل الصحة, ولأن المغمى عليه كالنائم فكما أن النائم يصح وقوفه لو أستغرق أجزاء الوقوف في النوم فكذلك لو استغرقها في الإغماء أيضاً يصح منه, فالإغماء بهذا المقدار أي بمقدار يوم وليلة ونحو ذلك فإنه كالنوم, ولا فرق فالصحيح المعتمد في هذه المسألة هو أن وقوف المغمى عليه صحيح, وبه قال عطاء وغيره من أهل العلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الجمع والقصر في عرفة, فيصلي الإمام والحجاج خلفه بعرفة قصراً وجمعاً الآفاقيون وأهل مكة, وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي  ولا خلفاؤه أحداً من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قال لهم بعرفة ومزدلفة ومنى:- أتموا الصلاة فإنا قوم سفر, ومن حكى ذلك عن أحد منهم فقد أخطأ وغلط غلطاً بيناً ووهم وهماً قبيحاً وقال قولاً باطلاً باتفاق أهل الحديث ولكن المنقول عن النبي  أنه قال لأهل مكة يوم الفتح إذ كان يصلي بهم إماماً (( أتموا فإنا قوم سفر )) وأما في حجة الوداع فإنه لم يثبت عنه  ولا عن أبي بكرٍ من بعده ولا عن عمر من بعدهما أنه كان يأمر أهل مكة بالإتمام فالقول الصحيح في هذه المسألة هو أن أهل مكة إذا حجوا فإنهم تابعون للإمام وسائر الحجاج يجمعون معهم ويقصرون معهم, ومن قال غير ذلك فإنه يكون مخالفاً للسنة نعوذ بالله من خلاف السنة والله أعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الوقوف راجلاً أو راكباً كله جائز بالاتفاق وأما الأفضل فإنه يختلف باختلاف أحوال الناس فإن كان ممن ركب رآه الناس لحاجتهم إليه أو كان يشق عليه الوقوف وقف راكباً فإن النبي  وقف راكباً قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى, وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:- التحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة من تعليم المناسك والاقتداء به وكان أعون له على الدعاء ولم يكن فيه ضرر على الدابة ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم بارك الله فيك أن الصعود على جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام لا أصل له, ولا فضيلة فيه قال النووي رحمه الله تعالى:- وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف على جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات كما سبق بيانه وترجيحهم له على غيره من أرض عرفات حتى ربما توهم من جهلتهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فخطأ ظاهر ومخالف للسنة ولم يذكر أحد ممن يعتمد في صعود هذا الجبل فضيلة يختص بها, بل له حكم سائر أرض عرفات غير موقف رسول الله  إلا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فإنه قال:- يستحب الوقوف عليه, وكذلك قال الماوردي في الحاوي:- يستحب قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء, قال:- وهذا الذي قالوه لا أصل له ولم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فالصواب الاعتناء بموقف رسول الله  ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى. قلت:- وقد تقرر في القواعد أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف إلا بدليل وتقرر أيضاً أنه لا يجوز تعظيم زمانٍ أو مكانٍ لم يرد بتعظيمه نص صحيح صريح, ولأنه قد تقرر أن الاستحباب حكم شرعي والأصل في الأحكام الشرعية افتقارها للأدلة الصحيحة الصريحة وأزيدك تنبيهاً آخر لا أدري هل ذكرته سابقاً أم لا, وهو أن المتقرر في الشريعة سد الذرائع, ومن الذرائع المفضية للاعتقادات الفاسدة في هذا الجبل هذه التسمية, أعني تسميته بجبل الرحمة, فإنها تضفي عليه شيئاً من التعظيم والقدسية, ولا أصل نعلمه لهذه التسمية حتى وإن ذكر في كتب بعض الأكابر فإن ذكرها فيه ليس دليلاً على إثباتها إذا كانت تفضي إلى شيء من المفاسد, وإنما يسمى بجبل إلال أو جبل عرفات ونحو ذلك, أما التسميات التي تحمل في طياتها شيئاً من التعظيم فالواجب اجتنابها والتباعد عنها من باب سد الذرائع والله يحفظنا وإياك. وأنبهك على تنبيه آخر وهو أنه يجب على ولاة الأمر أن يزيلوا الشاهد الذي نصب فوق هذا الجبل فإنه مما يفتتن به الناس حتى رأيت أن بعض الناس يصلي إليه ويتمسح بأجزائه وهذا منكر عظيم وبدعة وخيمة فيجب على أهل العلم أن يكتبوا بإزالته لولاة الأمر, وعلى ولي الأمر أن يهتم بذلك, وكم من المظاهر البدعية التي أزالها ولاة الأمر في هذه البلاد, فلن يعجزوا إن شاء الله تعالى عن تتميم الأمر بإزالة هذا الشاهد الذي صار سبباً في كثير من البدع والمحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان, وهم على ذلك قادرون إن شاء الله تعالى فأسأله جل وعلا أن يوفقهم للهدى والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأنبهك لأمرٍ ثالث أيضاً وهو أن بعض الناس هداه الله تعالى يتقصد أن يأخذ الحصى الذي سيرمي به من هذا الجبل خاصة ويرى أن ذلك أفضل وهذه الأفضلية لا أصل لها من كتابٍ ولا سنة ولا من قول صاحب ولا نعلمه ثابتاً عن أحدٍ من أهل العلم, والأفضلية من أحكام الشريعة والأصل في التعبدات الحظر والتوقيف, فهذا من محدثات الأمور المنكرة وقد تقرر في القواعد أن كل إحداث في الدين فهو رد, وأعظم من ذلك من يتمسح بالأحجار هناك أو يأخذ شيئاً منها إلى بلاده ويبيعها هناك بأغلى الأثمان, وكل ذلك من المحدثات والبدع التي لا أصل لها فالواجب على أهل العلم إنكارها, نسأله جل وعلا أن يفقهنا في ديننا وأن يعيذنا وإياكم من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن والله ربنا أعلى .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه لا خلاف بين أهل العلم أنه إذا غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً أنه قد حل وقت الإفاضة من عرفات, وهكذا فعله النبي  فينبغي مراعاة ذلك, فإنه  قد فعل ذلك وقال (( لتأخذوا عني مناسككم )) والله أعلم.
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن التحقيق أن عرنة ليست من عرفات , فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك, وما يروى عن مالك رحمه الله تعالى لا أظنه يصح عنه, ودليل ذلك قوله  (( وكل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة )) والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم أنه  لما أفاض من مزدلفة كان يحث الناس على السكينة, وقد نزل  في الطريق فبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً وأخبرهم أن الصلاة أمامهم, ثم أتى المزدلفة فأسبغ الوضوء وصلى المغرب والعشاء بأذانٍ واحد وإقامتين, جمع تأخير بقصر العشاء ثم اضطجع حتى طلع الفجر, وصلى الفجر في أول وقتها ثم مكث يدعو ربه في المشعر الحرام حتى أسفر جداً ثم ذهب لرمي جمرة العقبة وكان يقول في ذلك (( لتأخذوا عني مناسككم )) والله أعلم .
مسألة :- اعلم أن أهل العلم رحمهم الله تعالى قد اختلفوا في المبيت بمزدلفة على ثلاثة أقوال:- فمنهم من قال بأنه ركن, ومنهم من قال بأنه واجب, ومنهم من قال بأنه سنة والقول بالوجوب هو قول أكثر أهل العلم, مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في المشهور عنه وعطاء والزهري وقتادة والثوري وإسحاق وأبو ثور, قاله ابن قدامة, وقال النووي رحمه الله تعالى:- وبهذا قال جماهير العلماء من السلف, وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة, وهو الأقرب إن شاء الله تعالى فامبيت بمزدلفة واجب لا ركن, أي أنه إذا فات فإنه لا يفوت بفواته الحج وإنما يجبر بدم, والدليل على إنه واجب أنه  بات بها وقال (( لتأخذوا عني مناسككم )) وقد تقرر في الأصول أن الفعل يفيد الوجوب إذا كان مقترناً بأمرٍ لساني مفيد للوجوب, ويدل على ذلك أيضاً:- الأحاديث المفيدة للإذن للضعفة بالخروج من مزدلفة إلى منى كما ستأتي إن شاء الله تعالى فإن هذا الإذن دليل على أن المبيت من الواجبات, إذ لو لم يكن من الواجبات لما احتاجوا معه إلى الإذن فهذه الأدلة تفيد أنه من الواجبات, وأما قولنا ( وليس بركن ) فدليل ذلك حديث عبدالرحمن بن يعمر قال:- شهدت النبي  وهو واقف بعرفات وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا يارسول الله كيف الحج؟ فقال (( الحج عرفة, من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه )) ووجه الاستدلال بالحديث هو أن النبي  حكم بأن من وقف بعرفة قبل طلوع فجر يوم النحر أنه مدرك للحج, فيدخل في ذلك من أدرك الوقوف بها في آخر جزء من ليلتها أي قبل طلوع الفجر بدقائق وهذا الرجل بالطبع لن يدرك المبيت بمزدلفة لأنه لا وقت معه لإدراكه لأنه آخر جزء من الليل كان بعرفة ومع ذلك فقد قال عليه الصلاة والسلام (( فقد تم حجه )) لأنه أدرك عرفة في جزءٍ من أجزاء إمكانية الوقوف بها, وهذا يفيدك أن المبيت بمزدلفة ليس ركناً لأنه لو كان ركناً لما كان حجه تاماً, بل لما كان له حج أصلاً, وهذا النوع من الاستدلال يسميه أهل الأصول الاستدلال بالإشارة والله أعلم. فإن قلت:- ألم يقل الله تعالى  فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا الله عند المشعر الحرام  ؟ فأقول:- بلى ولكن هل هذه الآية الكريمة تعرضت للمبيت بمزدلفة؟ الجواب:- لا, لأنها إنما بالذكر فقط عند المشعر الحرام, وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة ولم يذكر الله تعالى أن حجه تام, مما يفيد أن الذكر هنا من المستحبات لا من الواجبات, وعلى كل حال فالآية إنما أمرت بالذكر في المشعر الحرام, ولما بين النبي  ذلك إنما بينه بعد الفجر لما جاء عند المشعر الحرام وهلل الله ودعاه ووحده وكبره, فالآية لا تعلق لها بالمبيت فلا تفيد وجوب المبيت فضلاً عن الاستدلال بها على ركنية المبيت بمزدلفة. فإن قلت:- ألم يقل النبي  في حديث عروة بن مضرس  (( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى نفثه )) فهنا قد علق النبي  تمام الحج عن شهود الصلاة والدفع معه فهذا يفيد أنه ركن أليس كذلك؟ فأقول:- بلى هو كذلك لو لم ترد قرائن تصرفه عن هذا إلى غيره, لكن قد ورد عندنا قرائن تصرفه عن هذا الفهم إلى الوجوب فقط وهي كما يأتي:-
الأول :- أنه قد تقرر في الأصول أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, ولا يتم الجمع بين حديث عبدالرحمن بن يعمر السابق وحديث عروة بن مضرس هذا إلا إذا قيل بعدم ركنية المبيت بمزدلفة لأنه  قضى قضاءً جازماً بأن من أدرك عرفة قبل الفجر فقد أدرك الحج, وكلاهما حديثان صحيحان, ولا يتم الجمع بينهما إلا إذا قيل بوجوب المبيت فقط لا أنه ركن, فجمعاً بين الأدلة قلنا إنه واجب, ويوضحه الوجه الثاني .
الثاني:- أنه قال في الحديث (( من شهد صلاتنا هذه )) أي صلاة الفجر وأنت خبير بأن أهل العلم رحمهم الله تعالى قد أجمعوا كلهم أنه لو بات بمزدلفة ووقف قبل ذلك بعرفة ونام عن صلاة الصبح فلم يشهدها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام, مما يدل على أن الحديث لا يفيد ركنية شهود صلاة الفجر في مزدلفة, وبناءً عليه فالصحيح إن شاء الله تعالى أن المبيت بمزدلفة واجب لا ركن والله أعلم, فإن قلت:- فماذا تقول في رواية النسائي لحديث عروة بن مضرس فإن النسائي قال في سننه:- أخبرنا محمد ابن قدامة, قال حدثني جرير عن مطرف عن الشعبي عن عروة بن مضرس  قال قال رسول الله  (( من أدرك جمعاً مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك ومن لم يدرك مع الناس والإمام فلم يدرك )) فإنه قاضٍ بركنية الوقوف بمزدلفة؟ نعم هو كذلك لو كانت هذه الزيادة ثابتة, لكنها ضعيفة, قال ابن حجر في الفتح:- وقد صنف أبو جعفر العقيلي في إنكار هذه الزيادة ا.هـ. وحيث كانت هذه الزيادة ضعيفة فلا نثبت بها حكماً, لأن المتقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة. فإن قلت:- فقد روى أبو يعلى هذا الحديث بلفظ (( ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له )) فإنها صريحة في أنه ركن, قلت:- نعم لو كانت هذه الرواية صحيحة, لكنها ضعيفة أيضاً لا يثبت أهل الحديث مثلها, فقد ضعفها النووي وابن حجر وغيرهما من المحققين وحيث كانت ضعيفة فلا نثبت بها حكماً شرعياً لأن الأحكام الشرعية وقف على الأدلة الصحيحة الصريحة, وبه تعلم إن شاء الله تعالى أن القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن المبيت بمزدلفة من واجبات الحج وإذا فات فإنه يجبره بدم والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أن مزدلفة كلها محل صالح للوقوف, فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال قال رسول الله  (( نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف, ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف )) وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على ذلك, وقد قامت الدولة السعودية مشكورة بتحديد هذا المشعر وغيره تحديداً دقيقاً مبنياً على لجانٍ شرعية موثوقة في علميتها ودرايتها التاريخية فإذا وقف الحاج في أي جزءٍ من أجزاء مزدلفة فقد قام بالواجب عليه والله تعالى أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحكم الله تعالى أن المستحب للحاج أن يبدأ بالصلاة إذا وصل للمزدلفة قبل حط رحله هكذا فعل النبي , ولكن هل يوتر أم لا؟ أقول:- هذا فيه خلاف يسير, لأن الوتر سنة فإن أوتر فقد جاء بالسنة وإن لم يوتر فلا شيء عليه ولكن هل يترك وتر هذه الليلة على وجه الخصوص أم السنة له فعلها كسائر الليالي؟ هذا قد حصل فيه خلاف, والأفرب إن شاء الله تعالى أنه يصلي الوتر كسائر الليالي والذي جعلنا نرجح ذلك عدة أمور :-
الأول :- أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما إنما ذكر مايتعلق بالحج ومناسكه, وأنت تعلم أن الوتر وقيام الليل ليس من النسك ولا علاقة له بالحج, فلو أن جابراً ذكر تفاصيل ما فعله النبي  من حركاته وسكناته وتعبده  وما يفعله في سائر يومه لصار الحديث أضعاف أضعاف ما هو عليه, ولكن كان هَمُّ جابر  إنما هو ذكر مايتعلق بالمناسك وقد تقرر في القواعد أن عدم الذكر ليس دليلاً على عدم الوقوع .
الثاني :- أن المعلوم من حاله  شدة محافظته على الوتر وقيام الليل, ولا نعرف في حديث أنه أخلَّ بهما لا حضراً ولا سفراً, ومن المعلوم من حاله  أنه كان يتطوع على راحلته حيث توجهت به, ولم يأت في ليلة المزدلفة ما ينقض هذا الأصل المعلوم من حاله  إلا قول جابر (( ثم اضطجع )) ولم يذكر أنه صلى الوتر أو قام الليل, وهذا كما ذكرت لك لا يفيد أنه لم يوتر لأن جابراً لم يذكر إلا مايتعلق بالمناسك, فحيث كان الأمر كذلك فالمتقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل أي أن الأصل من حالته شدة محافظته على الوتر, ولم يأتنا ناقل في الليلة بخصوصها عن هذا الأصل فحيث لا ناقل فالأصل هو البقاء على الأصل .
الثالث :- أننا قلنا:- إن السنة هي صلاة ركعتي الفجر قبل صلاة الفجر بالمزدلفة وغير المزدلفة, فسنة الفجر لا تسقط لا حضراً ولا سفراً, مع أن هاتين الركعتين لم يذكرهما جابر  في حديثه هذا ونحن نقول بأن السنة صلاتهما قبل صلاة الفجر, مما يدل على استصحاب الأصل فيهما وأن عدم ذكر جابر لهما لا يدل على عدمهما في نفس الأمر فكما أننا استصحبنا الأصل في سنة الفجر فكذلك فلنستصحب الأصل في سنة الوتر وقيام الليل, وكما أننا لم نجعل عدم ذكرهما في حديث جابر دليلاً على عدمهما فكذلك فلنقل إن عدم ذكر الوتر في حديث جابر ليس دليلاً على عدمه .
الرابع :- أن أشد الناس تأسياً به  هو صحابته الكرام وقد ثبت أن بعضهم كان يحي ليلة المزدلفة بالصلاة, كما في حديث أسماء في الصحيحين وسيأتي بطوله بعد قليل إن شاء الله تعالى, فالصحيح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى هو أن الوتر وقيام الليل ليلة المزدلفة يقال فيه ما يقال في سائر الليالي, والله ربنا أعلى وأعلم .
مسألة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه يباح للضعفة من الحجاج ذكوراً وإناثاً النفر من مزدلفة بعد منتصف الليل أو بعد مغيب القمر, وهذا من رخص الشريعة لهذه الطائفة فيدخل فيها كبار السن والصغار والمرضى والنساء الحوامل بل الذي نراه في هذه الأزمنة أن المرأة يجوز لها ذلك مطلقاً أي سواءً كانت مريضة أو صحيحة لشدة الزحام في هذه الأزمنة, فإنه يحصل عند الجمرة يوم النحر زحام شديد يجعل فحول الرجال يتهيبون من التقحم فيه وهم أصحاء أقوياء فكيف بالمرأة التي هي ضعيفة في أصلها وذاتها, فلا بد من رحمتهن بالترخيص لهن بالرمي ليلاً, وأما الذكور الأقوياء فالواجب لهم البقاء إلى الإسفار ثم الدفع لرمي الجمرة بعد طلوع الشمس, وقد ثبتت الأدلة بذلك, وهذا الفرع يدخل تحت قاعدة:- رفع الحرج, وتحت قاعدة:- المشقة تجلب التيسير, وتحت قاعدة:- إذا ضاق الأمر اتسع, وتحت قاعدة:- كل فعل في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (( استأذنت سودة رسول الله  ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت ثبطة فأذن لها فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ولأن أكون استأذنت رسول الله  كما استأذنته سودة فأكون أدفع بإذنه أحب إلي من مفروح به ))"متفق عليه" وعنها رضي الله عنها قالت (( كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة فاستأذنت رسول الله  أن تفيض من جمع بليل فأذن لها )) وعن عبدالله مولى أسماء قال (( قالت لي أسماء وهي عند دار المزدلفة:- هل غاب القمر؟ قلت:- لا, فصلت ساعة, ثم قالت:- يا بني هل غاب القمر؟ قلت:- نعم, قالت:- ارتحل بي فارتحلنا حتى رمت الجمرة ثم صلت في منزلها فقلت لها:- أي هنتاه لقد غلسنا قالت:- كلا أي بني, إن النبي  أذن للظعن ))"متفق عليه" ولمسلم عن أم حبيبة رضي الله عنها (( أن رسول الله  بعث بها من جمع بليل )) وفي لفظ (( كنا نفعله على عهد رسول الله  نغلس من جمعٍ إلى منى )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( بعثني رسول الله  في الثقل أو في الضعفة من جمعٍ بليل ))"متفق عليه" وفي لفظ (( أنا ممن قدم رسول الله  في ضعفة أهله )) والأدلة على ذلك كثيرة, قال ابن قدامة:- ولا نعلم فيه مخالفاً ا.هـ. وأما الذكور الأقوياء فلا يحل لهم أن يرموا الجمرة إلا بعد طلوع الشمس, ويدل على ذلك بأن الأصل هو وجوب المبيت وإنما الرخصة وردت في حق الضعفاء فيخرجون هم فقط ويبقى من عداهم على أصل وجوب البقاء, ولأن هذه رخصة للضعفاء حتى لا يشاركهم فيها غيرهم فيتمكنون من الرمي بيسر وسهولة وبلا مزاحمة, فلو أجزناه أيضاً للأقوياء لذهبت الحكمة من الترخيص, فلا تتم الحكمة من هذا الترخيص إلا بحبس الأقوياء في مزدلفة ليتمكن الضعفة من الرمي قبل الفجر, فإن الناس في هذه المشاعر يصيبهم الضيق ويبحثوا عن الجائز ويغضون الطرف عن السنة, فإذا علم الأقوياء أنه يجوز لهم النفر في الليل ولكن السنة لهم أن يبقوا, لتخلف كثير من الحجاج الأقوياء عن السنة لما يشعرون به من التضايق ولرغبتهم الأكيدة في التحلل من ثياب الإحرام, وهذا أمر معروف مجرب, فالأصح هو وجوب بقاء الأقوياء وعدم جواز الرمي لهم ليلاً وإنما جواز الرمي ليلاً من خصائص الضعفاء فقط, ولأنه  رماها ضحىً وقال (( لتأخذوا عني مناسككم )) وأنت تعلم أن الفعل إذا اقترن به قول مفيد للوجوب فإنه – أي الفعل للوجوب – كما قدمناه سابقاً. ويستدل عليه أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما (( أن النبي  بعث بضعفة أهله فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ))"رواه أصحاب السنن" وفي رواية أن ابن عباس قال:- قَدَّمَنَا رسول الله  ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبدالمطلب على جمرات فجعل يُلَطِّخ أفخاذنا ويقول (( أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس )) وهذا الحديث صحيح, قال الترمذي:- حديث ابن عباس حديث صحيح, والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ا.هـ. وقال النووي:- أما حديث ابن عباس فصحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة, وقال ابن القيم في زاد المعاد:- حديث حسن صححه الترمذي وغيره وقال الشنقيطي:- وهذا الحديث صحيح, وقوله  (( أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس )) وهذا نهي وقد تقرر في الأصول أن النهي المطلق عن القرينة يفيد التحريم, وقوله في الحديث الآخر (( فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس )) هذا يفيد أنه أمرهم بذلك وقد تقرر في الأصول أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الوجوب, وهذا الأمر والنهي وإن كان متوجهاً لابن عباس والأغيلمة معه إلا أنه قد تقرر في القواعد أن كل حكم ثبت في حق واحدٍ من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, وحيث لا دليل على التخصيص فيدخل غيرهم معهم ولأن القاعدة تقول:- الأصل في الأحكام الشرعية التعميم, والله أعلى وأعلم .
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس