عرض مشاركة واحدة
قديم 07-21-2011, 11:05 PM   #4
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب الصيام والاعتكاف من الشرح الممتع ( كاملا )

تابع :
قوله: «لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس» أي: فلا يصح صومه؛ لأن الله يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلا بد أن يتم إلى الليل، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار بيده إلى الشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس» فلا بد أن تغرب الشمس «فقد أفطر الصائم» (1) .
والفرق بين من أكل شاكاً في طلوع الفجر، ومن أكل شاكاً في غروب الشمس، أن الأول بانٍ على أصل وهو بقاء الليل، والثاني أيضاً بان على أصل وهو بقاء النهار، فلا يجوز أن يأكل مع الشك في غروب الشمس، وعليه القضاء ما لم نعلم أنه أكل بعد غروب الشمس، فإن علمنا أن أكله كان بعد الغروب، فلا قضاء عليه.
ويجوز أن يأكل إذا تيقن، أو غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، حتى على المذهب إذا غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
مسألة: إن أكل ظاناً أن الشمس غربت، ولم يتبين الأمر فصومه صحيح، وهذا يؤخذ من قول المؤلف «شاكاً في غروب الشمس» فعُلم منه أنه لو أكل وقد ظن أن الشمس قد غربت، فإنه يصح صومه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
فإن تبين أنها لم تغرب فالصحيح أنه لا قضاء عليه، والمذهب أن عليه القضاء.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب متى يحل فطر الصائم (1954)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار(1100) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فإن قال قائل: ما الدليل على أنه يجوز الفطر بالظن مع أن الأصل بقاء النهار؟
فالجواب: حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم» (1) وإفطارهم بناءً على ظن قطعاً؛ لقولها في هذا الحديث «ثم طلعت الشمس» ، فدل ذلك على أنه يجوز أن يُفطر بظن الغروب، ثم إن تبين أن الشمس غربت فالأمر واضح، أو لم يتبين شيء فالأمر أيضاً واضح، وإن تبين أنها لم تغرب وجب القضاء على المذهب، وعلى القول الراجح لا يجب القضاء.
مسألة: رجل غابت عليه الشمس وهو في الأرض وأفطر وطارت به الطائرة ثم رأى الشمس؟
نقول: لا يلزم أن يمسك؛ لأن النهار في حقه انتهى، والشمس لم تطلع عليه بل هو طلع عليها، لكن لو أنها لم تغب وبقي خمس دقائق ثم طارت الطائرة ولما ارتفعت، إذ الشمس باقٍ عليها ربع ساعة أو ثلث، فإن صيامه يبقى؛ لأنه ما زال عليه صومه.
قوله: «أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً» أي: لو أكل يعتقد أنه في ليل، فبان نهاراً لم يصح صومه، سواء من أول النهار أو آخره، أكل يعتقد أنه ليل بناءً على ظنه، أو بناءً على الأصل فبان نهاراً فعليه القضاء، فالفقهاء ـ رحمهم الله ـ لا يعذرون بالجهل ويقولون العبرة بالواقع.
__________
(1) سبق تخريجه ص(333).
مثاله: أكل السحور يعتقد أن الفجر لم يطلع، فتبين أنه طالع فالمذهب يجب عليه القضاء، وهذا يقع كثيراً، يقوم الإنسان من فراشه ويقرب سحوره ويأكل ويشرب، وإذا بالصلاة تقام فيكون قد أكل في النهار، فعليه القضاء على المذهب.
والقول الراجح أنه لا قضاء عليه وسبق دليله.
وكذلك إذا أكل يعتقد أن الشمس غربت، ثم تبين أنها لم تغرب فهو أكل يعتقد أنه في ليل فبان أنه في نهار، فيلزمه على المذهب القضاء، وعلى القول الراجح لا يلزمه.
ودليله حديث أسماء السابق، حيث لم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، وهذا دليل خاص، ومن الأدلة العامة قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
إذاً الفرق بين أول النهار وآخره، أنه يجوز في أول النهار الأكل مع الشك، وفي آخر النهار لا يجوز الأكل مع الشك.
مسألة: الناس الذين على الجبال أو في السهول والعمارات الشاهقة، كلٌ منهم له حكمه، فمن غابت عنه الشمس حل له الفطر، ومن لا فلا.
فَصْلٌ
وَمَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَان فِي قُبُلٍ أوْ دُبُرٍ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ والكَفَّارَةُ، وَإِنْ جَامَعَ دُونَ الفَرجِ فأَنْزَلَ أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً أوْ جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ.
قوله: «فصل» عقد المؤلف ـ رحمه الله ـ فصلاً خاصاً للجماع، لكونه أعظم المفطرات تحريماً وأكثرها تفصيلاً، ولهذا وجبت فيه الكفارة.
والجماع من مفطرات الصائم، ودليله الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] .
وأما السنة فستأتي.
وأما الإجماع فهو منعقد على أنه مفطر.
قوله: «ومن جامع في نهار رمضان» «من» من صيغ العموم؛ لأنها اسم شرط، فيشمل كل من جامع في نهار رمضان وهو صائم، وجوابها قوله (فعليه القضاء والكفارة) ، ولكن ليس هذا على العموم بل لا بد من شروط:
الشرط الأول: أن يكون ممن يلزمه الصوم، فإن كان ممن لا يلزمه الصوم، كالصغير، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة.
الشرط الثاني: ألاَّ يكون هناك مسقط للصوم، كما لو كان في سفر، وهو صائم، فجامع زوجته، فإنه لا إثم عليه، ولا كفارة، وإنما عليه القضاء فقط لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .
مثال آخر: رجل مريض صائم وهو ممن يباح له الفطر بالمرض، لكنه تكلف وصام، ثم جامع زوجته فلا كفارة عليه، لأنه ممن يحل له الفطر.
الشرط الثالث: أن يكون في قبل أو دبر وإليه الإشارة.
بقوله: «في قبل أو دبر فعليه القضاء والكفارة» والقبل يشمل الحلال والحرام، فلو زنى فهو كما لو جامع في فرج حلال.
وقوله: «أو دبر» الجماع في الدبر غير جائز لكن العلماء يذكرون المسائل بقطع النظر عن كونها حلالاً أو حراماً.
وقوله: «فعليه القضاء» ؛ لأنه أفسد صومه الواجب فلزمه القضاء كالصلاة، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وذهب بعض العلماء إلى أن من أفسد صومه عامداً بدون عذر، فلا قضاء عليه وليس عدم القضاء تخفيفاً، لكنه لا ينفعه القضاء، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لكن لو قال قائل يرد على هذا القول: إنكم إذا قلتم بذلك فمعناه أن المفطرات لا فائدة منها؛ لأنكم تشترطون في المفطرات أن يكون متعمداً وأنتم تقولون: إذا أفطر متعمداً فلا قضاء فكيف ذلك؟
الجواب: نقول على هذا الرأي تكون المفطرات نافعة فيما إذا جاز الفطر لعذر، أما إذا كان لغير عذر فإن هذه المفطرات تفسد صومه ولا يلزمه القضاء، لكن جمهور أهل العلم على أنه يلزمه القضاء، ولو تعمد الفطر بخلاف الرجل الذي لم يصم ذلك اليوم أصلاً وتركه متعمداً، فإن الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه لا ينفعه القضاء، والفرق بين هذه المسألة وبين من شرع في الصوم أن من شرع في الصوم فقد التزمه وألزم نفسه به، فإذا أفسده ألزم بقضائه كالنذر بخلاف من لم يصم أصلاً.
وقوله: «والكفارة» احتراماً للزمن، وبناء على ذلك لو كان
هذا في قضاء رمضان، فعليه القضاء لهذا اليوم الذي جامع فيه وليس عليه كفارة؛ لأنه خارج شهر رمضان.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل، فإذا أولج الحشفة في القبل أو الدبر، فإنه يلزمه القضاء والكفارة.
قوله: «وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة» هاتان مسألتان:
الأولى: إذا جامع دون الفرج فأنزل، فقد ذكر المؤلف أن عليه القضاء دون الكفارة، لأنه أفسد صومه بغير الجماع، ومثاله أن يجامع بين فخذي امرأته وينزل، وعن أحمد رواية أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإنزال موجب للغسل فكان موجباً للكفارة كالجماع، ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأن الإنزال دون الجماع وإن كان موجباً للغسل فلو أن إنساناً تمتع بامرأة حتى أنزل فإنه لا يقام عليه الحد ولو جامعها أقيم عليه الحد، ولو أن إنساناً باشر امرأة حتى أنزل، في الحج لم يفسد حجه بخلاف الجماع، ولو أنه فعل ذلك في الحج فأنزل لم يكن عليه بدنة على القول الراجح؛ لأنه دون الجماع فالإنزال دون الجماع بالاتفاق فلا يمكن أن يلحق به؛ لأن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل، فإذا لم يساوه امتنع القياس، فالمذهب هو الصحيح في هذه المسألة.
الثانية: إذا كانت المرأة معذورة بجهل، أو نسيان، أو إكراه؛ فإن عليها القضاء دون الكفارة وسيأتي الكلام عليها.
وعُلم من قوله: «أو كانت المرأة معذورة» أنه لو كانت مطاوعة فعليها القضاء والكفارة كالرجل.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة بالجماع؟
فالجواب: حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين «أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هلكت، قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي صلّى الله عليه وسلّم هل تجد رقبة؟ فقال: لا، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، ثم جلس الرجل، فجيئ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بتمر فقال: خذ هذا تصدق به، قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أطعمه أهلك» (1) فرجع إلى أهله بتمر.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة على المرأة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر في هذا الحديث أن على المرأة كفارة، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يمكن، أي لا يمكن أن يؤخر النبي صلّى الله عليه وسلّم بيان الحكم مع دعاء الحاجة إليه؟
فالجواب: أن هذا الرجل استفتى عن فعل نفسه، والمرأة لم تستفت، وحالها تحتمل أن تكون معذورة بجهل أو إكراه، وتحتمل أن تكون غير معذورة، فلما لم تأت وتستفت سكت عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يذكر أن عليها كفارة، والفتوى لا يشترطُ فيها البحث عن حال الشخص الآخر، ولهذا لما جاءت امرأة أبي سفيان للنبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكيه بأنه لا ينفق لم يطلب أبا سفيان ليسأله،
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936)؛ ومسلم في الصيام/ باب تحريم الجماع في شهر رمضان... (1111).
بل أذن لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي ولدها (1) .
فإذا قال قائل: ما الدليل على الوجوب عليها؟ أليس الأصل براءة الذمة؟
فالجواب: الدليل على ذلك أن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل، ولهذا لو أن رجلاً قذف رجلاً بالزنى لجلد ثمانين جلدة إذا لم يأت بالشهود، مع أن الآية في النساء {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
فالمرأة مسكوت عنها فهي قضية عين لا يمكن أن تستدل بها على انتفاء الوجوب في حق المرأة، ولا على الوجوب ولكن القياس يقتضي أن تكون مثله، فإذا كان الفعل واحداً وكان موجباً لحد الزنى على المرأة، والحد كفارة للزاني فإنه يلزم أن يكون موجباً للكفارة هنا، كما يجب على الزوج وهذا هو الأقرب من أقوال أهل العلم، وبعض العلماء يقول لا كفارة عليها للسكوت عنها في الحديث، وبعضهم يقول: إذا أكرهت فكفارتها على الزوج لأنه هو الذي أكرهها، ولكن الصواب أنها إذا أكرهت لا شيء عليها.
فإذا قال قائل: ظاهر كلام المؤلف أنه لو كان الرجل هو المعذور بجهل أو نسيان فإنّ الكفارة لا تسقط عنه؟
قلنا: نعم هذا ظاهر قوله؛ لقوله: «أو كانت المرأة معذورة» ففهم منه أنه لو كان الرجل هو المعذور فإنّ الكفارة لا تسقط عنه، وهذا المشهور من المذهب.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب من أجرى الأمصار على ما يتعارفون بينهم... (2211)؛ ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند(1714) عن عائشة رضي الله عنها.
والصحيح أن الرجل إذا كان معذوراً بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة، وأن المرأة كذلك إذا كانت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه، فليس عليها قضاء ولا كفارة.
والمذهب أن عليها القضاء، وليس عليها الكفارة، وهذا من غرائب العلم أن تعذر في أحد الواجبين دون الآخر؛ لأن مقتضى العذر أن يكون مؤثراً فيهما جميعاً، أو غير مؤثر فيهما جميعاً وقد علمت الصحيح في ذلك.
مسألة مهمة: وهي: أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، قالوا: لا يمكن الإكراه على الجماع من الرجل، أي: لا يمكن أن يكره الرجل على الجماع؛ لأن الجماع لا بد فيه من انتشار وانتصاب للذكر، والمكره لا يمكن أن يكون منه ذلك.
فيقال: هذا غير صحيح؛ لأن الإنسان إذا هُدد بالقتل أو بالحبس أو ما أشبه ذلك، ثم دنا من المرأة فلا يسلم من الانتشار، وكونهم يقولون هذا غير ممكن نقول: بل هذا ممكن.
فإن قال قائل: الرجل الذي جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أليس جاهلاً؟
فالجواب: هو جاهل لما يجب عليه، وليس جاهلاً أنه حرام، ولهذا يقول «هلكت» (1) ، ونحن إذا قلنا إن الجهل عذر، فليس مرادنا أن الجهل بما يترتب على هذا الفعل المحرم، ولكن مرادنا الجهل بهذا الفعل، هل هو حرام أو ليس بحرام، ولهذا لو أن أحداً زنى جاهلاً بالتحريم، وهو ممن عاش في غير البلاد
__________
(1) سبق تخريجه ص(402).
الإسلامية، بأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو عاش في بادية بعيدة لا يعلمون أن الزنى محرّم فزنى فإنه لا حدّ عليه، لكن لو كان يعلم أنّ الزنى حرام، ولا يعلم أن حده الرجم، أو أن حده الجلد والتغريب، فإنه يحد لأنه انتهك الحرمة، فالجهل بما يترتب على الفعل المحرم ليس بعذر، والجهل بالفعل هل هو حرام أو ليس بحرام، هذا عذر.
قوله: «أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة» قوله: «من نوى الصوم في سفره» أي كان صائماً في سفره أفطر أي: فسد صومه بجماعه.
مثاله: إنسان مسافر سفراً يبيح الفطر فصام، ثم في أثناء النهار جامع زوجته، فهذا يُفطر لأنه جامع، والجماع من المفطرات وليس عليه كفارة؛ لأنه لم ينتهك حرمة الصوم حيث إن الصوم لا يجب عليه في السفر ويلزمه القضاء، وعليه فالذين يذهبون إلى العمرة في رمضان ويصومون هناك، ثم يجامع أحدهم زوجته في النهار ليس عليه كفارة؛ لأنه مسافر، والمسافر يباح له الفطر فيباح له الجماع والأكل، هذا إذا نوى أقل من أربعة أيام، أما إذا نوى أكثر من أربعة أيام، فالمسألة خلافية معروفة.
والصحيح أنه مسافر حتى لو أقام الشهر كله يجوز له الفطر.
وقوله: «أفطر ولا كفارة» هذا جواب الشرط وهو يشمل الصور الثلاث:
1 ـ إذا جامع دون الفرج فأنزل.
2 ـ إذا كانت المرأة معذورة.
3 ـ إذا جامع من نوى الصوم في سفره.
وإنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ كَرَّرَهُ فِي يَوْمٍ وَلَمْ يُكَفِّر فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ في الثانية، وفي الأولَى اثْنَتَانِ، وإنْ جَامَعَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمِهِ فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ.
قوله: «وإن جامع في يومين، أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية» .
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ مسألتين:
المسألة الأولى: إذا جامع في يومين بأن جامع في اليوم الأول من رمضان، وفي اليوم الثاني فإنه يلزمه كفارتان، وإن جامع في ثلاثة أيام فثلاث كفارات، وإن جامع في كل يوم من الشهر فثلاثون كفارة أو تسع وعشرون حسب أيام الشهر؛ وذلك لأن كل يوم عبادة مستقلة، ولهذا لا يفسد صوم اليوم الأول، بفساد صوم اليوم الثاني.
وقيل: لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول وهو وجه في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة؛ وذلك لأنها كفارات من جنس واحد فاكتفي فيها بكفارة واحدة، كما لو حلف على أيمان متعددة ولم يكفر، فإنه إذا حنث في جميعها فعليه كفارة واحدة، وكما لو أحدث بأحداث متنوعة، فإنه يجزئه وضوء واحد، ويقال هذا أيضاً في كفارة الظهار إذا لم يكفر عن الأول.
وأما قتل النفس فتتعدد الكفارة؛ لأنها عوض عن النفس، كما لو قتل المحرم صيوداً في الحرم.
وهذا القول وإن كان له حظ من النظر والقوة، لكن لا تنبغي الفتيا به؛ لأنه لو أفتي به لانتهك الناس حرمات الشهر كله، لكن لو رأى المفتي الذي ترجح عنده عدم تكرر الكفارة مصلحة في ذلك، فلا بأس أن يفتي به سراً، كما يصنع بعض العلماء فيما يفتون به سراً كالطلاق الثلاث.
المسألة الثانية: إذا جامع في يوم واحد مرتين، فإن كفر عن الأول لزمه كفارة عن الثاني، وإن لم يكفر عن الأول أجزأه كفارة واحدة؛ وذلك لأن الموجَب والموجِب واحد، واليوم واحد، فلا تتكرر الكفارة.
ومذهب الأئمة الثلاثة وهو قول في المذهب لا يلزمه عن الثاني كفارة؛ لأن يومه فسد بالجماع الأول، فهو في الحقيقة غير صائم، وإن كان يلزمه الإمساك، لكن ليس هذا الإمساك مجزئاً عن صوم، فلا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة تلزم إذا أفسد صوماً صحيحاً، وهذا القول له وجه من النظر أيضاً.
مثاله: رجل جامع في أول النهار بعد طلوع الشمس بربع ساعة، ثم كفر بعتق رقبة، ثم جامع بعد الظهر، فعلى المذهب يلزمه كفارة ثانية؛ لأنه كفر عن الأولى، وهو الآن وإن كان ليس صائماً صوماً شرعياً لكنه يلزمه الإمساك، وعلى القول الثاني لا تلزمه الكفارة؛ لأن الجماع لم يرد على صوم صحيح، وإنما ورد على إمساك فقط، وإذا تأملت المسألة وجدت أن القول الثاني أرجح وأنه لا يلزمه بعد أن أفسد صومه كفارة؛ لأنه ليس صائماً الآن، أما الإمساك فيلزمه الإمساك؛ لأن كل من أفطر لغير عذر حرم عليه أن يستمر في فطره.
ولا فرق بين أن يكون الجماع واقعاً على امرأة واحدة أو اثنتين؛ فلو جامع الأولى في أول النهار، والثانية في آخره، ولم يكفر عن الأول، فعليه كفارة واحدة.
وَكَذَا مَنْ لَزِمَه الإِمْسَاكُ إِذَا جَامَعَ وَمَنْ جَامَعَ وَهُوَ مُعَافَى، ثُمَّ مَرِضَ، أوْ جُنَّ، أَوْ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ. .........
قوله: «وكذا من لزمه الإمساك إذا جامع» أي: وكالصائم الذي كرر الجماع أو فعله مرة واحدة من لزمه الإمساك إذا جامع.
هذا له صور منها:
لو قامت البينة في أثناء النهار بدخول الشهر، وكان الرجل قد جامع زوجته في أول النهار قبل أن يعلم بالشهر، فيجب عليه القضاء، وتجب عليه الكفارة، لأنه لزمه الإمساك في هذا اليوم، ولذلك يقول الفقهاء: يكره للإنسان أن يجامع زوجته في يوم الثلاثين من شعبان؛ لاحتمال أن تقوم البينة أثناء النهار، ثم يلزم بالكفارة، وهذا القول ضعيف لقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ولقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا» (1) .
ومنها لو كان الرجل مسافراً وكان مفطراً فقدم إلى بلده، فالمذهب يلزمه أن يمسك، مع أن هذا الإمساك لا يعتد به، ولو جامع فيه فإن عليه الكفارة؛ لأنه يلزمه الإمساك.
ومثل ذلك أيضاً إذا كان مريضاً يباح له الفطر وقد أفطر، ثم شفاه الله وزال عنه المرض الذي استباح به الفطر، فإنه على المذهب يلزمه الإمساك، فإن جامع فعليه الكفارة.
__________
(1) سبق تخريجه ص(303).
وكذلك بالنسبة للمرأة لو طهرت من الحيض في أثناء النهار فيلزمها على المذهب الإمساك، فلو جامعها زوجها الذي يباح له الفطر فعليها الكفارة.
والقول الثاني: أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لأن هذا اليوم في حقهم غير محترم، إذ إنهم في أوله مفطرون بإذن من الشرع، وليس عندنا صوم يجب في أثناء النهار، إلا إذا قامت البينة، فهذا شيء آخر وعلى هذا لا تلزمهم الكفارة إذا حصل الجماع.
وهذا هو القول الراجح، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من أفطر أول النهار فليفطر آخره» (1) أي: من أبيح له أن يفطر في أول النهار، أبيح له أن يفطر في آخر النهار.
تنبيه: ظاهر قوله: من لزمه الإمساك إذا جامع، يشمل ما إذا جامع في أول النهار قبل ثبوت دخول الشهر، ثم ثبت دخوله بعد ذلك فيلزمه الإمساك والكفارة، والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأنه جاهل.
مسألة: من أفسد صومه بالأكل والشرب، يجب عليه الإمساك والقضاء مع الإثم، ولو جامع زوجته فعليه الكفارة؛ لأن أكله وشربه محرم عليه.
قوله: «ومن جامع وهو معافى، ثم مرض، أو جن، أو سافر لم تسقط» .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/54).
هذه عكس المسألة السابقة، أي: أنه جامع وهو معافى صائم، ثم مرض في أثناء النهار بمرض يبيح له الفطر فتلزمه الكفارة، مع أنه في آخر النهار يباح له أن يفطر، لكن هو حين الجماع كان ممن لم يؤذن له بالفطر فلزمته الكفارة.
وكذلك أيضاً من جامع وهو عاقل، ثم جن في أثناء النهار، فالصوم يبطل بالجنون وعليه الكفارة؛ لأنه حين الجماع من أهل الوجوب.
وكذلك من جامع في أول النهار، ثم سافر في أثنائه، فإنه يباح له الفطر، وتلزمه الكفارة.
فإذا قال: قد أذن لي بالفطر آخر النهار فلا كفارة علي، كالذي أذن له بالفطر أول النهار وجامع في آخره ورجحتم أنه لا كفارة عليه فما الفرق؟
فالجواب: أن الفرق ظاهر جداً، فأنت حينما جامعت لم يؤذن لك بالفطر، بل أنت ملزم بالصوم، وما طرأ من العذر فهو طارئ بعد انتهاكك لحرمة الزمن، فظهر الفرق.
وَلاَ تَجِبُ الكَفَّارَةُ بِغَيْرِ الجِمَاعِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ. ........
قوله: «ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان» أراد المؤلف ـ رحمه الله ـ أن يبين ما تجب به الكفارة من المفطرات، فبين أنها لا تجب بغير الجماع في صيام رمضان فهذان شرطان:
الأول: أن يكون مفسد الصوم جماعاً، والثاني: أن يكون في صيام رمضان، ونزيد شرطين آخرين أحدهما: أن يكون الصيام أداء، والثاني: أن يكون ممن يلزمه الصوم.
فلا تجب الكفارة بالجماع في صيام النفل، أو في صيام
كفارة اليمين، أو في صيام فدية الأذى، أو في صيام المتعة لمن لم يجد الهدي، أو في صيام النذر، ولا تجب الكفارة إذا جامع في قضاء رمضان، ولا تجب إذا جامع في رمضان وهو مسافر، ولا تجب الكفارة في الإنزال بقبلة، أو مباشرة، أو نحو ذلك؛ لأنه ليس بجماع.
وإنما نص المؤلف على هذه المسألة مع أن الأصل عدمها، وقد ذكرت سابقاً؛ لأن الفقهاء إذا نفوا حكماً معلوماً انتفاؤه، فإنما يريدون الإشارة إلى الخلاف أي خلافاً لمن قال بذلك، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الفطر بالإنزال كالجماع لأنه من جنسه فيقولون: تجب الكفارة فيما إذا أفطر بالإنزال من مباشرة أو تقبيل أو ما أشبه ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد ولكنها ضعيفة.
القول الثاني: أنه إذا قصد انتهاك حرمة رمضان، فإنه يلزمه القضاء والكفارة، لأن هذا لم يقصد مجرد الفطر بل قصد انتهاك الحرمة وهذا ضعيف أيضاً.
القول الثالث: أن الكفارة لازمة بالأكل والشرب إن كان للغذاء أو للدواء بخلاف الأكل والشرب الذي ليس للدواء ولا للغذاء، فإنه يفطر لكن ليس فيه كفارة، وكل هذه أقوال مبنية على آراء ليس لها أصل لا من الكتاب ولا من السنة، والصواب أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان؛ لأن الكفارة لم ترد إلا في هذه الحال، والأصل براءة الذمة وعدم الوجوب، فنقتصر على ما جاء به النص فقط.
وظاهره أن الكفارة تجب بالجماع، وإن لم يحصل إنزال، وهو كذلك؛ لأن الكفارة مرتبة على الجماع؛ لقوله في حديث الأعرابي: «وقعت على امرأتي» فجعل العلة الوقاع ولم يذكر الإنزال.
مسألتان:
الأولى: قال في الروض: «والنزع جماع»: أي لو كان الرجل يجامع زوجته في آخر الليل، ثم أذن مؤذن، وهو ممن يؤذن على طلوع الفجر، فنزع في الحال، فإنه يترتب عليه ما يترتب على الجماع من القضاء والكفارة، وهذا من غرائب العلم؛ فكيف يكون الفارُّ من الشيء كالواقع فيه؟!! ولهذا كان القول الراجح أنه ليس جماعاً بل توبة، وأنه لا يفسد الصوم وليس عليه كفارة.
الثانية: وقال في الروض أيضاً: «والإنزال بالمساحقة كالجماع»؛ والمساحقة تكون بين المرأتين، فلو أنزلتا فليس عليهما إلا القضاء، ولا كفارة، وإن أنزلت إحداهما فعليها القضاء فقط دون الكفارة، هذا على الصحيح.
وَهْيَ عِتْقُ رَقْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِيناً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ.
قوله: «وهي» أي: كفّارة الوطء في نهار رمضان.
قوله: «عتق رقبة» أي: فكّها من الرّق، ووجه المناسبة هو أنّ هذا الرجل لمّا جامع في نهار رمضان مع وجوب الصوم عليه استحقّ أن يعاقب ففدى نفسه بعتق الرقبة.
قوله: «فإن لم يجد» يعني إن لم يجد رقبة، أو لم يجد ثمنها.
قوله: «فصيام شهرين متتابعين» : «فصيام» الفاء رابطة للجواب وصيام مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير فعليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن عتقه الرقبة.
قوله: «فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً» أي: فعليه إطعام ستين مسكيناً، والمسكين هنا يشمل الفقير والمسكين؛ لأن الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعاً كان الفقير أشد حاجة، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر صارا بمعنى واحد، فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
ودليل ذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي قال إنّه أتى أهله في رمضان «اعتق رقبة»، فقال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد» (1) فجعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتبةً، وهذه أغلظ الكفّارات، ويساويها كفّارة الظهار الذي وصفه الله بأنّه منكر من القول وزور، ويليها كفّارة القتل؛ لأن القتل ليس فيه إلاّ خصلتان، العتق والصيام وليس فيه إطعام.
وقوله: «صيام شهرين متتابعين» هل المعتبر الأهلّة، أو المعتبر الأهلّة في شهر كامل والأيام في الشهر المجَزَّأ؟
في هذا قولان للعلماء، والصحيح أن المعتبر الأهلّة؛ سواء في الشهر الكامل، أو في الشهر المجَزَّأ.
__________
(1) سبق تخريجه ص(402).
فإن قيل: ما الفرق بين القولين؟
فالجواب: يظهر ذلك بالمثال، فإذا ابتدأ الإنسان هذين الشهرين من أول ليلة ثبت فيها الشهر ـ ولنقل إنّه شهر جُمادى الأولى ـ ابتدأه من أول يوم منه فيختمه في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة، ولنفرض أن جُمادى الأولى تسعة وعشرون يوماً، وكذلك جمادى الآخرة ـ فيكون صومه ثمانية وخمسين يوماً، وهذا لا شك أنّه يعتبر بالهلال.
لكن إذا ابتدأ الصوم من نصف شهر جمادى الأولى فجمادى الآخرة معتبرة بالهلال لأنّه سوف يدرك أوّل الشهر وآخر الشهر فيعتبر بالهلال يقيناً.
أما الشهر الثاني الذي ابتدأهُ بالخامس عشر من جُمادى الأولى فيكمله ثلاثين يوماً، ويكون آخر صومه اليوم الخامس عشر من رجب على القول الثاني الذي يعتبر الشهر المجزأ ثلاثين يوماً، أمّا على القول الراجح الذي يعتبر الأهلّة مطلقاً: فإنّ آخر أيام صومه هو الرابع عشر من شهر رجب، إذا كان شهر جمادى الأولى تسعة وعشرين يوماً؛ فإذا قدرنا أن شهر جمادى الأولى ناقص، وكذلك شهر جمادى الثانية فيكون صومه ثمانية وخمسين يوماً.
وقوله: «متتابعين» أي: يتبع بعضهما بعضاً بحيث لا يفطر بينهما يوماً واحداً، إلاّ لعذر شرعيّ كالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، وكالعيدين وأيام التشريق، أو حسّي كالمرض والسفر للرجل والمرأة بشرط ألا يسافر لأجل أن يفطر، فإن سافر ليفطر انقطع التتابع.
وقول المؤلّف: «فإطعام ستين مسكيناً» : هنا قدّر الطاعم دون المُطعم فهل المطعم مقدّر؟
المشهور من المذهب أنّه مُقدّر وهو مدٌّ من البر أو نصف صاع من غيره لكل مسكين، والمد ربع الصاع، أعني صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فتكون الأصواع لستين مسكيناً خمسة عشر صاعاً بصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، من البر، وصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ينقص عن الصاع المعروف الآن هنا في القصيم الخمس، وعلى هذا يكون الصاع في القصيم خمسة أمداد، ويكون إطعام ستين مسكيناً اثني عشر صاعاً بأصواع القصيم.
وقيل: بل يطعم نصف الصاع من البر أو غيره، واحتج هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ حين حلق رأسه في العمرة، قال: «أطعم ستّة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (1) وأطلق، ولم يقل من التمر أو من البر، وهذا يقتضي أن يكون المقدر نصف الصاع، وإذا كان كذلك فزد على ما قلنا النصف، فيكون بالنسبة لصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين صاعاً، وبالنسبة لصاعنا أربعة وعشرين صاعاً.
والأمر في هذا قريب، فلو أن الإنسان احتاط وأطعم لكل مسكين نصف صاع لكان حسناً.
وقيل: إنه لا يتقدر بل يطعم بما يعد إطعاماً فلو أنه جمعهم وغداهم أو عشاهم أجزأ ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي
__________
(1) سبق تخريجه ص(185).
جامع أهله في نهار رمضان: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً (1) ؟ وهذا هو الصحيح.
مسألة: الطعام والمُطْعَم ينقسم في الشرع إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما قُدر فيها الطعام دون المطعم.
الثاني: ما قدر فيها المطعم دون الطعام.
الثالث: ما قدر فيها الطعام والمطعم.
مثال الأول: زكاة الفطر فإنها صاع من طعام تعطى لواحد أو اثنين أو تجمع صاعين أو ثلاثة لواحد، لا مانع.
مثال الثاني: هذه المسألة ومثل كفارة اليمين.
مثال الثالث: مثل فدية الأذى، كحلق الرأس في الإحرام، قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وانظر إلى الآية يقول الله: {صَدَقَةٍ} لم يقل أو إطعام وبينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال لكعب بن عجرة: تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع (2) ، والمشهور من المذهب يقولون إن الإطعامات المطلقة تحمل على هذا المقيد، فكل إطعام لا بد أن يكون نصف صاع، لكن يقال لهم: أنتم تقولون نصف صاع من غير البر، ومدٌّ من البر، مع أن حديث كعب بن عجرة نصف صاع مطلقاً، فأنتم الآن قستم ولا قستم، والصواب أن ما لم يُقيد يكفي فيه الإطعام.
قوله: «فإن لم يجد سقطت» أي: الكفّارة، ودليل ذلك من الكتاب، والسنّة، أمّا من الكتاب فقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
__________
(1) سبق تخريجه ص(402).
(2) سبق تخريجه ص(185).
إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ، وهذا الرجل الفقير ليس عنده شيءٌ فلا يكلّف إلاّ ما آتاه الله، والله ـ عزّ وجل ـ بحكمته لم يؤته شيئاً، ودليل آخر قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، ودليلٌ ثالثٌ العموم، عموم القاعدة الشرعيّة، وهي أنّه لا واجب مع عجزٍ، فالواجبات تسقط بالعجز عنها، وهذا الرجل الذي جامع لا يستطيع عتق الرقبة ولا الصيام ولا الإطعام، نقول إذاً لا شيء عليك وبرئت ذمّتك.
فإن أغناه الله في المستقبل فهل يلزمه أن يكفر أو لا؟
فالجواب: لا يلزمه لأنها سقطت عنه، وكما أنّ الفقير لو أغناه الله لم يلزمه أن يؤدي الزكاة عمّا مضى من سنواته لأنّه فقير فكذلك هذا الذي لم يجد الكفارة إذا أغناه الله تعالى لم يجب عليه قضاؤها.
أمّا الدليل من السنّة فهو أن الرجل لمّا قال: (لا أستطيع أن أطعم ستين مسكيناً) لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم أطعمهم متى استطعت، بل أمره أن يطعم حين وجد، فقال: (خذ هذا تصدّق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله... فقال: أطعمه أهلك)، ولم يقل: والكفارة واجبة في ذمتك، فدل هذا على أنها تسقط بالعجز.
وقال بعض العلماء: إنها لا تسقط بالعجز، واستدلوا بالحديث، قالوا: لأن الرجل قال: لا أجد، فلمّا جاء النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم التمرُ، قال: خذ هذا تصدّق به، ولو كانت ساقطة بالعجز لم يقل خذ هذا تصدّق به.
فيقال: الجواب: إِنَّ هذا وجده في الحال، يعني وجده في
المجلس الذي أفتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم به، فكان كالواجد قبل ذلك، ولهذا لمّا قال: أطعمه أهلك، لم يقل: وعليك كفّارة إذا اغتنيت.
والقول الراجح أنّها تسقط، وهكذا أيضاً نقول في جميع الكفارات، إذا لم يكن قادراً عليها حين وجوبها فإنها تسقط عنه، إمّا بالقياس على كفارة الوطء في رمضان، وإما لدخولها في عموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وما أشبه ذلك، وعلى هذا فكفّارة الوطء في الحيض إذا قلنا: إن الوطء في الحيض يوجب الكفّارة، فإنّها تسقط.
وفدية الأذى إذا لم يجد ولم يستطع الصوم تسقط، وهكذا جميع الكفارات بناءً على ما استدللنا به لهذه المسألة، وبناءً على القاعدة العامة الأصوليّة التي اتفق عليها الفقهاء في الجملة، وهي أنّه (لا واجب مع عجز).
والغريب أن بعض العلماء سلك مسلكاً غريباً وقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال له: «أطعمه أهلك» أي: كفارة، لا أنه دفعٌ لحاجتهم، وهذا ليس بصواب لأمرين:
أولاً: أنه لا يمكن أن يكون الرجل مصرفاً لكفارته كما لا يكون مصرفاً لزكاته، أرأيت لو أن شخصاً عنده دراهم تجب فيها الزكاة، وهو مدين فإنه لا يصرف زكاته في دينه، وهذا أيضاً لا يمكن أن يصرف كفارته لنفسه.
ثانياً: أن الكفارة إطعام ستين مسكيناً، وهذا الرجل ـ الذي يظهر والله أعلم ـ أنه ليس عنده إلا زوجته أو ولد أو ولدان أو
أكثر، ولو كانت كفارة لقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل عندك ستون شخصاً تعولهم حتى يثبت الأمر فهذا المسلك مسلك ضعيف.
والمذهب لا يسقط من الكفّارات بالعجز إلاّ اثنتان: كفّارة الوطء في الحيض، وكفّارة الوطء في رمضان، وباقي الكفارات لا تسقط بالعجز بل تبقى في ذمته؛ لأن الدين لا يسقط بالعجز عنه أرأيت لو أن شخصاً يطلبك دراهم وعجزت، فلا يسقط دينه بل يبقى في ذمتك، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «دين الله أحق بالقضاء» (1) .
مسألة: كلما جاءت الرقبة مطلقة فلا بد من شرط الإيمان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاء معاوية بن الحكم يستفتيه في جارية غضب عليها ولطمها فأراد أن يعتقها، فدعاها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة (2) ؛ ولأن إعتاق الكافرة قد يستلزم ذهابها إلى الكفار؛ لأنها تحررت فتذهب إلى بلاد الكفر ولا يرجى لها إسلام.
مسألة: اشتراط سلامة الرقبة من العيوب فيه خلاف:
فقيل بالاشتراط، وقيل: لا نشترط سوى ما اشترط الله وهو: الإيمان، واستدل من قال بالاشتراط، أن إعتاق المعيب عيباً يخل بالعمل خللاً بيناً فإن إعتاقه يكون به عالة على غيره، وعدم إعتاقه أحسن له.
والمسألة تحتاج لتحرير، لكن الذي يظهر لي أنه لا يشترط.
__________
(1) سبق تخريجه ص(46).
(2) أخرجه مسلم في المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة (537).
بَابُ مَا يُكْرَهُ، وَيُسْتَحَبُّ، وَحُكْمِ القَضَاءِ
قوله: «باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء» هذه ثلاثة عناوين جمعها المؤلف في باب واحد.
فقوله: «ما يكره» أي: في الصيام، «ويستحب» أي: في الصيام، «وحكم القضاء» أي: قضاء رمضان.
والمكروه عند الفقهاء هو الذي نهى عنه الشرع لا على وجه الإلزام بالترك؛ لأنه إن نهى عنه على وجه الإلزام بالترك صار حراماً، وأمثلته كثيرة، ففي الصلاة مكروهات، وفي الوضوء مكروهات، وفي الصيام مكروهات، وفي الحج وفي البيع وغيرها.
أما حكمه فإنه يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، وبهذا ظهر الفرق بينه وبين الحرام، فالحرام إذا فعله الإنسان استحق العقوبة، أما هذا فلا.
وأما في لسان الشرع فإن المكروه يطلق على المحرم، بل قد يكون من أعظم المحرمات، قال الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء حين نهى عن منهيات عظيمة قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا *} [الإسراء: 28] ، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله عز وجل: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477)؛ ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة (593) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
وقوله: «ويستحب» المستحب هو المسنون وهو ما أمر به لا على وجه الإلزام بالفعل، فإن أمر به على وجه الإلزام كان واجباً.
وحكم المستحب أن يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه، ولكنَّ ثوابَ المستحب أو المسنون أقل من ثواب الواجب، بالدليل الأثرى والنظري.
أما الدليل الأثري فقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه» (1) فصلاة ركعتين فريضة، أحب إلى الله من صلاة ركعتين نافلة.
وأما الدليل النظري فإن إيجاب الله للواجب يدل على أنه أوكد، وأنَّ المكلف محتاج إليه أكثر من احتياجه إلى النوافل.
وهل يفرَّق بين المستحب والمسنون؟
الجواب: فرق بعض العلماء بينهما بأن المستحب ما ثبت بقياس، والمسنون ما ثبت بسنة، أي بدليل.
ولكن الصحيح أنه لا فرق والمسألة اصطلاحية، فعند الحنابلة لا فرق بينهما، فلا فرق بين أن نقول: يستحب أن يتوضأ ثلاثاً، وأن نقول: يسن أن يتوضأ ثلاثاً، وهذا مجرد اصطلاح؛ أي: لو أن أحداً قال في مؤلف له: أنا إن عبَّرت بيسن فإنما أعبِّر عن ثابت بسنة، وإن عبرت بيستحب فإنما عبرت عن ثابت بقياس، ثم مشى على هذا الاصطلاح لم ينكر عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق/ باب التواضع (6502).
وقوله: «وحكم القضاء» سيأتي إن شاء الله حكمه، وأنه يجب القضاء، ولكن ليس على الفور وإنما يكون على التراخي، فلك أن تؤخر قضاء رمضان ولو بلا عذر إلى أن يبقى بينك وبين رمضان الثاني مقدار ما عليك، فحينئذ يجب عليك أن تقضي.
يُكْرَهُ جَمْعُ رِيقِهِ فَيَبْتَلِعَهُ، وَيَحْرُمُ بَلْعُ النُّخَامَةِ، وَيُفْطِرُ بِهَا فَقَطْ إِنْ وَصَلَتْ إِلَى فَمِهِ. .........
قوله: «يكره جمع ريقه فيبتلعه» «يبتلع» فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازاً؛ لأنه عطف على اسم خالص صريح، وابن مالك يقول:
وإن على اسم خالص فعلٌ عُطف
تنصبه أن ثابتاً أو مُنحذف
وهنا «يبتلع» معطوفة على «جمع» وجمع اسم خالص أي أنه مصدر، ومنه قول الشاعر:
ولُبس عباءةٍ وتقرَّ عيني
أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
«وتقر» بالنصب معطوف على «لُبس»، وهنا «يبتلع» بالنصب معطوفة على «جمع»، يعني يكره أن يجمع ريقه فيبتلعه، سواء فعل ذلك عبثاً، أو فعله لدفع العطش، أو لأي سبب آخر.
قال في الروض معللاً ذلك: للخروج من الخلاف، أي: خلاف من قال إنه إذا فعل ذلك أفطر، فإن من العلماء من يقول: إن الصائم إذا جمع ريقه فابتلعه أفطر.
ولكن التعليل بالخلاف ليس تعليلاً صحيحاً تثبت به الأحكام الشرعية، ولهذا كلما رأيت حكماً علل بالخروج من الخلاف، فإنه لا يكون تعليلاً صحيحاً، بل نقول: الخلاف إن كان له حظ من النظر بأن كانت النصوص تحتمله، فإنه يراعى جانب الخلاف هنا، لا من أجل أن فلاناً خالف، ولكن من أجل
أن النصوص تحتمله، فيكون تجنبه من باب الاحتياط، وإلا لزم القول بالكراهية في كل مسألة فيها خلاف، خروجاً من الخلاف، ولكانت المكروهات كثيرة جداً؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف، وهنا ليس فيه دليل يدل على أن جمع الريق يفطر إذا جمعه إنسان وابتلعه، وإذا لم يكن هناك دليل فإنه لا يصح التعليل بالخلاف.
وعلى هذا فنقول: لو جمع ريقه فابتلعه فليس بمكروه، ولا يقال إن الصوم نقص بذلك، لأننا إذا قلنا: إنه مكروه، لزم من ذلك أن يكون الصوم ناقصاً لفعل المكروه فيه.
وعلم من كلام المؤلف أنه لو بلع ريقه بلا جمع، فإنه لا كراهة في ذلك وهو ظاهر، وعليه فلا يجب التفل بعد المضمضة، ولا بعد شرب الماء عند أذان الفجر، ولا عند تجمع الريق بسبب القراءة، فإنه لم يعهد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فيما نعلم ـ أن الإنسان إذا شرب عند طلوع الفجر، يتفل حتى يذهب طعم الماء، بل هذا مما يسامح فيه، لكن لو بقي طعم طعام كحلاوة تمر، أو ما أشبه ذلك فهذا لا بد أن يتفله ولا يبتلعه.
قوله: «ويحرم بلع النخامة» بلع النخامة حرام على الصائم وغير الصائم؛ وذلك لأنها مستقذرة وربما تحمل أمراضاً خرجت من البدن، فإذا رددتها إلى المعدة قد يكون في ذلك ضرر عليك، لكنها تتأكد على الصائم؛ لأنها تفسد صومه، ولهذا قال:
«ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه» وقوله: «فقط» التفقيط هنا لإخراج الريق، فالريق ولو كثر لا يفطر به الإنسان.
وقوله: «إن وصلت إلى فمه» هو ما يتبين فيه ذوق الطعام، فإن لم تصل النخامة إليه بأن أحس بها نزلت من دماغه، وذهبت إلى جوفه فإنها لا تفطر، وذلك لأنها لم تصل إلى ظاهر البدن، والفم في حكم الظاهر، فإذا وصلت إليه ثم ابتلعها بعد ذلك أفطر، وأما إذا لم تصل إليه فإنها ما زالت في حكم الباطن فلا تفطر.
وفي المسألة قول آخر في المذهب، أنها لا تفطر أيضاً ولو وصلت إلى الفم وابتلعها، وهذا القول أرجح؛ لأنها لم تخرج من الفم، ولا يعد بلعها أكلاً ولا شرباً، فلو ابتلعها بعد أن وصلت إلى فمه، فإنه لا يفطر بها، لكن نقول قبل أن يفعل هذا: لا تفعل وتجنب هذا الأمر، ما دام أن المسألة بهذا الشكل، وليست النخامة كبلع الريق بل هي جرم غير معتاد وجوده في الفم، بخلاف الريق فالخلاف بالتفطير بها أقوى من الخلاف بالتفطير بجميع الريق والأمر واضح، ولكن كما قلنا أولاً إن ابتلاع النخامة محرم؛ لما فيها من الاستقذار والضرر.
مسألة: إذا ظهر دم من لسانه أو لثته، أو أسنانه، فهل يجوز بلعه؟
الجواب: لا يجوز لا للصائم ولا لغيره؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وإذا وقع من الصائم فإنه يفطر، ولهذا يجب على الإنسان أن يلاحظ الدم الذي يخرج من ضرسه إذا قلعه في أثناء الصوم، أو قلعه في الليل، واستمر يخرج منه الدم ألا يبتلع هذا الدم؛ لأنه يفطره وهو أيضاً حرام.
وَيُكْرَهُ ذَوْقُ طَعَامٍ بِلاَ حَاجِةٍ، وَمَضْغُ عِلْكٍ قَوِيٍّ، وإنْ وَجَدَ طَعْمَهَما فِي حَلقِهِ أَفْطَرَ،........
قوله: «ويكره ذوق طعام بلا حاجة» أي: يكره أن يذوق
الصائم طعاماً كالتمر والخبز والمرق، إلا إذا كان لحاجة فلا بأس؛ ووجه هذا أنه ربما ينزل شيء من هذا الطعام إلى جوفه من غير أن يشعر به، فيكون في ذوقه لهذا الطعام تعريض لفساد الصوم، وأيضاً ربما يكون مشتهياً الطعام كثيراً، ثم يتذوقه لأجل أن يتلذذ به، وربما يمتصه بقوة، ثم ينزل إلى جوفه.
والحاجة مثل أن يكون طباخاً يحتاج أن يذوق الطعام لينظر ملحه، أو حلاوته أو يشتري شيئاً من السوق يحتاج إلى ذوقه، أو امرأة تمضغ لطفلها تمرة، وما أشبه ذلك.
قوله: «ومضغ علك قوي» أي: يكره للصائم أن يمضغ علكاً قوياً، والقوي هو الشديد الذي لا يتفتت؛ لأنه ربما يتسرب إلى بطنه شيء من طعمه إن كان له طعم.
فإن لم يكن له طعم فلا وجه للكراهة، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يمضغه أمام الناس؛ لأنه يساء به الظن إذا مضغه أمام الناس فما الذي يدريهم أنه علك قوي أو غير قوي، أو أنه ليس فيه طعم أو فيه طعم وربما يقتدي به بعض الناس، فيمضغ العلك دون اعتبار الطعم، وعلل ذلك في الروض بأنه يجلب البلغم، ويجمع الريق، ويورث العطش (1) ، فهذه ثلاث علل.
قوله: «وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر» أي: وجد طعم الطعام الذي ذاقه ولو لحاجة، وطعم العلك القوي في حلقه أفطر، أي: فسد صومه، وهذا يعم صيام الفرض والنفل.
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (3/424).
وعُلِمَ من قول المؤلف في حلقه أن مناط الحكم وصول الشيء إلى الحلق لا إلى المعدة.
وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وقال: ليس هناك دليل يدل على أن مناط الحكم وصول الطعم إلى الحلق (1) ، وهو واضح؛ لأنه أحياناً يصل الطعم إلى الحلق، ولكن لا يبتلعه ولا ينزل، ويكون منتهاه الحلق فمثل هذا لا يمكن أن نتجاسر ونقول: إن الإنسان يفطر بذلك، ثم إنه أحياناً عندما يتجشأ الإنسان يجد الطعم في حلقه لكن لا يصل إلى فمه، ومع ذلك يبتلع الذي تجشأ به ولا نقول إنه أفطر، لأنه ربما يتجشأ ويخرج بعض الشيء لكن لا يصل إلى الفم بل ينزل وهو يحس بالطعم.
ويَحْرُمُ العِلْكُ المُتَحَلِّلُ إِنْ بَلَعَ رِيقَهُ، وَتُكْرَهُ القُبْلَةُ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ ...........
قوله: «ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه» العلك المتحلل هو الذي ليس بصلب بل إذا علكته تحلل وصار مثل التراب، فهذا حرام على الصائم؛ لأنه إذا علكه لا بد أن ينزل منه شيء لأنه متحلل يجري مع الريق، وما كان وسيلة لفساد الصوم، فإنه يكون حراماً إذا كان الصوم واجباً، ويفسد الصوم إذا بلع منه شيئاً.
وقوله: «إن بلع ريقه» فإن لم يبلع ريقه فإنه لا يحرم، فإذا كان الإنسان يعلك العلك فلما تحلل لَفَظَه فإنه ليس بحرام، أو كان يعلكه ويجمعه ثم يلفظه ولا ينزل، فإنه على كلام المؤلف لا يحرم؛ لأن المحظور من مضغ العلك المتحلل أن ينزل إلى الجوف وهذا لا ينزل.
__________
(1) انظر: «حقيقة الصيام» ص(52، 54).
فإن قال قائل: هل يقاس ما يكون في الفرشة من تدليك الأسنان بالمعجون على العلك المتحلل، أو على العلك الصلب القوي؟
فالجواب: قياس على المتحلل أقرب، ولهذا نقول: لا ينبغي للصائم أن يستعمل المعجون في حال الصوم، لأنه ينفذ إلى الحلق بغير اختيار الإنسان، لأن نفوذه قوي، واندراجه تحت الريق قوي أيضاً، فنقول: إن كنت تريد تنظيف أسنانك، فانتظر إلى أن تغرب الشمس ونظفها، لكن مع هذا لا يفسد الصوم باستعمال المعجون.
قوله: «وتكره القبلة لمن تحرك شهوته» القبلة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ألا يصحبها شهوة إطلاقاً، مثل تقبيل الإنسان أولاده الصغار، أو تقبيل القادم من السفر، أو ما أشبه ذلك، فهذه لا تؤثر ولا حكم لها؛ باعتبار الصوم.
القسم الثاني: أن تحرك الشهوة، ولكنه يأمن من إفساد الصوم بالإنزال، أو بالإمذاء، ـ إذا قلنا: بأن الإمذاء يفسد الصوم ـ، فالمذهب أن القبلة تكره في حقه.
القسم الثالث: أن يخشى من فساد الصوم إما بإنزال وإما بإمذاء ـ إن قلنا بأنه يفطر بالإمذاء، وسبق أن الصحيح أنه لا يفطر ـ فهذه تحرم إذا ظن الإنزال، بأن يكون شاباً قوي الشهوة، شديد المحبة لأهله، فهذا لا شك أنه على خطر إذا قبل زوجته في هذه الحال، فمثل هذا يقال في حقه يحرم عليه أن يقبل؛ لأنه يعرض صومه للفساد.
أما القسم الأول فلا شك في جوازها؛ لأن الأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، وأما القسم الثالث فلا شك في تحريمها.
وأما القسم الثاني وهو الذي إذا قبَّل تحركت شهوته لكن يأمن على نفسه، فالصحيح أن القبلة لا تكره له وأنه لا بأس بها، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يقبل وهو صائم» (1) ، «وسأله عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنهما ـ عن قبلة الصائم وكانت عنده أم سلمة فقال له: سل هذه، فأخبرته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقبل وهو صائم، فقال السائل: أنت رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: إني لأخشاكم لله وأعلمكم به» (2) وهذا يدل على أنها جائزة سواء حركت الشهوة أم لم تحرك، ويروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «ما أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحاناً» (3) وشم الريحان لا يفطر الصائم لكنه ينعش النفس ويسرها، وتقبيل الزوجة كذلك يسر وينعش الإنسان لكن ليس جماعاً ولا إنزالاً، فبأي شيء تكون الكراهة.
وأما ما يروى من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «سأله رجل عن القبلة فأذن له، وسأله آخر فلم يأذن له، فإذا الذي أذن له شيخ والذي لم يأذن له شاب» (4) فحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ضعفه
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب المباشرة للصائم (1927)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته (1106) (65) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه مسلم في الباب السابق (1108) عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه.
(3) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (505).
(4) أخرجه أبو داود في الصيام/ باب كراهيته للشاب (2387) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ابن القيم ـ رحمه الله ـ وقال: لا يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
إذاً القبلة في حق الصائم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم جائز، وقسم مكروه، وقسم محرم، والصحيح أنهما قسمان فقط:
قسم جائز، وقسم محرم، فالقسم المحرم إذا كان لا يأمن فساد صومه، والقسم الجائز له صورتان:
الصورة الأولى: ألا تحرك القبلة شهوته إطلاقاً.
الصورة الثانية: أن تحرك شهوته، ولكن يأمن على نفسه من فساد صومه.
أما غير القبلة من دواعي الوطء كالضم ونحوه، فحكمها حكم القبلة ولا فرق.
وَيَجِبُ اجْتِنَابُ كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وشَتْمٍ .........
قوله: «ويجب اجتناب كذب» قوله «اجتناب» ؛ أي البعد، والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع سواء كان عن جهل أم عمد، مثاله عن الجهل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: كذب أبو السنابل ، وكان أبو السنابل قد قال لسبيعة الأسلمية التي وضعت حملها بعد موت زوجها بليال فمر بها وقد تجملت للخطاب، فقال لها: لن تحلي للأزواج حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشراً ، فلما ذكرت قوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كذب أبو السنابل (2) ، ومثاله عن العمد قول المنافقين إذا أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نشهد إنك لرسول الله.
__________
(1) زاد المعاد (2/58)
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/447) وأصله في الصحيحين.
قوله: «غيبة» بكسر الغين وهي ذكرك أخاك بما يكره من عيب خِلقي أو خُلقي أو عملي أو أدبي.
قوله: «شتم» هو القدح بالغير حال حضوره.
وهذه الأشياء حرام على الصائم وغيره، ولكنهم ذكروا هذا من باب التوكيد؛ لأنه يتأكد على الصائم من فعل الواجبات، وترك المحرمات، ما لا يتأكد على غيره.
ودليل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [البقرة] هذه هي الحكمة من فرض الصيام أن يكون وسيلة لتقوى الله ـ عزّ وجل ـ بفعل الواجبات وترك المحرمات.
ودليله من السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (1) أي لم يرد الله منا بالصوم أن نترك الطعام أو الشراب؛ لأنه لو كان هذا مراد الله لكان يقتضي أن الله يريد أن يعذبنا، والله تعالى يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وإنما يريد منا ـ عزّ وجل ـ أن نتقي الله لقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «من لم يدع قول الزور» أي: الكذب، وإن شئت فقل الزور: كل قول محرم؛ لأنه ازور عن الطريق المستقيم.
وقوله: «والعمل به» أي: بالزور، وهو كل فعل محرم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصيام/ باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: «والجهل» أي: السفاهة، وعدم الحلم، مثل الصخب في الأسواق، والسب مع الناس، وما أشبه ذلك، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يصخب ـ يعني لا يرفع صوته، بل يكون مؤدباً ـ ولا يرفث وإن أحد سابه أو قاتله فليقل إني صائم» (1) فينبغي أن يكون مؤدباً وبهذا نعرف الحكمة البالغة من مشروعية الصوم، فلو أننا تربينا بهذه التربية العظيمة لخرج رمضان، والإنسان على خلق كريم من الالتزام، والأخلاق، والآداب، لأنه تربية في الواقع.
مسألة: ذهب بعض السلف إلى أن القول المحرم والفعل المحرم في الصوم يبطله؛ كالغيبة، ولكن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ لما سئل عن ذلك، وقيل له: إن فلاناً يقول: إن الغيبة تفطر؟ قال: لو كانت تفطر ما بقي لنا صيام.
والقاعدة في ذلك أن المحرم إذا كان محرماً في ذات العبادة أفسدها، وإن كان تحريمه عاماً لم يفسدها، فالأكل والشرب يفسدان الصوم، بخلاف الغيبة، ولهذا كان الصحيح أن الصلاة في الثوب المغصوب، وبالماء المغصوب صحيحة؛ لأن التحريم ليس عائداً للصلاة؛ فلم يقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم: لا تصلوا في الثوب المغصوب أو بالماء المغصوب، فالنهي عام.
وسُنَّ لِمَنْ شُتِمَ قَوْلُهُ: إِنِّي صَائِمٌ، .............
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس