عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:09 PM   #2
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

بَابُ الإِحْرَامِ
الإِحْرَامُ: نِيَّةُ النُّسُكِ.
قوله: «الإحرام» مأخوذ من التحريم، ومعنى أحرم أي: دخل في الحرام، كأنجد، أي: دخل في نجد، ولهذا يقال للتكبيرة الأولى من الصلاة تكبيرة الإحرام؛ لأنه بها يدخل في التحريم، أي: تحريم ما يحرم على المصلي، أما المراد به هنا فقوله:
«نية النسك» ، يعني نية الدخول فيه، لا نية أنه يعتمر، أو أنه يحج، وبين الأمرين فرق، فمثلاً إذا كان الرجل يريد أن يحج هذا العام، فهل نقول إنه بنيته هذه أحرم؟
الجواب: لا؛ لأنه لم ينو الدخول في النسك.
وكذلك نريد أن نصلي العشاء، فهل نحن بنيتنا هذه دخلنا في الصلاة، وحرم علينا ما يحرم على المصلي؟
الجواب: لا، إذاً، نية الفعل لا توثر، لكن نية الدخول فيه هي التي تؤثر، وسميت نية الدخول في النسك إحراماً؛ لأنه إذا نوى الدخول في النسك حرم على نفسه ما كان مباحاً قبل الإحرام، فيحرم عليه مثلاً: الرفث، والطيب، وحلق الرأس، والصيد، وغير ذلك.
سُنَّ لِمُرِيدِهِ غُسْلٌ أَوْ تيمُّمٌ لِعَدَمٍ وَتَنَظُّفٌ، وتَطَيَّبٌ، وَتَجَرُّدٌ مِنْ مَخِيْطٍ فِي إِزارٍ وَرِدَاءٍ أَبْيَضينِ وَإِحْرامٌ عَقِبَ رَكْعتَينِ.....
قوله: «سن لمريده» ، السَّانُّ هو الرسول عليه الصلاة والسلام.
والسنة في اللغة: الطريقة.
وفي الشرع: أقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأفعاله، وتقريراته.
وفي اصطلاح الأصوليين: هي ما أمر به لا على وجه الإلزام.
وقوله: «لمريده» ، أي: لمريد النسك.
قوله: «غسل» وذلك لثبوته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلاً وأمراً.
أما فعله فإنه صلّى الله عليه وسلّم «تجرد لإهلاله واغتسل» (1) .
أما أمره فإن أسماء بنت عميس ـ رضي الله عنها ـ امرأة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، نفست في ذي الحليفة، أي: ولدت ابنها محمد ابن أبي بكر، فأرسلت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي» (2) ، ومعنى «استثفري» أي: تحفَّظي، فالشاهد من هذا قوله: «اغتسلي» ، فأمرها أن تغتسل مع أنها نفساء لا تستبيح باغتسالها هذا الصلاة، ولا غيرها مما يشترط له الطهارة.
وقوله: «سن لمريده» مريد اسم فاعل مضاف، واسم الفاعل بمنزلة الموصول، بل إن النحويين يقولون: إن (الـ) في اسم الفاعل موصولة، قال ابن مالك ـ رحمه الله ـ:
__________
(1) أخرجه الترمذي في الحج/ باب ما جاء في الاغتسال عن الإحرام (830)؛ وابن خزيمة (2595)؛ والدارقطني (2/220)؛ والبيهقي (5/32) عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ.
وقال الترمذي: «حسن غريب».
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
وصفة صريحة صلة أل (1) .
فعلى هذا تكون كلمة «مريد» عامة للذكور، والإناث، وللجنب، وغير الجنب، وللحائض، والنفساء، وللصغير، والكبير، فكل من أراد النسك فليغتسل.
وقوله: «غسل» إذا أطلق الغسل، فالمراد به شرعاً ما يشبه غسل الجنابة، فمثلاً إذا قلنا: يجب للجمعة الغسل، أي: غسل كغسل الجنابة، يسن للإحرام غسل، أي: كغسل الجنابة.
مسألة: هل يجزئ الغسل لو اغتسل في بلده ثم لم يغتسل عند الإحرام؟
الجواب: في هذا تفصيل، إذا كان لا يمكنه الاغتسال عند الميقات كالذي يسافر بالطائرة فلا شك أن ذلك يجزئه لكن يجعل الاغتسال عند خروجه إلى المطار.
وإن كان في سيارة نظرنا فإن كانت المدة وجيزة كالذين يسافرون إلى مكة عن قرب أجزأه وإن كانت بعيدة لا يجزئه، لكن لا حرج عليه أن يغتسل في بيته، ويقول: إن تهيأ لي الاغتسال عند الميقات فعلت، وإلا اكتفيت بهذا.
قوله: «أو تيمم لعدم» ، «أو» : هذه عاطفة، على «غسل» أي: أو أن يتيمم لعدم الماء، أو تعذر استعماله للمرض ونحوه، فيتيمم بدلاً عن الغسل، وهذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ (2) بناءً على أن التيمم يحل محل طهارة الماء الواجبة والمستحبة.
__________
(1) ألفية ابن مالك.
(2) وهو المذهب.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إلى أن الطهارة المستحبة إذا تعذر فيها استعمال الماء، فإنه لا يتيمم لها؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ ذكر التيمم في طهارة الحدث فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] . فإذا كان الشرع إنما جاء بالتيمم في الحدث، فلا يقاس عليه غير الحدث؛ لأن العبادات لا قياس فيها، ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه تيمم للإحرام، وعليه فنقول: إن وجد الماء وأمكنه استعماله فعل، وإن لم يمكنه فلا تيمم على هذا القول، وهذا أقرب للصواب.
وقوله: «أو تيمم لعدم» هذا فيه قصور، ولو قال: «أو تيمم لعذر» لكان أشمل، فيشمل من عُدم الماء، ومن خاف ضرراً باستعماله.
قوله: «وتنظف» ، إذا قال العلماء تنظف، فليس المراد تنظيف الثياب، ولا تنظيف البدن إذا قرن به الغسل؛ لأن تنظيف البدن يحصل بالغسل، ولكن المراد بالتنظيف أخذ ما ينبغي أخذه، مثل: الشعور التي ينبغي أخذها كالعانة، والإبط، والشارب، وكذلك الأظافر فيسن أن يتنظف بأخذها.
ولكن هل ورد في هذا سنة؟
الجواب: لا، فيما نعلم وإنما عللوا ذلك حتى لا يحتاج إلى أخذها في الإحرام، وأخذها في الإحرام ممتنع، وبناءً على هذا نقول: إذا لم تكن طويلة في وقت الإحرام ولا يخشى
أن تطول في أثناء الإحرام، فيحتاج إلى أخذها، فإنه لا وجه لاستحباب ذلك؛ لأن العلة خوف أن يحتاج إليها في حال الإحرام ولا يتمكن، فإذا زالت هذه العلة زال المعلول وهو الحكم؛ «لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً».
قوله: «وتطيب» ، أي ويسن أن يتطيب عند الإحرام، ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تطيب لإحرامه، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «كنت أطيب النبي صلّى الله عليه وسلّم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» (1) ، والطيب مستحب كل وقت، فهو كالسواك إذا أمكن الإنسان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (2) .
وقوله: «وتطيب» أطلقه المؤلف، والمراد التطيب في البدن؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يطيب عند الإحرام رأسه، ولحيته، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم» (3) ، مفارقه يعني مفارق رأسه؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يبقي الشعر، ويفرقه فرقتين من الخلف ومن الأمام، وكان يسدل شعره أول ما قدم المدينة؛ لأنه فعل اليهود
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/باب الطيب عند الإحرام (1539)؛ ومسلم في الحج/ باب الطيب للمحرم عند الإحرام (1189) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه أحمد (3/128، 199)؛ والنسائي في عشرة النساء/ باب حب النساء (7/61) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ. قال الحافظ في «التلخيص» (3/116): «إسناده حسن».
(3) أخرجه البخاري في اللباس/ باب الطيب في الرأس واللحية (5923)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب الطيب قبل الإحرام في البدن (1189) (44).
وهم أهل الكتاب، والفرق فعل المشركين وهم كفار ومشركون، ثم كره السدل، وصار يفرق (1) .
الشاهد قولها: «كأني أنظر إلى وبيص المسك» ، والوبيص هو اللمعان، والوبيص كالبريق لفظاً ومعنى، وهذه العبارات تقع في كلام العلماء، فيقولون: كذا ككذا لفظاً ومعنى، أي: في وزن الكلمة ومعناها.
أما تطييب الثوب، أي: ثوب الإحرام فإنه يكره، لا يطيب، لا بالبخور ولا بالدهن، وإذا طيبه، فقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يلبسه إذا طيبه قبل أن يعقد الإحرام لكن يكره (2) .
وقال بعض العلماء: لا يجوز لبسه إذا طيبه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس» (3) ، فنهى أن نلبس الثوب المطيب، وهذا هو الصحيح، ولهذا حرم بعض العلماء من أصحابنا كالآجري تطييب ثياب الإحرام، قال: لأن تطييبها لا فائدة منه، إذا حرمنا عليه لباسها، بل هو إضاعة للمال.
والمذهب يكره إن لبسها قبل أن يعقد الإحرام، وأما إذا عقد الإحرام فلا يجوز أن يلبسها؛ لأن الثياب المطيبة لا يجوز لبسها في الإحرام.
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس/ باب الفرق (5917)؛ ومسلم في الفضائل/ باب صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم (2336) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) وهو المذهب.
(3) أخرجه البخاري في الحج/ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (1542)؛ ومسلم في الحج/ باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، (1177) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
مسألة: إذا تطيب في بدنه فوضع الطيب على رأسه ولحيته، ثم سال الطيب من الموضع الذي وضعه فيه نازلاً إلى أسفل، فهل هذا يؤثر أو لا؟
الجواب: لا يوثر؛ لأن انتقال الطيب هنا بنفسه، وليس هو الذي نقله؛ ولأن ظاهر حال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، أنهم لا يبالون إذا سال الطيب؛ لأنهم وضعوه في حال يجوز لهم وضعه.
مسألة: إذا كان المحرم سوف يتوضأ، وإذا طيب رأسه فسوف يمسح رأسه بيديه، وإذا مسح رأسه بيديه لصق شيء من الطيب بيديه، فهل نقول أعدَّ لنفسك خرقة تضعها في يدك، إذا أردت أن تمسح رأسك حتى لا تمس الطيب؟!
الجواب: لا، بل هذا تنطع في الدين ولم يرد، وكذا لا يمسح رأسه بعود أو جلد، إذاً يمسحه بيده وسوف يعلق الطيب بيده، فعلى المذهب أنه يجب عليه أن يغسل يديه من هذا الطيب فوراً؛ وذلك حتى يذهب ريحه.
لكن الذي يظهر لي أن هذا مما يعفى عنه، فالمحرم لم يبتدئ الطيب، وهذا طيب مأمور به، والمشقة في غسل يده غسلاً تذهب معه الرائحة، لا ترد به الشريعة.
قوله: «وتجرُّدٌ من مخيط» يعني يسن التجرد من المخيط، لمن أراد الإحرام، والتجرد من المخيط يعني خلعه، والمراد بالمخيط ما يلبس عادة، كالقميص والسراويل، والمقصود أن يكون تجرده في إزار ورداء أبيضين، وإلا فتجرده من المخيط واجب والمؤلف تبع غيره في العبارة، ولو قال: «تجرده من ملبوس محظور» لكان أولى.
ويشترط في هذا التجرد ألا يستلزم كشف العورة أمام الناس، فإن استلزم ذلك كان حراماً، ولكن ماذا يصنع؟
نقول: البس الإزار أولاً، ثم اربطه على نفسك، ثم اخلع القميص، ثم البس الرداء؛ لأنه لو تجرد من المخيط الذي هو القميص قبل أن يتزر، انكشفت عورته.
قوله: «في إزار ورداء أبيضين» ، أي: يكون لبسه في حال الإحرام إزاراً ورداء أبيضين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» (1) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء» ، يشمل الإزار المخيط الذي خيط بعضه ببعض، والإزار المطلق الذي يلف على البدن لفاً، كلاهما جائز، وعلى هذا فلو خاط المحرم الإزار فهو جائز، ولو التف به التفافاً فهو جائز، ولو وضع فيه جيباً للنفقة وغيرها فهو جائز، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقيد وإذا لم يقيد فما سمي إزاراً فهو إزار.
وقوله: «أبيضين» لأنها خير الثياب، وهل يسن أن يكونا جديدين أو يشترط؟
الجواب: لا يشترط، لكن كلما كانت أنظف فهو أحسن؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما سألوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال: «إن الله
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/34)، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وقال الحافظ في «التلخيص (998): رواه ابن المنذر في الأوسط وأبو عوانة في صحيحه بسند على شرط الصحيح.
جميل يحب الجمال» (1) . وهذه السنة سنة لجميع الرجال، وإنما كانت على هذا الوجه من أجل اتفاق الناس على هذا اللباس، حتى لا يفخر أحد على أحد؛ لأنه لو أطلق العنان للناس لتفاخروا، وصار هذا يلبس ثوباً جميلاً جداً، وهذا ثوباً رديئاً، واختلف الناس، ولم تظهر الوحدة الإسلامية، وصار بعض الناس إذا رأى الذي يفوق ثيابه اشتغل قلبه، وقال: كيف؟ هذا عليه كذا وأنا علي كذا!! ثم ربما ذهب يستدين، ليلبس مثل ما يلبس الغير، ولهذا كان من الحكمة أن يكون الناس في لباس الإحرام على حد سواء، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يغالي في ثياب الإحرام، بل يكون من جنس الناس.
قوله: «وإحرام عقب ركعتين» الواو حرف عطف، و «إحرام» معطوف على «غسل» ، أي: وسن لمريد الإحرام، إحرام عقب ركعتين.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أهل دبر الصلاة» (2) ، و «أهل» بمعنى أحرم فيسن أن يصلي ركعتين ليحرم بعدهما، ولكن الدليل الذي استدل به الأصحاب ـ رحمهم الله ـ لا يتعين أن تكون هذه الصلاة خاصة بالإحرام، ولا صلاة مسنونة؛ بل أهل دبر صلاة مفروضة، ولا نعلم هل النبي صلّى الله عليه وسلّم قصد أن يكون إهلاله بعد الصلاة؟ أو أهل؛ لأنه لما صلى ركب، فأهل عند ركوبه؟ فيه احتمال.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب تحريم الكبر (91) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سيأتي تخريجه ص(102).
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أن ركعتي الإحرام لا أصل لمشروعيتهما، وأنه ليس للإحرام صلاة تخصه لكن إن كان في الضحى، فيمكن أن يصلي صلاة الضحى ويحرم بعدها، وإن كان في وقت الظهر، نقول: الأفضل أن تمسك حتى تصلي الظهر، ثم تحرم بعد الصلاة، وكذلك صلاة العصر.
وأما صلاة مستحبة بعينها للإحرام، فهذا لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو الصحيح.
مسألة: إذا توضأ ثم صلى ركعتين سنة الوضوء، فهل سنة الوضوء مشروعة؟
الجواب: نعم مشروعة، وعلى هذا فنقول: أنت إذا اغتسلت وتوضأت فصلِّ ركعتين سنة الوضوء، ولكن يبقى النظر إذا كان ليس من عادته في غير هذا المكان أن يصلي ركعتي الوضوء، فأراد أن يصلي هنا، أليس سوف يشعر في نفسه أن هذه الصلاة من أجل الإحرام؟ أو على الأقل من أجل الاشتراك بين الإحرام والوضوء؟
الجواب: هذا هو الظاهر، ولذلك نقول: إذا كان سيبقى الإنسان في الميقات حتى يأتي وقت الفريضة، فالأفضل أن يهل بعد الفريضة.
وَنِيته شَرْطٌ................
قوله: «ونيته شرط» أي: نية النسك، أي: نية الدخول في النسك شرط، فلا بد أن ينوي الدخول في النسك، فلو لبى بدون نية الدخول، فإنه لا يكون محرماً بمجرد التلبية، ولو لبس ثياب الإحرام بدون نية الدخول، فإنه لا يكون محرماً بلبس ثياب
الإحرام، فإن التلبية تكون للحاج وغيره، ولبس الإزار والرداء يكون للمحرم وغيره.
ودليل اشتراط النية قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، والتلبية قد تكون في غير الحج، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رأى ما يعجبه من الدنيا قال: «لبيك إن العيش عيش الآخرة» (2) ، فإذا رأيتم ما يعجبكم من الدنيا من قصور، أو سيارات، أو بنين، أو زوجات، أو غيرها فقولوا: «لبيك إن العيش عيش الآخرة» ، انظر: كيف صد الإنسان نفسه بقول: لبيك، إجابة لله ـ عزّ وجل ـ حتى لا تذهب نفسه مع الدنيا، ثم قال: «إن العيش عيش الآخرة» يعني أن هذا العيش الذي أمامي ليس بشيء.
مسألة: هل يجب أن ينوي معيناً من عمرة أو حج أو قران؟
الجواب: له أن يحرم إحراماً مطلقاً، بأن ينوي نية مطلقة وله أن يحرم بما أحرم به فلان، وهذا يقع أحياناً، يكون الإنسان جاهلاً ولا يدري بماذا يحرم؟ فيقول لبيك بما لبَّى به فلان، وحينئذٍ يتعين عليه أن يسأل فلاناً قبل أن يطوف حتى يعين النية قبل الطواف.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1)؛ ومسلم في الإمارة/ باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: إنما الأعمال بالنية (1907) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (4/107) عن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ وأخرجه الحاكم (1/465)؛ والبيهقي (7/48) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وَيُستَحَبُّ قَولُ: اللَّهُمَّ إِني أُريدُ نُسُك كَذَا فَيَسّرهُ لِي، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِس فَمَحِلِّي حَيثُ حَبَستَنِي.
قوله: «ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي» الاستحباب يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، ولم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يحرم بالحج أو العمرة يقول: اللهم إني أريد العمرة، أو اللهم إني أريد الحج، ومعلوم أن العبادات مبناها على الاتباع وعلى الوارد، فإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم اعتمر أربع مرات، وحج مرة، ولم يكن يقول هذا، ولا أرشد إليه فإنه ينبغي ألا يكون مستحباً.
ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة أن النطق بهذا القول كالنطق بقوله: اللهم إني أريد أن أصلي فيسر لي الصلاة، أو أن أتوضأ فيسر لي الوضوء، وهذا بدعة، فكذلك في النسك لا تقل هذا، قل ما أرشد إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين استفتته ضباعة بنت الزبير ـ رضي الله عنها ـ أنها تريد الحج، وهي شاكية قال: «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» (1) ولم يقل: قولي اللهم إني أريد نسك كذا وكذا.
قوله: «وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني» ، أي: إن منعني مانع من إتمام نسكي فإني أحل من إحرامي، حيث وجد المانع، وظاهر كلام المؤلف أن هذا القول عام يشمل من كان خائفاً، ومن لم يكن خائفاً، أي: يشمل من كان يخشى من عائق يعوقه عن إتمام نسكه من مرض، أو ضياع نفقة، أو انكسار
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز اشتراط المحرم التحليل بعذر المرض (1207) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
مركوب، أو خوف على نفسه، أو ما أشبه ذلك، ومن لم يخف ذلك، هذا كلام المؤلف؛ لأنه لم يفصل، فلم يقل: يقول: إن حبسني حابس إن خاف أن يحبسه حابس، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:
القول الأول: أنه سنة مطلقاً (1) ، أي: يستحب أن يقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني على كل حال.
القول الثاني: ليس بسنة مطلقاً.
القول الثالث: أنه سنة لمن كان يخاف المانع من إتمام النسك، غير سنة لمن لم يخف، وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي تجتمع به الأدلة، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أحرم بعمره كلها، حتى في الحديبية أحرم، ولم يقل: إن حبسني حابس، وحبس، وكذلك في عمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، وحجة الوداع، ولم ينقل عنه أنه قال: وإن حبسني حابس، ولا أمر به أصحابه أمراً مطلقاً، بل أمر به من جاءت تستفتي؛ لأنها مريضة تخشى أن يشتد بها المرض فلا تكمل النسك، فمن خاف من مانع يمنعه من إتمام النسك، قلنا له: اشترط استرشاداً بأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن لم يخف قلنا له: السنة ألا تشترط، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
فإن قال قائل: الحوادث الآن كثيرة، فكثيراً ما يحدث اصطدام وكثيراً ما يحصل زحام يموت به الإنسان، أفلا يكون هذا مما يقتضي مشروعية هذا الشرط؟
__________
(1) وهو المذهب.
قلنا: لا؛ لأنك لو أحصيت الحجيج، وأحصيت الحوادث التي تحدث لوجدت النسبة قليلة جداً، وليست بشيء بالنسبة لكثرة السيارات والناس، وفي عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم حصلت حوادث، ففي عرفة وقصت ناقة صاحبها فسقط منها فمات (1) ، وهذا حادث ناقة، يشبه حادث السيارة، فالحوادث موجودة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومع هذا، لم يأمر أصحابه أن يشترطوا أمراً عاماً.
فإن قال قائل: ما فائدة هذا الاشتراط؟
قلنا: قال بعض العلماء: إنه لا فائدة منه، وإنما هو لفظ يتعبد به فقط، وهذا القول لا شك أنه ضعيف جداً.
والصواب أن له فائدة، وفائدته أنه إذا وجد المانع حل من إحرامه مجاناً، ومعنى قولنا: «مجاناً» أي بلا هدي؛ لأن من أحصر عن إتمام النسك فإنه يلزمه هدي؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، فإذا كان قد اشترط ووجد ما يمنعه من إتمام النسك، قلنا له: حلَّ بلا شيء، مجاناً.
ولو لم يشترط لم يحل إلا إذا أحصر بعدو على رأي كثير من العلماء، فإن حصر بمرض، أو حادث، أو ذهاب نفقة، أو ما أشبه ذلك فإنه يبقى محرماً ولا يحل، لكن إن فاته الوقوف فله أن يتحلل بعمرة، ثم يحج من العام القادم.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب سنة المحرم إذا مات (1851)؛ ومسلم في الحج/ باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (1206) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وهنا عبارتان:
العبارة الأولى: أن يقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، «محلي» أي: مكان إحلالي من النسك، أو قت إحلالي منه.
العبارة الثانية: أن يقول: إن حبسني حابس فلي أن أحل.
والفرق بينهما: إذا قال: فمحلي حيث حبستني، حل بمجرد وجود المانع؛ لأنه علق الحل على شرط فوجد الشرط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، وأما إذا قال: إن حبسني حابس فلي أن أحل، فإنه إذا وجد المانع فهو بالخيار إن شاء أحل، وإن شاء استمر.
فإن قيل: وهل من الخوف أن تخاف الحامل من النفاس، أو الطاهر من الحيض؟
فالجواب: نعم ولا شك؛ لأن المرأة إذا نفست لا تستطيع أن تؤدي النسك، ثم إن مدة النفاس تطول غالباً، والحائض كذلك، إذا كان أهلها أو رفقتها لا يبقون معها حتى تطهر، فإنها إذا كانت تتوقع حصول الحيض تشترط.
مسألة: امرأة لم يطرأ الحيض على بالها، لكن معها كسل أو مرض، وتخشى ألا تتم النسك من أجل هذا المرض، فقالت: إن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني، تريد المرض، لكن المرض خف عنها أو زال، وحدث الحيض، فهل نقول: إن مقتضى حالها يخصص النية؟ أو نقول: إن العموم يشمل الحيض؟
الجواب: يحتمل الأمرين، لكن من قال يؤخذ بالعموم
«حبسني حابس» قال بأنها نكرة في سياق الشرط فتعم، وهذا من الحوابس، فقد يكون في قلبها في تلك الساعة المرض، ويحصل حابس آخر كالحيض، والخوف، وفقدان النفقة، وموت المحرم، وما أشبه ذلك، والأخذ بالعموم أرجو ألا يكون به بأس، وإلا فإن الحال قد تخصص العموم.
فإن قال قائل: إذا اشترط شخص بدون احتمال المانع ـ على القول بأنه لا يسن الاشتراط إلا إذا كان يخشى المانع ـ، فهل ينفعه هذا الاشتراط؟
فالجواب: على قولين:
القول الأول: ينفعه؛ لأن هذا وإن ورد على سبب، فالعبرة بعمومه.
القول الثاني: لا ينفعه؛ لأنه اشتراط غير مشروع، وغير المشروع غير متبوع فلا ينفع، وهذا عندي أقرب؛ لأننا إذا قلنا: بأنه لا يستحب الاشتراط فإنه لا يكون مشروعاً، وغير المشروع غير متبوع، ولا يترتب عليه شيء، وإذا قلنا: إنه يترتب عليه حكم وهو غير مشروع، صار في هذا نوع من المضادة للأحكام الشرعية.
مسألة: لو أن رجلاً دخل في الإحرام، وقال: لبيك اللهم عمرة، ولي أن أحل متى شئت، فهل يصح هذا الشرط؟
الجواب: لا يصح؛ لأنه ينافي مقتضى الإحرام، ومقتضى الإحرام وجوب المضي، وأنك غير مخير، فلست أنت الذي ترتب أحكام الشرع، المرتب لأحكام الشرع هو الله ـ عزّ وجل ـ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَفْضَلُ الأنسَاكِ التَّمَتُّعُ ..................
قوله: «وأفضل الأنساك التمتع» (1) .
أفادنا ـ رحمه الله ـ أن هناك أنساكاً متعددة؛ لأن «الأنساك» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، فهنا أنساك ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران؛ وذلك أن الإنسان إما أن يحرم بالعمرة وحدها، أو بالحج وحده، أو بهما، لا رابع لها، وهذا وجه انحصار الأنساك في هذه الثلاثة، فإن أحرم بالعمرة وحدها فمتمتع، ولكن بالشروط التي ستُذكر، وبالحج وحده فهو مفرد، وبهما جميعاً فهو قارن، ويدل على تنوع الأنساك إلى هذه الأنواع حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «حججنا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم فمنا من أهلَّ بحج، ومنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهلَّ بحجة وعمرة، وأهلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحج» (2) ، وقولها: «بالحج» يحمل على أنه بالحج من حيث الأفعال، لا من حيث الأحكام، لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان قارناً.
وقيل: أحرم بالحج أولاً، ثم أردفه بالعمرة، وسنذكر هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ في صفة القران.
وقوله: «وأفضل الأنساك التمتع» الدليل على هذا:
أولاً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أمر أصحابه حين فرغوا من الطواف والسعي أن يحلوا، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي» ، وكان من ساق الهدي في تلك الحجة قلة، وقد حتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه حيث قال حين أكمل السعي: «من لم يسق الهدي
__________
(1) وهو المذهب.
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب التمتع (1562)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (118).
فليجعلها عمرة» ، وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولأحللت معكم» (1) ، وراجعه الصحابة في ذلك، وقالوا: يا رسول الله كيف نجعلها عمرة، وقد سمينا الحج ـ أي: لبينا بالحج ـ قال: «افعلوا ما آمركم به» (2) ، حتى أوردوا عليه مسألة يُستحيا منها، ولكن حملهم ما في نفوسهم على إيرادها، قالوا: يا رسول الله نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً (3) ـ أي: من جماع أهله؛ لأنهم سيحلون الحل كله ـ ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبى إلا أن يحتم عليهم أن يجعلوها عمرة، فجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فإنه لا يمكن أن يتمتع؛ لأن من ساق الهدي لا يحل إلا يوم العيد، وحينئذٍ يتعذر التمتع.
ثانياً: لأنه ـ أي: التمتع ـ أكثر عملاً.
ثالثاً: لأنه أسهل على المكلف غالباً.
وقوله: «أفضل الأنساك التمتع»، أفادنا ـ رحمه الله ـ أنه يجوز ما سوى التمتع، وأن التمتع ليس بواجب، وهذا رأي جمهور أهل العلم.
وذهب بعض العلماء إلى أن التمتع واجب، وأن الإنسان إذا
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1216) (143) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) أخرجه البخاري في الحج/ باب تقضي الحائض المناسك (1651)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1216)، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
طاف وسعى للحج في أشهره، إذا لم يسق الهدي فإنه يحل شاء أم أبى، وهذا رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
واستدل ـ رضي الله عنه ـ: بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتحتيمه على الناس، وغضبه لما تراخوا وصاروا يراجعونه (1) ، وإلى هذا يميل ابن القيم ـ رحمه الله ـ في زاد المعاد، وذكر رأي شيخه ـ رحمه الله ـ وقال: وأنا إلى قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أميل مني إلى قول شيخنا، وكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يناظر على هذه المسألة، حتى يقول: «أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء» (2) ، لأن أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ يريان أن الإفراد أفضل من التمتع.
واختار شيخ الإسلام في قصة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم الصحابة أن يجعلوها عمرة، وغضبه، وتحتيمه، أن هذا الوجوب خاص بالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وأما من بعدهم فتختلف الحال بحسب حال الإنسان، فلا نقول: التمتع أفضل مطلقاً، ولا الإفراد، ولا القران، واستدل بدليل سمعي، ونظري:
أما السمعي فهو أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ «سُئل عن المتعة، هل هي عامة أو للصحابة خاصة؟ قال: بل لنا خاصة» (3) ،
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (130) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه ـ بنحوه ـ الإمام أحمد (1/337).
(3) أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز التمتع (1224).
ويحمل كلامه ـ رضي الله عنه ـ على أن الوجوب لهم خاصة، وإلا فلا يمكن أن يقول أبو ذر: لنا خاصة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم سأله سراقة بن مالك بن جعشم ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: «بل لأبد الأبد» (1) . فخصوصية الحكم للصحابة، إذا كان مقصده الوجوب فله وجه، أما إذا كان المراد فسخ الحج مطلقاً فالحديث يدل على أنه مشروع لجميع الناس.
أما الدليل النظري فيقال: إن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ خوطبوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، ولو لم ينفذه الصحابة كان هذا عظيماً، فيقال: إذا كان الصحابة رفضوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مباشرة فمن بعدهم من باب أولى.
ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يقرر هذا الحكم، والتقرير بالفعل أقوى من التقرير بالقول، فإذا تقرر بالفعل بقي الأمر على ما بقي عليه أولاً وهو أنه هو الأفضل، أو يختلف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ باختلاف حال الإنسان.
وما قاله ـ رحمه الله ـ وجيه جداً، وهو أن وجوب الفسخ إنما هو في ذلك العام الذي واجههم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأما بعد ذلك فليس بواجب، وأظنه لو كان واجباً لم يخف على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وهما من هما بالنسبة لقربهما من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولفهمهما قوله، ومعلوم أن من كان أقرب إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب من أهلَّ في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كإهلال النبي صلّى الله عليه وسلّم (1557)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1216)، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
الإنسان كان أعرف الناس بقوله ومراده، فالصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من حيث وجوب التمتع وعدمه، وأنه واجب على الصحابة. وأما من بعدهم فهو أفضل وليس بواجب.
والمذهب أن التمتع هو الأفضل مطلقاً، حتى من ساق الهدي، فالتمتع في حقه أولى.
لكن كيف يعمل، وهو لا يحل له أن يحلق إلا في يوم العيد لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ؟ قالوا: إذا طاف وسعى لا يحلق، بل ينوي أن العمرة انتهت، لكن لا يحل بالحلق، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج، وهذا لا شك أنه قول ضعيف جداً، ولم أر السنة أتت بمثله.
فالصواب أن من ساق الهدي لا يمكنه أن يتمتع؛ لأنه لا يمكنه أن يحل، والتمتع لا بد فيه من الحل.
وقال شيخ الإسلام: لا نقول إن التمتع أفضل مطلقاً، ولا القران أفضل مطلقاً، ولا الإفراد أفضل مطلقاً، فيقال: من ساق الهدي فالأفضل له القران؛ وذلك لثلاثة أوجه:
الأول: لأن التمتع في حقه متعذر، فكيف يتمتع وهو لم يحل، والذي ساق الهدي لا يحل إلا في يوم العيد فمتى يتمتع؟
الثاني: لأن القران مع سوق الهدي فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالقران إذاً أفضل.
الثالث: أنه يجمع بين الحج والعمرة، مع أنه لو أفرد وقد ساق الهدي صح، فصار القران لمن ساق الهدي أفضل لهذه الأوجه الثلاثة.
ويقول الشيخ: فإذا كان قد اعتمر قبل أشهر الحج، ولم يسق الهدي فالأفضل له الإفراد، سواء اعتمر قبل أشهر الحج، وبقي في مكة حتى حج، أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده، ثم عاد إلى مكة، حتى إنه قال: إن هذا باتفاق الأئمة، أي: أن الأفضل الإفراد؛ لأنه يحرم بالعمرة في سفرة مستقلة، وبالحج في سفرة مستقلة، وهذه المسألة لها صورتان:
الصورة الأولى: أتى بالعمرة قبل أشهر الحج، وبقي في مكة حتى حج، فهذا لا شك أن إفراده أفضل له؛ لأنه لا يمكن له التمتع؛ لأن المتمتع لا بد أن يأتي بالعمرة من الميقات، وهو في مكة ليس له عمرة من الميقات، فهذه الصورة واضحة من كلام شيخ الإسلام، وربما يكون قوله فيها صواباً.
الصورة الثانية: أن يعتمر قبل أشهر الحج، ثم يرجع إلى بلده ثم يعود إلى مكة، فيقول: الأفضل ألا يحرم بعمرة، فيحرم مفرداً، ويقول: إن هذا باتفاق الأئمة، فإن صح الإجماع فليس لنا أن نخالفه، وإن لم يصح الإجماع، فإنه يقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه في حجة الوداع أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي (1) ، ولم يقل من اعتمر منكم قبل أشهر الحج فليبق على إحرامه، مع أنه فيما يظهر أنه يوجد من الصحابة من اعتمر قبل أشهر الحج، فلذلك هذه المسألة مشكلة عليّ من كلام شيخ الإسلام، وليس المشكل عليّ أنه ذهب إليها؛ لأنه ـ رحمه الله ـ معروف بقوة استدلاله وفهمه وعقله، ولكن المشكل عليّ قوله:
__________
(1) كما في حديث جابر الطويل ص(76).
باتفاق الأئمة، ثم رأيت كلاماً للشيخ في «مجموع الفتاوى» يوافق ما قلنا من أن الأفضل التمتع حتى لمن اعتمر في سفر سابق من العام، وقال: إن كثيراً من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك ومع هذا، فأمرهم بالتمتع ولم يأمرهم بالإفراد (1) .
وَصِفَتُهُ: أنْ يُحْرِمَ بِالعُمْرَةِ فِي أشْهُرِ الحَجِّ، وَيَفْرغ مِنْهَا ثُمَّ يُحْرِمَ بالحَجِّ فِي عَامِهِ.
قوله: «وصفته» أي: صفة التمتع.
قوله: «أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه» ، أفادنا المؤلف أنه لا يكون الحج تمتعاً إلا إذا جمع هذه الأوصاف:
الوصف الأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة وذو الحجة، فمن أحرم بالعمرة في رمضان وأتمها في شوال لم يكن متمتعاً؛ لأنه لم يحرم بها في أشهر الحج، ومن أحرم بها في شوال كان متمتعاً؛ لأنه أحرم بها في أشهر الحج، ومن أحرم بها في رمضان وأتمها في رمضان وبقي إلى الحج فليس بمتمتع، إذاً هذه ثلاثة صور:
الأولى: أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، وأتمها في أشهر الحج.
الثانية: أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، وأتمها قبل أشهر الحج.
__________
(1) انظر: (26/88).
الثالثة: أحرم بالعمرة في أشهر الحج وأتمها في أشهر الحج.
فالأول والثاني لا يكونان متمتعين.
الوصف الثاني: أن يفرغ من العمرة بالطواف والسعي والتقصير، وهنا التقصير أفضل من الحلق لسببين:
الأول: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر به في قوله: «من لم يسق الهدي فليقصر» (1) .
الثاني: من أجل أن يبقى للحج ما يُحلق أو يقصر، ولو أنه حلق، والمدة قصيرة لم يتوفر الشعر للحج.
الوصف الثالث: أن يحرم بالحج في عامه، أي: بعد الفراغ منها والإحلال والتمتع بما أحل الله له، يحرم بالحج في عامه، فإن أتى بالعمرة في أشهر الحج عام ثلاثة عشر، وحج عام أربعة عشر فليس بمتمتع؛ لأنه لا بد أن يحرم بالحج في عامه.
مسألة: لو أنه أحرم بالعمرة في أشهر الحج وليس من نيته أن يحج ثم بدا له بَعْدُ أن يحج، أيكون متمتعاً؟
الجواب: لا؛ لأن الرجل ليس عنده نية للحج.
والقران له ثلاث صور:
الأولى: أن يحرم بالحج والعمرة معاً، فيقول: لبيك عمرة وحجاً، أو لبيك حجاً وعمرة، وقالوا: الأفضل أن يقدم العمرة
__________
(1) سبق تخريجه ص(76).
في التلبية فيقول: «لبيك عمرة وحجاً» ؛ لأن تلبية النبي صلّى الله عليه وسلّم هكذا (1) ولأنها سابقة على الحج.
الثانية: أن يحرم بالعمرة وحدها، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في الطواف.
الثالثة: أن يحرم بالحج أولاً، ثم يدخل العمرة عليه، وهذه الصورة فيها خلاف بين العلماء سنذكره إن شاء الله.
ودليل الصورة الأولى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه جبريل ـ عليه السلام ـ وقال: «صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة، أو قال: عمرة وحجة» (2) . وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي، لكن أصرح منه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقالت: فمنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهل بحج، ومنا من أهلَّ بحج وعمرة (3) .
ودليل الصورة الثانية ما حدث لعائشة ـ رضي الله عنها ـ حين أحرمت بالعمرة وحاضت بسرف فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تهل بالحج (4) ، وأمره بإهلالها بالحج ليس إبطالاً للعمرة بدليل قوله: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة، يسعك لعمرتك وحجك» (5) ، وهذا دليل على أنها لم تُبْطل العمرة؛ لأنها لو أبطلت العمرة
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب إهلال النبي صلّى الله عليه وسلّم وهديه (1251) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «العقيق واد مبارك» (1534)، عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.
(3) - (4) أخرجه البخاري في الحيض/ باب الأمر بالنفساء إذا نفست (294)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (112).
(5) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (132).
لقال: «طوافك بالبيت وسعيك بالصَّفا والمروة يسعك لحجك فقط».
وإذا تأملت الدليل، فقد تقول إنه غير مسلم؛ لأنه أخص من المدلول، ولا يصح الاستدلال بالأخص على الأعم، والعكس صحيح؛ لأن الدليل الآن إنما وقع في حال تشبه الضرورة؛ لأن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما حاضت لا يمكن أن تكمل العمرة، وهي حائض.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تطهر قبل الخروج إلى منى؛ لأنهم وصلوا في اليوم الرابع؟
فالجواب: بلى يمكن، لكن الأمور الشرعية مبناها على غلبة الظن، وهي عارفة أنها تأتيها الحيضة مثلاً لمدة ستة أيام، ولا تتمكن من العمرة قبل الخروج إلى الحج.
إذاً الحديث في حال الضرورة، فهل نستدل به على حال السعة، ونقول: للإنسان إذا أحرم بالعمرة أن يدخل الحج عليها ليكون قارناً؟
الجواب: الفقهاء يقولون يجوز، لكن في النفس من هذا شيء؛ لأننا نقول إذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر من أحرم بالحج ولم يسق الهدي أن يجعله عمرة (1) .
فكيف نجعل العمرة حجاً، وهل هذا إلا خلاف ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟
__________
(1) سبق تخريجه ص(76).
لأنك إذا جعلت العمرة حجاً فماذا ستصنع؟
الجواب: ستبقى في إحرامك إلى يوم العيد.
فالدليل هنا أخص من المدلول؛ لأن المدلول الذي حكمنا به عام في حال العذر، وفي حال عدم العذر، والدليل خاص بحال الضرورة والعذر، لكن قد نقل بعضهم الإجماع على جواز إدخال الحج على العمرة، وأنه من صور القِران.
وأما الصورة الثالثة: أن يحرم بالحج أولاً ثم يدخل العمرة عليه.
فالمشهور عند الحنابلة ـ رحمهم الله ـ أن هذا لا يجوز، لأنه لا يصح إدخال الأصغر على الأكبر، فيبقى على إحرامه إلى يوم العيد، وهذا القول الأول.
أما من حول الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً فهذا سنة كما سبق.
والقول الثاني: الجواز لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أهلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحج (1) ثم جاءه جبريل عليه السلام، وقال: «صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة، أو عمرة وحجة» (2) ، فأمره أن يدخل العمرة على الحج، وهذا يدل على جواز إدخال العمرة على الحج.
والقول بأنه لا يصح إدخال الأصغر على الأكبر مجرد قياس فيه نظر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم
__________
(1) سبق تخريجه ص(75).
(2) سبق تخريجه ص(84).
القيامة» (1) ، وسمى العمرة حجاً أصغر (2) ، فلا مانع ولا تناقض وهذا القول دليله قوي.
فإن قالوا: إنه لا يستفيد بذلك شيئاً؟
قلنا: بلى يستفيد، لأنه بدل من أن يأتي بنسك واحد أتى بنسكين.
والإفراد: أن يحرم بالحج مفرداً، فيقول: «لبيك حجاً».
وله صورة واحدة فقط، كالتمتع ليس له إلا صورة واحدة.
فإن قيل: أيهما أفضل الإفراد أو القران؟
فالجواب: أن من ساق الهدي، فلا شك أن القران أفضل له، وكذا إن لم يسق الهدي فالقران أفضل؛ لأنه يأتي بنسكين بخلاف الإفراد، وعلى هذا يكون القران أفضل من الإفراد مطلقاً.
مسألة: هل الأفضل أن يسوق الإنسان الهدي ليقرن أو يدعه ويتمتع؟
الجواب: هذه مسألة تحتاج إلى نظر، إن كانت السنة ـ أعني سَوق الهدي ـ قد ماتت والناس لا يعرفونها، فسوق الهدي مع القران أفضل لإحياء السنة، وإن كانت السنة معلومة لكن يشق على الناس أن يسوقوا الهدي؛ لأنهم يحجون بالطائرات والسيارات فترك سوق الهدي والتمتع أفضل.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز العمرة في أشهر الحج (1241) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه الدارقطني (2/285)؛ وابن حبان (6559) والحاكم (1/395)؛ والبيهقي (4/89) عن عمرو بن حزم وصححه الشافعي وأحمد وابن حبان، وغيرهم، انظر: نصب الراية (2/341).
وهل يشترط في الإفراد أن يحرم بالعمرة بعده؟
الجواب: ليس بشرط فإذا أتى بالحج وحده فمفرد، سواء اعتمر بعد ذلك، أم لم يعتمر، وما يوجد في بعض كتب المناسك أن يحرم بالحج مفرداً، ثم يأتي بعمرة بعده، فهو بناءٌ على مشروعية العمرة بعد الحج، ولأناس لا يستطيعون أن يصلوا إلى البيت فيأتوا بالعمرة بعد الحج لأداء الفريضة، والعمرة بعد الحج غير مشروعة، كما سيأتي.
تنبيه: عمل المفرد والقارن سواء إلا أن القارن عليه الهدي لحصول النسكين له دون المفرد.
وَعَلَى الأُفُقِيِّ دَمٌ ............
قوله: «وعلى الأفقي دم» ، «على» هنا للوجوب، والأفقي نسبة إلى الأفق، ويقال: الآفاقي نسبة إلى الآفاق، والأرجح لغةً أن يقال الأفقي نسبة إلى المفرد؛ لأن هذا هو الأصل في النسبة.
والأفقي: من لم يكن حاضر المسجد الحرام.
ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، أهله أي سكنه؛ لأن السكن يتأهل فيه الإنسان، وحينئذٍ نقول: مَن حاضرو المسجد الحرام؟
الجواب: قيل: من دون المواقيت، وعلى هذا فيختلف الناس في ذلك اختلافاً كبيراً، فالذين على طريق المدينة قد يكون بينهم وبين مكة سبعة أيام أو ثمانية، وهم من حاضري المسجد الحرام.
والذين وراء قرن المنازل ليس بينهم وبين مكة إلا يومان وليسوا من حاضري المسجد الحرام وهذا القول فيه نظر وضعف.
وقيل: هم أهل مكة فقط؛ لأن حاضر الشيء المقيم فيه، ومن كان خارج مكة فليس من حاضري المسجد الحرام، وعلى هذا من سكن بعرفة مثلاً فليس من حاضري المسجد الحرام، ومن سكنه في مزدلفة فليس من حاضري المسجد الحرام، لأنه ليس من أهل مكة، فأهل مكة من كان داخل البناء.
وقيل: هم أهل الحرم، من أهل مكة وغيرهم، وعلى هذا فكل من كان داخل الأميال فهم من حاضري المسجد الحرام.
فأهل منى من حاضري المسجد الحرام، وأهل عرفة ليسوا من حاضري المسجد الحرام.
وقيل: هم أهل الحرم، ومن بينهم وبينه دون مسافة القصر؛ لأن من دون المسافة يعتبر من أهل البلد.
وأقرب الأقوال أن نقول: إن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة، أو أهل الحرم، أي: من كان من أهل مكة ولو كان في الحل، أو من كان في الحرم ولو كان خارج مكة.
فالتنعيم متصل بمكة الآن تماماً، بل يوجد بيوت من وراء التنعيم، فأصبح التنعيم داخل مكة مع أنه من الحل، وهنا يمكن أن يلغز بذلك فيقال: هناك شجر في مكة أنبته الله يجوز أن تحشه، وهناك صيد في مكة يجوز أن تصيده.
وجوابه: أن مكة امتدت الآن إلى خارج الحرم، فالصيد
والحش فيما خرج عن الحرم جائز، وإن كان المكان من مكة.
وقوله: «دم» الدم هنا يطلق على الذبيحة؛ لأنه يراق دمها، ولو أن المؤلف قال: هدي لكان أجود؛ ليطابق الآية، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
شروط الهدي ما يلي:
الأول: أن يكون من بهيمة الأنعام، فلو أهدى فرساً لم يجزئه.
الثاني: أن يبلغ السن المعتبر شرعاً، وهو أن يكون ثنيًّا، أو جذعاً، فالجذع من الضأن، والثني مما سواه من المعز، والبقر، والإبل.
دليل ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة (أي: ثنية) إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (1) .
فأجاز الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذبح الجذعة من الضأن إذا تعسرت المسنة، ولو كانت لا تجزئ لم يستثنها.
فإن قال قائل: إنه يجزئ الصغير ولو لم يكن له إلا شهر واحد لأن الله قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، فإذا لم يتسير إلا شيء صغير فإنه يجزئ، فماذا نقول؟!
الجواب: إن الله قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وأل للعهد الذهني، أي: الهدي الشرعي أي الذي بلغ السن المعتبر شرعاً.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأضاحي/ باب سن الأضحية (1963).
الثالث: أن يكون الهدي سليماً من العيوب المانعة من الإجزاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل: ماذا يُتقى من الضحايا؟ فقال: «أربعاً ـ وأشار بأصابعه ـ: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي» (1) .
لكن لو قال قائل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل: ماذا يُتقى من الضحايا ولم يسأل عن الهدي؟.
فنقول: إن التخصيص هنا تخصيص زماني ومكاني؛ لأنهم سألوه في المدينة، والمدينة لا هدي فيها، فلما أمرنا أن نتقي هذه الأشياء، علم أن المصاب بهذه الأمراض لا يصلح أن يكون قربة.
الرابع: أن يكون في زمن الذبح، وفي هذا خلاف بين العلماء نذكره فيما يلي:
القول الأول: أنه لا يذبح دم المتعة إلا في الوقت الذي تذبح فيه الأضاحي، وهو يوم العيد، وثلاثة أيام بعد العيد.
القول الثاني: يجوز تقديم الذبح بعد الإحرام بالعمرة، فيذبح الهدي ولو قبل الخروج إلى منى للحج؛ لأن الصيام لمن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/184، 289، 300)؛ وأبو داود في الضحايا/ باب ما يكره من الضحايا (2802)؛ والنسائي في الضحايا/ باب ما نهي عنه من الأضاحي (7/214)؛ والترمذي في النذور والأيمان/ باب ما جاء في ثواب... (1541)؛ وابن ماجه في الأضاحي/ باب ما يكره أن يضحى به (3144)؛ وابن خزيمة (292)؛ وابن حبان (5889) إحسان؛ والحاكم (1/467) عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ، قال الترمذي: «حسن صحيح»، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
لم يجد الهدي يجوز أن يكون قبل الخروج إلى الحج مع أنه بدل، فإذا جاز في البدل فالأصل من باب أولى، وهذا هو المشهور عند الشافعية.
والصحيح أنه يشترط الزمان، وأن هدي التمتع لا بد أن يكون في أيام الذبح يوم العيد، وثلاثة أيام بعده.
والدليل على هذا أنه لو جاز أن يقدم ذبح الهدي على يوم العيد، لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكنه قال: «لا أحل حتى أنحر» (1) ، ولا نحر إلا يوم العيد.
الخامس: أن يكون في مكان الذبح، فهدي التمتع لا يصح إلا في الحرم، فهو من هذه الجهة أضيق من الأضحية، فالأضحية تصح في كل مكان، فلو ذبح هديه في عرفة لم يجزئ ولو دخل به إلى منى، لكن قال الإمام أحمد: مكة ومنى واحد، واستدل بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل فجاج مكة طريق ومنحر» (2) .
وقوله: «وعلى الأفقي دم» ، ظاهر كلام المؤلف أن غير المتمتع لا يلزمه دم؛ لأنه قال في سياق التمتع «وعلى الأفقي دم» فهل هذا مراد أو لا؟
أما المفرد فلا دم عليه، وأما القارن فظاهر
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب التمتع والقران والإفراد (1566)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان أن القارن لا يتحلل بعمرة إلا في وقت تحلل الحاج (1229) عن حفصة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه أحمد (3/326)؛ وأبو داود في المناسك/ باب الصلاة بجمع (1937)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب الذبح (3048)؛ وصححه ابن خزيمة (2787) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ؛ انظر: «نصب الراية» (3/60).
كلامه ـ رحمه الله ـ: أنه لا دم عليه؛ لأن القارن ليس بمتمتع بهذا المعنى الذي قاله المؤلف حيث قال: «التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج» ثم قال: «وعلى الأفقي دم»، وهذا الظاهر من كلام المؤلف هو: ما ذهب إليه داود الظاهري، وقال: إن الله قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فلا بد من تمتع فاصل بين العمرة والحج؛ لأن «إلى» للغاية، والغاية لا بد لها من ابتداء وانتهاء.
وأما القارن فليس بين عمرته وحجه تمتع؛ لأنه سيظل محرماً إلى يوم العيد، وهذا الذي ذهب إليه الظاهري هو ظاهر القرآن {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ولو قال: فمن تمتع بالعمرة مع الحج، لقلنا: إن القارن يدخل في ذلك؛ لأن القارن في الحقيقة تمتع بالعمرة في ترك السفر لها سفراً مستقلاً، لكن لما قال إلى الحج علمنا أن هناك انفصالاً بين العمرة والحج.
ولهذا سأل ابن مشيش الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: قال: أيجب على القارن الهدي وجوباً؟
قال: كيف يجب وجوباً وقد قاسوه على المتمتع؟ كأنه ـ رحمه الله ـ يشير إلى أن وجوب الدم على القارن إنما هو بالقياس، فإذا كان بالقياس فلننظر هل هذا القياس تام، أو ليس بتام؟
لأن القياس التام لا بد أن يشترك فيه الأصل والفرع في العلة الموجبة، والعلة الموجبة للدم في التمتع الذي يكون فيه انفصال بين العمرة والحج، هي أن الله يسر لهذا الناسك تمتعاً
تاماً بين العمرة والحج، والقارن ليس كذلك؛ لأنه سيبقى محرماً من حين أن يحرم إلى يوم العيد، وإذا كان كذلك، فإنه لا يصح القياس.
فظاهر القرآن مع الظاهري أن الدم يجب على المتمع دون المفرد القارن.
ولكن مع هذا نقول: الأحوط للإنسان والأكمل لنسكه أن يهدي؛ لأن من هدي الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ الإهداء التطوعي فكيف بإهداء اختلف العلماء في وجوبه؟! وأكثر العلماء على الوجوب، وهو لا شك أولى وأبرأ للذمة، وأحوط.
فإن كان قد وجب فقد أبرأت ذمتك، وإن لم يكن واجباً فقد تقربت إلى الله به.
ويشترط لوجوب الهدي ألا يسافر بينهما، أي: بين العمرة والحج، ويمكن أن يؤخذ من ظاهر قول المؤلف: «ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج» : أنه لا سفر، وإن كان ليس بذاك الظاهر القوي، فإن أتى بالعمرة ثم سافر مثلاً إلى المدينة، ثم رجع من المدينة محرماً بالحج فقد سافر بينهما، فهل يسقط الدم؟ ظاهر كلام المؤلف أنه يسقط عنه الدم؛ لأنه قال: «يفرغ منها ثم يحرم» فالظاهر التوالي ولم يقل ولو سافر، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن السفر إلى بلد الحاج، أو إلى غيره لا يسقط الهدي، سواء طال السفر أو قصر، فعلى هذا لو أن رجلاً أتى بالعمرة في أشهر الحج، وقد عزم على الحج في العام نفسه،
ثم رجع إلى بلده وبقي إلى أن جاء وقت الحج، ثم عاد محرماً بالحج، فإن الهدي لا يسقط عنه.
وزعم قائل هذا القول أن هذا ظاهر القرآن، وفي كونه ظاهر القرآن مناقشة.
لأن قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] يدل على أنه سافر إلى الحج، ولولا العمرة لم يحصل له التمتع، وهذا يدل على أنه لم يسافر بينهما.
القول الثاني: أن السفر مسافة قصر يسقط الهدي، سواء سافر إلى بلده أو إلى بلد آخر (1) ، وعلى هذا فمن كان من أهل الرياض وأتى بالعمرة في أشهر الحج ناوياً الحج، ثم سافر إلى المدينة وعاد من المدينة محرماً بالحج فإن الهدي يسقط عنه.
القول الثالث: التفصيل: أنه إن سافر إلى أهله ثم عاد فأحرم بالحج، فإنه يسقط عنه الهدي، وإن سافر إلى غير أهله لا يسقط.
مثاله: رجل من أهل الرياض أحرم بالعمرة، وحل منها ثم سافر إلى المدينة، ورجع محرماً بالحج، فلا يسقط عنه الهدي، لكن لو رجع إلى الرياض بلده، ثم عاد منها محرماً بالحج سقط عنه الهدي، وهذا القول هو الراجح.
لأنه أنشأ سفراً جديداً غير سفر العمرة، فإن السفر مفارقة الوطن فيكون مفرداً لا متمتعاً، وهو مروي عن عمر وابنه ـ رضي الله عنهما ـ؛
__________
(1) وهذا هو المذهب.
لأنه إذا رجع إلى بلده، ثم عاد محرماً بالحج فقد أفرد الحج بسفر مستقل فيكون مفرداً، وليس بمتمتع، فإن سافر إلى بلد آخر، فإنه متمتع؛ لأنه لم ينشئ سفراً جديداً، إذ إن سفره إلى البلد الآخر استمرار لسفره الأول، وليس قاطعاً للسفر.
مسألة: إذا أحرم الإنسان بالحج، ووصل إلى مكة فإنه يسن له أن يجعل الحج عمرة ليصير متمتعاً، فلو جعل الحج عمرة ليتخلص بالعمرة منه، فإن ذلك لا يصح؛ لأن ذلك احتيال على إسقاط وجوب الحج عليه.
فإن قال قائل: ما الفرق بين من فسخ الحج ليصير متمتعاً ومن فسخ الحج بالعمرة ليتخلص منه؟.
فالجواب: الفرق ظاهر: من فسخ الحج إلى عمرة ليتخلص بها منه، فهو متحيل على سقوط وجوب المضي في الحج، ومن فسخ الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً، فإنه منتقل من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن المتمتع أفضل من القارن والمفرد، وهذا هو الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أن يفسخوا الحج ويجعلوه عمرة، ليصيروا متمتعين، لا ليتخلصوا بالعمرة من الحج.
مثاله: رجل سافر إلى مكة في أشهر الحج وأحرم به، وكأنه تطاول المدة الباقية على الحج، ففسخ الحج إلى عمرة من أجل أن يطوف ويسعى ويقصر ويرجع إلى بلده.
فهذا لا يجوز؛ لأنه لما شرع في الحج وجب عليه إتمامه، فإذا حوله إلى عمرة ليتخلص منه، صار متحيلاً على إسقاط واجب عليه، وهذا لا يجوز.
مثال آخر: رجل ذهب ليحج وأحرم بالحج في أشهره، ثم قيل له: إن التمتع أفضل، فحول الحج ليصير متمتعاً، فهذا جائز، بل سنة؛ لأنه انتقل من مفضول إلى أفضل، ولم يتحيل على إسقاط واجب، ويدل لهذا أن رجلاً جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس، قال: «صلِّ هاهنا» يعني في مكة؛ ـ لأن مكة أفضل من بيت المقدس ـ فأعاد عليه، قال: «صلِّ هاهنا» ، فأعاد عليه قال: «فشأنك إذن» (1) .
ونظير هذا رجل شرع في صلاة الظهر منفرداً، فحضرت جماعة فحولها إلى نفل ليدخل مع الجماعة، فهذا جائز.
مثال آخر: رجل دخل في صلاة الظهر ولما وصل إلى الركعة الثانية تذكر شيئاً لا يفوت فقال: أقلبها إلى نفل من أجل أن أتخلص به منها، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا تحيل على إسقاط واجب؛ لأنه إذا شرع في الفرض وجب عليه إتمامه، فالذي ينتقل عن شيء إلى آخر تخلصاً من الأول لوجوبه عليه فهذا لا يصح؛ لأن الواجبات لا تسقط بالتحيل عليها، كما أن المحرمات لا تحل بالتحيل عليها.
وأما من انتقل من واجب لتكميل هذا الواجب، فإن ذلك
__________
(1) أخرجه أحمد (3/363)؛ وأبو داود في الأيمان والنذور/ باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس (3305)؛ والحاكم (4/204) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وصححه الحاكم على شرط مسلم، وصححه ابن دقيق العيد. انظر: «التلخيص» (2067).
جائز، ولا بأس به؛ لأنه تحول إلى أفضل.
مسألة: لو أنه تحلل من الحج وجعله عمرة، ليتمتع به إلى الحج، ثم بعد ذلك بدا له ألا يحج فهل نلزمه بالحج؟
عندنا الآن صورتان: الصورة الأولى: رجل أحرم بالعمرة من أول الأمر متمتعاً بها إلى الحج ثم بدا له ألا يحج، فهذا جائز ولا إشكال فيه؛ لأنه أحرم بالعمرة ناوياً الحج ولكن بدا له ألا يحج.
لكن رجل أحرم بالحج ثم حوله إلى عمرة ليتمتع بها إلى الحج، فهل له أن يدع الحج أو لا؟ وبين الصورتين فرق.
فهل نقول: ما دمت تحولت من الحج الذي لزمك بشروعك فيه فإنه يلزمك أن تحج هذا العام؟
يحتمل عندي وجهان:
الأول: إلزامه بالحج إلا إذا تركه لعذر فهذا شيء آخر؛ لأننا إنما أجزنا له التحول ليحج.
الثاني: لا يلزمه شيء؛ لأنه ما شرع في النسك.
وَإِنْ حَاضَتْ المَرأةُ فَخَشيِتْ فَوَاتَ الحَجِّ أحْرَمَتْ بِهِ، وَصَارَت قَارِنَةً،............
قوله: «وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به، وصارت قارنة» عام أريد به الخاص، فالمراد بالمرأة هنا المرأة المتمتعة، أي: من أحرمت بعمرة لتحل منها، ثم تحج من عامها، وقد وصلت إلى مكة في اليوم الخامس من ذي الحجة فحاضت، وعادتها ستة أيام، فتطهر في اليوم الحادي عشر، أي:
بعد فوات الوقوف، إذاً لا يمكنها أن تطوف وتسعى وتنهي عمرتها.
فنقول لهذه المرأة: يجب أن تحرم بالحج، لتكون قارنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك عائشة حين حاضت بسرف قبل أن تدخل مكة (1) ، والأصل في الأمر الوجوب.
ولأن الحج يجب على الفور، فلو لم تحرم به لفاتها هذا العام.
ولأنها شرعت في العمرة من أجل الحج في الواقع، فهي لم تقدم إلا للحج؛ لأن العمرة تصلح في كل وقت، ولا يمكن أداء الحج إلا بالتحلل من العمرة، والتحلل من العمرة مستحيل في هذه الحال، لأنها حائض، والحائض لا تطوف، فلم يبق عليها إلا أن تحرم بالحج فتكون قارنة.
ومثل ذلك من حصل له عارض، كأن تعطلت السيارة بعد أن أحرم بالعمرة، فلا يمكنه معه أن يصل إلى مكة إلا بعد فوات الوقوف، فنقول لهذا: أحرم بالحج.
صورة المسألة: سافر من المدينة إلى مكة وأحرم بالعمرة متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وفي أثناء الطريق تعطلت السيارة وعرف أنها لا يمكن أن تصلح إلا في زمن لا يمكن به إدراك العمرة إلا بعد فوات الوقوف، فنقول له: أحرم بالحج لتكون قارناً؛ لأنه لو بقي على إحرام العمرة ولم يصل إلا في اليوم التاسع فعليه خطر بفوات الحج.
__________
(1) سبق تخريجه ص(84).
ومعنى قولنا أحرم بالحج، أي: يدخل الحج على العمرة، وليس فسخاً للعمرة؛ لأنه لو كان فسخاً للعمرة لكان الحج إفراداً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك» (1) .
مثال آخر: امرأة أحرمت بالعمرة متمتعة إلى الحج، ثم طافت وبعد الطواف حاضت، فهذه لا يمكن أن تحرم بالحج الآن؛ لأن من شرط جواز إدخال الحج على العمرة أن يكون قبل الطواف، لكن تسعى وهي حائض؛ لأن السعي لا يشترط له الطهارة، فيجوز سعي الجنب والحائض وسعي المحدث حدثاً أصغر، لكن على طهارة أفضل.
وأداء كل العبادات على طهارة أفضل، وإذا جاء وقت الحج وهي لم تطهر أحرمت به ولا يمنعها الحيض من الإحرام، والدليل: أن أسماء بنت عميس ـ رضي الله عنها ـ نفست فأرسلت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي» (2) .
مسألة: لو حاضت أثناء الطواف، فلا تتم الطواف، بل تخرج من الطواف، وتحرم بالحج إن خافت فواته؛ لأنه لا يمكن تكميل الطواف مع الحيض.
مسألة: لو أحدثت حدثاً أصغر في أثناء الطواف؟.
ففيها قولان:
__________
(1) سبق تخريجه ص(84).
(2) سبق تخريجه ص(61).
القول الأول: أن طوافها يبطل، ويجب عليها أن تتوضأ، وتستأنف الطواف؛ لأن الطهارة شرط للطواف.
القول الثاني: تكمل الطواف وليس عليها شيء، وهذا القول هو الصحيح، أنه لا يشترط للطواف الطهارة من الحدث الأصغر؛ لعدم وجود نص صحيح صريح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
وَإِذا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ قالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمْ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْك، لاَ شَرِيكَ لَكَ»......
قوله: «وإذا استوى على راحلته» ، أي: علا واستقر، أي: ركب ركوباً تاماً قال:
«لبيك اللهم لبيك» ، ظاهره أنه لا يلبِّي إلا إذا ركب، وقد سبق للمؤلف أنه يحرم عقب ركعتين، فهل في كلامه تناقض؟
الجواب: ليس فيه تناقض، فهو ينوي الدخول في النسك بعد أن يصلي، لكن لا يلبي إلا إذا استوى على راحلته.
والدليل على هذا أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهَلَّ حين استوى على راحلته (1) ، وهذا هو القول الأول.
والقول الثاني: يلبي عقب الصلاة، أي: إذا نوى الدخول في النسك وهو المذهب.
والقول الثالث: يلبي إذا علا على البيداء، والبيداء: جبل صغير في ذي الحليفة، فيلبي إذا استوى على أول علوٍّ يكون بعد
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب من أهل حين استوت... (1552)؛ ومسلم في الحج/ باب التلبية وصفتها (1184) (20) عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ.
الاستواء على الراحلة وبعد السير إذا لم يكن في ذي الحليفة.
ودليله حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا استوت به راحلته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك» (1) ، وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في «الصحيحين»، وحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ في مسلم، فهل بينهما تعارض؟
الجواب: ليس بينهما تعارض؛ لأنهما يحملان على أن جابراً ـ رضي الله عنه ـ لم يسمع التلبية إلا حين استوت راحلة النبي صلّى الله عليه وسلّم به على البيداء، وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ سمعه يلبي حين استوى على راحلته، فنقل كل منهما ما سمع.
بقي ما رواه النسائي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أهلَّ دبر الصلاة» (2) ، وهذا يدل على أنه أهل بعد الصلاة.
فيقال: دبر الصلاة ما كان بعدها، واستواؤه على راحلته كان دبر الصلاة، وحتى إذا علت به راحلته على البيداء فهو دبر صلاة.
لكن روى أهل السنن عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بسند فيه نظر أنه جمع بين الروايات المختلفة، وقال: «إن الناس
__________
(1) سبق تخريجه ص(76).
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/285)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء متى أحرم النبي صلّى الله عليه وسلّم (819)؛ والنسائي في الحج/ باب العمل في الإهلال (5/162)؛ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب»، وقال ابن حجر في «التلخيص» (1001): «في إسناده خصيف، وهو مختلف فيه»، وانظر: «نصب الراية» (3/21).
نقل كل واحد منهم ما سمع، وإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لبى بعد الصلاة، فسمعه أناس فقالوا: أهلَّ دبر الصلاة، ولبى حين ركب، فسمعه أناس فقالوا: لبى حين ركب، وسمعه ناس حين استوت به راحلته على البيداء، فقالوا: لبى حين استوت به راحلته على البيداء» (1) ، وهذا الحديث لولا ما قيل في سنده لكان وجهه ظاهراً؛ لأنه يجمع بين الروايات.
ولكن نحن جربنا فائدة كونه لا يلبي إلا إذا ركب؛ لأنه أحياناً يتذكر الإنسان شيئاً كطيب أو شبهه، فإذا قلنا: أحرم بعد الصلاة لم يتمكن من استعمال الطيب بعد الإحرام، لكن إذا قلنا: لا تلبِّ ولا تحرم إلا بعد الركوب حصل في ذلك فسحة، إلا إذا صح حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، فإنه يبدأ بالتلبية عقب الصلاة.
وقوله: «قال: لبيك اللهم لبيك» ، هذه التلبية عظيمة جداً أطلق عليها جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ التوحيد قال: «حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد» (2) ، والتوحيد هو الذي دعت إليه جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء] .
ولبيك كلمة إجابة، والدليل على هذا ما ورد في الصحيح:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/260)؛ وأبو داود في المناسك/ باب في وقت الإحرام (1770)؛ وضعفه المنذري في «تهذيب السنن» (1696).
(2) سبق تخريجه ص(76).
«أن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك» (1) ، وتحمل معنى الإقامة من قولهم ألبَّ بالمكان، أي: أقام فيه، فهي متضمنة للإجابة والإقامة، الإجابة لله، والإقامة على طاعته؛ ولهذا فسرها بعضهم بقوله: لبيك، أي: أنا مجيب لك مقيم على طاعتك، وهذا تفسير جيد.
فإذا قال قائل: أين النداء من الله حتى يجيبه المحرم؟
قلنا: هو قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] ، أي: أعلم الناس بالحج أو ناد فيهم بالحج {يَأْتُوكَ رِجَالاً}، أي: على أرجلهم، وليس المعنى ضد الإناث، والدليل على أنهم على أرجلهم ما بعدها {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] .
وهذه قاعدة مفيدة في التفسير، فإنه قد يعرف معنى الكلمة بما يقابلها.
ومثلها قوله تعالى ـ وهو أخفى من الآية التي معنا ـ {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] فمعنى ثبات متفرقين، مع أن ثبات يبعد جداً أن يفهمها الإنسان بهذا المعنى، لكن لما ذكر بعدها {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} علم أن المراد بالثبات المتفرقون.
والتثنية في التلبية هل المقصود بها حقيقة التثنية، أي أجبتك مرتين، أو المقصود بها مطلق التكثير؟
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) ومسلم في الإيمان/ باب قوله: «يقول الله لآدم» (222) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.
الجواب: المقصود بها الثاني؛ لأن المعنى إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة، فالمراد بها مطلق التكثير، أي: مطلق العدد، وليس المراد مرتين فقط؛ ولهذا قال النحويون: إنها ملحقة بالمثنى وليست مثنى حقيقة؛ لأنه يراد بها الجمع والعدد الكثير.
ولماذا جاءت بالياء الدالة على أنها منصوبة؟
قالوا: لأنها مصدر لفعل محذوف وجوباً، لا يجمع بينه وبينها، والتقدير ألببت إلبابين لك.
ألببت، يعني: أقمت بالمكان إلبابين.
لكن حصل فيها حذف حرف الهمزة، وصارت لبابين، بعد حذف الهمزة.
ثم قيل: تحذف أيضاً الباء الثانية، فنقول لبيك، والياء علامة للإعراب.
وقوله: «اللهم» معناها: ياالله، لكن حذفت ياء النداء وعوض عنها الميم، وجعلت الميم أخيراً، ولم تكن في مكان الياء تبركاً بذكر اسم الله تعالى ابتداء، وعوض عنها الميم؛ لأن الميم أدل على الجمع، ولهذا كانت من علامات الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على ربه ـ عزّ وجل ـ، لأنه يقول ياالله.
وقوله: «لبيك» الثانية من باب التوكيد اللفظي المعنوي، هو لفظي؛ لأنه لم يتغير عن لفظ الأول، لكن له معنى جديد فيكرر ويؤكد أنه مجيب لربه مقيم على طاعته: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، لأنك تجيب الله ـ عزّ وجل ـ وكلّما أجبته ازددت إيماناً به وشوقاً إليه، فكان التكرير مقتضى الحكمة، ولهذا
ينبغي لك أن تستشعر وأنت تقول: «لبيك» نداء الله ـ عزّ وجل ـ لك، وإجابتك إياه، لا مجرد كلمات تقال.
قوله: «لا شريك لك لَبَّيْك» ، أي: لا شريك لك في كل شيء، وليس في التلبية فقط؛ لأنه أعم، أي: لا شريك لك في ملكك، ولا شريك لك في ألوهيتك، ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك، ولا شريك لك في كل ما يختص بك، ومنها إجابتي هذه الإجابة، فأنا مخلص لك فيها، ما حججت رياءً، ولا سمعة، ولا للمال، ولا لغير ذلك، إنما حججت لك ولبَّيت لك فقط.
وقوله: «لا شريك لك» إعرابها: لا نافية للجنس، وشريك: اسمها، ولك خبرها، والنافية للجنس أعم من النافية مطلق النفي؛ لأن النافية للجنس تنفي أي شيء من هذا، بخلاف ما إذا قلت: لا رجلٌ في البيت، بالرفع، فهذه ليست نافية للجنس، بل هذه لمطلق النفي؛ ولهذا يجوز أن تقول: لا رجلٌ في البيت بل رجلان، لكن لو قلت: لا رجلَ في البيت بل رجلان، صاح عليك العالمون بالنحو، وقالوا: هذا غلط، لا يصح أن تقول: لا رجلَ في البيت بل رجلان، فتنفي الجنس أولاً، ثم تعود وتثبت، ولكن إن شئت فقل: لا رجلَ في البيت بل أنثى.
قوله: «إن الحمد والنعمة لك» بكسر همزة إن، ورويت بالفتح، فعلى رواية فتح الهمزة «أن الحمد لك»: تكون الجملة تعليلية، أي: لبيك؛ لأن الحمد لك، فصارت التلبية مقيدة بهذه العلة، أي: بسببها والتقدير لبيك لأن الحمد لك.
أما على رواية الكسر: «إن الحمد لك»، فالجملة استئنافية وتكون التلبية غير مقيدة بالعلة؛ بل تكون تلبية مطلقة بكل حال، ولهذا قالوا: إن رواية الكسر أعم وأشمل، فتكون أولى، أي: أن تقول: إن الحمد والنعمة لك، ولا تقل: أن الحمد والنعمة لك، ولو قلت ذلك لكان جائزاً.
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس