عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:13 PM   #5
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

وقوله: «ودم الإحصار». «أل» هنا للعهد الذهني، أي: ما يكون إحصاراً يحل للإنسان أن يتحلل به من نسكه، والإحصار هو حصر العدو فقط على المشهور من المذهب.
وقيل: إن المراد بالحصر كل ما يمنع الإنسان من إتمام نسكه من عدو أو غيره، كضياع النفقة، والمرض، والانكسار أي: انكسار الحاج ـ مثلاً ـ وما أشبه ذلك، وهذا القول هو الأصح وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في الفوات والإحصار.
فدم الإحصار يكون حيث وجد سببه، ومن المعلوم أن الإحصار في الغالب لا يمكن أن يصل إلى الحرم، ولكن ربما يحصر عن دخول مكة، أي: بين حدود الحرم ومكة، فنقول: يذبح حيث وجد سببه، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حصره المشركون في عمرة الحديبية، أمر بذبح الهدي في المكان (1) ، فذبحوه في المكان، ولا يلزم أن ينقله إلى مكة؛ لأنه محصور عنها.
وقوله: «حيث وجد سببه» «حيث» ظرف مكان، أي: يكون حيث وجد السبب من حل أو حرم، فلو فرض أن الإنسان أحرم من قرن المنازل، وفعل المحظور في الشرائع، والشرائع قبل حدود الحرم، جاز أن يؤدي الفدية في نفس المكان، وكذلك لو أحرم من الحديبية وفعل المحظور في طريقه إلى مكة قبل أن يصل إلى حدود الحرم، فإنه يجوز أن يؤدي الفدية في مكان فعل المحظور، ويجوز أن ينقلها إلى الحرم؛ لأن ما جاز في الحل
__________
(1) سبق تخريجه ص(181).
جاز في الحرم، ويستثنى من فعل المحظور جزاء الصيد، فإن جزاء الصيد لا بد أن يبلغ إلى الحرم؛ لقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى أن قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
وهل المراد في الحرم ذبحاً وتفريقاً أو ذبحاً فقط، أو تفريقاً فقط؟
الجواب: المراد ذبحاً وتفريقاً، فما وجب في الحرم، وجب أن يذبح في الحرم، وأن يفرق ما يجب تفريقه منه في الحرم، وعلى هذا فمن ذبح في عرفة لترك واجب ووزعه في منى، أو في مكة فإنه لا يجزئه؛ لأنه خالف في مكان الذبح، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، وعلى هذا فيلزمه ذبح مثله في الحرم وتفريقه فيه.
ولو ذبحه في منى وفرقه في عرفة، والطائف، والشرائع، أو غيرها من الحل، لم يجزئ؛ لأنه لا بد أن يكون لمساكين الحرم وعلى هذا فيضمن اللحم بمثله لمساكين الحرم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لو ذبحه خارج الحرم، وفرقه في الحرم أجزأه؛ لأن المقصود نفع فقراء الحرم وقد حصل، وهذا وجه للشافعية.
ولا ينبغي الإفتاء به إلا عند الضرورة، كما لو فعل ذلك أناس يجهلون الحكم، ثم جاءوا يسألون بعد فوات وقت الذبح، أو كانوا فقراء فحينئذ ربما يسع الإنسان أن يفتي بهذا القول.
__________
(1) سبق تخريجه ص(158).
وَيُجزِئُ الصَّوْمُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَالدَّمُ شاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ وتُجْزِيء عَنْهَا بَقَرةٌ.
قوله: «ويجزئ الصوم بكل مكان» ، وذلك لأن الصوم لا يتعلق بنفع أحد فيجزئ في كل مكان، ولكن يجب أن يلاحظ مسألة قد تمنع من أن نصوم في كل مكان، وهو أن الكفارات تجب على الفور، إلا ما نص الشرع فيها على التراخي، فإذا كان يجب على الفور وتأخر سفره مثلاً إلى بلده، لزمه أن يصوم في مكة.
مثاله: رجل لزمته فدية الأذى وهي صيام، أو صدقة، أو نسك، فاختار الصيام، فهل نقول: لك أن تؤخره حتى ترجع إلى بلدك؟
الجواب نقول: لو أخرته فأنت آثم، ويجزئ، لكن بادر؛ لأن إخراج الكفارة واجب على الفور، كإخراج الزكاة.
قوله: «والدم شاة» أي: إذا أطلق الدم في كلام الفقهاء فالمراد من ذلك واحد من ثلاثة أمور:
الأول: شاة، والشاة إذا أطلقت في لسان الفقهاء، فهي للذكر والأنثى من الضأن والمعز، فالتيس شاة، والخروف شاة، والشاة الأنثى شاة، والعنز شاة.
قوله: «أو سبع بدنة» وهذا هو الثاني مما مراد بالدم، أي: واحد من سبعة من البدنة، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة: «انسك شاة» (1) ، وجعل البعير يشترك فيها سبعة أشخاص، كما قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: «نحرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (2) ، بشرط أن ينويه
__________
(1) سبق تخريجه ص(135).
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز الاشتراك في الهدي (1318).
قبل ذبحها، فإن جاء إلى بدنة مذبوحة، واشترى سبعها ونواه عن الشاة، فإنه لا يجزئ؛ لأنه صار لحماً، ولا بد في الفدية أن تذبح بنية الفدية.
وقوله: «سبع بدنة» ظاهره أنه يجزئ ولو كان شريكه يريد اللحم وهو كذلك، فلو اتفق إنسان مع جزار على أن يشتري سبع البعير التي يريد أن ينحرها، ونواه المشتري عن شاة واجبة في فدية أذى أجزأ.
قوله: «وتجزئ عنها بقرة» أي: تجزئ عن البدنة بقرة، وهذا هو الثالث مما يراد بالدم، والبدنة هي البعير، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}، وهذا لا يكون إلا في الإبل، والبقرة تجزئ عن البدنة، فسبع البدنة والبقرة سواء، مع أنك لو نظرت إلى كبر الجسم، وكثرة اللحم لرأيت أن البدنة أكبر وأكثر نفعاً، لكن هذه مسائل تعبدية لا يرجع فيها إلى القيمة التي بين الناس؛ لقول الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.
وقوله: «وتجزئ عنها بقرة» ظاهره ولو في جزاء الصيد، فمن قتل حمامة فالواجب عليه شاة، ويجوز أن يجعل بدل الشاة سبع بدنة أو بقرة (1) ، والصواب عدم الإجزاء في جزاء الصيد.
ووجه ذلك أن جزاء الصيد يشترط فيه المماثلة، قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وسبع البدنة والبقرة لا يماثل الحمامة، فلا يجزئ عنها.
__________
(1) وهذا هو المذهب.
وليعلم أن سبع البدنة والبقرة يجزئ عما تجزئ عنه الشاة، وعلى هذا فلو ضحى به الإنسان عن نفسه وأهل بيته لأجزأ خلافاً لما فهمه بعض طلبة العلم، من أن سبع البدنة لا يشرّك فيه، وإنما يجزئ عن واحد فقط، فإن هذا وهم وليس فهماً صحيحاً، لا لما جاء في السنة، ولا لما جاء في كلام العلماء؛ لأن التشريك في الثواب لا حصر له، وتشريك الملك هو الذي يحصر، وتشريك الملك في البدنة والبقرة سبعة بلا زيادة.
ففي الملك والإجزاء الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، ولا يجزئ سبع البدنة إلا عن واحد، ولا تجزئ البقرة والبدنة إلا عن سبعة، أما الثواب فشرك من شئت، ولهذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم «يضحي بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته» (1) وأهل بيته تسع نسوة وهو العاشر، هذا إن لم يرد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أهل بيته حتى الأقارب فيكون لا حصر له، ففرق بين الملك والإجزاء وبين الثواب.
فإذا شارك الإنسان في سبع بعير، وقال: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي، فإن ذلك يجزئ عنه وعن أهل بيته، ولو كانوا مائة.
__________
(1) سيأتي تخريجه ص(422).
بَابُ جَزَاء الصيَّدِ
فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ........
قوله: «باب جزاء الصيد» ، أي: باب المثل في جزاء الصيد؛ لأنه لا يريد أن يبين ما يجب في الصيد، بل يريد أن يبين المثل، ولم يقل فدية؛ لأن الله عبر به في القرآن فقال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، والصيد هو الذي يحرم على المحرم صيده، أو في الحرم، وليعلم أن الصيد نوعان:
الأول: نوع لا مثل له.
الثاني: ونوع له مثل.
والنوع الذي له مثل نوعان أيضاً: ـ
نوع قضت الصحابة به، فيرجع إلى ما قضوا به، وليس لنا أن نعدل عما قضوا به.
ونوع لم تقض به الصحابة، فيحكم فيه ذوا عدل من أهل الخبرة ويحكمان بما يكون مماثلاً.
قوله: «في النعامة بدنة» ، أي: لو قتل الإنسان نعامة وهو محرم، أو قتل نعامة في الحرم، ولو كان محلًّا فعليه بدنة (1) ، أي
__________
(1) نقل ابن قدامة في «المغني» (5/204، 404)، وشيخ الإسلام في «شرح العمدة» (2/283): إجماع الصحابة: «عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير: أنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الأيل ببقرة، وبقر الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي اليربوع بجفرة، وفي الأرنب بعناق».
وروى الشافعي في «الأم» (2/190)؛ والبيهقي (5/182): «عن عمر، وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية في النعامة يقتلها المحرم بدنة»، قال الشافعي: هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث. ووجه ضعفه كما قال البيهقي أنه من رواية عطاء عنهم ولم يدركهم.
وأخرجه عبد الرزاق (8203) من طريق عطاء عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت قالوا: «في النعامة قتلها المحرم بدنة»، وأخرجه البيهقي عن ابن عباس (5/182) بإسناد حسن كما قال الحافظ في «التلخيص» (2/284) وكذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أخرجه البيهقي (5/182).
بعير صغير في الصغيرة وكبير في الكبيرة؛ لأن هذا هو تحقيق المماثلة.
وَحِمارِ الوَحْشِ، وَبَقرتِهِ، والأيِّلِ، والثَّيْتَلِ والوَعْلِ بَقَرةٌ، والضَّبْعِ كَبْشٌ، وَالغَزَالِ عَنْزٌ، والوَبْرِ والضَّبِّ جَدْيٌ، وَاليَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، ...........
قوله: «وحمار الوحش، وبقرته، والأَيِّل، والثيتل، والوعل، بقرة» ؛ حمار الوحش صيد معروف، وسمي حماراً لشبهه بالحمار، والذي يشبهه من النعم البقرة، وبقرة الوحش، وفيها بقرة، وفي الأيل ـ أيضاً ـ بقرة، والأيل نوع من الظباء، وفي الثيتل، وهو نوع من الظباء بقرة، وفي الوعل بقرة، قال في القاموس: الوعل بفتح الواو مع فتح العين، وكسرها، وسكونها، هو تيس الجبل (1) ففي هذه الأشياء بقرة؛ لأنها تشابهها.
قوله: «والضبع كبش» الضبع معروفة، وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها شاة (2) ، ولولا أنها حلال لم يكن لها قيمة.
__________
(1) القاموس (4/65).
(2) أخرجه أبو داود في الأطعمة/ باب في أكل الضبع (3801)؛ وابن ماجه في الحج/ باب جزاء الصيد يصبه المحرم (3085)؛ وابن حبان (3964) إحسان؛ والدارقطني (2/246)؛ والحاكم (1/452)؛ والبيهقي (5/183) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين».
قوله: «والغزال عنز» ، الغزال أصغر من الوعل والثيتل والأيل، ففيها عنز؛ لأنها أقرب شبهاً بها (1) .
قوله: «والوبر، والضب، جدي» ، قال في الروض: الوبر دويبة كحلاء اللون دون السنور، لا ذنب لها، وهي معروفة، فيها جدي (2) ، والجدي هو الذكر من أولاد المعز له ستة أشهر، وكذلك أيضاً الضب فيه جدي، والضب معروف.
قوله: «واليربوع جفرة» ، اليربوع أيضاً معروف، حيوان يشبه الفأرة لكنه أطول منها رجلاً، وله ذنب طويل، وفي طرفه شعر كثير، وهو من أذكى الحيوانات التي تشبهه؛ لأنه يحفر له جحراً في الأرض، ويجعل له باباً، ثم يحفر في طرف الجحر حتى لا يبقي إلا قشرة رقيقة، فإذا حشره أحد من عند باب الجحر خرج من القشرة الرقيقة، وتسمى النافقاء، أي: نافقاء اليربوع، ولهذا اشتق منها النفاق؛ لأن هذا اليربوع منافق في جحره، لكنه نفاق
__________
(1) لما روى مالك في «الموطأ» (1/414)؛ والشافعي في «المسند» ترتيب (857)؛ والبيهقي (5/183) أن عمر ـ رضي الله عنه ـ «قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة»، وقال ابن حجر في «التلخيص» (2/284): «بسند صحيح».
(2) لما أخرجه الشافعي (860) المسند؛ والبيهقي (5/185)، أن عمر ـ رضي الله عنه ـ «حكم في الضب بجدي».
وقال ابن حجر في «التلخيص» (2/285): «بسند صحيح إلى طارق».
مباح يريد أن يحمي بذلك نفسه، وهو حلال، وفيه جفرة لها أربعة أشهر (1) .
وَالأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَالحَمَامَةِ شَاةٌ.
قوله: «والأرنب عناق» ، وهي أصغر من الجفرة، أي: لها ثلاثة أشهر ونصف تقريباً، والأرنب معروفة (2) .
اليربوع زنته كرأس الأرنب، ومع ذلك الواجب فيه أكبر من الواجب في الأرنب؛ لأن المعول فيه على المماثلة.
قوله: «والحمامةِ شاة» ، وجه المشابهة في الحمامة للشاة في الشرب فقط، لا في الهيكل، أو الهيئة (3) .
فهذا كله قضى به الصحابة، منه ما روي عن واحد من الصحابة ومنه ما روي عن أكثر من واحد.
فإذا وجدنا شيئاً من الصيود لم تحكم به الصحابة، أقمنا حكمين عدلين خبيرين، وقلنا ما الذي يشبه هذا من بهيمة الأنعام؟ فإذا قالوا: كذا وكذا، حكمنا به وإذا لم نجد شيئاً محكوماً به من قبل الصحابة، ولا وجدنا شبهاً له من النعم، فيكون من الذي لا مثل له، وفيه قيمة الصيد قلَّت أم كثرت.
مسألة: هل تدخل المرأة في الحَكَمَيْنِ؟
الجواب: لا تدخل؛ لأن الله قال: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
__________
(1) - (2) سبق ذلك عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، ص(212).
(3) لما روى الشافعي في «المسند» (861)؛ والبيهقي (5/205)، أن عمر ـ رضي الله عنه ـ «حكم في الحمامة شاة»، قال ابن حجر في «التلخيص» (2/285): «إسناده حسن».
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ «أنه جعل في حمامة الحرم على المحرم والحلال في كل حمامة شاة». أخرجه البيهقي (5/205)؛ وفي «إرواء الغليل» (4/247): «إسناده صحيح».
بَابُ صَيْدِ الْحَرَمِ
يَحْرُمُ صَيْدُهُ عَلَى المُحْرِمِ والحَلاَلِ،...........
قوله: «الحرم» ، أل هنا للعهد الذهني، يعني بذلك حرم مكة والمدينة، وعلى هذا فـ «أل» هنا للجنس، أي: باب صيد ما يسمى حرماً، وليس في الدنيا شيء حرم إلا هذان الحرمان، حرم مكة، وحرم المدينة، وأما ما نسمع في كلام الناس حرم المسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي، فكله لا صحة له ولا أصل له، ولهذا يوهم كلام بعض الناس يقول عن المسجد الأقصى: ثالث الحرمين؛ لأن الذي يسمع العبارة يقول: إنه حرم، ولكن الصواب أن تقول: ثالث المسجدين يعني المساجد التي تشد إليها الرحال.
واختلف العلماء في وادي وج في الطائف.
والصحيح أنه ليس بحرم.
قوله: «يحرم صيده على المحرم والحلال» ، أي: يحرم صيد الحرم على المحرم والحلال، أي: من لم يحرم؛ لأن تحريمه للمكان، فيحرم على المحرم من وجهين هما: الحرم والإحرام، ويحرم على الحلال من وجه واحد هو الحرم، وهل يلزم المحرم إذا قتل صيداً في الحرم جزاءان لوجود السببين؟ الصحيح أنه لا يلزمه جزاءان؛ لأنه النفس واحدة، وقد قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعلن هذا التحريم عام فتح مكة، فقال: «إن الله حرمه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» ، وقال فيه: «لا ينفر صيدها» (1) ، فإذا كان تنفير صيدها حراماً، فقتله حرام من باب أولى، وفي هذا الخبر المؤكد دليل على أنه لا يمكن نسخ تحريم مكة؛ لأنه جعل الغاية يوم القيامة.
وقوله: «يحرم صيده على المحرم والحلال» ، أضاف الصيد إلى الحرم، وعلى هذا فصيد الحل إذا دخل في الحرم لا يحرم، لكن يجب إزالة اليد المشاهدة عنه وإطلاقه، ولا يجوز ذبحه في الحرم، بل ولا إبقاءُ اليد المشاهدة عليه، وهذا هو المشهور من المذهب.
والصحيح أن الصيد إذا دخل به الإنسان وهو حلال من الحل، فهو حلال؛ لأنه ليس صيداً للحرم، بل هو صيد لمالكه، وقد كان الناس يبيعون ويشترون الظباء والأرانب في قلب مكة في خلافة عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ (2) ، من غير نكير، وهذا يدل على أن الصيود التي يدخل بها من الحل، وتباع في مكة حلال بيعها وشراؤها وذبحها وأكلها، وليس فيه إثم.
مسألة: ظاهر كلام المؤلف أن الصيد البحري لا يحرم صيده إذا كان في الحرم، وعلى المذهب إذا كان في الحرم فهو حرام، ولكن لا جزاء فيه.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب لا يحل القتال بمكة (1834)؛ ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1353) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه عبد الرزاق (8318).
واستدلوا بعموم الأحاديث الدالة على تحريم صيد الحرم، والصحيح أن البحري يجوز صيده في الحرم (1) ؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وهذا عام.
فلو فرض أن هناك بركة ماء، أو نحوها، وفيها سمك غير مجلوب إليها بل توالد فيها، فإن الصحيح أنه لا يحرم، وأنه حلال على المحرم والحلال.
وَحُكْمُ صَيْدِهِ كَصَيْدِ المُحْرِم. وَيَحْرُمُ قَطْعُ شَجَرِهِ وحَشِيشِهِ الأَخْضَرينِ إِلاَّ الإِذْخِر .
قوله: «وحكم صيده كصيد المحرم» ، أي: على ما سبق من التفصيل، ففيه الجزاء، مثل ما قتل من النعم، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً.
قوله: «ويحرم قطع شجره وحشيشه الأخضرين» الشجر ما له ساق، والحشيش ما لا ساق له.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يعضد شجرها، ولا يحش حشيشها ولا يختلى خلاها» (2) ، وكل هذا تأكيد لحرمة هذا المكان، وأنه حتى الأشجار محترمة والصيود محترمة، ولولا رحمة الله ـ عزّ وجل ـ لكانت كل الحيوانات محترمة، لكن فيه مشقة على الناس، فحرم الصيد في الحرم فقط.
وقوله: «شجره» الشجر مضاف إلى الحرم، فيفيد أن المحرم
__________
(1) وهو الرواية الثانية في المذهب.
(2) سبق تخريجه ص(215).
ما كان من شجر الحرم، لا من شجر الآدمي، وعلى هذا فما غرسه الآدمي أو بذره من الحبوب، فإنه ليس بحرام، لأنه ملكه، ولا يضاف إلى الحرم، بل يضاف إلى مالكه.
وقوله: «وحشيشه» نقول فيها ما قلنا في شجره: إن الحشيش مضاف إلى الحرم، فالحشيش الذي ينبت بفعل الآدمي ليس بحرام.
وقوله: «الأخضرين» صفة للشجرة، والحشيش، والمراد ما فيهما الحياة والنمو، سواء كانا أخضرين أو غير أخضرين؛ لأن من الأشجار ما ليس بأخضر، وكذلك من الزروع والحشيش ما ليس بأخضر، وبعضه قد يموت وهو أخضر كالإذخر، فالأولى أن يقال: «شجره وحشيشه الحيين» سواء كانا بلون الخضرة أو غيره.
فخرج بذلك ما كان ميتاً، فإنه حلال، فلو رأيت شجرة قد ماتت فهي حلال ولو رأيت غصناً منكسراً تحت الشجرة فهو حلال؛ لأنه انفصل وهلك، والغصن اليابس في الشجرة الخضراء يجوز قطعه إذا كان يبسه يبس موت؛ لأن بعض الأشجار تيبس أغصانها لكن إذا جاء المطر نمت، ولكن قال العلماء: ما قطعه الإنسان من أشجار الحرم، فإنه حرام؛ لأنه قطع بغير حق.
مسألة: ثمر شجر الحرم هل نقول إنه كالشجر؟
الجواب: لا، فلو أن شجرة تفاح نبتت في الحرم بدون فعل آدمي، ثم أثمرت وأخذ الإنسان ثمرتها فإن ذلك لا بأس به.
قوله: «إلا الإذخر» ، الإذخر نبت معروف يستعمله أهل مكة في البيوت، والقبور، والحدادة.
أما الحدادة فلأنه سريع الاشتعال، فيشعلون به النار، من أجل أن تشعل الفحم والخشب.
وأما في القبور فإنهم يجعلونه ما بين اللبنات؛ ليمنع تسرب التراب إلى الميت.
وأما في البيوت فيجعلونه فوق الجريد؛ لئلا يتسرب الطين من الجريد فيختل السقف.
فالناس في حاجة إليه، وسبب الاستثناء العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حرم حشيشها قال: «يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لبيوتهم وقبورهم» (1) ، وفي لفظ: «لبيوتهم وقينهم» (2) ، أي: حداديهم، فقال: «إلا الإذخر» ، وعلى هذا فيستثنى من الشجر والحشيش الأخضرين الإذخر.
مسائل: ـ
الأولى: الكمْأة، والعساقل، وبنات الأوبر، وما أشبهها كالذي يسميه الناس الفطيطر، هل هو حرام، أو لا؟
الجواب: ليس بحرام؛ لأنه ليس من الأشجار، والكمأة، والعساقل، وبنات الأوبر، أنواع داخلة تحت جنس واحد وهو الفقع، فهذه حلال؛ لأنه ليس بأشجار ولا حشيش، فلا يدخل في التحريم.
الثانية: سكت المؤلف ـ رحمه الله ـ عن جزاء هذه
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب كتابة العلم (112)؛ ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق (1353) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
الأشجار أو الحشيش، فهل أسقطها اختصاراً أو اقتصاراً؟
الجواب: بما أن المؤلف من أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ من الحنابلة، فالظاهر أنه أسقطها اختصاراً، لا اقتصاراً.
لكن يحتمل أنه أسقطها اقتصاراً، أي: أن التحريم مقصور على القطع والحش، وليس فيه جزاء.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:
فقال بعض العلماء: إن هذه الأشجار أو الحشائش ليس فيها جزاء، وهذا مذهب مالك، وابن المنذر، وجماعة من أهل العلم.
وهو الحق؛ لأنه ليس في السنة دليل صحيح يدل على وجوب الجزاء فيها، وما ورد عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم (1) ـ، فيحتمل أنه من باب التعزير، فرأوا أنه يعزر من قطع هذه الأشجار، بناءً على جواز التعزير بالمال، ولو كان الجزاء واجباً لبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ لا يمكن أن يدع أمته بلا بيان ما يجب عليهم، وبوفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم انقطع التشريع، وليس هذا من باب القياس حتى يقال لعله يقاس على الصيد؛ لأن هنا فرقاً بين الصيد والأشجار، فالأشجار نامية، لكن ليس فيها الحياة التي في الصيود، فإذا قطع الإنسان شجرة أو غصناً منها، أو حش حشيشاً فإنه يأثم، ولكن لا جزاء عليه لا قليلاً ولا كثيراً.
__________
(1) انظر: «التلخيص الحبير» (2/287).
الثالثة: إذا كانت الأشجار في الطريق، فهل يجوز إزالتها من أجل الطريق؟
الجواب: إن كان هناك ضرورة بحيث لا يمكن العدول بالطريق إلى محل آخر فلا بأس بقطعها، وإن لم يكن ضرورة، فالواجب العدول بالطريق عنها؛ لأنه يحرم قطعها بلا ضرورة.
الرابعة: إذا كانت الشجرة خارج الطريق، لكن أغصانها ممتدة إلى الطريق وتؤذي المارة بشوكها وأغصانها، فهل تقطع؟
الجواب: لا تقطع؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يعضد شوكها» (1) ، والشوك يؤذي، ومع ذلك نهى عن عضده، أي: قطعه، وبإمكان الإنسان أن يطأطئ رأسه حتى لا تصيبه الأغصان.
فإن قال قائل: إذا وطئ الإنسان على الحشيش بلا قصد، فهل عليه شيء؟
فالجواب: لا كما لو انفرش الجراد في طريقه ومرَّ عليه، فإنه ليس عليه شيء، ومن ذلك ما لو احتاج الإنسان إلى وضع فراش في منى أو مزدلفة وكان فيها نبات، فإنه لا يحرم عليه وضع الفراش على الأرض، وإن أدى ذلك إلى تلف ما تحته من الحشيش أو أصول الشجر؛ لأن ذلك غير مقصود، ومن المعلوم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانت إبلهم تمشي على الأرض، ولم يقل توقوا المشي على الأرض، وفرق بين ما قصد وما لم يقصد.
وَيَحْرُمُ صَيْدُ المَدِيْنَةِ، وَلاَ جزاءَ فِيهِ، وَيُبَاحُ الحشِيْشُ لِلْعَلفِ، وآلَةُ الحَرْثِ وَنَحْوِهِ وَحَرَمُهَا مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ.
قوله: «ويحرم صيد المدينة» ، صيد حرم المدينة حرام، لكن
__________
(1) سبق تخريجه ص(214).
حرمته دون حرمة حرم مكة؛ لأن تحريم صيد مكة ثابت بالنص والإجماع، وأما حرم المدينة فمختلف فيه، ولكن القول الصحيح أن المدينة لها حرم وأنه لا يجوز الصيد فيه، إلا أنه يفارق مكة بأن من أدخل حرمها صيداً فهو له، ومكة سبق أن المذهب يجب عليه إطلاقه إذا أدخله الحرم، لكن على القول الراجح لا فرق بينهما، وهو أن من أدخل صيداً إلى الحرمين مكة أو المدينة، فهو ملكه يتصرف فيه كما يشاء، ودليل ذلك حديث أبي عمير، وهو غلام كان معه طائر صغير يسمى النُّغير وكان فرحاً به يأتي به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فرح به، فمات النغير فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول له: «يا أبا عُمير ما فعل النُّغير» (1) يمازحه صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «ولا جزاء فيه» ، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل فيه جزاء، فالأصل براءة الذمة، وعدم الوجوب.
وقال بعض أهل العلم ـ وهو رواية عن أحمد ـ: إن فيه الجزاء، وهو سلب القاتل، أي: أخذ سلبه من ثوبه وغترته، وما أشبه ذلك، لحديث ورد في ذلك أخرجه مسلم (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب الانبساط إلى الناس (6129)؛ ومسلم في الآداب/ باب استحباب تحنيك المولود (2150) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ.
(2) في الحج/ باب فضل المدينة (1364) عن عامر بن سعد: «أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً، أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم، أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبى أن يرد عليهم».
والقائلون بعدم وجوب الجزاء يجيبون عن هذا الحديث بأنه من باب التعزير لا من باب الضمان، ولهذا لا يختلف هذا التعزير بين الصغير والكبير، ولا يختلف فيما إذا كان السلب جديداً أو مستعملاً.
والصواب أنه ليس فيه جزاء، لكن إن رأى الحاكم أن يعزر من تعدى على صيد في المدينة بأخذ سلبه، أو تضمينه مالاً، فلا بأس.
قوله: «ويباح الحشيش للعلف، وآلة الحرث ونحوه» ، لأن أهل المدينة أهل زروع فرخص لهم في ذلك، كما رخص لأهل مكة في الإذخر.
والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص في ذلك (1) ، فيباح أن تحش الحشيش لتعلف بهائمك.
وكذلك قطع الأغصان لآلة الحرث، أي السواني، بأن يقطع الإنسان شجرة، لينتفع بخشبها في المساند والعوارض، وما أشبه ذلك مما يحتاجه أهل الحرث، وبهذا نعلم أن تحريم حرم المدينة أخف من تحريم حرم مكة.
ويجوز الرعي في حرم المدينة، وحرم مكة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان معه الإبل، ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يكمم أفواهها.
__________
(1) لحديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مَأزِمَيْهَا، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف».
أخرجه مسلم في الحج/ باب الترغيب في سكنى المدينة (1374).
قوله: «وحرمها ما بين عير إلى ثور» ، أي: حرم المدينة مسافة بريد في بريد والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال. فهو مربع ما بين عير إلى ثور، وثور جبل صغير خلف أحد من الناحية الشمالية.
وعير جبل كبير من الناحية الجنوبية الغربية عن المدينة جنوب ذي الحليفة.
وأما من الشرق إلى الغرب فما بين لابتيها فهو حرام، وحرم المدينة معروف عند أهل المدينة.
الفروق بين حرم مكة وحرم المدينة:
الأول: أن حرم مكة ثابت بالنص والإجماع، وحرم المدينة مختلف فيه.
الثاني: أن صيد حرم مكة فيه الإثم والجزاء، وصيد حرم المدينة فيه الإثم، ولا جزاء فيه.
الثالث: أن الإثم المترتب على صيد حرم مكة أعظم من الإثم المترتب على صيد المدينة.
الرابع: أن حرم مكة أفضل من حرم المدينة؛ لأن مضاعفة الحسنات في مكة أكثر من المدينة، وعظم السيئات في مكة أعظم من المدينة.
الخامس: أن من أدخلها، أي: المدينة صيداً من خارج الحرم فله إمساكه، ولا يلزمه إزالة يده المشاهدة، وعلى هذا تحمل قصة أبي عمير الذي كان معه طائر صغير يلعب به، يقال له: النغير، فمات هذا الطير، فحزن الصبي لموته فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم
يقول لهذا الصبي من باب الممازحة: «يا أبا عمير ما فعل النغير» (1) . وسبق حكم الصيد إذا دخل به مكة.
وهذا الحديث استدل به من يرى أنه لا يحرم صيد حرم المدينة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقر هذا الصبي.
والذين حرموه ـ وهم الجمهور ـ قالوا: إن هذا يحمل على أن هذا النغير جلب إلى الحرم، وليس من صيد الحرم.
السادس: أن حرم مكة يحرم فيه قطع الأشجار بأي حال من الأحوال إلا عند الضرورة، وأما حرم المدينة فيجوز ما دعت الحاجة إليه، كالعلف، وآلة الحرث، وما أشبه ذلك.
السابع: أن حشيش وشجر حرم مكة فيه الجزاء على المشهور من المذهب، والصحيح أنه لا جزاء فيه وعلى هذا فلا فرق، وأما حرم المدينة فلا جزاء فيه.
قال رحمه الله تعالى في الروض: «وتستحب المجاورة بمكة وهي أفضل من المدينة» ، أي: مكة أفضل من المدينة بلا شك، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أخرج منها: «إنك لأحب البقاع إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت» (2) .
وذهب بعض العلماء إلى أن المجاورة في المدينة أفضل من
__________
(1) سبق تخريجه ص(222).
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/305)؛ والترمذي في المناقب/ باب في فضل مكة (3925)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب فضل مكة (3108)؛ وابن حبان (3708)؛ والحاكم (3/7) عن عبد الله بن عدي ـ رضي الله عنه ـ، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
المجاورة في مكة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حث على سكنى المدينة أكثر من حثه على سكنى مكة، وقال: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: المجاورة في أي بلاد يقوى فيها إيمانه وتقواه أفضل من غيرها؛ لأن ما يتعلق بالعبادات والعلوم والإيمان أحق بالمراعاة مما يتعلق بالمكان.
وما ذهب إليه الشيخ ـ رحمه الله ـ هو الصواب، ولهذا نزح كثير من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى الشام والعراق واليمن ومصر؛ لأن إفادتهم فيها أكثر من بقائهم في المدينة.
قال صاحب الروض: «قال في الفنون» الفنون كتاب لابن عقيل ـ رحمه الله ـ، وسمي فنوناً لأنه جمع فيه الفنون كلها، وهو كتاب رأينا شيئاً منه، ولا بأس به لكن ليس بذاك الكتاب الذي فيه التحقيق الكامل في مناقشة المسائل، إنما ينفع طالب العلم بأن يفتح له الأبواب في المناقشة.
يقول: «الكعبة أفضل من مجرد الحجرة» ، أي: حجرة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا لا شك فيه، والحجرة ليس فيها فضل إطلاقاً؛ لأنها بناء، ثم هذا البناء الآن بناء محدث على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن مراده بقوله: الحجرة أي حجرة عائشة، وهو البيت الأول الذي دفن فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فالكعبة أفضل من البيت الذي كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم ساكنه، ودفن فيه.
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل المدينة/ باب من رغب عن المدينة (1875) عن سفيان بن أبي زهير ـ رضي الله عنه ـ وأخرجه مسلم في الحج/ باب المدينة تنفي شرارها (1381) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
قال في الفنون: «فأما والنبي صلّى الله عليه وسلّم فيها ـ أي في الحجرة ـ فلا والله، ولا العرش وحملته ولا الجنة».
أي: أن الحجرة التي فيها قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من الكعبة، وأفضل من العرش، وأفضل من حملة العرش، وأفضل من الجنة.
قال: «لأن بالحجرة جسداً لو وزن به لرجح» ، وهذا التعليل عليل، فلو قال: إن الجسد أفضل لكان فيه نوع من الحق.
أما أن يقول الحجرة أفضل؛ لأن فيها هذا الجسد، فهذا خطأ منه ـ رحمه الله ـ.
والصواب أن هذا القول مردود عليه، وأنه لا يوافق عليه، وأن الحجرة هي الحجرة، ولكنها شَرُفت بمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها في حياته وبعد موته.
وأما أن تكون إلى هذا الحد، ويقسم ـ رحمه الله ـ أنه لا تعادلها الكعبة، ولا العرش، ولا حملة العرش ولا الجنة فهذا وهم وخطأ، لا شك فيه.
قال: في الروض: «تضاعف الحسنة والسيئة بمكان، وزمان فاضل» ، فالحسنة تضاعف بالكم وبالكيف، وأما السيئة فبالكيف لا بالكم؛ لأن الله تعالى قال في سورة الأنعام وهي مكية: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأنعام] ، وقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، ولم يقل نضاعف له ذلك، بل قال: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فتكون مضاعفة السيئة في مكة، أو في المدينة مضاعفة كيفية.
بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ
يُسَنُّ مِنْ أعْلاَهَا، والمَسْجِدِ مِنْ بابِ بَنِي شَيْبَةَ. فَإِذَا رَأى البَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ مَا وَرَدَ،.......
قوله: «باب دخول مكة» ، أي: للحاج، كيف يدخل مكة؟ ومن أين يدخلها؟ ومتى يدخلها؟
الأفضل أن يدخلها في أول النهار؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخلها ضحى (1) ، ولكن إذا لم يتيسر له ذلك فليدخلها على الوجه الذي يتيسر له.
قوله: «يُسَنُّ من أعلاها» ، أي: من أعلى مكة من الحجون، وهل هذا سنة مقصودة، أو وقع اتفاقاً؟ بمعنى هل يتعمد الإنسان أن يذهب ليدخل من أعلاها، أو نقول إذا كان طريقه من أعلاها، فالأفضل ألا يعدل عنه إلى مكان آخر؟
ظاهر كلام المؤلف أنه يسن قصد الدخول من أعلاها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخلها من أعلاها (2) .
ولكن الذي يظهر أنه يسن إذا كان ذلك أرفق لدخوله، ودليل هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر أن يدخل الناس من أعلاها.
قوله: «والمسجد من باب بني شيبة» ، يعني يسن أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب دخول مكة نهاراً (1574)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب المبيت بذي طوى (1259) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى».
أخرجه البخاري في الحج/ باب من أين يدخل مكة (1575)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا... (1257).
يدخل المسجد من باب بني شيبة (1) .
وباب بني شيبة الآن عفا عليه الدهر، ولا يوجد له أثر.
لكننا أدركنا طوق باب مقوساً في مكان قريب من مقام إبراهيم، يقال: إن هذا هو باب بني شيبة.
وكان الذي يدخل من باب السلام، ويتجه إلى الكعبة يدخل من هذا الباب، وهل الدخول من باب بني شيبة، لو قدر وجوده أو إعادته، من السنن المقصودة أو التي وقعت اتفاقاً؟
الجواب: يقال فيه ما يقال في دخول مكة.
قوله: «فإذا رأى البيت رفع يديه، وقال ما ورد» ، أي: إذا رأى الكعبة؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] ، فإذا رأى الكعبة رفع يديه يدعو، وعلى هذا فيقف، ويرفع يديه، ويدعو بالدعاء الوارد، والأحاديث الواردة في رفع اليدين وفي الدعاء أحاديث فيها نظر، وأكثرها ضعيف (2)
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (491) والبيهقي (5/72) عن ابن عمر رضي الله عنهما وضعفه البيهقي، والحافظ في التلخيص (1009)، وصححه ابن خزيمة (2700) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الألباني: إسناده صحيح.
(2) من ذلك ما رواه ابن جريج أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً، وبراً».
أخرجه الشافعي في «المسند» (874)؛ والبيهقي (5/73)، وقال: هذا منقطع. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (3054) و«الأوسط» (6132) عن حذيفة بن أسيد ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/251): فيه عاصم بن سليمان الكوزي وهو متروك.
ولهذا لم يذكر ذلك جابر ـ رضي الله عنه ـ في سياق حج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال في الروض: «ومنه اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً ... إلخ».
فإن صحت هذه الأحاديث عمل بها، وإن لم تصح فإنه لا يجوز العمل بالخبر الضعيف؛ لأن العمل بالخبر الضعيف إثبات سنة بغير دليل صحيح.
وإذا قلنا بعدم صحة هذه الأحاديث، وأنه لا عمل عليها، فإنه يدخل باب المسجد كما يدخل أي باب من أبواب المساجد، يقدم رجله اليمنى، ويقول: «بسم الله، اللهم صلِّ على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك» ، ويتجه إلى الحجر الأسود فيطوف.
قوله: «ثم يطوف مضطبعاً» الاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر.
والحكمة من ذلك الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم (1) وإظهار القوة والنشاط، إذ هو أنشط للإنسان مما لو التحف والتف بردائه.
ثُمَّ يَطُوفُ مُضْطَبعاً يَبْتَدِئُ المُعْتَمِرُ بِطَوافِ الْعمْرةِ، وَالقَارِنُ والمُفْرِدُ لِلْقُدُومِ.
وقوله: «ثم يطوف مضطبعاً» يستفاد منه أنه لا يفعل
__________
(1) أخرجه أحمد (4/223)؛ وأبو داود في المناسك/ باب الاضطباع في الطواف (1883)؛ والترمذي في الحج/ باب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف مضطبعاً (859)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب الاضطباع (2954) عن يعلى بن أمية ـ رضي الله عنه ـ.
وقال الترمذي: «حسن صحيح».
الاضطباع إلا إذا شرع في الطواف، ويتركه حين ينتهي منه وهو كذلك، والعجب من جهل كثير من الناس اليوم أنهم يضطبعون من حين أن يحرموا ويستمروا إلى أن يحلوا، وهذا من الجهل، وعدم تنبيه العامة، وإلا فلو نبه العامة على ذلك لعملوا به لأنهم يريدون الخير.
قوله: «يبتدئ المعتمر بطواف العمرة» ، وهذا يشمل المعتمر عمرة تمتع، والمعتمر عمرة مفردة، فالمعتمر عمرة مفردة هو الذي يعتمر في أي شهر من شهور السنة، والمعتمر عمرة تمتع هو الذي يعتمر في أشهر الحج ناوياً الحج من عامه، فإن اعتمر في أشهر الحج وهو لا يريد الحج، ثم طرأ له بعد فحج فليس بمتمتع، بل هو معتمر بعمرة مفردة.
وقوله: «يبتدئ المعتمر بطواف العمرة» ظاهره أنه لا يصلي تحية المسجد وهو كذلك، فإن من دخل المسجد للطواف أغناه الطواف عن تحية المسجد، ومن دخله للصلاة، أو الذكر أو القراءة أو ما أشبه ذلك فإنه يصلي ركعتين، كما لو دخل أي مسجد آخر.
قوله: «والقارن والمفرد للقدوم» ، أي: يطوف القارن والمفرد للقدوم، وليس هذا بواجب أعني طواف القدوم.
ودليل ذلك حديث عروة بن مضرس ـ رضي الله عنه ـ: أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي الفجر في مزدلفة، فأخبره أنه ما ترك جبلاً إلا وقف عنده، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد
تم حجه وقضى تفثه» (1) ، ولم يذكر طواف القدوم، فدل هذا على أنه ليس بواجب.
وسمي طواف القدوم؛ لأنه أول ما يفعل عند قدوم الإنسان إلى مكة؛ ولهذا ينبغي أن يبدأ به قبل كل شيء، قبل أن يحط رحله؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل مكة عمد إلى البيت وأناخ راحلته، وطاف.
ولكن إذا شق على الإنسان هذا العمل، وأراد أن يذهب إلى مكان سكناه، ويحط رحله فلا حرج، فالمسألة من باب السنن فقط.
فَيُحَاذِي الحَجَرَ الأسْوَدَ بِكُلِّهِ، وَيَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُهُ فَإِنْ شَقَّ قَبَّلَ يَدَهُ، فَإِنْ شَقَّ اللّمْسُ أَشارَ إِليْهِ،...
قوله: «فيحاذي الحجر الأسود» ، يحاذي: أي: يوازي.
والحجر الأسود هو الذي في الركن الشرقي الجنوبي من الكعبة، ويوصف بالأسود لسواده، ويخطئ من يقول الحجر الأسعد، فإن هذه تسمية بدعية، فإن اسمه الحجر الأسود، لكن من العوام من يقول: الحجر الأسعد، فيجعل هذا الحجر من السعداء، بل أسعد السعداء، لأن الأسعد اسم تفضيل محلى بـ«أل» يدل على أنه لا أحد يساميه في السعادة، وهذا من الغلو
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/15، 261)؛ وأبو داود في المناسك/ باب من لم يدرك عرفة (1950)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع (891)؛ والنسائي في مناسك الحج/ باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة (5/263)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (1950)؛ وابن خزيمة (2820)؛ والحاكم (1/463).
وقال الترمذي: «حسن صحيح».
وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث». ووافقه الذهبي.
بلا شك، بل نقول الحجر الأسود كما هو أسود، وإذا لقبناه بوصفه لم يكن في ذلك إهانة له ولا إذلالٌ له. ويذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن، ولكن سودته خطايا بني آدم» (1) ، فإن كان صحيحاً، فلا غرابة أن يكون نازلاً من الجنة، وإن لم يكن الحديث صحيحاً وهو الأقرب فلا إشكال فيه.
قوله: «بكله» ، أي: بكل بدنة، بمعنى يستقبله تماماً، فلو وقف أمام الحجر، وبعض الحجر خارج بدنه من الجانب الأيسر فإن هذا الشوط ناقص، فلا بد أن يحاذي الحجر الأسود بكله.
والتحديد بهذا الحد في النفس منه شيء؛ لأن ظاهر فعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم إذا حاذوه سواء كان بكل البدن أو بالجانب الأيمن من البدن أو الأيسر أن الأمر سهل، ولكن على كلام الفقهاء لا بد من هذا، وعليه فيشكل كثيراً فيما سبق كيف تكون هذه المحاذاة الدقيقة؟ وكنا نتعبُ في هذه المحاذاة الدقيقة ونحتاط فنخطوا خطوات مما يلي الركن اليماني، وكان العامة يبدؤون من حيث يظنون أنهم حاذوا الحجر، ومعلوم أن الإنسان كلما بعد عن الكعبة شقت المحاذاة ولكن من تيسير الله ـ عزّ وجل ـ بعد تبليط المطاف جعلت هذه العلامة وكانت بالأول خطين بنيين والحجر بينهما، فكان في هذا خلل وضرر، لأن
__________
(1) أخرجه أحمد (4/223)، ولفظه: «حتى سودته خطايا أهل الشرك»؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء في فضل الحجر الأسود (877) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ. وقال الترمذي: «حسن صحيح».
المبتدئ سوف يبتدئ من الخط الأيمن، ويكون من بعد الحجر والمنتهي ينتهي بالخط الأيسر فينتهي الطواف قبل أن يصل إلى الحجر، وبقي الناس على هذا برهة من الزمن ثم غيِّر الخطان، وجعل هذا الخط في قلب الحجر، فكان علامة مريحة ومفيدة للطائفين لا سيما العوام، وأما طالب العلم فيمكن أن يتخلص ويحتاط بأن يتقدم إلى الركن اليماني ويؤدي طوافه بيقين، على أن هذا الخط فيه منازعات، فبعض الناس يقول يجب أن يرفع؛ لأن بعض العامة إذا وجد الخط وقف، وبعض العامة إذا كان الخط خالياً صلى على الخط فيظنون أن هذا الخط شيء مقصود شرعاً، وليس كذلك، قالوا: فمن أجل هذا يجب رفعه، فنقول: الحقيقة إن هذا أمر ـ كما يقولون ـ سلبي، ولكن الأمر الإيجابي أهم من هذا، وهو انضباط الناس في ابتداء الطواف وانتهائه، وأما مسألة الوقوف، ـ فنحن شاهدنا في الزحام وفي الفضاء ـ ليس وقوفاً كثيراً، ثم إن هذا الوقوف مقابل بالوقوف إذا لم يكن هناك خط، لأن كل إنسان يظن أنه حاذى الحجر سوف يقف فتتعدد المواقف، ويكون هذا أشد تضييقاً وزحاماً فهذا يقف يظن أنه حاذى الحجر، والثاني يقف يظن أنه حاذى الحجر، والثالث يقف بعده يظن أنه حاذى الحجر، فيكون أشد زحاماً، وأما الصلاة فإن كان زحام فلا أحد يقدر أن يصلي، وإن كان في غير زحام فالذين يصلون قليلون يمكن أن ينصحوا، المهم أن منفعته أكثر من مضرته فيما نرى، ونسأل الله أن يبقيه، وإلا فهناك معارضة قوية في أن يزال، ولكن نرجو من الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يمكنه حتى ينتفع الناس به.
وعلى كلام المؤلف يجب أن يحاذي الحجر بكل بدنه، والصواب أنه ليس بواجب وأنه لو حاذاه ولو ببعض البدن فهو كافٍ واختاره شيخ الإسلام، ولا حاجة إلى أن يحاذي بكل البدن، نعم إن تيسر فهو أفضل لا شك.
وقوله: «فيحاذي الحجر الأسود بكله» : يدل على أنه لا ينبغي أن يتقدم نحو الركن اليماني، فيبتدئ من قبل الحجر فإن هذا بدعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتدأ طوافه من الحجر الأسود، فكونك تبتدئ من قَبْلِ الحجر بدعة وتنطع في دين الله، فلا ينبغي أن يخطو الإنسان خطوة واحدة قبل الحجر الأسود، بل يبتدئ من الحجر.
قوله: «ويستلمه» ، أي: يمسحه بيده، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) واستلام كل شيء بحسبه، فاستلام النقود من المشتري قبضها باليد، وقد ورد في حديث عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض وأن من صافحه فكأنما صافح الله ـ عزّ وجل ـ» (2) ، وهذا الحديث لا
__________
(1) لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «لم أر رسول الله’>;(ص) يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين».
أخرجه البخاري في الحج/ باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين (1609)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف (1267).
(2) أخرج نحوه ابن ماجه في المناسك/ باب فضل الطواف (2957) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فاوضه ـ أي الركن الأسود ـ فإنما يفاوض يد الرحمن».
وعن ابن عباس قال: «إن هذا الركن الأسود يمين الله ـ عزّ وجل ـ» أخرجه عبد الرزاق (8919).
يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن ذكر عن ابن عباس من قوله، وقد قيل أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ممن عرف بالأخذ عن الإسرائيليات، فلا يعول على قوله في مثل هذا؛ لأن العلماء ذكروا أن من شرط كون الخبر مرفوعاً حكماً إذا أخبر به صحابي أن لا يكون الصحابي معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل.
تنبيه:
القول بأن ابن عباس ممن عرف بالأخذ عن الإسرائيليات، هذا ما ذكره علماء المصطلح كالعراقي في شرح ألفيته في ملحقات المرفوع والموقوف حيث ذكر أن العبادلة ممن سمعوا عن كعب الأحبار وابن عباس من العبادلة كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله ـ، لكن في كون ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ممن أخذ عن الإسرائيليات فيه نظر ظاهر، ففي صحيح البخاري عنه أنه أنكر على من يسألون أهل الكتاب، فقال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدث، وفي لفظ: (أحدث الأخبار بالله) تقرؤونه محضاً لم يُشَبْ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً لا ينهاكم وفي لفظ (أفلا ينهاكم) ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم (1) ، وعلى هذا فيكون عن ابن عباس من قوله ولا يمكن أن يكون أخذه عن بني
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها (2685).
إسرائيل لكن يبقى النظر هل يثبت له حكم الرفع؟ يحتمل أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قاله مستنبطاً الحكمة من استلامه.
قوله: «ويقبله» لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقبله (1) ، لكن هل يقبله محبة له لكونه حجراً، أو تعظيماً لله ـ عزّ وجل ـ؟
الجواب: الثاني بلا شك، لا محبة له من حيث كونه حجراً، ولا للتبرك به ـ أيضاً ـ، كما يصنعه بعض الجهال فيمسح يده بالحجر الأسود، ثم يمسح بها بدنه، أو يمسح الحجر الأسود، ثم يمسح على صبيانه الصغار تبركاً به، فإن هذا من البدع، وهو نوع من الشرك.
ولهذا قبَّل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الحجر الأسود وقال: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقبلك ما قبلتك» (2) ، فأفاد ـ رضي الله عنه ـ عنه بهذا أن تقبيله تعبُّد لله واتباع للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
فالإنسان إذا أحب شيئاً أحب القرب منه، فكذلك كان تقبيلنا للحجر الأسود محبة لله ـ عزّ وجل ـ وتعظيماً له ومحبة للقرب منه ـ سبحانه وتعالى ـ.
قوله: «فإن شق قبَّل يده فإن شق اللمس أشار إليه» ، أي: شق التقبيل فإنه يستلمه بيده ويقبل يده (3) ، وهذا بعد استلامه
__________
(1) - (2) أخرجه البخاري في الحج/ باب الرمل في الحج (1605)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (1270). عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.
(3) لما روى نافع قال: «رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعله».
أخرجه مسلم في الحج/ باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف (1268) (246).
وقال أبو الطفيل: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن».
أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز الطواف على بعير واستلام الركن بمحجن (1275).
ومسحه، لا أنه يقبل يده بدون مسح وبدون استلام، فإن شق اللمس أشار إليه (1) ، وإذا أشار إليه فإنه لا يقبل يده.
كل هذه الصفات وردت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي مرتبة حسب الأسهل، فأعلاها استلام باليد وتقبيل الحجر، ثم استلام باليد مع تقبيلها، ثم استلام بعصًا ونحوه مع تقبيله إن لم يكن فيه أذية، والسنة إنما وردت في هذا للراكب فيما نعلم ثم إشارة، فالمراتب صارت أربعاً تفعل أولاً فأولاً بلا أذية ولا مشقة.
وَيَقُولُ مَا وَرَدَ وَيَجْعَلُ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ ..........
قوله: «ويقول ما ورد» ، أي: ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) وأصحابه، ومنه عند ابتداء الطواف «بسم الله والله أكبر (3) ، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم» (4) ، كما كان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول ذلك.
__________
(1) لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر».
أخرجه البخاري في الحج/ باب التكبير عن الركن (1613).
(2) والوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم التكبير كما في حديث ابن عباس السابق.
(3) روى عبد الرزاق (8894)؛ والبيهقي (5/79): «أن ابن عمر كان إذا استلم الركن قال: بسم الله والله وأكبر».
قال الحافظ في «التلخيص» (2/247): «وسنده صحيح».
(4) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5486)، (5843) وقال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح»، وأخرجه ابن أبي شيبة (4/105)؛ والطبراني في «الأوسط» (492)؛ والبيهقي (5/79) عن علي ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه عبد الرزاق (8898) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما.
أما في الأشواط الأخرى، فإنه يكبر كلما حاذى الحجر اقتداءً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) .
مسألة: كيفية الإشارة؟ هل الإشارة كما يفعل العامة أن تشير إليه كأنما تشير في الصلاة، أي: ترفع اليدين قائلاً الله أكبر؟
الجواب: لا، بل الإشارة باليد اليمنى، كما أن المسح يكون باليد اليمنى، ولكن هل تشير وأنت ماش، والحجر على يسارك؟ أم تستقبله؟
الجواب: روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «إنك رجل قوي، فلا تزاحم فتؤذي الضعيف إن وجدت فرجة فاستلم وإلا فاستقبله وهلِّل وكبِّر» (2) ، قال: «وإلا فاستقبله» .
فالظاهر أنه عند الإشارة يستقبله، ولأن هذه الإشارة تقوم مقام الاستلام والتقبيل، والاستلام والتقبيل يكون الإنسان مستقبلاً له بالضرورة.
لكن إن شق أيضاً مع كثرة الزحام، فلا حرج أن يشير وهو ماش.
قوله: «ويجعل البيت عن يساره» ، أي: إذا طاف، يجعل
__________
(1) سبق تخريجه ص(238).
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/28)؛ وعبد الرزاق (8910)؛ والبيهقي (5/80). قال الهيثمي: «وفيه راوٍ لم يسم».
وأخرجه البيهقي (5/80) عن سعيد بن المسيب عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.
البيت عن يساره (1) ، والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف هكذا أي جعل البيت عن يساره، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» (2) .
ثانياً: أن الإنسان إذا وقف أمام الحجر فسوف ينصرف، وقد حث النبي صلّى الله عليه وسلّم على تقديم الأيمن وهو إذا انصرف فسينصرف إلى اليمين، وإذا انصرف إلى اليمين لزم أن تكون الكعبة عن يساره.
ثالثاً: أيضاً باب الكعبة من المشرق، والباب هو وجه الكعبة وخلفه دبر الكعبة، فإذا انصرف عن يمينه، جعل الكعبة عن يساره، فقد قدم وجه الكعبة على دبرها.
رابعاً: أن الحركة إذا جعل البيت عن يساره، يعتمد فيها الأيمن على الأيسر في الدوران فيكون هذا أولى؛ لأنه يعلو على الأيسر، بخلاف ما لو اعتمد الأيسر على الأيمن فإن الأيسر يكون هو الأعلى.
خامساً: أن القلب من جهة اليسار وهو بيت تعظيم الله ـ عزّ وجل ـ، ومحل تعظيم الله ـ عزّ وجل ـ ومحبته، فصار من المناسب أن يجعل البيت عن يساره؛ ليقرب محل ذكر الله وعبادته وتعظيمه، من البيت المعظم، فيكون القلب موالياً للبيت إذا جعل الكعبة عن يساره، وهذه حكمة ذكرها بعض العلماء، وأهمها اتباع السنة.
__________
(1) قال ابن عبد البر في التمهيد (2/68): بلا خلاف.
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب استحباب رمي جمرة العقبة... (1297) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
وَيَطُوفُ سَبْعاً يَرْمُلُ الأفُقِي فِي هَذا الطَّوَافِ ثَلاَثاً ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعاً يَسْتَلِمُ الحَجَرَ والرُّكْنَ اليَمَانِيَّ كُلَّ مَرَّةٍ ..........
قوله: «ويطوف سبعاً» ، أي: يدور حول الكعبة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتكون كاملة لا تقل، فلو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح، كما لو نقص شيئاً من الصلاة الرباعية، أو الثلاثية، أو الثنائية، فإنها لا تصح.
قوله: «يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً» الأفقي قال العلماء: هو الذي أحرم من بعيد عن مكة، فليس بشرط أن يكون بينه وبينها مسافة القصر، فالذي ليس من أهل مكة يرمل من الأشواط الثلاثة الأولى.
مثاله: من أحرم من قرن المنازل، أو يلملم، أو ذات عرق، أو الجحفة، أو من ذي الحليفة فإنه يرمل.
وكذلك من أحرم دون ذلك ولكنه بعيد عن مكة فإنه يرمل، حتى لو كان من أهل مكة، ودخل مكة وأحرم من مكان بعيد فإنه يرمل في طواف القدوم ثلاثة أشواط، ثم يمشي أربعة.
وذلك لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسبب هذا الفعل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم مكة عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، قالت قريش: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، أي: أضعفتهم، ويثرب هي المدينة، والحمى مرض معروف، وكانت الحمى في المدينة شديدة حتى دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه ـ عزّ وجل ـ أن ينقل حماها إلى الجحفة ففعل ـ سبحانه وتعالى.
لكن قريشاً أعداء، والعدو يحب الشماتة بعدوه، قالوا: اجلسوا ننظر هؤلاء الذين قدموا عليكم وقد أضعفتهم الحمى
وجلسوا نحو الحِجْر، أي في الناحية الشمالية من الكعبة؛ لأجل أن يطلعوا على ما زعموه من ضعف النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة.
والرمَل ليس هو هز الكتفين كما يفعله الجهال، بل الرمَل هو المشي بقوة ونشاط، بحيث يسرع، لكن لا يمد خطوه، والغالب أن الإنسان إذا أسرع يمد خطاه لأجل أن يتقدم بعيداً، لكن في الطواف نقول: أسرع بدون أن تمد الخطا بل قارب الخطا.
فلما رأت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يرملون هذا الرمل قالوا: إنهم أشد جرياً ومشياً من الغزلان الظباء، فغاظهم ذلك وحزنوا، حيث كانوا يتوقعون في الأول أنهم ضعفاء فتبين أنهم أقوياء (1) .
ولكن كان الرمل في عمرة القضاء من الحجر الأسود إلى الركن اليماني (2) ، ثم يمشون ما بين الركنين، لأنهم إذا انحرفوا عن الركن اليماني غابوا عن أنظار قريش، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبقي على قوتهم، وأن يمشوا ما بين الركنين، فلطف بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجهين:
الأول: أنه خص الرمل بالأشواط الثلاثة الأولى فقط.
الثاني: أنه أمرهم أن يمشوا ما بين الركنين، الركن اليماني والحجر الأسود.
__________
(1) - (2) أخرجه البخاري في الحج/ باب كيف كان بدء الرمل (1602)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب الرمل (1266) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
فهذا أصل مشروعية الرمل، ولكن هل يقال: إنه بعد فتح مكة وعز الإسلام يرتفع هذا الحكم، لارتفاع سببه، أو نقول إن هذا الحكم باق؟.
الجواب: الثاني، فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ أورد على نفسه هذا الإيراد وقال: فيم الرمل الآن وقد أعزنا الله؟.
ثم أجاب نفسه: أنه شيء فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بد أن نفعله (1) .
وذلك لأنه في حجة الوداع قد زال السبب، وهو إغاظة المشركين إذ ليس هناك مشرك حتى يغاظ، ومع هذا أبقاه النبي صلّى الله عليه وسلّم مع زيادة على الرمل في عمرة القضاء، حيث كان الرمل في حجة الوداع من الركن إلى الركن أي في كل الأشواط الثلاثة (2) ، حتى ما بين الركنين رمل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عمرة القضاء من الركن إلى الركن اليماني فقط، فدل ذلك على بقاء المشروعية.
فإن قال قائل: كيف تبقى المشروعية وقد زال السبب؟ والحكمة تقتضي أنه بزوال السبب يزول المسبب، وبزوال العلة يزول المعلول؟
فالجواب: أن العلة وإن كانت إغاظة المشركين ولا مشركين الآن، لكن ليتذكر الإنسان أن المسلم يُطْلَبُ منه أن يغيظ المشركين، فينبغي لك أن تشعر عند الرمل في الطواف، كأن أمامك المشركين؛ لأجل أن تغيظهم؛ لأن غيظ المشركين مما يقرب إلى الله ـ عزّ وجل ـ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب الرمل في الحج والعمرة (1605).
(2) كما في حديث جابر في صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ص(76).
ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
فإن لم يتيسر له الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، لازدحام المكان وتيسر له في الأشواط الثلاثة الأخيرة لخفة الزحام فلا يقضى؛ لأن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة الأولى، وقد فات محلها، ولأنه إذا رمل في الأشواط الأخيرة خالف السنة، إذ السنة في الأشواط الأخيرة المشي دون الرمل.
والرمل في الأشواط كلها بدعة ينهى عنها مع ما فيه من الإشقاق على النفس.
فإن قال قائل: لماذا لم يكن الرمل في أشواط أربعة.
فالجواب: قلنا: الحكمة على ذلك ما يلي:
أولاً: التخفيف على الطائفين.
ثانياً: من أجل أن يقطع على وتر؛ لأن الطواف كله مبني على وتر، فلو قلنا يرمل في الأربعة الأولى لقطع على شفع، ولو قلنا يرمل في خمسة لكان فيه مشقة، فلهذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون في الأشواط الثلاثة الأولى، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قال قائل: إذا دار الأمر بين أن أرمل مع البعد عن الكعبة وبين أن أمشي مع القرب، فأيهما أقدم؟
فالجواب: قدم الأول فارمل، ولو بعدت عن الكعبة؛ لأن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها، أو مكانها».
وهذه القاعدة لها أمثلة:
منها: لو أن رجلاً حين دخل عليه وقت الصلاة وهو حاقن، أو بحضرة طعام فهل الأولى أن يقضي حاجته ويأكل طعامه، ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها؟ أو العكس؟
فالجواب : الأول، فهنا راعينا نفس العبادة دون أول الوقت؛ لأنه إذا صلى فارغ القلب مقبلاً على صلاته كانت الصلاة أكمل.
ومنها: لو أن شخصاً أراد أن يصلي في الصف الأول، وحوله ضوضاء وتشويش أو حوله رجل له رائحة كريهة تشغله، فهل الأولى أن يتجنب الضوضاء، والرائحة الكريهة، ولو أدى ذلك إلى ترك الصف الأول، أو أن يصف في الصف الأول مع وجود التشويش أو الرائحة الكريهة؟
فالجواب: لا شك أن الأولى تجنب التشويش، وترك الصف الأول؛ لأن هذا يتعلق بذات العبادة.
قوله: «يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة» ، أي: يمسحهما بيمينه في كل مرة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستلمهما في كل مرة من طوافه (1) .
مسألة: في آخر شوط هل يستلمهما؟
فالجواب: يستلم الركن اليماني، ولا يستلم الحجر الأسود.
__________
(1) سبق تخريجه ص(235).
لأنه إذا مر بالركن اليماني مر وهو في طوافه، وإذا انتهى إلى الحجر الأسود انتهى طوافه قبل أن يحاذيه تمام المحاذاة وعليه فلا يستلم الحجر الأسود ولا يكبر أيضاً؛ لأن التكبير تابع للاستلام، ولا استلام حينئذ ولأن التكبير في أول الشوط، وليس في آخر الشوط.
وقوله: «يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة» ، وهما معروفان، والركن اليماني إنما سمي يمانياً؛ لأنه من جهة اليمن، ويطلق عليه هو والحجر الركنان اليمانيان، فالكعبة ذات أركان أربعة، الحجر والركن اليماني، والشمالي، والغربي، فيستلم الركن اليماني، والحجر، ولا يستلم الركن الشمالي والغربي.
وقد طاف أمير المؤمنين معاوية ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم فجعل يستلم الأركان الأربعة فأنكر عليه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال له معاوية: إنه ليس شيء من البيت مهجوراً، فعلل بعلة عقلية، والعلة العقلية قد تكون ساقطة.
قال له ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لقد كان لكم في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، ولم يستلم النبي صلّى الله عليه وسلّم من البيت إلا الركنين اليمانيين، فقال: صدقت» (1) ، وكف عن استلام الركن الشمالي والغربي؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يريدون الحق
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/217)؛ والطحاوي في «شرح المعاني» (2/184)، وأصل الحديث في البخاري (1608) عن أبي الشعثاء معلقاً، ووصله أحمد (1/246، 332، 372)؛ والترمذي (858)؛ وعبد الرزاق (8944)؛ والطبراني (10631)؛ والبيهقي (5/77).
أينما كان، وصار يستلم الحجر الأسود والركن اليماني؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يستلم إلا هذين الركنين.
فإن قال قائل: ما الحكمة من أنه لم يستلم الأركان الأربعة؟
فالجواب: أن الركن الشمالي والغربي ليسا على قواعد إبراهيم ـ عليه السلام ـ فلذلك لم يستلمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ إن البيت كان ممتداً نحو الشمال من قبل، لكن لما عمرته قريش قصرت بهم النفقة فرأوا أن يحطموا الجزء الشمالي من الكعبة، لأنه لا سبيل لهم إلى أن يحطموا الجزء الجنوبي؛ لأن فيه الحجر الأسود.
مسائل : ـ
الأولى: إذا لم يستطع استلام الركن اليماني فإنه لا يشير إليه؛ لأنه لم يرد.
الثانية: لم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر التكبير عند الحجر ماذا يقول عند استلامه الركن اليماني؟
والجواب: أنه لا يقول شيئاً، فيستلم بلا قول، ولا تكبير ولا غيره؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والقاعدة الفقهية الأصولية الشرعية أن كل ما وجد سببه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يفعله، فالسنة تركه، وهذا قد وجد سببه، فالركن اليماني كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستلمه، ولم يكن يكبر (1) ، وعلى هذا فلا يسن التكبير عند استلامه.
__________
(1) كما في حديث جابر في صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ص(76).
الثالثة: في بقية الطواف ماذا يقول؟
الجواب: يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» (1) .
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «والمناسبة في ذلك أن هذا الجانب من الكعبة هو آخر الشوط، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يختم دعاءه غالباً بهذا الدعاء».
وأما الزيادة: «وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار»، فهذه لم ترد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا ينبغي للإنسان أن يتخذها تعبداً لله، لكن لو دعا بها لم ينكر عليه؛ لأن هذا محل دعاء، ولكن كونه يجعله مربوطاً بهذه الجملة:الأشواط
«ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار»، غير صحيح.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول أيضاً: «اللهم إني أسألك العفو والعافية»، ولكنه حديث ضعيف (2) .
قوله: «ومن ترك شيئاً من الطواف» ، شرع المؤلف ـ رحمه الله ـ في بيان شروط الطواف فمنها أن يكون مستوعباً لجميع الأشواط
__________
(1) لحديث عبد الله بن السائب قال: سمعت النبي وهو يقول بين الركن والحجر: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
أخرجه أحمد (3/411)؛ وأبو داود في المناسك/ باب الدعاء في الطواف (1892)؛ وعبد الرزاق (8963)؛ وابن خزيمة (2721)؛ وابن حبان (3826) إحسان، والحاكم (1/455)؛ وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه ابن ماجه في المناسك/ باب فضل الطواف (2957) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه’>;ـ وقال البوصيري: «إسناده ضعيف».
من الحجر إلى الحجر؛ ولهذا قال: «ومن ترك شيئاً من الطواف» ، و«شيئاً» : نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، فتشمل ما لو ترك خطوة واحدة، أو شبراً واحداً من الطواف، فإنه لا يصح.
لكن إذا تركه من شوط، وذكر المتروك في أثناء الطواف فإنه يلغي الشوط الذي ترك منه ذلك، ويقع ما بعده بدلاً عنه.
وَمَنْ تَرَكَ شَيْئاً مِنْ الطَّوافِ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ أَوْ نُسُكَهُ أَوْ طَافَ عَلَى الشَّاذَرْوَان أَوْ جِدَارِ الحِجْرِ أَوْ عُرْيَان أَوْ نَجِسٌ لَمْ يَصِحَّ ..........
وقوله: «ومن ترك شيئاً من الطواف» ، أي: من تيقن الترك، أما من شك فإنه يُنظر، إما أن يشك بعد الفراغ من كل الطواف، وإما أن يشك في أثناء الطواف.
فإن شك في أثناء الطواف فهل يبني على اليقين، أو على غلبة الظن؟
الجواب: في ذلك خلاف، كالخلاف في من شك في عدد ركعات الصلاة، فمن العلماء من قال: يبني على غلبة الظن؛ ومنهم من قال: يبني على اليقين.
مثال ذلك: في أثناء الطواف شك هل طاف خمسة أشواط، أو ستة أشواط، فإن كان الشك متساوي الأطراف جعلها خمسة؛ لأنه المتيقن، وإن ترجح أنها خمسة جعلها خمسة، وإن ترجح أنها ستة، فمن العلماء من يقول: يعمل بذلك ويجعلها ستة، ومنهم من قال: يبني على اليقين ويجعلها خمسة.
والصحيح أنه يعمل بغلبة الظن كالصلاة، وعلى هذا فيجعلها ستة، ويأتي بالسابع.
أما بعد الفراغ من الطواف، والانصراف عن مكان
الطواف، فإن الشك لا يؤثر، ولا يلتفت إليه، ما لم يتيقن الأمر.
مثال ذلك: رجل انصرف من الطواف على أنه تم طوافه، ثم شك هل طاف سبعاً أو ستاً، فنقول له: لا تلتفت لهذا الشك؛ لأن الشيطان ربما يأتي الإنسان بعد فراغه من العبادة ليلبس عليه دينه، فيشككه، ولو أن الإنسان التفت إلى مثل هذا الشك لفسدت عليه عباداته، وصار دائماً في قلق وانفتح عليه باب الوسواس، والشيطان يحرص على أن يكون الإنسان دائماً في قلق وفي حزن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، أي: ليدخل عليهم الحزن، قال تعالى: {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] .
فإن تيقن أنه ترك شوطاً، فحينئذٍ يعمل باليقين، ويرجع ويأتي بالشوط، لكن في الغالب أن هذا لا يقع، والغالب أن الإنسان بعد أن يتم الطواف وينصرف ويصلي ركعتين أنه لا يتيقن أنه نقص، لكن إذا فرضنا ذلك وجب عليه أن يرجع ويأتي بالشوط السابع ما لم يطل الفصل عرفاً، فإن طال الفصل عرفاً امتنع البناء على ما سبق ولزمه استئناف الطواف من أوله.
قوله: «أو لم ينوه» ، هذا من شروط الطواف، فيشترط لصحته أن ينويه، فلو جعل يدور حول الكعبة، ليتابع مديناً له يطالبه بدين، أو لأي غرض من الأغراض، فإنه لا يصح طوافه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، وهذا لم ينو الطواف، بل نوى متابعة غريم، أو متابعة
__________
(1) سبق تخريجه ص(70).
إنسان يريد أن يتكلم معه، ويمشي معه حتى ينتهي من طوافه أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يصح طوافه، ولكن لو نوى الطواف مطلقاً، دون أن ينويه للعمرة مثلاً فهل يجزئ؟
الجواب: في ذلك خلاف بين العلماء.
فمنهم من قال: لا يجزئ، بل يجب أن ينوي الطواف للعمرة، أو الطواف للحج، أو الطواف للوداع، أو الطواف تطوعاً كطواف القدوم، وأما مجرد الطواف فلا يجزئ، وهذا هو المشهور من المذهب أنه لا بد أن يعين الطواف بنيته.
وقال بعض العلماء: إنه لا يشترط التعيين، بل تشترط نية الطواف؛ لأن الطواف جزء من العبادة، فكانت النية الأولى محيطة بالعبادة بجميع أجزائها، وقاس ذلك على الصلاة، وقال: الصلاة فيها ركوع، وسجود، وقيام، وقعود فلا يجب أن ينوي لكل ركن من أركانها نية مستقلة، بل تكفي النية الأولى.
وعلى هذا فإذا نوى العمرة كانت هذه النية شاملة للعمرة من حين أن يحرم إلى أن يحل منها، والطواف جزء من العمرة.
فإذا جاء إلى البيت الحرام وطاف، وغاب عن قلبه أنه للعمرة، أو لغير العمرة، فعلى هذا القول يكون الطواف صحيحاً، وهذا القول هو الراجح أنه لا يشترط تعيين الطواف ما دام متلبساً بالنسك.
وهذا مع كونه الراجح نظراً، هو الأيسر بالناس؛ لأن الإنسان مع الزحام ربما يغيب عن ذهنه أنه نوى أن يطوف للعمرة أو للحج، فلو قلنا: لا بد من تعيين الطواف للنسك المعين لكان
في هذا مشقة على الناس، أما إذا قلنا: بالقول الراجح أن نية العبادة تنسحب على جميع العبادة بجميع أجزائها فلا شك أن هذا أيسر للناس.
ونظير هذه مسألة في الصلاة، وهي: لو أنه دخل في صلاة الظهر بنية أنها فرض الوقت، وغاب عن ذهنه تعيين الظهر، فإن القول الراجح أنها تجزئ وتصح؛ لأنك لو سألت هذا الرجل ماذا أردت بهذه الصلاة؟ لكان الجواب: الظهر، والإنسان قد يذهل عن التعيين، وقد يأتي والإمام راكع مثلاً، فيدخل في الصلاة بسرعة، ولا يعين النية.
قوله: «أو نسكه» أي: أو لم ينو نسكه لم يصح، وهذا من شروط صحة طواف النسك، فالحج ينفرد عن العبادات الأخرى بأشياء كثيرة، منها: جواز تغيير النية، ومنها لزوم إتمامه ولو كان نفلاً، وغيرها.
فيجوز للإنسان أن يحرم إحراماً مطلقاً، فيقول: «لبيك اللهم لبيك» ولا يعين لا عمرة ولا حجاً، لكن لا يجوز أن يطوف حتى يعين؛ لأن الإحرام المطلق صالح للعمرة وحدها، وللحج وحده، ولهما جميعاً فلا بد أن يعين واحداً من ذلك ليتعين له الطواف.
ومن الإحرام المطلق، وإن كان فيه شيء من التقييد أن يقول: أحرمت بما أحرم به فلان، أو لبيك بما أحرم به فلان، ويتصور هذا في الرجل عنده شيء من الجهل، ويعرف أن فلاناً من أهل العلم والمعرفة قد حج، فيقول: لبيك بما أحرم به فلان، وفلان هذا قد يكون أحرم بعمرة، أو بحج، أو بحج وعمرة،
فنقول: إحرامك هذا صحيح، لكن لا بد أن تعلم بماذا أحرم فلان قبل أن تطوف، ليقع طوافك بعد تعيين النسك الذي أردت.
ويدل لهذه المسألة الأخيرة أعني أن ينوي الإحرام بما أحرم به فلان: «أن علي بن أبي طالب وأبا موسى بعثهما النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن، فقدما مكة والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد قدم قبلهما للحج، وكلاهما قال: أحرمت بما أحرم به رسولك، فلبوا بما أحرم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أما علي فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «بم أهللت؟ قال: بما أهل به رسول الله، فقال: فإن معي الهدي فلا تحل» (1) ، فأشركه في هديه؛ لأن معه الهدي؛ ومن ساق الهدي فلا يمكن أن يحل.
وأما أبو موسى فقال له: اجعلها عمرة، مع أن إحرامه حين أهل بما أهل به رسول الله ينعقد قراناً، لكن أبا موسى لم يكن معه هدي (2) .
فنأخذ من هذا أن الإنسان يجوز له أن يحرم بما أحرم به غيره، ولكن لا بد أن يعين قبل الطواف؛ ليقع طوافه في نسك معلوم، ولهذا قال المؤلف هنا: «أو نسكه» .
قال في الروض: «بأن أحرم مطلقاً»، فلو أحرم مطلقاً، ودخل وطاف على أنه طواف مطلق، كما أنه إحرام مطلق فلا
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب من أهل زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كإهلال النبي (1558)؛ ومسلم في الحج/ باب جواز التمتع في الحج والقران (1216).
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب الذبح قبل الحلق (1559)؛ ومسلم في الحج/ باب في فسخ التحلل من الإحرام (1221) عن أبي موسى ـ رضي الله عنه’>;ـ.
يصح؛ لأنه لم ينو هذا النسك بعينه؛ فعلى أي شيء يبني؟!
قوله: «أو طاف على الشاذروان» ، الشاذروان هو السوار المحيط بالكعبة من رخام في أسفلها كالعتبة، وكان من قبل مسطحاً يمكن أن يطوف عليه الناس، فإذا طاف عليه إنسان فإنه لا يصح طوافه؛ لأن الشاذروان من الكعبة، وقد قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولم يقل في البيت، ولو قال: في البيت صح الطواف من دون الحجر وعلى الشاذروان، لكن قال: بالبيت والباء للاستيعاب، فالطواف بجميع الكعبة واجب.
لكن بعض الخلفاء ـ جزاه الله خيراً ـ جعله مُسَنَّماً كما يشاهد الآن، فلا يمكن الطواف عليه فمن صعد عليه ليطوف زلق؛ لأنه مزلة.
لكن لو فرض أن رجلاً أحمق، قال لصاحبه سأعتمد على كتفك، وأطوف على الشاذروان، فلا يصح؛ لأنه من البيت، وهذا ربما يقع في أيام الزحام، فيطوف الإنسان على الشاذروان ويتكئ على أكتاف الناس، لكن ـ الحمد لله ـ لم يحصل ذلك فيما نعلم.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: يصح الطواف على الشاذروان؛ لأن الشاذروان ليس من الكعبة، بل هو كالعتبة تكون تحت سور البيت، وقد جعل عماداً للبيت، فيجوز الطواف عليه.
قوله: «أو جدار الحجر» بكسر الحاء وسكون الجيم، الحجر معروف وهو البناء المقوس من شمالي الكعبة، ويسمى عند العامة
حجر إسماعيل، ـ وسبحان الله ـ كيف يكون حجر إسماعيل وإسماعيل لم يعلم به؟! وقد بُنِيَ بعده بأزمان كثيرة؛ لأن سبب بنائه كما ثبت في الصحيح أن قريشاً لما بنت الكعبة قصرت بهم النفقة، وقد أجمعوا على أن يكون البناء من كسب طيب، فقالوا: لا بد أن نبني البعض، وندع البعض، وأنسب شيء يدعونه أن يكون الناحية الشمالية، وجعلوا هذا الجدار وسمي الحجر؛ لأنه محجر.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين باباً يخرج منه الناس وباباً يدخلون منه» (1) ، لكن ترك ذلك خوفاً من الفتنة، إلا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حقق ما أراده الرسول صلّى الله عليه وسلّم بدون مضرة، فلو أنها بنيت على قواعد إبراهيم، وجعل لها باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه، لهلك الناس، ولا سيما في الأزمنة الأخيرة، حيث يتقاتلون على ما هو دون الكعبة بكثير؛ فما ظنكم لو دخل الناس من هذا الباب، والكعبة مسقوفة وضيقة؟ لأهلك الناس بعضهم بعضاً، لكن حصل مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا الحجر، فجعل للحجر ـ وهو من الكعبة ـ بابان، باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه، مع كونه مكشوف الفضاء فانتفى الضرر مع حصول المقصود، وهذا من حكمة الله ـ عزّ وجل ـ ورحمته.
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب من ترك بعض الاختيار... (126)؛ ومسلم في الحج/ باب نقض الكعبة (1333) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
ولما تولى خلافة الحجاز عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ هدم الكعبة، وبناها على قواعد إبراهيم؛ لأن السبب الذي منع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بنائها على قواعد إبراهيم قد زال، وتوطد الإيمان في القلوب فهدمها وجعل يأتي بالناس، ويشهدهم على الأساسات الأولى التي هي قواعد إبراهيم، وبناها على قواعد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وجعل لها بابين باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه.
ثم إنها هدمت في عهد عبد الملك بن مروان وأعيدت على ما كانت عليه في الجاهلية، بعد أن استشهد عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ (1) ولما تولى الرشيد أراد أن يعيدها على قواعد إبراهيم فاستشار بذلك العلماء، فقالوا: لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، كلما مَلَكَ مَلِكٌ قال أغير إلى كذا، فتركه وبقي على ما هو عليه إلى الآن، والحمد لله.
فإذا طاف على جدار الحجر لم يصح الطواف لعدم استيعاب الكعبة، وإن طاف من دون جدار الحجر من الداخل، لم يصح من باب أولى.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لو طاف على جدار الحجر الذي ليس من الكعبة لم يصح؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، ولأن التمييز بين الجانب الداخل في الكعبة والخارج منها فيه شيء من الصعوبة؛ لأن الحجر ليس كله من الكعبة،
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب نقض الكعبة وبنائها (1333) (402) عن عطاء ـ رحمه الله ـ.
فليس من الكعبة إلا مقدار ستة أذرع وشيء، وقربه بعضهم فقال: إذا ابتدأ الانحناء من الحجر يكون خارج الكعبة، ومن المستوي يكون داخل الكعبة.
وعليه فنقول: إنه لا يصح الطواف على جدار الحجر ولو على الجانب الخارج من الكعبة؛ فيكون هذا الزائد تابعاً للأصل.
قوله: «أو عريان» ، إشارة إلى شرط من شروط الطواف وهو ستر العورة، فلو طاف وهو عريان، فإنه لا يصح طوافه؛ لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن ينادي في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك ـ يعني العام التاسع ـ ولا يطوف بالبيت عريان» (1) ، اللهم إلا أن يكون لضرورة، فإن طاف وهو عريان لم يصح؛ لأنه طواف منهي عنه، وإذا كان منهياً عنه، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) .
وكان الناس في الجاهلية إن حصلوا على ثياب من قريش أخذوها عاريَّة، أو شراء، أو هدية، فطافوا بها، وإلا فلا، على أن بعض العرب، وإن كانوا من قريش يقولون لا نطوف بثيابنا؛ لأنها ثياب عصينا الله فيها فلا نطوف بها، نقول: إذا طفتم عراة فهي ثياب عصيتم الله بها، أي: بخلعها.
وكانت المرأة تأتي فتطوف عارية، وتضع يدها على فرجها، وترتجز في الطواف وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
__________
(1) سبق تخريجه ص(15).
(2) سبق تخريجه ص(158).
أي: ما بدا منه فلا أحل لأحد أن ينظر إليه، وهذا من الجهل.
أما في الإسلام ـ ولله الحمد ـ فلا يطوف بالبيت عريان، ومن المعلوم أنه لا أحد يطوف خالعاً ثيابه.
لكن قد يطوف وهو لم يستر الستر الواجب بأن تكون عليه ثياب رقيقة، وعليه سراويل لا تصل إلى الركبة، فيطوف فلا يصح طوافه؛ لأنه لم يستر عورته؛ إذ لا بد من ستر ما بين السرة والركبة بالنسبة للرجال، أما النساء فحكم سترها في الطواف كحكم سترها في الصلاة.
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس