عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:19 PM   #7
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذا الموقف العظيم والمجمع الكبير: «أول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب» ، وقال في موضع آخر: «وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (1) ، فأقسم ـ وهو الصادق البار بلا قسم ـ أنه لو سرقت فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة، وأشرف النساء نسباً لقطع يدها.
وقوله: «لقطعت» ، يحتمل لقطعت يدها مباشرة، ويحتمل أمرت بقطع يدها، والأول أبلغ في كونه يقطع يد ابنته إذا سرقت.
فالحاصل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يضع للحكام منهجاً لو ساروا عليه لأفلحوا، وهو أن يكون أقاربهم وحاشيتهم عندهم كسائر الناس. وبعد أن خطب الناس هذه الخطبة أمر بلالاً، فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أقام وصلى العصر، ولم يسبح بينهما شيئاً (2) ، وفي تقديمه الخطبة على الأذان، والجمع بين الظهر والعصر دليل على أنه لم يقصد بذلك صلاة الجمعة؛ لأن صلاة الجمعة تكون الخطبة فيها بعد الأذان، وإلا فإن ذلك اليوم كان هو يوم الجمعة في حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يدل على أن المسافر لا يقيم الجمعة حتى لو كان معه أهل الأرض جميعاً، ثم ركب حتى أتى آخر عرفة من الناحية الشرقية، فوقف هناك، وكان عادته أن يكون في أخريات قومه لا يكون في المتقدمين؛ لأجل أن يتفقد من كان محتاجاً،
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/ باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع... (6788)؛ ومسلم في الحدود/ باب قطع يد السارق الشريف وغيره (1688) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) سبق تخريجه من حديث جابر ص(76).
ولو كان موقفه في أدنى عرفة مما يلي مكة لدفع قبل الناس، وهذا من تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وحسن سياسته.
وقف هناك وقال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» (1) ، فكأنه صلّى الله عليه وسلّم يشير إلى الأمة ألا تكلف نفسها هذا الموقف الذي وقفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل كل إنسان في مكانه؛ لئلا يحصل الزحام والأذى، فيؤذي الناس بعضهم بعضاً.
قوله: «وكلها موقف إلا بطن عرنة» ، أي كل عرفة مكان للوقوف، وعرفات معروفة لها حدود معروفة تكلم عليها الأولون، والحكومة السعودية ـ وفقها الله ـ جعلت أعلاماً بعد التحري والضبط لحدودها، وفي السنوات الأخيرة لما كثر مخالفة الناس في الموقف ووقوفهم خارج حدود عرفة، جعلت العلامات واضحة بينة كبيرة.
وقوله: «وكلها موقف إلا بطن عرنة» ، دليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (1218)، (149) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/82) عن جبير بن مطعم وفي إسناده انقطاع، وأخرجه ابن حبان (3854) إحسانه؛ والبزار (1126) «كشف الأستار»، وابن عدي (3/1118)؛ والبيهقي (9/295) وهو منقطع أيضاً كما في «نصب الراية» (3/61).
وأخرجه الطبراني في «الكبير» (1583) وفيه ضعف كما في «نصب الراية» (3/61)، وأخرجه الحاكم (1/426)؛ والبيهقي (5/115)؛ والطحاوي في «مشكل الآثار» (1194) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فلعل الحديث يتقوى بهذه الطرق والمتابعات، وانظر: «التلخيص» (1048)؛ و«التعليق على صحيح ابن حبان» و«مشكل الآثار» طبعة الرسالة.
وانتبه لكلمة «بطن عرنة» دون الحافتين اللتين لا يأتيهما السيل إلا إذا كان قوياً، فالبطن هو الممنوع، والحكمة من ذلك، هل لأنه خارج عرفة، أو لأن السنة ألا ينزل الإنسان في الأودية؟ فيه احتمال أنه من عرفة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ارفعوا عنه» ؛ لأنه وادٍ ولا ينبغي للمسافر أن ينزل في الأودية، ويؤيد هذا أنه لولا أنه منها لم يقل: «ارفعوا عن بطن عرنة» ، ولكان قد عرف أن بطن عرنة خارج عرفة، وينبني على هذا لو أن إنساناً وقف في بطن عرنة ولم يدخل عرفة وخرج كمَّل حجه.
فإن قلنا: إن الوادي منها ولكن أمرنا بأن نرتفع عنه؛ لأنه وادٍ فحجه صحيح، وإن قلنا إنه ليس منها فحجه غير صحيح، وهذا يحتاج إلى تحرير بالغ؛ لأنه مهم ينبني عليه أن الإنسان أدى فريضته، أو لم يؤد فريضته، فتحريره مهم جداً.
وظاهر كلام المؤلف أن بطن عرنة، وهو بطن الوادي من عرفة، ووجه ذلك استثناؤه منها؛ لأنه لو لم يكن من عرفة ما احتاج إلى استثنائه، وعليه فنقول: بطن عرنة من عرفة، ولكن مع ذلك لا يجوز الوقوف فيه، ولهذا قال: «وكلها موقف إلا بطن عرنة» .
ولو وقف في الوادي ودفع منه، فحجه غير صحيح؛ لأن هذا ليس من عرفة شرعاً، وإن كان منها مكاناً.
وَيُسَنُّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، وَيَقِفُ رَاكِباً عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَجَبَل الرَّحْمَةِ وَيُكْثِرُ الدُّعَاء، ممَّا وَرَدَ ..........
قوله: «ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر» ، أي: تقديماً، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، والحكمة من هذا أمران:
__________
(1) كما في حديث جابر ص(76).
الأول: أن يطول وقت الدعاء.
الثاني: أن يجتمع الناس على الصلاة، لأنهم لم يتفرقوا في المواقف، ثم يتسع الوقت لاختيار كل إنسان موقفه، والأفضل أن يُصلي الحاج خلف الإمام إذا تيسر، وأن يسمع خطبة الإمام، وسماع الخطبة الآن متيسر وإن لم تكن مع الإمام عن طريق الإذاعة، ولهذا ينبغي للناس أن يستمعوا إلى خطبة الإمام يوم عرفة، لأنها خطبة مشروعة، ثم إذا انتهت الخطبة يؤذنون في خيامهم ويصلون الظهر والعصر جمع تقديم، وإذا لم يتمكنوا من سماع الخطبة في الخيام، فيشرع لهم أن يخطب لهم أحدهم إن كان طالب علم حتى يعلِّم الناس.
وعلم من قوله: «ويسن» أنه لو لم يجمع بينهما فلا حرج فهما صحيحتان، ولكن السنة الجمع، ولماذا كانت السنة الجمع، مع أن الناس نازلون، والمسافر النازل لا يسن له أن يجمع؟
الجواب: على هذا أن يقال: إنما جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر لاجتماع الناس، واجتماع الناس على العبادة له شأن كبير في الشريعة؛ لأنهم لو تفرقوا بعد صلاة الظهر ما اجتمعوا هذا الجمع الكبير، والجمع لأجل تحصيل الجماعة مشروع، كما يشرع في أيام المطر المؤذي الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من أجل تحصيل الجماعة، وإلا فبالإمكان أن يصلي الظهر، ويقال للناس: صلوا العصر في رحالكم، أو يصلي المغرب، ويقال للناس: صلوا العشاء في رحالكم.
قوله: «ويقف راكباً» . «ويقف» يحتمل أن تكون منصوبة
عطفاً على قوله: «أن يجمع»، ويحتمل أن تكون مرفوعة على الاستئناف، دليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وقف على بعيره راكباً، رافعاً يديه يدعو الله ـ عزّ وجل ـ، ولما سقط الزمام أخذه بإحدى يديه، وهو رافع الأخرى» (1) .
والمراد بالوقوف المكث لا الوقوف على القدمين، فالقاعد يعتبر واقفاً، والوقوف قد يراد به السكون لا القيام، ومعلوم أن الراكب على البعير جالس عليها ليس واقفاً عليها.
وهل الأفضل أن يقف راكباً، أو أن يقف غير راكب؟
قال بعض العلماء: الأفضل أن يقف راكباً؛ لأن ذلك فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبناء على هذا يسن لنا أن نقف من بعد صلاة الظهر والعصر بعد جمعهما تقديماً، إلى الغروب في السيارات فنركب ونبقى فيها إلى الانصراف، لأن هذا هو الركوب.
ومنهم من قال: الأفضل أن يكون ماشياً لا راكباً، والذي ينبغي أن يقال إنه يفعل ما هو أصلح لقلبه، وهذا يختلف، قد يكون بقاؤه على الراحلة وهي السيارة في الوقت الحاضر سبباً لانشغاله وإشغاله، ويكون انفراده في مكان تحت شجرة أو في أي مكان أراد أولى وأخشع، فهنا نقول: الأفضل ألا يكون في السيارة وقد يكون في السيارة أخشع له وأقل تشويشاً؛ لأنه يكون متهيئاً متأهباً، فهنا نقول: انظر ما هو أصلح لقلبك.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/209)؛ والنسائي في المناسك/ باب رفع اليدين في الدعاء بعرفة (5/254) وصححه ابن خزيمة (2824) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وهذا لا ينافي القواعد الشرعية؛ لأن من القواعد أن مراعاة الكمال الذاتي للعبادة أولى بالمراعاة من الكمال في المكان والزمان.
قوله: «عند الصخرات» ، وهي صخرات معروفة لا تزال حتى الآن موجودة.
قوله: «وجبل الرحمة» ويقال له: جبل الدعاء، والمناسبة ظاهرة أن هذا المكان أعني عرفة كلها موطن رحمة وموطن دعاء، ولكن لم يكن هذا الاسم في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم معروفاً لهذا الجبل، لكن العلماء ـ رحمهم الله ـ جعلوا له هذا الاسم جبل الرحمة أو جبل الدعاء، لهذه المناسبة، ويسمى أيضاً إلال، وهذا اسمه الأول في الجاهلية، ويسمى جبل عرفة أو جبل الموقف.
وقوله: «ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة» لم يبين المؤلف أين يكون اتجاهه، ولكن نقول يكون اتجاهه إلى القبلة كما في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ولأن كل العبادات الأفضل أن تستقبل فيها القبلة، إلا ما قام الدليل على خلافه، كما قال ابن مفلح ـ رحمه الله ـ في الفروع لما ذكر عن بعض العلماء أنه يشرع استقبال القبلة حال الوضوء، قال: «وهو متوجه في كل طاعة إلا لدليل»، ولا شك أنه في الدعاء ينبغي أن يستقبل القبلة، أما في الوضوء وشبهه ففي النفس من هذا شيء، فيحتاج إلى دليل خاص؛ لأن الظاهر من حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه لا يتعمد ذلك.
__________
(1) سبق تخريجه ص(76).
وتستقبل القبلة حتى ولو كان الجبل خلف ظهرك؛ لأن الكعبة أفضل من الجبل، وعند العامة تستقبل الجبل، ولكن هذا ناتج عن الجهل، وعلى طلبة العلم أن يبينوا للناس أن المشروع استقبال القبلة.
مسألة: هل صعود الجبل مشروع؟
الجواب: أما من صعده تعبداً فصعوده ممنوع؛ لأنه يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وأما من صعده تفرجاً، فهذا جائز ما لم يكن قدوة يقتدى به الناس، فيكون ممنوعاً.
وأما من صعده إرشاداً للجهال عما يفعلونه أو يقولونه فوق الجبل فصعوده مشروع، أو واجب حسب الحال؛ لأننا نسمع أن بعض الجهال إذا صعد الجبل يكتب كتابات، ويضع فيه خرقاً وأشياء منكرة، فإذا ذهب طالب علم يرشد الناس، ويبين أن هذا ابتداع، وأنه لا ينبغي، فنقول إنه مشروع، إما وجوباً، وإما استحباباً.
قوله: «ويكثر الدعاء مما ورد» ، «من» هنا للجنس، أي يكون دعاؤه مما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يكثر الدعاء بما يريد ومما ورد وعلى هذا تكون «من» للتبعيض فخص الوارد، وهكذا ينبغي للإنسان أن يختار الأدعية الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء وردت في هذا المكان أو وردت في مكان آخر؛ لأن الأدعية النبوية أجمع الأدعية وأنفعها وهي صادرة من أعرف الناس بالله ـ عزّ وجل ـ وأعلمهم بما يحبه الله تعالى، فينبغي أن نحافظ على الأدعية النبوية حتى وإن وجدنا أدعية مسجعة ربما تلين القلب، ومنها أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (1) .
والمهم أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من الدعاء، ومن الذكر، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» (2) .
فإن قال قائل: الوقت طويل لا سيما في أيام الصيف، وربما يلحق الإنسان ملل، لأنه لو بقي يدعو من صلاة الظهر والعصر المجموعة إليها إلى الغروب لحقه الملل، فهل اشتغاله بغير الدعاء والذكر مما هو مباح جائز؟
الجواب : نعم وربما يكون مطلوباً إذا كان وسيلة للنشاط والإنسان بشر يلحقه الملل، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» (3) ، وقال لأصحابه حين رفعوا أصواتهم بالتكبير: «اربعوا على أنفسكم» (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء/ باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة... (2690) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات/ باب في دعاء يوم عرفة (3585) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ والإمام أحمد (2/210) عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ولفظه: كان أكثر دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة لا إله إلا الله... وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، ورواه مالك (1/421) عن طلحة بن عبيد الله مرسلاً وصحح إسناده الألباني في «المشكاة» (2/797) وجعله شاهداً للمرفوع، وانظر: «التلخيص» (1042).
(3) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب أحب الدين إلى الله أدومه (43)؛ ومسلم في الصلاة/ باب فضيلة العمل الدائم (785) (221) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(4) أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2992)؛ ومسلم في الذكر والدعاء/ باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ.
على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خطب بعد الزوال وليس بعد الزوال مباشرة؛ لأنه لما زالت الشمس كان في نمرة، فأمر بناقته فرحلت له ثم سار على الإبل حتى أتى بطن الوادي، ونزل وخطب الناس خطبة طويلة مفيدة، ثم أمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم ركب حتى أتى الموقف، والموقف من بطن عرنة بعيد وإذا لحق الإنسان ملل؛ فلا حرج أن يستريح إما بنوم، أو بقراءة قرآن، أو بمذاكرة مع إخوانه، أو بمدارسة القرآن، أو في أحاديث تتعلق بالرحمة، والرجاء، والبعث والنشور وأحوال الآخرة حتى يلين ويرق قلبه، والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان.
لكن ينبغي أن يغتنم آخر النهار بالدعاء، ويتفرغ له تفرغاً كاملاً.
وهنا نسأل: هل الأفضل أن يدعو كل واحد لنفسه، أو أن نجعل إماماً يدعو بنا؟
الجواب: الأفضل أن كل إنسان يدعو لنفسه، لكن لو جاءك إنسان، وقال: ادع الله بنا، ورأيت منه التشوف إلى أن تدعو وهو يؤمِّن فإنه لا بأس في هذه الحال أن تدعو تطييباً لقلبه، وربما يكون في ذلك خشوع أيضاً، وإذا شعر الإنسان أن الناس كلهم يلتفون حوله ويؤمِّنون، وربما يكون بعضهم قريب الخشوع فيخشع ويبكي فيخشع الناس، فهذا لا بأس به فيما يظهر لي.
والدليل أنه لم يرد منع من ذلك، وهذا يحصل أحياناً من الصحابة يطلبون من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو لهم، ولكن في هذا الموقف لا أعلم أنه دعا بالناس، ولهذا نقول: الأفضل أن يدعو كل إنسان لنفسه لا سيما إن كان يخشى أن يكون في الدعاء بصحبه فتح باب للتلبية الجماعية ونحوها.
وَمَنْ وَقَفَ وَلَو لَحْظَةً مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُو أَهْلٌ لَهُ صَحَّ حَجُّهُ وَإِلاَّ فَلاَ،.........
قوله: «ومن وقف» ، «من» اسم شرط فيعم كل من كان محرماً بالحج، ولهذا لو وقف بعرفة ولم يحرم إلا بعد أن غادرها لم ينفعه الوقوف.
قوله: «ولو لحظة» ، يحتمل أنه إشارة خلاف، ويحتمل أنه للمبالغة، وأنه لو وقف ولو أدنى وقفة، وهذا هو الأقرب.
قوله: «من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر» ، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن وقت الوقوف يبدأ من فجر يوم عرفة، وهذا من مفردات مذهب الإمام أحمد، وجمهور العلماء على أن وقت الوقوف يبدأ من الزوال فقط هو رواية عن الإمام أحمد.
وحُجة الإمام أحمد في المشهور عنه ـ رحمه الله ـ: حديث عروة بن مضرس ـ رضي الله عنه ـ أنه وافى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مزدلفة لصلاة الصبح، وأخبره ما صنع، وأنه أتعب نفسه، وأكلَّ راحلته ولم يدع جبلاً إلا وقف عنده، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص(231).
الشاهد قوله: «ليلاً أو نهاراً» ، ولم يقيده بما بعد الزوال. ومن المعلوم أن المراد بالليل هنا ليلة العيد، لأنه وافاه في صلاة الفجر، وأما نهاراً فمن المعلوم أنه التاسع، وإذا أخذنا بعموم الليل أخذنا بعموم النهار، فيكون وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة، وخصه بطلوع الفجر؛ لأن اليوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر.
وحجة الجمهور أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقف قبل الزوال (1) ، وقال: «خذوا عني مناسككم» (2) ، وعليه فيحمل قوله لعروة بن مضرس: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً» على كونه مطلقاً يقيد بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن قوله فقد تم حجه مقيد بما إذا فعل ما بقي من أركان الحج وواجباته، فصار الحديث ليس على ظاهره وإطلاقه وهذا قوي جداً.
ولا شك أن هذا القول أحوط من القول بأن النهار في هذا الحديث يشمل ما قبل الزوال.
قوله: «وهو أهل له صح حجّه» ، أي: للحج، وجملة «وهو أهل له» حال من فاعل «وقف» ، أي: والحال أنه أهل للحج، والذي هو أهل للحج هو من يلي:
أولاً : المسلم، فلا بد أن يكون مسلماً، فغير المسلم ليس أهلاً للحج، وعلى هذا فلو كان لا يصلي ووقف بعرفة وبعد الدفع منها وهو حاج، مَنَّ الله عليه فصلى فلا يصح حجه؛ لأنه
__________
(1) كما في حديث جابر ص(76).
(2) سبق تخريجه، ص(240).
حين الوقوف ليس أهلاً للحج ما لم يجدد إحرامه ويرجع فيقف قبل فوات الوقوف.
ثانياً : أن يكون محرماً، لأن غير المحرم ليس أهلاً للحج، ولم يكن في إحرام حتى يصح منه الوقوف.
ثالثاً : أن يكون عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يصح وقوفه.
رابعاً : أن لا يكون سكراناً.
خامساً : أن لا يكون مغمًى عليه.
فلا بد من خمسة أوصاف: ثلاثة ثبوتية، واثنان سلبيان.
مثال المغمى عليه: أن يحصل له حادث وهو متجه إلى عرفة، فأغمي عليه، قبل أن يصل إلى عرفة، وبقي مغمى عليه حتى انصرف الناس وانصرفوا به.
فنقول: هذا الرجل لم يصح وقوفه؛ لأنه مغمى عليه، ونقول: إنه فاته الحج، فإذا أفاق تحلل بعمرة، ثم قضاه إذا كان فرضاً من العام القادم، هذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني أن وقوفه صحيح؛ لأن عقله باق لم يزل وهذا هو الراجح.
قوله: «وإلا فلا» أصلها إن لا «إن» هذه شرطية، و «لا» نافية، وفعل الشرط محذوف وليست إلا استثنائية، بل هي مركبة من حرفين «إن» و«لا» لكن أدغم أحدهما في الآخر، والتقدير وإن لا يكن الأمر كذلك فلا، أي: فلا يصح حجه.
وفي قوله: «وإلا» ثلاثة أشياء وهي:
الأول : ألاَّ يقف.
الثاني : ألاَّ يقف في زمن الوقوف.
الثالث : أن يقف وهو غير أهل للحج؛ لأنه قال: «وهو أهل له» .
وَمَنْ وَقَفَ نَهَاراً وَدَفَع قَبلَ الغُروب وَلَمْ يَعُدْ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَمَنْ وَقَفَ لَيْلاً فَقَطْ فَلاَ،.
قوله: «ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم» ، أفادنا ـ رحمه الله ـ أنه إذا وقف نهاراً ثم دفع قبل الغروب نظرت، فإن عاد إليها قبل الغروب إما ندماً أو علم بعد جهله أو ذكر بعد نسيانه فلا دم عليه، وإن غابت الشمس قبل أن يعود فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب، وهو الوقوف بعرفة إلى الغروب لمخالفة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «خذوا عني مناسككم» ، ولموافقته هدي المشركين إن دفع قبل الغروب.
وقوله: «ولم يعد قبله» ، ظاهره أنه لو عاد بعد الغروب فعليه دم، مع أن ما بعد الغروب وقت للوقوف، وهذا أحد القولين في المذهب، لكن فيه شيء من مخالفة القواعد؛ لأنه إذا عاد بعد الغروب فقد عاد في وقت الوقوف، فمقتضى القياس أنه لا شيء عليه، كما لو عاد قبل الغروب.
والمشهور من المذهب طرد هذه المسألة، أي: أن من رجع قبل أن يطلع الفجر، فليس عليه شيء؛ لأنه رجع في وقت الوقوف.
وذهب بعض العلماء: أنه يلزمه الدم بمجرد الدفع قبل الغروب، سواء رجع أم لم يرجع، لأنه دفع منهي عنه فحصلت المخالفة بذلك، فيلزمه الدم.
ولا شك أن هذا القول، أو المذهب هو المطرد، وكلام المؤلف فيه شيء من التناقض؛ لأنه إذا رجع بعد الغروب فقد
رجع في وقت الوقوف، فأي فرق بينه وبين من رجع قبل الغروب؟!
ولو قيل بالقول الثالث الذي يلزمه الدم إذا دفع قبل الغروب مطلقاً، إلا إذا كان جاهلاً ثم نبه فرجع ولو بعد الغروب فلا دم عليه، لكان له وجه؛ وذلك لأنه إذا دفع قبل الغروب فقد تعمد المخالفة فيلزمه الدم بالمخالفة، ورجوعه بعد أن لزمه الدم بالمخالفة لا يؤثر شيئاً، أما إذا كان جاهلاً ودفع قبل الغروب، ثم قيل له: إن هذا لا يجوز فرجع ولو بعد الغروب، فإنه ليس عليه دم، وهذا أقرب إلى القواعد مما ذهب إليه المؤلف.
قوله: «ومن وقف ليلاً فقط فلا» أي دون النهار، بأن لم يأت إلى عرفة إلا بعد غروب الشمس، فإنه يجزئه؛ ولا دم عليه لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» (1) .
ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الغُرُوبِ إِلَى مُزْدَلفَةَ بِسَكِيْنةٍ وَيُسْرِعُ فِي الفَجْوَةِ، وَيَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ العِشَاءَين وَيَبيِتُ بِهَا،...........
قوله: «ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة» ، بعد أن يتأكد من غروب الشمس، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «دفع بعد الغروب وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع صلّى الله عليه وسلّم بسكينة، وقد شنق الزمام لناقته حتى إن رأسها من شدة الشنق ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة» (2) ، «فإن البر ليس بالإيضاع» (3) ، ومن
__________
(1) سبق تخريجه، ص(231).
(2) كما في حديث جابر، ص(76).
(3) أخرجه البخاري في الحج/ باب أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسكينة عند الإفاضة (1671) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وربما من قبل، كان الناس إذا نفروا أسرعوا، وللإسراع في ذلك الوقت وجه؛ لأن الدروب وعرة، والليل قد أسدل ظلامه، فكانوا يحرصون على السرعة من أجل مبادرة الوقت، بل قد كانوا في الجاهلية يدفعون قبل أن تغرب الشمس إذا صارت الشمس على الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال دفعوا اغتناماً لضوء النهار.
ومزدلفة هي المشعر الحرام بين عرفة ومنى، سميت بذلك لأنها أقرب المشعرين إلى الكعبة، ولقبت بالمشعر الحرام لإخراج المشعر الحلال وهو عرفة، وتسمى «جمعاً» لاجتماع الناس فيها، ففي الجاهلية لا يجتمع الحجاج جميعاً، إلا في مزدلفة؛ لأن عرفة يتخلف عنها قريش، والسكينة هنا الهدوء والرفق.
قوله: «ويسرع في الفجوة» ، أي: إذا أتى متسعاً أسرع؛ لأن ذلك أرفق به حتى يصل إلى مزدلفة مبكراً، وكان من هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في دفعه أنه إذا وجد فجوة نص، أي: أسرع كما أنه إذا أتى حبلاً من الحبال أرخى لناقته قليلاً من أجل أن تصعد، لأن الناقة إذا شُدَّ زمامها شق عليها الصعود، فإذا أرخى لها سهل عليها الصعود، وفي مراعاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ناقته في السير دليل على حسن رعايته حتى للبهائم وأنه ينبغي الاقتداء به في ذلك.
قوله: «ويجمع بها بين العشاءين» ، أي: إذا وصل إلى مزدلفة، ولا يصل إلى مزدلفة إذا دفع بصفة دفع الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلا بعد دخول وقت العشاء.
ولهذا كان جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم في مزدلفة جمع تأخير؛ لأنه في
أقصى عرفة من جهة الشرق، وسيمر بجميع عرفة وهي واسعة، ويمر بالطريق الذي بينها وبين مزدلفة، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم نزل في الشعب شعب المأزمين، وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، وقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله، قال: «الصلاة أمامك» ، وهذا يستغرق وقتاً طويلاً، فلهذا كان وصوله إلى مزدلفة بعد دخول صلاة العشاء (1) .
فإن قال قائل: هل يسن أن ينزل الإنسان في أثناء الطريق وفي المكان الذي نزل فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم إن كان سار فيه ويبول ويتوضأ وضوءاً خفيفاً أو لا؟
فالجواب: لا؛ لأن هذا وقع اتفاقاً بمقتضى الطبيعة، والظاهر أنه لو احتاج إلى أن يبول في غير هذا المكان لنزل فيه، ولو لم يحتج لم ينزل.
والدليل على هذا: أنه صلّى الله عليه وسلّم لما وصل إلى مزدلفة ووقف صلى المغرب قبل حط الرحال ثم بعد صلاة المغرب حطوا رحالهم، ثم صلوا العشاء (2) ، فهذا دليل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم ينزل هناك تعبداً ولكن اتفاقاً.
مسألة: لو صلى المغرب والعشاء في الطريق فما الحكم؟
الجواب: ذهب ابن حزم إلى أنه لو صلى في الطريق لم يجزئه لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأسامة: «الصلاة أمامك» (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب النزول بين عرفة وجمع (1669)، ومسلم في الحج/ باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة (1280) عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما.
(2) - (3) كما في حديث أسامة بن زيد، ص(303).
وذهب الجمهور: إلى أنه لو صلى في الطريق لأجزأه.
لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (1) .
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأسامة: «الصلاة أمامك» ، فوجهه أنه لو وقف ليصلي وقف الناس، ولو أوقفهم في هذا المكان وهم مشرئبون إلى أن يصلوا إلى مزدلفة، لكان في ذلك مشقة عليهم ربما لا تحتمل؛ فكان هديه ـ عليه الصلاة والسلام ـ هدي رفق وتيسير، لكن لو أن أحداً صلى، فإن صلاته تصح؛ لعموم الحديث: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ، وهذا هو الصحيح.
مسألة: لو خشي خروج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة، فإنه يجب عليه أن يصلي في الطريق، فينزل ويصلي، فإن لم يمكنه النزول للصلاة، فإنه يصلي ولو على السيارة؛ لأنه ربما يكون السير ضعيفاً لا يمكنه أن يصل معه إلى مزدلفة قبل منتصف الليل، ولا يمكن أن ينزل ويصلي، لأن السير غير واقف، ففي هذه الحال إذا اضطر أن يصلي في السيارة فليصل، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى على راحلته (2) في يوم من الأيام حينما كانت السماء تمطر والأرض تسيل للضرورة، وعليه أن يأتي بما يمكنه من الشروط والأركان والواجبات.
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم (335)؛ ومسلم في الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (521).
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/173) والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر (411) عن يعلى بن مرة ـ رضي الله عنه ـ قال الترمذي: غريب، وقال النووي في الخلاصة (283): إسناده جيد.
مسألة: هل نقول الآن: إنك إذا وصلت مبكراً قبل دخول العشاء فصل المغرب ثم صل العشاء في وقتها؟ نقول: نعم، إذا تيسر هذا فهو أولى، لكن في الوقت الحاضر لا يتيسر ذلك للزحام الشديد، واشتباه الأماكن، فالإنسان ربما ينطلق أمتاراً قليلة عن مقره ثم يضيع، فإذا ضاع تعب هو وتعب أصحابه، فالذي أري من باب الرفق بالناس ـ والله يريد بنا اليسر ـ أنه متى وصلوا إلى مزدلفة صلوا المغرب والعشاء جمعاً، وإن كنت قد ذكرت في المنهج (1) التفصيل، أنهم إن وصلوا مبكرين صلوا المغرب في وقتها والعشاء في وقتها، استناداً إلى حديث عبد الله بن مسعود (2) ـ رضي الله عنه ـ وإلى المعنى الذي من أجله جاز الجمع.
قوله: «ويبيت بها» ظاهر كلام المؤلف أنه يبيت بها وجوباً بدليل ما يأتي، وقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في حكم المبيت في مزدلفة.
فقال بعض العلماء: هو سنة.
وقال بعض العلماء: واجب يجبر بدم (3) .
وقال بعض العلماء: ركن كالوقوف بعرفة؛ لأن الله نص
__________
(1) «المنهج لمريد العمرة والحج» ص(27).
(2) وفيه: «أن ابن مسعود أتى المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريباً من ذلك، فأمر رجلاً فأذن وأقام ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر رجلاً فأذن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين»، أخرجه البخاري في الحج/ باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما (1675).
(3) وهو المذهب.
عليه وقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم سوّاها بعرفة حينما قال: «وقفت هاهنا وجمع كلها موقف» (1) .
ولكن القول الوسط أحسن الأقوال أنه واجب يجبر بدم وهو المذهب.
وَلَهُ الدَّفْعُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيلِ وَقَبْلَهُ فِيْهِ دَمٌ، كَوْصُولِهِ إِلَيْهَا بَعْدَ الفَجْرِ، لاَ قَبْلَه ...
قوله: «وله الدفع بعد نصف الليل» «له» الضمير يعود على الحاج مطلقاً، قوياً كان أو ضعيفاً، رجلاً كان أو امرأة له الدفع بعد نصف الليل، والمراد نصف الليل الشرعي وهو نصف ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر.
والدليل: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة ليلاً (2) ، قالوا: فإذا انتصف الليل فقد أمضى أكثر الليل في مزدلفة والمعظم ملحق بالكل في كثير من مسائل العلم، وإذا أمضى أكثر الليل أجزأه، ولكن في هذا الحكم نظراً؛ لأنه لا يطابق الدليل.
فالدليل هو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعث الضعفة من أهله بليل، وفي بعض الروايات: سحراً (3) ، وكلمة «ليل» تصدق على النصف الأول، وعلى النصف الثاني والسحر، وتعيينها بما بعد النصف يحتاج إلى دليل.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (1218) (149) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب من قدم ضعفة أهله بليل (1678)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب تقديم دفع الضعفة (1293) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أخرجه مسلم في الحج/ باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهم من مزدلفة إلى منى (1294) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومن المعلوم أننا لو أخذنا بظاهر اللفظ لقلنا: يجوز الدفع قبل منتصف الليل؛ لأنه دفع بليل، وهذا لا يقول به المؤلف رحمه الله.
ثم إذا قلنا: الواجب المبيت معظم الليل، فإن نصف الليل ليس هو معظم الليل؛ لأن الناس دفعوا من عرفة بعد غروب الشمس، والمسير من عرفة إلى مزدلفة يحتاج إلى ساعة ونصف أو ساعتين، ومن ثم كان من فقه أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أنها كانت تنتظر حتى إذا غاب القمر دفعت (1) وغروب القمر يكون في الليلة العاشرة بعد مضي ثلثي الليل تقريباً وقد يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، وكأنها ـ رضي الله عنها ـ اعتبرت نصف الليل، لكن اعتبرت النصف من نزول الناس في مزدلفة، ونزول الناس في مزدلفة إذا اعتبرنا النصف، فإنه يزيد على النصف الحقيقي الذي هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، بنحو هذا المقدار الذي اعتبرته أسماء وهو غروب القمر، وهذا هو الصحيح أن المعتبر غروب القمر، وإن شئت فقل: إن المعتبر البقاء في مزدلفة أكثر الليل، ولكن يؤخذ من الليل المسافة ما بين الدفع من عرفة إلى وصول مزدلفة، فيكون ما ذهبت إليه أسماء ـ رضي الله عنها ـ هو المطابق لمعظم الليل.
قوله: «وقبله فيه دم» ، قال في الروض: «سواء كان عالماً بالحكم، أو جاهلاً، عامداً أو ناسياً» .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب من قدم ضعفة أهله بليل (1679)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب تقديم الضعفة (1291).
أي: إذا دفع قبل منتصف الليل فعليه دم بكل حال؛ لأنه ترك واجباً، وهذا الدم دم جبران، يتصدق به جميعه على الفقراء في مكة.
وقوله: «وقبله فيه دم» خلافاً لمن قال إنه يكفي أن يصلي المغرب والعشاء وينصرف؛ لأنه صدق عليه أنه ذكر اسم الله ـ عزّ وجل ـ عند المشعر الحرام، والله ـ عزّ وجل ـ يقول {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، وقد حصل فإن الصلاة من أعظم الذكر، ولكن الصواب ما تقدم.
قوله: «كوصوله إليها بعد الفجر، لا قبله» ، أي: كوصوله إلى مزدلفة بعد الفجر، فإذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر ولو بلحظة لزمه دم؛ لأنه لم يبت بها.
ولكن ظاهر حديث عروة بن مضرس ـ رضي الله عنه ـ، أن من أدرك صلاة الفجر في مزدلفة على الوقت الذي صلى فيه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقتضي أنه لا شيء عليه؛ لقوله: «من شهد صلاتنا هذه» (1) ، والإشارة «هذه» تفيد أنه لا بد أن تكون الصلاة في أول الوقت؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلى الفجر في أول وقتها.
وقوله: «لا قبله» ، أي: لا إن وصل إليها قبل الفجر، ولو بعد نصف الليل، فإنه لا شيء عليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص(231).
والخلاصة على المذهب:
أنه إذا دفع من مزدلفة قبل منتصف الليل فعليه دم.
وإذا دفع بعد منتصف الليل فلا شيء عليه.
وإذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر فعليه دم.
وإذا وصل إليها بعد منتصف الليل فلا شيء عليه.
ولكن قلنا: إن ظاهر حديث عروة بن مضرس يقتضي أن من أدرك صلاة الفجر في أول وقتها فإنه يجزئه ولا دم عليه.
مسائل : ـ
الأولى : بعض الحجاج لا يصلون إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر، وبعد صلاة الفجر أيضاً حصرهم الزحام، فما الحكم؟
الجواب: على المذهب يجب عليهم دم، لأنه فاتهم المبيت بمزدلفة، وهو من الواجبات، والقاعدة عندهم أن من ترك واجباً فعليه دم.
وقال بعض العلماء: إن هؤلاء أحصروا إكراهاً، فيكون وصولهم إلى المكان بعد زوال الوقت كقضاء الصلاة بعد خروج وقتها للعذر، لذلك إذا أحصروا في هذه الحال، ولم يصلوا إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر وذهاب وقت الصلاة، فإنهم يكونون كالذين عذروا عن وقت الصلاة حتى خرج وقتها، فيقضونها بعد الوقت، وهذا القول أقرب إلى الصواب.
فيقال: من حصر عن الوصول إليها، ولم يصل إلا بعد طلوع الفجر ومضي قدر الصلاة، أو بعد طلوع الشمس، فإنه يقف
ولو قليلاً ثم يستمر؛ وذلك لأنه يشبه الصلاة إذا فاتت لعذر فإنه يقضيها.
ولو قيل أيضاً: بأنه يسقط الوقوف؛ لأنه فات وقته لم يكن بعيداً، فالراجح أنه لا يلزم بدم؛ لأنه ترك هذا الواجب عجزاً عنه.
الثانية: هل يشرع أن يحيي تلك الليلة بالقراءة والذكر والصلاة أم السنة النوم؟
الجواب: السنة النوم؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اضطجع حتى طلع الصبح (1) .
وهل يصلي الوتر في تلك الليلة؟
الجواب: لم يذكر في حديث جابر (2) ولا غيره فيما نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوتر تلك الليلة، لكن الأصل أنه كان لا يدع الوتر حضراً ولا سفراً، فنقول: إنه يوتر تلك الليلة، وعدم النقل ليس نقلاً للعدم، ولو تركه تلك الليلة لنقل؛ لأنه لو تركه لكان شرعاً، والشرع لا بد أن يحفظ وينقل، وكذلك يقال في سنة الفجر في مزدلفة، فجابر ـ رضي الله عنه ـ يقول: فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ولم يذكر سنة الفجر مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يدعها حضراً ولا سفراً.
الثالثة: إذا لم يستطع الإنسان أن ينام في مزدلفة ليلة العيد بسبب إزعاج السيارات ـ مثلاً ـ هل له أن يشتغل بالذكر والدعاء والصلاة؟
__________
(1) - (2) سبق من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
نقول له: اذكر الله وأنت على فراشك، وأما الصلاة فإن كان لا يراه أحد فلا بأس، وإن كان يرى فلا؛ لأنه لو رآه أحد وهي ليلة مباركة اقتدى به، ولا يعلم أنه معذور ولا سيما إذا كان طالب علم ومحل اقتداء.
الرابعة: الدفع في آخر الليل، هل يختص بأهل الأعذار أو هو عام؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه يختص بأهل الأعذار من الضعفاء كالنساء ونحوهن.
وقال بعضهم: هو جائز مطلقاً لأهل الأعذار وغيرهم.
حجة الأول:
أولاً : أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقام في مزدلفة حتى صلى الفجر، وأسفر جداً، وقال: «خذوا عني مناسككم» (1) .
ثانياً : أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ تمنت أنها استأذنت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن تدفع قبل الفجر كما استأذنت سودة، وأنها لو استأذنت لكان أشد من مفروح به (2) ، أي: تبالغ في أنها لو فعلت لأحبت ذلك.
ولم نعلم للثاني حجة مستقيمة.
الخامسة: لو قائل قائل: لماذا لم يؤخر النبي صلّى الله عليه وسلّم أهله معه، وإذا وصلوا إلى منى انتظروا إلى أن يخف الزحام؟
__________
(1) سبق تخريجه ص(240).
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب من قدم ضعفة أهله بليل (1681)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب تقديم دفع الضعفة... (1290).
فالجواب: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل ذلك لأجل أن ينال هؤلاء الذين انصرفوا من قبل فرحهم بالعيد والتحلل من أول النهار؛ لأننا إذا قلنا اذهبوا إلى منى وانتظروا حتى يخف الزحام ربما لا يخف حتى الظهر فيتأخر حلهم، ولا يتم فرحهم بالعيد، فهذه هي الحكمة.
فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَتَى المَشْعَر الحَرام فَيَرْقَاه، أَوْ يَقِفُ عَنْدَه، وَيَحْمَدُ اللهَ، وَيُكَبِّرهُ، وَيَقْرَأُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآيَتَيْنِ ويَدْعُو حَتَّى يُسْفِرَ،...........
قوله: «فإذا صلى الصبح» ، لم يبين متى تكون هذه الصلاة، لكن قد ثبت في السنة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلاها حين تبين له الصبح، ولم يتأخر، فصلاها بغلس (1) .
قوله: «أتى المشعر الحرام» ، والمشعر الحرام جبل صغير معروف في مزدلفة، وعليه المسجد المبني الآن، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب ناقته، ووقف عند المشعر الحرام راكباً، لكنه قال: «وقفت هاهنا وجمع كلها موقف» (2) ، جمع أي: مزدلفة، وسميت جمعاً؛ لأن الناس في الجاهلية يجتمعون فيها كلهم، وفي عرفات لا تجتمع قريش مع غيرهم؛ لأنهم يقفون في مزدلفة لا يخرجون إلى عرفة؛ لأن عرفة من الحل، فمن أجل هذا سميت جمعاً؛ لأنها تجمع الناس كلهم.
وقوله: «المشعر الحرام» وصف بالحرام؛ لأن هناك مشعراً حلالاً وهو عرفات، ففي الحج مشعران: حلال، وحرام.
فالمشعر الحرام مزدلفة، والمشعر الحلال عرفة.
ووصف بالحرام؛ لأنه داخل حدود الحرم.
__________
(1) كما سبق في حديث جابر، ص(76).
(2) سبق تخريجه ص(306).
قوله: «فيرقاه» ، أي: يرقى هذا المشعر، وهو جبل صغير كما قلنا.
قوله: «أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره» ، لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ويحمد الله، ويكبره، ويدعو الله ـ عزّ وجل ـ رافعاً يديه إلى أن يسفر جداً، ويكون مستقبل القبلة.
قوله: «ويقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآيتين» . وقراءة هاتين الآيتين لا أعلم فيها سنة، لكنها مناسبة؛ لأن الإنسان يذكر نفسه بما أمر الله به في كتابه.
وكأن الفقهاء قاسوا هذه المسألة على مسألة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} حيث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أقبل على الصفا عند ابتداء السعي قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، وحين تقدم إلى مقام إبراهيم قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} (1) .
قوله: «ويدعو حتى يسفر» ، يعني يدخل في سفر الصبح بحيث يتبين الضوء، ويرى الناس بعضهم بعضاً، ثم ينطلق قبل أن تطلع الشمس، لحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ حتى أسفر جداً فيدفع قبل أن تطلع الشمس، فإذا أسفر سار قبل طلوع الشمس بسكينة (2) خلافاً لأهل الجاهلية، فأهل الجاهلية لا يدفعون من مزدلفة إلا إذا طلعت الشمس، وكان من عباراتهم الموروثة: أشرِقْ ثبير كيما نغير.
__________
(1) - (2) سبق تخريجه ص(76).
وثبير: جبل معروف هناك؛ كان رفيعاً تتبين به الشمس قبل غيره مما حوله من الجبال، وكانوا يرقبون هذا الجبل فإذا أشرق دفعوا (1) .
فأهل الجاهلية يبادرون الإسفار في أول الليل، وفي آخره؛ لأنهم يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ويدفعون من مزدلفة بعد طلوع الشمس، أما الرسول صلّى الله عليه وسلّم فخالفهم في الوقتين، فبقي في عرفة حتى غربت الشمس ودفع من مزدلفة قبل طلوعها.
مسألة: من انصرف من مزدلفة قبل الفجر، فهل يشرع له أن يدعو عند المشعر الحرام؟
الجواب: نعم، فقد كان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يرسل أهله فيذكرون الله عند المشعر الحرام، ثم يأمرهم بالانصراف قبل الفجر (2) .
فَإِذَا بَلَغَ مُحَسِّراً أَسَرَعَ رَمْيَةَ حَجَرٍ وَأَخَذَ الحَصَى وَعَدَدُهُ سَبْعُونَ بَيْنَ الحمَّصِ والبُنْدُقِ،
قوله: «فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر» .
ودليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرك ناقته حين بلغ محسراً فيسرع (3) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرع فيه، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ومحسر بطن واد عظيم سُمي بذلك؛ لأنه يحسر سالكه، أي: يعيقه، لأن الوادي الذي
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب متى يدفع من جمع (1684) عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب من قدم ضعفة أهله بليل... (1676)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب تقديم دفع الضعفة (1295).
(3) كما سبق في حديث جابر ص(76).
هو مجرى السيل يكون في الغالب رملياً ويعيق سالكه؛ ولهذا سمي مُحسِّراً، وبهذا نعرف أن بين المشاعر أودية.
فبين المشعر الحرام والمشعر الحلال واد، وهو وادي عرنة، وبين المشعرين الحرامين منى ومزدلفة واد، وهو وادي محسر.
واختلف العلماء في سبب الإسراع، فقال بعضهم: أسرع؛ لأن بطن الوادي يكون ليناً يحتاج أن يحرك الإنسان بعيره؛ لأن مشي البعير على الأرض الصلبة، أسرع من مشيه على الأرض الرخوة، فحرك من أجل أن يتساوى سيرها في الأرض الصلبة وسيرها في الأرض الرخوة، وعلى هذا فالملاحظ هنا هو مصلحة السير فقط.
وقيل: أسرع؛ لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل، فينبغي أن يسرع؛ لأن المشروع للإنسان إذا مر بأراضي العذاب أن يسرع، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم: حين مر بديار ثمود في غزوة تبوك زجر الناقة ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقنّع رأسه وأسرع، وبعض الناس يتخذ اليوم هذه الأماكن أعني ديار ثمود سياحة ونزهة ـ والعياذ بالله ـ مع أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أسرع فيها، وقال: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» (1) ، ففي عملهم خطر عظيم؛ لأن الإنسان إذا دخل على هؤلاء بهذه الصفة
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب (433)؛ ومسلم في الزهد/ باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلا من يدخل باكياً (2980) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما.
فقلبه يكون غير لين خاشع، فيكون قاسياً مع مشاهدته آثار العذاب، وحينئذٍ يصيبه ما أصابهم من التكذيب والتولي، هذا معنى الحديث، وليس المراد أن يصيبكم العذاب الرجز الحسي، فقد يراد به العذاب والرجز المعنوي، وهو أن يقسو قلب الإنسان، فيكذب بالخبر، ويتولى عن الأمر.
والذين يذهبون إلى النزهة أو للتفرج، الظاهر أنهم للضحك أقرب منهم للبكاء، فنسأل الله لنا ولهم العبرة والهداية.
وتعليل إسراع النبي صلّى الله عليه وسلّم في وادي محسر بذلك؛ فيه نظر لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا، بل في مكان يقال له المُغَمَّسُ حول الأبطح، وفي هذا يقول الشاعر الجاهلي:
حبس الفيل بالمُغَمَّسِ حتى
ظل يحبو كأنه مكسور
وقال بعض العلماء: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرع؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي، ويذكرون أمجاد آبائهم.
فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخالفهم، كما خالفهم في الخروج من عرفة وفي الخروج من مزدلفة، ولعل هذا أقرب التعاليل، ولهذا قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} [البقرة: 198] ، ثم قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
وقوله: «أسرع رمية حجر» ، رمية حجر كيف قياسها؟ لأن الحجر قد يكون كبيراً، فإذا رميت به لم يذهب بعيداً، وقد يكون الرامي ضعيفاً، فإذا رمى بالحجر الصغير لم يذهب بعيداً؛ ولكن
قال بعضهم: مقدار خمسمائة ذراع، والذراع نصف المتر تقريباً.
والظاهر أنه لا يمكن الإسراع الآن؛ لأن الإنسان محبوس بالسيارات فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، وربما ينحبس في نفس المكان يحبس فيعجز أن يمشي، ولكن نقول: هذا شيء بغير اختيار الإنسان، فينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع لأسرع، وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب.
قوله: «وأخذ الحصى» ، ظاهر كلام المؤلف: أنه يأخذه من وادي محسر أو من بعده، لأنه قال: «فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر وأخذ» ، فعلى هذا يأخذه بعد أن يتجاوز محسراً في طريقه.
والذي يظهر لي من السنة أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخذ الحصى من عند الجمرة، لأنه «أمر ابن عباس أن يلقط له الحصى، وهو واقف يقول للناس: بأمثال هؤلاء فارموا» (1) ، وأما أخذه من مزدلفة، فليس بمستحب، وإنما استحبه بعض المتقدمين من التابعين؛ لأجل أن يبدأ برمي جمرة العقبة من حين أن يصل إلى منى؛ لأن رمي جمرة العقبة هو تحية منى، ويُفعل قبل كل شيء حتى إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رمى وهو على بعيره قبل أن يذهب إلى رحله، وينزل رحله، والناس لا يتيسر لهم أن يقولوا لأحد منهم القط لنا الحصى، وهم على إبلهم، ولكن كثيراً
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/215، 347)؛ والنسائي في المناسك/ باب التقاط الحصى (5/268)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب قدر حصى الرمي (3029) وصححه ابن خزيمة (2867)؛ وابن حبان (3871)؛ والحاكم (1/466) وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
من الخلق يظنون أنه يجب أن يكون الحَصَى من مزدلفة وجوباً.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يغسل الحصا، وقال بعض العلماء: إنه يغسله تطهيراً له إن كانت قد أصابته نجاسة، أو تنظيفاً له إن لم تكن أصابته نجاسة.
والصحيح أن غسله بدعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يغسله.
قوله: «وعدده سبعون» بناءً على أنه يتأخر لليوم الثالث من أيام التشريق، فإن لم يتأخر، فأسقط من السبعين واحدة وعشرين تكن تسعاً وأربعين.
والصحيح أنه لا يأخذ السبعين، ولا تسعاً وأربعين، وإنما يأخذ الحصى كل يوم في يومه من طريقه، وهو ذاهب إلى الجمرة؛ لأن الشيء الذي ليس عليه دليل يكون عدم فعله لا سيما في العبادة هو الدليل، بل لو قال قائل: يأخذ في اليوم الثاني سبع حصيات للجمرة الأولى، وفي طريقه منها إلى الثانية يأخذ سبعاً وفي طريقه من الثانية إلى الثالثة يأخذ سبعاً، لم يكن هذا بعيداً، وأما أن يجمع سبعين حصاة من أول الأمر فهذا ليس بسنة.
قوله: «بين الحمص والبندق» ، بيَّن المؤلف حجمه، الحمص معروف، والبندق هو بالقدر الذي تضعه بين الإبهام والوسطى من الحصا، ثم ترمي به بالسبابة.
وَصَلَ إِلى مِنَى، وَهِيَ مِنْ وَادي مُحَسِّرٍ إِلَى جَمْرَةِ العَقَبةِ رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُتَعَاقِبَاتٍ يَرْفَعُ يَدَهُ حَتَى يُرى بَيَاض إِبْطِهِ ويُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَلاَ يُجْزِئ الرَّمْيُ بِغَيْرِهَا وَلاَ بِهَا ثَانِياً وَلاَ يَقِفُ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ قَبْلَهَا، ............
قوله: «فإذا وصل إلى منى، وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة» ، أي: إذا وصل الحاج إلى منى، ومنى اسم مكان معروف، وسميت بهذا الاسم لكثرة ما يمنى فيها من الدماء، أي:
يراق من الدماء، وهي من حيث الإعراب مصروفة، فنقول: إلى منًى بالتنوين، وحدها شرقاً وغرباً من وادي محسر إلى جمرة العقبة.
وظاهر كلام المؤلف حسب دلالة «مِن» أن الوادي منها، وليس كذلك.
أما جمرة العقبة فليست منها؛ لأنه قال: «إلى جمرة العقبة» والمعروف في معاني الحروف أن ابتداء الغاية داخل، لا انتهاءها، لكن إذا كانت المسألة من باب الحد، فإن ابتداء الغاية، وانتهاءها لا يدخلان.
فإذا قلت: لك من هذه الأرض من كذا إلى كذا، فالحد لا يدخل في المحدود لا ابتداء ولا انتهاء، وبهذا يتقرر أن وادي محسر ليس من منى، وأن جمرة العقبة ليست من منى.
ومن الشمال والجنوب قال العلماء: كل سفوح الجبال الكبيرة ووجوهها التي تتجه إلى منى من منى، وبناءً على هذا تكون منى واسعة جداً، وتسع الحجاج لو أنها نظمت تنظيماً تاماً مبنياً على العدل، لكن يحصل فيها الظلم، فتجد بعض الناس يتخذ مكاناً واسعاً يسع أكثر من حاجته.
وتوجد مشكلة في الوقت الحاضر، يقول بعض الناس أنا لا أجد أرضاً بمنى إلا بأجرة، فهل يجوز أن يستأجر أرضاً في منى؟
الجواب: نعم يجوز، والإثم على المؤجر الذي أخذ المال بغير حق، أما المستأجر فلا إثم عليه، ولهذا قال فقهاء الحنابلة ـ رحمهم الله ـ: لا يجوز تأجير بيوت مكة، ولكن إذا لم يجد بيتاً
إلا بأجرة دفع الأجرة، والإثم على المؤجر، وبيوت منى وأرضها من باب أولى؛ لأن منى مشعر محدود محصور، فأين يذهب الناس إذا استولى عليها من يقول: أنا لا أنزل فيها الناس إلا بأجرة؟!
أما مكة فيمكن أن ينزل الإنسان بعيداً، ولكن منى، وعرفة، ومزدلفة مشاعر كالمساجد، لا يجوز لأحد إطلاقاً أن يبني فيها بناء ويؤجره، ولا أن يختط أرضاً ويؤجرها، فإن فُعِلَ فالناس معذورون يبذلون الأجرة، والإثم على الذي أخذها.
قوله: «رماها بسبع حصيات» اقتداءً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ؛ لأنه رماها بسبع حصيات، أما لماذا لم تكن خمساً، أو ثلاثاً، أو تسعاً، أو إحدى عشرة حصاة؟
فالجواب: أن هذا ليس لنا الحق في أن نتكلم فيه، كما أنه ليس لنا الحق أن نقول لماذا كانت الصلوات الخمس سبع عشرة ركعة؟ ولماذا لم تكن الظهر ستاً، والعصر ستاً، والعشاء ستاً مثلاً؟
لأن هذا لا تدركه عقولنا، وليس لنا فيه إلا مجرد التعبد.
قوله: «متعاقبات» ، أي: واحدة بعد الأخرى، فلو رمى السبع جميعاً من شدة الزحام لم تجزه إلا عن واحدة، أما لو رماها جميعاً غير مبال بتعاقبها فإنها لا تجزئ ولا عن واحدة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ، أي مردود.
وقوله: «رماها» يفهم منه أنه لو وضع الحصا وضعاً فإنه لا
__________
(1) كما سبق في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
(2) سبق تخريجه ص(158).
يجزئ، فلا بد من الرمي لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بأمثال هؤلاء فارموا» (1) .
وقوله: «متعاقبات» هل يشترط أن تكون متوالية أو يجوز أن تكون متفرقة؟
كلام المؤلف يحتمل الوجهين، لكن هي عبادة واحدة والأصل في العبادة المكونة من أجزاء أن تكون أجزاؤها متوالية كالوضوء، إلا أنه إذا تعذرت الموالاة لشدة الزحام فينبغي أن يسقط وجوب الموالاة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
وقوله: «رماها بسبع حصيات» قد يفهم منه أنه لا بد أن يرمي الشاخص «العمود القائم»، ولكنه غير مراد، بل المقصود أن تقع الحصاة في الحوض، سواءٌ ضربت العمود أم لم تضربه.
قوله: «يرفع يده حتى يرى بياض إبطه» ، علل صاحب الروض هذا بأنه أعون له على الرمي، وهذا إذا كان الإنسان بعيداً، لكن إذا كان قريباً فلا حاجة إلى الرفع، إذ المقصود هو الرمي، فالإنسان البعيد يحتاج إلى رفع يده حتى يصل الحصا إلى مكانه.
قوله: «ويكبر مع كل حصاة» ، أي: كلما رمى قال: الله أكبر مع كل حصاة (2) ، وبهذا تُعرف الحكمة من رمي الجمرات، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي
__________
(1) سبق تخريجه ص(318).
(2) سبق تخريجه ص(76) من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ.
الجمار لإقامة ذكر الله» (1) ، فالحكمة إقامة ذكر الله، وتعظيم الله ـ عزّ وجل ـ، وتمام التعبد؛ لأن كون الإنسان يأخذ حصى يرمي به هذا المكان يدل على تمام انقياده، إذ إن النفوس قد لا تنقاد إلى الشيء إلا بعد أن تعرف المعنى الذي من أجله شرع، وأما ما يذكر من أن الرمي هنا إنما هو لإغاظة الشيطان، فإن هذا لا أصل له، إلا أن يكون من حيث عموم العبادة لأن الشيطان يغيظه أن يقوم العبد بطاعة الله، وعلى هذا المفهوم الذي لا أصل له صار بعض العامة إذا أقبل على الجمرة أقبل بانفعال شديد، وغضب شديد محمر العينين يضرب بأكبر حصاة يجدها، وبالنعال، والخشب وربما قال أقوالاً منكرة من السب واللعن لهذه الشعائر.
قوله: «ولا يجزئ الرمي بغيرها» أي: بغير الحصى، حتى ولو كان ثميناً، قال في الروض: «كجوهر، وذهب، ومعادن» ، لأن المسألة تعبدية، فلو رميت بجوهر، أو بألماس، أو بحديد، أو بخشب أو طين، أو إسمنت، فلا يجزئ، لكن لو كان في كسر الإسمنت حصا لأجزأ الرمي بها.
قوله: «ولا بها ثانياً» ، أي: لا يجزئ الرمي بها ثانياً بأن ترمى بحصاة رُمِيَ بها، وعللوا بما يلي:
أولاً : أن الماء المستعمل في الطهارة الواجبة لا يرفع
__________
(1) أخرجه أحمد (6/64) وأبو داود في المناسك/ باب في الرمل (1888) والترمذي في الحج/ باب ما جاء كيف ترمى الجمار؟ (902) وابن خزيمة (2970) والحاكم (1/459) عن عائشة رضي الله عنها وصححه ابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي.
الحدث، وهذه حصاة مستعملة في عبادة واجبة وهي الرمي فلا يجوز أن يرمى بها ثانية، كما لا يجوز أن تتوضأ بالماء المستعمل في طهارة واجبة.
ثانياً : أن العبد إذا أعتق في كفارة لم يجزئ إعتاقه مرة أخرى، فكذلك الحصاة المرمى بها لا يجزئ الرمي بها مرة أخرى.
وكلا التعليلين عليل:
أما الأول فإنه قياس مختلف فيه على مختلف فيه؛ لأن بعض العلماء قال: إن الماء المستعمل في رفع الحدث يجوز استعماله مرة أخرى في رفع الحدث، فكذلك الحصاة المرمي بها وهذا مذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ.
والقياس لا بد فيه أن يتفق الطرفان على حكم الأصل، لأجل أن يلزم أحدهما الآخر بما يقتضيه القياس، أما إذا قال: أنا لا أسلم أن الماء المستعمل لا يرفع الحدث، بل يرفع الحدث، وحينئذٍ إذا بطل الأصل المقيس عليه بطل المقيس.
وأما الثاني فنقول: إن العبد إذا أعتق صار حراً، أي: زال عنه وصف العبودية، ولهذا لو قدر أن هذا العبد ارتد ثم ذهب إلى الكفار، ثم حارَبَنَا ثم سبيناه مرة ثانية، عاد رقيقاً وجاز أن يعتق في الكفارة، وأما الحصاة فلم تتغير ذاتاً ولا صفةً بعد الرمي بها فيكون هذا القياس قياساً مع الفارق.
إذاً القول الراجح أن الحصاة المرمي بها مجزئة، وهذا مع كونه هو الصحيح أرفق بالناس؛ لأنه أحياناً تسقط منك الحصاة،
وأنت عند الحوض وتتحرج أن تأخذ مما تحت قدمك، فإذا قلنا بالقول الراجح أمكن الإنسان أن يأخذ من تحت قدمه ويرمي بها.
وأورد على هذا القول أنه يلزم منه أن يرمي الحجاج كلهم بحصاة واحدة وتجزئ عنهم؟
وأجيب: أن هذا إيراد غير وارد لتعذر إمكانه، فمن الذي يجلس ينتظر الآخر فالثاني ينتظر الأول، والثالث ينتظر الثاني وهكذا إلى آخر الحجاج؟! فيسقط هذا الإيراد.
قوله: «ولا يقف» ، أي: بعد رمي الجمرة للدعاء بل ينصرف إلى المنحر، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
مسألة: من أين يرمي جمرة العقبة؟
الجواب: يقول الفقهاء: يرمي جمرة العقبة مستقبل القبلة والجمرة عن يمينه وهذا لا يمكن خصوصاً في وقتنا الحاضر، ولا يمكن أن نتصور أن يفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هكذا، والصواب أن يرميها من بطن الوادي؛ وكانت الجمرة ـ وقد أدركتها ـ في ظهر جبل لاصقة به، لكنه جبل ليس بالرفيع في عقبة، ولهذا تسمى جمرة العقبة يصعد الناس إليها، وكان تحتها واد يمشي معه المطر، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم رمى من بطن الوادي (2) ، ولم يصعد على الجبل ليرمي من فوقه، وإذا رمى من بطن الوادي، تكون مكة عن يساره ومنى عن يمينه، وقد فعل ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقال: «هذا
__________
(1) كما سبق في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
(2) كما سبق في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة» (1) . وهذا في الوقت الحاضر قد يكون صعباً، وقد ذكرنا قاعدة نافعة: أن مراعاة ذات العبادة أولى من مراعاة مكانها، فإذا أتاها من الشمال، كان أيسر؛ لعدم المانع من جبل أو عقبة، المهم أن ترميها من مكان يكون أيسر لك وأن يقع الحصا في المرمى، فإذا وقعت في المرمى ثم تدحرجت تجزئ؛ لأن الاستقرار ليس بشرط، وإذا وقعت خارج المرمى ثم تدحرجت فيه بغير فعل أحد تجزئ، وإذا ضرب العمود ـ الذي جعل علامة ـ فرجعت الحصاة خارج المرمى لا تجزئ، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يشتد في الرمي ويكفي غلبة الظن في أن تقع في المرمى؛ لأن غالب العبادات مبناها على غلبة الظن، ولأن اليقين في عصرنا صعب وهذا من التيسير، والمهم أن تؤديها بخشوع، واستحضار أنك في عبادة، وتكبر الله ـ عزّ وجل ـ.
قوله: «ويقطع التلبية قبلها» ، يعني التلبية بالحج أو بالحج والعمرة إن كان قارناً، فيقطع قبل الرمي لقول الفضل بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (2) . وعلى هذا فلا يزال يلبي في الدفع من منى إلى عرفة ومن عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى.
ويقطع التلبية عند البدء في الرمي؛ لأنه إذا بدأ شرع له ذكر آخر، وهو التكبير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب رمي الجمار من بطن الوادي (1747)؛ ومسلم في الحج/ باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي (1296).
(2) سبق تخريجه ص(280).
وَيَرْمِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيُجْزِئ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَنْحَرُ هَدْياً إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ وَتُقَصِّرُ مِنْهُ المَرْأَةُ قَدْرَ أنْمُلَةٍ، ...
قوله: «ويرمي بعد طلوع الشمس» الفاعل الحاج، يرمي بعد طلوع الشمس هذا هو الأفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رمى بعد طلوع الشمس» (1) .
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس