عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:07 PM   #1
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي كتاب المناسك ويليه باب الهدي والأضحية والعقيقة من الشرح الممتع ، قمت بتفريغه للقراءة المباشرة أو حمله من المرفقات

الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد السابع
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1424هـ

قد قمت بفضل الله عز وجل بتفاريغه كاملا هنا في هذه الصفحات ، وإن شئت فحمله من المرفقات ( ملف وورد )
كِتابُ المَنَاسِكِ ويليه باب الهدي والأضحية والعقيقة .
الحَجُّ والعُمْرَةُ وَاجِبَانِ ....................
المناسك: جمع منسك، والأصل أن المنسك مكان العبادة أو زمانها، ويطلق على التعبد، فهو على هذا يكون مصدراً ميمياً بمعنى التعبد، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 34، 67] أي: متعبداً يتعبدون فيه، وأكثر إطلاق المنسك، أو النسك على الذبيحة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الأنعام] ، والفقهاء ـ رحمهم الله ـ جعلوا المنسك ما يتعلق بالحج والعمرة؛ لأن فيهما الهدي والفدية، وهما من النسك الذي بمعنى الذبح.
قوله: «الحج والعمرة واجبان» .
«الحج» مبتدأ و «العمرة» معطوف عليه و «واجبان» خبر المبتدأ.
والحج واجب وفرض بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، ومنزلته من الدين أنه أحد أركان الإسلام.
وهو في اللغة: القصد.
وفي الشرع: التعبد لله ـ عزّ وجل ـ بأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقول بعض الفقهاء في تعريفه: قصد مكة لعمل مخصوص، لا شك أنه قاصر؛ لأن الحج أخص مما قالوا؛
لأننا لو أخذنا بظاهره لشمل من قصد مكة للتجارة مثلاً، ولكن الأولى أن نذكر في كل تعريف للعبادة: التعبد لله ـ عزّ وجل ـ، فالصلاة لا نقول إنها: أفعال وأقوال معلومة فقط، بل نقول: هي التعبد لله بأقوال وأفعال معلومة، وكذلك الزكاة، وكذلك الصيام.
والعمرة في اللغة الزيارة.
وفي الشرع التعبد لله بالطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
وقوله: «واجبان» أي: كل منهما واجب، ولكن ليس وجوب العمرة كوجوب الحج، لا في الآكدية، ولا في العموم والشمول.
أما الآكدية فإن الحج ركن من أركان الإسلام، وفرض بإجماع المسلمين، وأما العمرة فليست ركناً من أركان الإسلام، ولا فرضاً بإجماع المسلمين.
وأما العموم والشمول فإن كثيراً من أهل العلم يقولون: إن العمرة لا تجب على أهل مكة، وهذا نص عليه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ.
واختلف العلماء في العمرة، هل هي واجبة أو سنة؟
والذي يظهر أنها واجبة؛ لأن أصح حديث يحكم في النزاع في هذه المسألة، هو حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: حين قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هل على النساء جهاد؟ قال: «نعم، عليهن جهاد
لا قتال فيه، الحج والعمرة» (1) ، فقوله: «عليهن» ظاهر في الوجوب؛ لأن «على» من صيغ الوجوب، كما ذكر ذلك أهل أصول الفقه، وعلى هذا فالعمرة واجبة ولكن هل هي واجبة على المكي؟
في هذا خلاف في مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، فالإمام أحمد نص على أنها غير واجبة على المكي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، بل إن شيخ الإسلام يرى أن أهل مكة لا تشرع لهم العمرة مطلقاً، وأن خروج الإنسان من مكة ليعتمر ليس مشروعاً أصلاً، ولكن في القلب من هذا شيء؛ لأن الأصل أن دلالات الكتاب والسنة عامة، تشمل جميع الناس إلا بدليل يدل على خروج بعض الأفراد من الحكم العام.
واستدل بعض العلماء على وجوب العمرة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . فهل يسلم لهم هذا الاستدلال؟
الجواب: يمكن ألا يسلم لهم؛ لأن هناك فرقاً بين الإتمام وبين الابتداء، فالآية تدل على وجوب الإتمام لمن شرع فيهما؛ لأن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل أن يفرض الحج، إذ الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة، والحديبية كانت في ذي القعدة من السنة السادسة، ولهذا لو شرع الإنسان في الحج أو العمرة في كل سنة، قلنا: يجب عليك أن تتم، أما ابتداءً فلا يلزم الحج إلا مرةً واحدة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/71، 165)، وابن ماجه في المناسك/ باب الحج جهاد النساء (2901) قال الحافظ في البلوغ (709): إسناده صحيح.
وقوله: «الحج والعمرة واجبان» الذي يظهر لي أن المؤلف لم يرد أن يبين حكمهما من حيث هو؛ لأن ذلك واضح، فإن الحج من أركان الإسلام، لكن أراد أن يقيد الوجوب بشروط الوجوب فقال: «واجبان على المسلم الحر» كأن سائلاً يسأل: على من يجب الحج والعمرة؟
عَلَى المُسْلِمِ الحُرِّ المُكَلَّفِ القَادِرِ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً عَلَى الفَوْرِ..........
قوله: «على المسلم» هذا أحد شروط وجوب الحج والعمرة، والعِبادات كلها لا تجب إلا على المسلم؛ لأن الكافر لا تصح منه العبادة؛ لقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54] . فالإسلام شرط لكل عبادة، وإذا قلنا: إنها غير واجبة على الكافر، فلا يعني ذلك أنه لا يعاقب عليها، ولكنه لا يؤمر بها حال كفره، ولا بقضائها بعد إسلامه، فعندنا ثلاثة أشياء:
الأول: الأمر بأدائها.
الثاني: الأمر بالقضاء.
الثالث: الإثم.
فالأمر بالأداء لا نوجهه إلى الكافر، والأمر بالقضاء إذا أسلم كذلك لا نوجهه إليه، والإثم ثابت يعاقب على تركها، وعلى سائر فروع الإسلام.
قوله: «الحر» ضده العبد الكامل الرِّق، والمبعَّض، وهذا هو الشرط الثاني لوجوب الحج والعمرة، وهو الحرية، فلا يجب الحج على قِنٍّ ولا مبعض، لأنهما لا مال لهما، أما العبد الكامل الرِّق؛ فلأن ماله لسيده لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً له مال
فماله للذي باعه، إلا أن يشترطه المبتاع» (1) .
فإذا لم يكن له مال فهو غير مستطيع، وأما المبعض فيملك من المال بقدر ما فيه من الحرية، فإذا ملك عشرة ريالات، ونصفه حر، صار له منها خمسة، ولكنه لا يستطيع أن يحج من أجل مالك نصفه ـ إذا كان مبعضاً بالنصف ـ؛ لأنه مملوك في هذا الجزء فلا يلزمه الحج.
قوله: «المكلف» هو: البالغ العاقل، وهذا هو الشرط الثالث لكنه يتضمن شرطين هما البلوغ والعقل، فالصغير لا يلزمه الحج، ولكن لو حج فحجه صحيح؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين رفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر» (2) ، والصغير من دون البلوغ، والبلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة للذكور، وواحد من أمور أربعة للإناث.
فللذكور: الإنزال، ونبات العانة، وتمام خمس عشرة سنة، وللإناث: هذه، وزيادة أمر رابع وهو الحيض.
وأما المجنون فلا يلزمه الحج ولا يصح منه، ولو كان له أكثر من عشرين سنة؛ لأنه غير عاقل، والحج عمل بدني يحتاج إلى القصد.
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379)، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها ثمر (1543) (80) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب «صحة حج الصبي» (1336) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
قوله: «القادر» هذا هو الشرط الخامس لوجوب الحج والعمرة، ولم يفسر المؤلف القدرة، لكن كلامه الآتي يفسرها. والقادر: هو القادر في ماله وبدنه، هذا الذي يلزمه الحج أداءً بنفسه، فإن كان عاجزاً بماله قادراً ببدنه لزمه الحج أداءً؛ لأنه قادر.
مثل: أن يكون من أهل مكة، لكنه يقدر أن يخرج مع الناس على قدميه ويحج.
وإن كان بعيداً عن مكة، ويقول: أستطيع أن أمشي، وأخدم الناس وآكل معهم فيلزمه الحج، وإن كان قادراً بماله عاجزاً ببدنه لزمه الحج بالإنابة، أي: يلزمه أن ينيب من يحج عنه، إلا إذا كان العجز مما يرجى زواله فينتظر حتى يزول.
مثال ذلك: إنسان كان فقيراً وكبر وتقدمت به السن، وأصبح لا يمكن أن يصل إلى مكة فأغناه الله في هذه الحال، فنقول: لا يلزمه الحج في هذه الحال ببدنه؛ لأنه عاجز عجزاً لا يرجى زواله، لكن يلزمه الحج بالإنابة، أي: يلزمه أن ينيب من يحج عنه.
فإن قال قائل: كيف تلزمونه أن ينيب في عمل بدني، والقاعدة الشرعية التي دلت عليها النصوص: «أنه لا واجب مع العجز» لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وهذا لا يستطيع أن يحج فكيف نلزمه أن ينيب من يحج عنه، أفلا يجب أن نقول: إن هذا يسقط عنه الوجوب لعجزه عنه؟
فالجواب أن يقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرَّ المرأة حين قالت:
«يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟» (1) ، فأقرها على وصف الحج على أبيها بأنه فريضة، مع عجزه عنه ببدنه، ولو لم يجب عليه لم يقرها الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه لا يمكن أن يقر على خطأ، فدل على أن العاجز ببدنه القادر بماله يجب عليه أن ينيب، وإذا كان عاجزاً بماله وبدنه سقط عنه الحج، فالأقسام إذاً أربعة:
الأول: أن يكون غنياً قادراً ببدنه، فهذا يلزمه الحج والعمرة بنفسه.
الثاني: أن يكون قادراً ببدنه دون ماله، فيلزمه الحج والعمرة إذا لم يتوقف أداؤهما على المال، مثل أن يكون من أهل مكة لا يشق عليه الخروج إلى المشاعر، وإن كان بعيداً عن مكة، ويقول: أستطيع أن أخدم الناس وآكل معهم فهو قادر يلزمه الحج والعمرة.
الثالث: أن يكون قادراً بماله عاجزاً ببدنه، فيجب عليه الحج والعمرة بالإنابة.
الرابع: أن يكون عاجزاً بماله وبدنه فيسقط عنه الحج والعمرة.
قوله: «في عمره مرة» ، لو قدّم «مرة» لكان أحسن.
أي: واجبان مرة في العمر؛ لأن الله أطلق، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب وجوب الحج وفضله (1513)؛ ومسلم في الحج/ باب الحج عن العاجز (1334) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حين سئل عن الحج أفي كل عام؟ قال: الحج مرة، فما زاد فهو تطوع» (1) . إلا لسبب كالنذر، فمن نذر أن يحج وجب عليه أن يحج؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (2) .
ولأن الحكمة والرحمة تقتضي ذلك، لأنه لو وجب أكثر من مرة لشق على كثير من الناس لا سيما في الأماكن البعيدة، ولا سيما فيما سبق من الزمان، حيث كانت وسائل الوصول إلى مكة صعبة جداً، ثم لو وجب على كل واحد كل سنة، لامتلأت المشاعر بهم ولم تكفهم منى ولا مزدلفة ولا عرفة.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مرة» ، يستفاد منه فائدة عظيمة، وهي أن من مر بالميقات، وقد أدى الفريضة فإنه لا يلزمه الإحرام، وإن طالت غيبته عن مكة.
مثاله: شخص له أربع سنين، أو خمس سنين لم يذهب إلى مكة، ثم ذهب إليها لحاجة تجارة، أو زيارة، أو ما أشبه ذلك، ومرَّ بالميقات، فإنه لا يلزمه أن يحرم؛ لأن الحج والعمرة إنما يجبان مرة واحدة، ولو ألزمناه بالإحرام لألزمناه بزائد عن المرة، وهذا خلاف النص.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/290)، وأبو داود في المناسك/ باب فرض الحج (1721)؛ والنسائي في الحج/ باب وجوب الحج (5/111)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب فرض الحج (2886)؛ والحاكم (4411) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقال الحاكم: «إسناده صحيح، ولم يخرجاه»، وأقره الذهبي.
(2) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة (6696) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
قوله: «على الفور» ، أي: يجب أداؤهما على الفور إذا تمت شروط الوجوب.
والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] .
ثانياً: حديث أبي هريرة: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» (1) .
والأصل في الأمر أن يكون على الفور، ولهذا غضب النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الحديبية حين أمرهم بالإحلال وتباطؤوا (2) .
ثالثاً: لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يكون الآن قادراً على أن يقوم بأمر الله ـ عزّ وجل ـ، وفي المستقبل عاجزاً.
رابعاً: لأن الله أمر بالاستباق إلى الخيرات فقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ...} [البقرة: 148] ، والتأخير خلاف ما أمر الله به، وهذا هو الصواب، أنه واجب على الفور.
وقيل: بل واجب على التراخي، واستدلوا بما يلي:
أولاً: بالقياس على الصلاة في الوقت إن شئت صلها في أول الوقت، وإن شئت فصلها في آخره، والعمر هو وقت الحج، فإن شئت حجَّ أول العمر، وإن شئت آخرَهُ.
ثانياً: أن الله فرض الحج والعمرة في السنة السادسة بقوله
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب فرض الحج مرةً في العمر (1337).
(2) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب (2731)، (2732) عن مروان والمسور بن مخرمة.
تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، ولم يحج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في السنة العاشرة.
ولكن الصحيح أنه واجب على الفور لما تقدم من الأدلة.
وأما القول: أن عمر الإنسان كله وقت للحج فهذا صحيح، لكن من يضمن أن يبقى إلى السنة الثانية؟!
أما الصلاة فوقتها قصير فلذلك وسع فيها.
وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، فغير صحيح؛ لأن هذا ليس أمراً بهما ابتداءً، ولكنه أمر بالإتمام بهما، وفرق بين الابتداء والإتمام.
وأما فرض الحج فالصواب أنه في السنة التاسعة، ولم يفرضه الله تعالى قبل ذلك؛ لأن فرضه قبل ذلك ينافي الحكمة، وذلك أن قريشاً منعت الرسول صلّى الله عليه وسلّم من العمرة فمن الممكن والمتوقع أن تمنعه من الحج، ومكة قبل الفتح بلاد كفر، ولكن تحررت من الكفر بعد الفتح، وصار إيجاب الحج على الناس موافقاً للحكمة.
والدليل على أن الحج فرض في السنة التاسعة أن آية وجوب الحج في صدر سورة آل عمران، وصدر هذه السورة نزلت عام الوفود.
فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلّى الله عليه وسلّم في التاسعة، وأنتم تقولون على الفور؟.
الجواب: لم يحج صلّى الله عليه وسلّم لأسباب:
الأول: كثرة الوفود عليه في تلك السنة، ولهذا تسمى السنة
التاسعة عام الوفود، ولا شك أن استقبال المسلمين الذين جاؤوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليتفقهوا في دينهم أمر مهم، بل قد نقول: إنه واجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ليبلغ الناس.
الثاني: أنه في السنة التاسعة من المتوقع أن يحج المشركون، ـ كما وقع ـ فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤخر من أجل أن يتمحض حجه للمسلمين فقط، وهذا هو الذي وقع، «فإنه أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» (1) .
وكان الناس في الأول يطوفون عراة بالبيت إلا من وجد ثوباً من الحُمس من قريش، فإنه يستعيره ويطوف به، أما من كان من غير قريش فلا يمكن أن يطوفوا بثيابهم بل يطوفون عراة، وكانت المرأة تطوف عارية، وتضع يدها على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
فَإِنْ زال الرِّقُ والجُنُونُ والصِّبَا فِي الحَجِّ بِعَرَفة وَفِي العُمْرةِ قَبْلَ طوافِها صَحَّ فرْضاً
قوله: «فإن زال الرق» ، أفاد ـ رحمه الله ـ أن الرقيق يصح منه الحج، إذاً الحرية شرط للوجوب، فلو حج الرقيق فإن حجه صحيح، ولكن هل يجزئ عن الفرض أو لا يجزئ؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء: فقال جمهور العلماء: إنه لا يجزئ؛ لأن الرقيق ليس أهلاً للوجوب، فهو كالصغير، ولو حج الصغير قبل البلوغ لم يجزئه عن حجة الإسلام فكذلك الرقيق.
وذهب بعض العلماء إلى أن الرقيق يصح منه الحج بإذن
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب ما يستر من العورة (369)؛ ومسلم في الحج/ باب لا يحج البيت مشرك... (1347) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
سيده؛ لأن إسقاط الحج عن الرقيق من أجل أنه لا يجد مالاً، ومن أجل حق السيد، فإذا أعطاه سيده المال وأذن له، فإنه مكلف بالغ عاقل فيجزئ عنه الحج.
وليس عندي ترجيح في الموضوع؛ لأن التعليل بأنه ليس أهلاً للحج تعليل قوي، والتعليل بأنه إنما منع من أجل حق السيد قوي أيضاً؛ فالأصل أنه من أهل العبادات.
وهناك حديث في الموضوع: «أن من حج، ثم عتق فعليه حجة أخرى، وأن من حج وهو صغير ثم بلغ فعليه حجة أخرى» (1) .
لكنه مختلف في صحته والاحتجاج به، وإلا لو صح الحديث مرفوعاً إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكان هو الفيصل، وكثير من المحدثين قال: إنه موقوف على ابن عباس وليس مرفوعاً، وأنا متوقف في هذا.
قوله: «والجنون، والصبا، في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً» ، أي: إن زال الرق في الحج بعرفة صح فرضاً.
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة (3050)؛ والحاكم (1/481)؛ والبيهقي (5/179)، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وصحح ابن خزيمة أنه موقوف.
وقال البيهقي: «تفرد برفعه محمد بن المنهال، ورواه غيره عن شعبة موقوفاً».
وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.
انظر: التلخيص (953)؛ و«نصب الراية» (3/6).
تنبيه: عند ابن خزيمة والحاكم «الأعرابي» بدل «العبد»، ولفظه: «إذا حج الأعرابي فهي له حجة، فإذا هاجر فعليه حجة أخرى».
ومعنى زوال الرق أن يعتق العبد، فإذا أعتقه سيده في الحج بعرفة صح فرضاً، مع أنه حال إحرامه بالحج كان الحج في حقه نفلاً؛ لأن الحج لا يجب على الرقيق على ما سبق من الخلاف فيه.
وقوله: «صح فرضاً» إذا أخذنا بظاهر كلامه فإنه يكون فرضاً من أول الإحرام، فعلى هذا يلغز بها، فيقال: عبادة أولها نفل ثم انقلبت إلى فرض بدون أن ينوي الفرض من أولها، فيكون الجواب هو: حج الرقيق إذا عتق في عرفة أو قبلها.
وقيل: إنه لا يكون فرضاً إلا من حين العتق، فتكون هذه العبادة أولها نفلاً وآخرها فرضاً، وهذا أيضاً يلغز به، وهذا ليس بغريب؛ لأن الحج يخالف غيره في مسألة النية في أمور متعددة، كما سيأتي أن الإنسان إذا قدم إلى مكة، وهو مفرد أو قارن فطاف وسعى، فإنه سيطوف للقدوم، وطواف القدوم سنة، وسيسعى للحج، فله بعد ذلك أن يقلب هذه النية إلى عمرة ليصبح متمتعاً، فالطواف كان للقدوم في الأول وهو سنة، وصار الآن للعمرة ركناً، والسعي الذي كان أولاً للحج صار الآن للعمرة فالحج له أشياء يخالف غيره فيها.
وكذلك إذا أفاق المجنون بعرفة صار حجه فرضاً، ولكن إذا سأل سائل: كيف يتصور أن يُحرِم المجنون فيفيق بعرفة؟ وهل المجنون تصح منه نية الإحرام؟
فالجواب أن نقول: من أهل العلم من قال: إن المجنون يجوز أن يحرم عنه وليه، كما يحرم عن الصغير، فالصغير ليس له
تمييز، والمجنون ليس له عقل، فإذا جاز أن يحرم عن صبيه الذي ليس له تمييز، فإنه يجوز أن يحرم عن المجنون، وبناءً على هذا القول لا إشكال؛ لأنه سيحرم عنه وليّه وهو مجنون، ويبقى محرماً، فإذا عقل بعرفة صح أن نقول: إنه زال جنونه بعرفة، وهو محرم.
وأما إذا قلنا: إن المجنون لا يصح إحرامه بنفسه ولا بوليّه، فإنه يحمل كلام المؤلف على ما إذا طرأ عليه الجنون بعد الإحرام، وهنا إشكال آخر وهو: ألا يبطل إحرامه بالجنون؟
نقول: لا يبطل الإحرام بالجنون، بل يبقى على إحرامه، ثم إن زال جنونه بعرفة أتمه، وإن زال بعد عرفة فإنه قد فاته الحج ويتمه عمرة، وإن بقي على جنونه، فإنه يكون كالمُحصر، أي: أنه يتحلل، ويذبح هدياً إن تيسر، هذا إن قلنا: إن الحج لا يبطل بالجنون.
أما إذا قلنا بالقول الثاني: إنه يبطل بالجنون، فإنه إذا جُن في أثناء الإحرام بطل حجه.
ولو قيل بالتفصيل: أنه إذا كان من عادته أن يجن يوماً أو ليلة ثم يفيق؛ فالنسك لا يبطل وإن كان لا يدرى عنه، فهنا يتوجه القول بالبطلان؛ لأنه صار غير أهل للعبادة.
وكذا لو زال الصبا في الحج بعرفة، والصبا، أي: الصغر وذلك بأن يبلغ بعرفة، وهل يمكن أن يبلغ بعرفة؟
الجواب: نعم يمكن، ويكون إما بالسن أو بالاحتلام، فبالسن بأن يكون هذا الصبي قد ولد في منتصف يوم عرفة،
وفي يوم عرفة تم له خمس عشرة سنة، فحينئذٍ نقول: قد بلغ في عرفة، وإما في الاحتلام، فذلك أن ينام في يوم عرفة ويحتلم، فيكون قد بلغ في يوم عرفة، وإذا بلغ الصبي في عرفة صار حجه فرضاً، وأجزأه عن حجة الإسلام.
وقوله: «وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً» ، أي: لو اعتمر الصبي، وأثناء العمرة وقبل أن يشرع في الطواف بلغ فإن عمرته هذه تكون فرضاً، وكذلك المجنون لو جن بعد إحرامه للعمرة، أو قلنا: بصحة إحرام وليه عنه، ثم عقل قبل طواف العمرة فإنه يصح فرضاً، وكذلك أيضاً العبد إذا أحرم بالعمرة وهو رقيق، ثم أعتقه سيده قبل طواف العمرة فإنه يصح فرضاً.
علم من كلامه أنه لو زال الرق، والجنون، والصبا، بعد عرفة فإنه لا يكون فرضاً، إلا أنه إن زال بعد عرفة مع بقاء وقت الوقوف، ثم عاد فوقف فإنه يصح فرضاً.
مثاله: أن يكون الصبي أو الرقيق قد دفع من عرفة بعد غروب الشمس ليلة العيد، وفي تلك الليلة بلغ أو أعتق، فنقول له: إذا رجعت الآن إلى عرفة، ووقفت بها فإن حجك يكون فرضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحج عرفة» (1) . وقد وقفت بعرفة
__________
(1) أخرجه أحمد (4/309، 335)؛ وأبو داود في المناسك/ باب من لم يدرك عرفة (1949)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء في من أدرك الإمام بجمع... (889)؛ والنسائي في الحج/ باب فرض الوقوف بعرفة (5/256)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)؛ وصححه ابن خزيمة (2822)؛ وابن حبان (3892) إحسان، والحاكم (1/464)؛ عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ـ رضي الله عنه ـ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
قبل فوات وقته، ويجب أن يرجع بعد ذلك إلى مزدلفة من أجل أن يبيت بها.
فإن قيل: هل يلزمه إذا بلغ بعد الدفع من عرفة مع بقاء وقت الوقوف أن يرجع إلى عرفة، أم له أن يستمر؟
فالجواب: إن قلنا: إن الحج واجب على الفور، وجب أن يرجع ليقف بعرفة، حتى يؤديه من حين وجب عليه، وإن قلنا: إنه على التراخي لم يلزمه أن يرجع إلى عرفة، ويستمر في إتمام هذا الحج، ويكون هذا الحج نفلاً لا فرضاً.
وفِعْلهُمَا مِنْ الصَّبي، وَالعَبْدِ نَفْلاً ..........
قوله: «وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً» ، أي: يصح فعل العمرة والحج من الصبي، ولكن يكون نفلاً؛ لأن من شرط الإجزاء: البلوغ، فإذا حج وهو صغير فالحج في حقه نفل وليس بفرض، وكذلك يقال في العبد إن قلنا لا يجزئه الحج عن الفريضة وقد تقدم.
مسائل:
الأولى: لم يبين المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ كيف يحج الصبي على وجه التفصيل، فنقول: إن الصبي إن كان مميزاً فإن وليه يأمره بنية الإحرام، فيقول: يا بني أحرم، لأنه يميز، وإن كان غير مميز فإنه ينعقد إحرامه بنية وليه عنه، وأما الطواف فإن كان مميزاً أمره بنية الطواف، وإن لم يكن مميزاً فينويه عنه وليّه، ثم إن كان قادراً على المشي مشى، وإن لم يكن قادراً حمله وليه أو غيره بإذن وليه، ويقال في السعي كما قيل في الطواف، أما الحلق أو التقصير، فأمره ظاهر.
الثانية: هل الأولى أن يحرم بالصغار بالحج أو العمرة، أم الأولى عدم ذلك؟
الجواب: في هذا تفصيل، وهو إن كان في وقت لا يشق فإن الإحرام بهم خير؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمرأة التي رفعت له الصبي، وسألته هل له حج؟ قال: «نعم ولك أجر» (1) . وأما إن كان في ذلك مشقة كأوقات الزحام في الحج أو العمرة في رمضان، فالأولى عدم الإحرام؛ لأنه ربما يشغل وليه عن أداء نسكه الذي هو مطالب به على الوجه الأكمل، وقد يترتب على ذلك مشقة شديدة على الصبي وأهل الصبي.
الثالثة: إذا أحرم الصبي، فهل يلزمه إتمام الإحرام؟
الجواب: المشهور من المذهب أنه يلزمه الإتمام؛ لأن الحج والعمرة يجب إتمام نفلهما، والحج والعمرة بالنسبة للصبي نفل، فيلزمه الإتمام.
والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ: أنه لا يلزمه الإتمام؛ لأنه غير مكلف ولا ملزم بالواجبات فقد رفع عنه القلم، فإن شاء مضى وإن شاء ترك، وهذا القول هو الأقرب للصواب، وهو ظاهر ما يميل إليه صاحب الفروع، وعلى هذا له أن يتحلل ولا شيء عليه، وهو في الحقيقة أرفق بالناس بالنسبة لوقتنا الحاضر؛ لأنه ربما يظن الولي أن الإحرام بالصبي سهل، ثم يكون على خلاف ما يتوقع، فتبقى المسألة مشكلة،
__________
(1) سبق تخريجه ص(9).
وهذا يقع كثيراً من الناس اليوم، فإذا أخذنا بهذا القول الذي هو أقرب للصواب لعلته الصحيحة زالت عنا هذه المشكلة.
الرابعة: إذا كان الصبي يعقل النية، ولكنه لا يستطيع الطواف بنفسه؟
الجواب: يحمله وليه أو غيره بإذن وليه في الطواف وفي السعي؛ لأن الركوب في الطواف والسعي جائز عند العجز، وقد قالت أم سلمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمر بالطواف للوداع: يا رسول الله، إني مريضة، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» (1) . فدل هذا على أنه يجوز الركوب عند العجز، والحمل بمعناه.
الخامسة: المحمول هل يجب أن تكون الكعبة عن يساره مع أن الغالب أن تكون عن يمينه؟ المذهب لا بد أن تكون عن يساره، وعلى هذا فلا يمكن أن تكون الكعبة عن يساره إلا إذا حمله على الكتف.
والذي يظهر لي أنه ليس بشرط؛ لأن ظاهر قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «نعم ولك أجر» ، أن له حجاً، ويحمل على ما يحمل عليه، ولما فيه من المشقة.
السادسة: إذا قلنا: بأنه يحمله، فهل يصح أن يطوف عن نفسه وعن الصبي بطواف واحد، أم لا يصح؟
الجواب: المذهب أنه لا يصح، وإذا نوى عن نفسه وعن المحمول، فإنه يقع عن المحمول ولا يقع عن نفسه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب المريض يطوف راكباً (464)؛ ومسلم في الحج/ باب الطواف على بعير ونحوه (1276).
القول الثاني: لا يصح، ولكن إذا نوى عن نفسه وعن المحمول، فإنه يقع عن نفسه دون المحمول؛ لأنه أصل والمحمول فرع.
والذي نرى في هذه المسألة: أنه إذا كان الصبي يعقل النية فنوى وحمله وليه، فإن الطواف يقع عنه وعن الصبي؛ لأنه لما نوى الصبي صار كأنه طاف بنفسه.
أما إذا كان لا يعقل النية فإنه لا يصح أن يقع طواف بنيتين، فيقال لوليه: إما أن تطوف أولاً، ثم تطوف بالصبي، وإما أن تكل أمره إلى شخص يحمله بدلاً عنك، فإن طاف بنيتين فالذي نرى أنه يصح من الحامل دون المحمول.
وقوله: «وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً» ، العبد ولو كان عاقلاً بالغاً لا يقع منه الحج والعمرة إلا نفلاً؛ لأنه ليس أهلاً للفرض، وسبق الخلاف في هذا، وهو أنه هل من شرط الإجزاء الحرية على كل حال؟ أم نقول: يستثنى من ذلك إذا أذن له سيده، فإن أذن له وجب عليه وأجزأه؟ كما سبق.
وعلى هذا يتبين أن الشروط الخمسة التي ذكرها المؤلف تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: شرطان للوجوب، والصحة، والإجزاء: وهما الإسلام، والعقل.
الثاني: شرطان للوجوب، والإجزاء فقط وهما البلوغ، والحرية.
الثالث: شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة، فلو حج وهو غير مستطيع أجزأه وصح منه.
وَالقادِرُ: مَنْ أمْكَنهُ الرُّكُوبُ، وَوَجَدَ زاداً وَرَاحِلَةً صَالحَين لِمِثْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الواجِبَات
قوله: «والقادر: من أمكنه الركوب» ، فمن لا يمكنه الركوب فليس بقادر، وكيف لا يمكنه الركوب؟
الجواب: أما في زمن الإبل فتعذر الركوب كثير، إما لضعف بنيته الخلقية، أو لكونه هزيلاً لا يستطيع الثبات على الراحلة.
فإن قال قائل: يمكن أن نربطه على الراحلة.
قلنا: في ذلك مشقة لا تأتي بها الشريعة.
وأما في وقتنا الحاضر وقت الطائرات، والسيارات، فالذي لا يمكنه الركوب نادر جداً، ولكن مع ذلك فبعض الناس تصيبه مشقة ظاهرة في ركوب السيارة، والطائرة، والباخرة، فربما يغمى عليه، أو يتعب تعباً عظيماً، أو يصاب بغثيان وقيء، فهذا لا يجب عليه الحج، وإن كان صحيح البدن قوياً.
قوله: «ووجد زاداً وراحلة» ، الزاد ما يتزود به في السفر من طعام وشراب، وغير ذلك من حوائج السفر.
والراحلة معروفة، وهي ما يرتحله الإنسان من المركوبات من إبل، وحمر، وسيارات، وطائرات وغيرها.
لكن المؤلف اشترط شرطاً، وهو:
قوله: «صالحين لمثله» ، أي: لا بد أن يكون الزاد صالحاً
لمثله، وكذلك الراحلة ، فلو كان رجلاً ذا سيادة وجاه، ولم يجد إلا راحلة لا تصلح لمثله ـ كحمار مثلاً ـ فلا يلزمه؛ لأنه مركوب غير صالح لمثله، فيلحقه في ذلك غضاضة وحرج، وكذلك الزاد إذا كان لا يصلح لمثله.
وقد يرد على كلام المؤلف عموم قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، فإنه يشمل من أمكنه السفر على راحلة لا تصلح لمثله، وبزاد لا يصلح لمثله.
والناس إذا سافروا إلى الحج على مثل هذه الراحلة أو بمثل هذا الزاد، فإنهم لا يشمت بعضهم ببعض ولا يعير بعضهم بعضاً، فلا يقال حينئذٍ: إنه عاجز، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، لأن زاد المسافر ليس كزاد المقيم.
ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أنه من وجد زاداً وراحلة يصل بهما إلى المشاعر ويرجع لزمه الحج، ولم يقيدوا ذلك بكونهما صالحين لمثله، وهذا أقرب إلى الصواب، ولا عبرة بكونه يفقد المألوف من مركوب، أو مطعوم، أو مشروب، فإن هذا لا يعد عجزاً.
قوله: «بعد قضاء الواجبات» ، هناك ثلاثة أمور لا يكون مستطيعاً قادراً إلا بعد توافرها وهي:
الأول: قضاء الواجبات:
والواجبات: كل ما يجب على الإنسان بذله، كالديون لله ـ عزّ وجل ـ، أو للآدمي، والنفقات الواجبة للزوجة والأقارب، والكفارات، والنذور، فلا بد أن يقضي هذه الأشياء.
فمن كان عنده مال إن قضى به الدين لم يتمكن من الحج، وإن حج لم يقض به، فهذا ليس بقادر إلا بعد قضاء الديون.
وإذا كان على الإنسان دين فلا حج عليه سواء كان حالاً أو مؤجلاً، إلا أنه إذا كان مؤجلاً وهو يغلب على ظنه أنه يوفيه إذا حل الأجل وعنده الآن ما يحج به فحينئذٍ نقول: يجب عليه الحج.
فإذا قال قائل: لو أن صاحب الدين أذن له أن يحج، فهل يكون قادراً؟
فالجواب: لا؛ لأن المسألة ليست إذناً أو عدم إذن، المسألة شغل الذمة أو عدم شغلها، ومن المعلوم أن صاحب الدين إذا أذن للمدين أن يحج فإن ذمته لا تبرأ من الدين، بل يبقى الدين في ذمته، فنقول له: اقض الدين أولاً ثم حج، ولو لاقيت ربك قبل أن تحج، ولم يمنعك من ذلك إلا قضاء الدين، فإنك تلاقي ربك كامل الإسلام؛ لأن الحج في هذه الحال لم يجب عليك، فكما أن الفقير لا تجب عليه الزكاة، ولو لقي ربه للقيه على إسلام تام، فكذلك هذا المدين الذي لم يتوفر لديه مال يقضي به الدين ويحج به، يلقى ربه، وهو تام الإسلام.
وما يظنه بعض المدينين من أن العلة هي عدم إذن الدائن، فإنه لا أصل له.
فإذا قال قائل: لو أنه أمكنه أن يحج بمصلحة له مالية، بحيث يعطى أجرة، أي: يكون الرجل هذا عاملاً جيداً، فيستأجره أحد من الناس ليحج معه، إما بقافلة، وإما بالأهل، ويعطيه ألف
ريال في الشهر أو في عشرة أيام مثلاً، ولو بقي في البلد لم يستفد هذه ألف الريال، فهل له أن يحج؟
فالجواب: له أن يحج، ولا يمنع الدين وجوب الحج إذا كان الدين أقل مما سيعطى، أمّا إذا كان أكثر فإنه لا يزال باقياً في ذمته، فيمنع الوجوب.
ولو فرضنا أنه وجد من يحج به مجاناً، ولا يعطيه شيئاً، فهل هذا يضره لو حج بالنسبة للدين؟
الجواب: فيه تفصيل: إذا كان لو بقي لَعَمل، وحصّل أجرة فبقاؤه خير من الحج، وإذا كان لا يحصل شيئاً لو بقي فهنا يتساوى في حقه الحج وعدمه، وعلى كل تقدير فإن الحج لا يجب عليه ما دام يبقى في ذمته درهم واحد، وكذلك نقول في الكفارات، فإذا كان عليه عتق رقبة، وعنده عشرة آلاف ريال، فإما أن يعتق الرقبة بعشرة الآلاف أو يحج، قلنا: لا تحج وأعتق الرقبة، الكفارة التي عليك؛ لأن وجوبها سبق وجوب الحج، والحج لا يجب إلا بالاستطاعة، ولا استطاعة لمن عليه دين في ذمته.
الثاني: أشار إليه بقوله:
والنَّفَقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ والحَوَائِجِ الأَصْلِيةِ ..............................
«والنفقات الشرعية» ، أي: التي يقرها الشرع ويبيحها، كالنفقة له، ولعياله على وجه لا إسراف فيه، فإذا كان عنده عشرة آلاف ريال، إن حج بها نقصت النفقة، وإن أنفق تعذر الحج، فهل يحج ولو نقصت النفقة أو لا يحج؟
الجواب: لا يحج، ولكن المؤلف اشترط: أن تكون النفقات شرعية، فإن كانت غير شرعية وهي نفقة الإسراف، أو
النفقة على ما لا حاجة له فيه، فإنه لا عبرة بها، والحج مقدم عليها.
مثاله: رجل نفقته الشرعية التي تليق بحاله عشرة آلاف ريال، وعنده الآن خمسة عشر ألف ريال يمكن أن يحج منها بخمسة آلاف، لكنه يقول: أنا أريد أن أنفق نفقة الملوك، أو نفقة الأغنياء الذين هم أكثر مني غنى؛ لأني في وسط حي كل من فيه أغنياء، فأحب أن تكون سيارتي عند بابي مثل سياراتهم، مع أنه يمكن أن يستعمل سيارة أقل بكثير، فهل نقول إن النفقة التي ينفقها نفقة شرعية؟
الجواب: لا، بل هي نفقة إسراف في حقه، ولا عبرة بها. فنقول: ما زاد عن النفقة التي تليق بك، يجب عليك أن تحج بها.
وقوله: «النفقات الشرعية» كم نقدر هذه النفقات الشرعية، أي هل هي النفقات الشرعية التي تكفيه في حجه ورجوعه، أو في سنته، أو على الدوام؟
الجواب: الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: لا بد أن تكون النفقات تكفيه وتكفي عائلته على الدوام.
والمراد بالدوام ما كان ناتجاً عن صنعة، أو عن أجرة عقار، أو ما أشبه ذلك، بحيث يقول: صنعتي أكتسب منها ما يكون على قدر النفقة تماماً ولا يزيد، أو عقاراتي أستثمر منها على قدر النفقة ولا يزيد، فالنفقة الآن على الدوام بناءً على أن هذا الاستثمار سوف يبقى على ما هو عليه، وكذلك الصنعة، هذا
هو المراد، وليس المراد أن يكون عنده نقد أو متاع يكفيه على الدوام أبداً، ولو قيل به لما وجب الحج على أحد، ولو كان أغنى الناس؛ لأنه ربما تزيد الأجور، وترتفع أسعار المعيشة، ويطول العمر، ولأن هذا لا يمكن ضبطه.
وقال بعض العلماء: ما يكفيه وعائلته إلى أن يرجع من الحج، فإذا كان عنده من النفقة ما يكفي عائلته حتى يرجع من الحج، وزاد على ذلك شيء يكفيه للحج، وجب عليه الحج؛ لأنه قادر، وإذا رجع إلى أهله، فالرزق عند الله ـ عزّ وجل ـ.
ولو أن قائلاً قال: نقدر النفقة بالسنة كما قدروها في باب الزكاة: أن الفقير من لا يجد كفايته سنة لم يكن بعيداً، فإذا كان عنده من النقود ما يكفيه وعائلته سنة، فزاد على ذلك شيء فإنه يلزمه أن يحج، وإن كان دون ذلك فإنه لا يلزمه؛ وذلك لأنه لا يخرج عن كونه فقيراً إذا لم يكن عنده فوق ما يكفيه السنة.
الثالث: قوله: «والحوائج الأصلية» ، أي: لا بد أن يكون ما عنده زائداً على الحوائج الأصلية، وهي التي يحتاجها الإنسان كثيراً؛ لأن هناك حوائج أصلية، وحوائج فرعية.
مثال الحوائج الأصلية: الكتب، والأقلام، والسيارة، وما أشبه ذلك، هي غير ضرورية، لكن لا بد لحياة الإنسان منها، فطالب العلم عنده كتب يحتاجها للمراجعة والقراءة، فلا نقول له: بع كتبك، وحج، أمّا لو كان عنده نسختان فنقول له: بع إحدى النسختين، فإن كانتا مختلفتين قلنا: اختر ما تراه أنسب لك، وبع الأخرى؛ لأن ما زاد على النسخة الواحدة لا يعتبر من الحوائج
الأصلية، وإذا كانت له سيارتان لا يحتاج إلا واحدة منهما نقول له: بع واحدة، وحج بها وأبق الأخرى، فإن كانتا مختلفتين، فالذي يختار لنفسه يبقيه والذي لا يختار لنفسه يبيعه، فإن قيل: الصانع هل يبيع آلات الصنعة، ليحج بها؟
فالجواب: لا يلزمه.
لكن لو كان عنده آلات كبيرة يمكن أن يقتات بآلات أصغر منها، فهل يلزمه أن يبيع ما يزيد على حاجته؟
الذي يتوجه عندي أن له أن يبقي الآلات الكبيرة؛ لأن استثمارها أكثر، ولأنه ربما يظن أن الآلات الصغيرة كافية في هذا الوقت، ثم يأتي وقت آخر لا تكفي، فيكون في ذلك ضرر عليه، وآلات الصانع تعتبر من أصول المال التي يحتاج إليها، وإذا لم يحج هذا العام، يحج العام القادم.
وَإِنْ أعْجَزَهُ كِبَرٌ، أوْ مَرَضٌ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ ويَعَتَمِرُ عَنْهُ........
قوله: «وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه» .
«وإن أعجزه كبر» ، أي: مع توافر المال لديه فهو قادر بماله غير قادر ببدنه، ولهذا قال: «أعجزه كبر» ولم يقل «أعجزه فقر» ، فهو رجل غني، لكن لا يستطيع أن يحج بنفسه، لأنه كبير أو مريض لا يرجى برؤُه، فإنه يلزمه أن يقيم من يحج، ويعتمر عنه.
وقوله: «لا يرجى برؤُه» فهم منه أنه لو كان يرجى برؤُه فإنه لا يلزمه أن يقيم من يحج عنه، ولا يلزمه أن يحج بنفسه؛ لأنه يعجزه، لكن يجوز أن يؤخر الحج هنا فتسقط عنه الفورية لعجزه،
ويلزمه أن يحج عن نفسه إذا برئ، ونظير ذلك ما قلنا في الصوم: المريض مرضاً لا يرجى برؤُه يطعم عن كل يوم مسكيناً، والمريض مرضاً يرجى برؤه يفطر ويقضي.
وقوله: «لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه» «من» : هذه اسم موصول تشمل كل من يصح حجه، ولكن لا بد أن يكون على الصفة التي يجزئه فيها حج الفرض، فلو أقام عنه صبياً لم يجزئه؛ لأن الصبي لا يصح حجه الفرض عن نفسه، فعن غيره أولى، ولو أقام رقيقاً ـ على القول بأن الحج لا يجزئه ـ لم يجزئه أيضاً.
إذاً فيكون قوله: «من يحج» عامًّا أريد به الخاص، والمعنى يقيم من يحج عنه ممن يجزئه الحج لو حج عن نفسه.
ويشترط لهذا النائب الذي ناب عن غيره ألا يكون عليه فرض، أي: فرض الحج، فإن كان عليه فرض الحج فإنه لا يجزئ أن يكون نائباً عن غيره، فلو أقام فقيراً يحج عنه لأجزأ، لأنه ليس عليه فرض الحج فهو كالغني الذي أدى الحج عن نفسه، وإن أقام عنه غنياً لم يؤد الفرض عن نفسه فإنه لا يجزئه.
والدليل على ذلك: حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سمع رجلاً يلبي يقول لبيك عن شبرمة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في المناسك/ باب الرجل يحج عن غيره (1811)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب الرجل يحج عن غيره (2903)؛ وابن خزيمة (3039)؛ وابن حبان (962) إحسان؛ والدارقطني (2/267)؛ والبيهقي (4/336).
ينظر كلام أهل العلم على هذا الحديث في «نصب الراية» (3/155)، «التلخيص» (958).
وفي بعض ألفاظ الحديث: «هذه عنك وحج عن شبرمة» ، وفي بعض ألفاظ الحديث: «اجعل هذه لنفسك، ثم حج عن شبرمة» . وهذا الحديث اختلف العلماء في رفعه ووقفه، واختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، فمنهم من قال: إنه ضعيف، لأنه مضطرب لاختلاف ألفاظه، ففي بعضها: «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» ، وفي بعضها: «اجعل هذه لنفسك ثم حج عن شبرمة» ، وفي بعضها: «هذه لنفسك وحج عن شبرمة» ، قالوا: وهذا اضطراب يتغير به الحكم.
وقال بعضهم: إن رفعه خطأ وأنه لا يصح إلا موقوفاً على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وقالوا: إنه لا وجه للمنع أي منع من لم يحج عن نفسه من أن يحج عن غيره؛ بدليل أن الإنسان لو أدى الزكاة بالوكالة عن غيره قبل أن يؤدي زكاة نفسه، لكان ذلك جائزاً، فما المانع؟!
ولكن نقول: لا شك أن الأولى والأليق ألا يكون نائباً عن غيره فيما هو فرض عليه حتى يؤدي فرضه أولاً، سواء صح هذا الحديث مرفوعاً أو صح موقوفاً، أو لم يصح، فإن النظر يقتضي أن يقدم الإنسان نفسه على غيره لعموم «ابدأ بنفسك» (1) ، ونفسك أحق من غيرك.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء في النفقة بالنفس (997) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
لكن على المذهب يشترط هذا الشرط، وهو أن يكون النائب قد أدى فرض الحج، فإن لم يؤد فرض الحج، فإن ذلك لا يصح ويكون الحج لهذا الذي حج، ويرد النفقة التي أخذها لمن وكله؛ لأن ذلك العمل الذي وكله فيه لم يصح له، فيرد عوضه.
وعموم كلامه ـ رحمه الله ـ يدل على أنه يجوز أن يقيم الرجل امرأة، وأن تقيم المرأة رجلاً، وهذا يؤخذ من عموم الاسم الموصول «من».
ويدل لذلك حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم» (1) ، فأذن لها أن تحج عن أبيها، وهي امرأة، فدل على أنه يجوز أن تحج المرأة عن الرجل، ومن باب أولى أن يحج الرجل عن المرأة.
مسألة: هل يجوز لرجل أن ينيب من يحج عنه أكثر من واحد في عام واحد؟
الجواب: يجوز ذلك، لكن إذا أناب اثنين فأكثر في فريضة فأيهما يقع حجه عن الفريضة؟
الجواب: من أحرم أولاً، وتكون الثانية نفلاً.
مِنْ حَيْثُ وَجَبَا وَيُجْزِئ عَنْهُ،........................
قوله: «من حيث وجبا» ، أي: من المكان الذي وجب على المستنيب أن يحج منه (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص(11).
(2) وهذا هو المذهب.
فمثلاً: إذا كان من أهل المدينة، ووجب عليه الحج وهو في المدينة، يجب أن يقيم النائب من المدينة ولا بد، فلو أقام نائباً من رابغ من الميقات فإن ذلك لا يجزئ، ولو أقام نائباً من مكة من باب أولى، فيجب أن يقيمه من البلد الذي وجب عليه الحج فيه.
والعلة أن هذا الرجل لو أراد أن يحج لنفسه لحج من مكانه من المدينة، فكذلك نائبه.
وهذا القول ضعيف؛ لأن المنيب إنما يلزمه أن يحج من بلده؛ لأنه لا يتمكن أن يخطو خطوة واحدة، ويصل إلى مكة إلا بالانطلاق من بلده.
ولهذا لو أن هذا المنيب في مكة قد سافر إليها لغرض غير الحج، إمّا لدراسة أو غيرها، ثم أراد أن يحرم بالفرض من مكة هل نبيح له ذلك أو نقول: اذهب إلى المدينة، لأنك من أهل المدينة، والحج واجب عليك في المدينة؟
نقول: لا بأس بأن يحرم بالحج من مكة فإذاً لا بأس أن يحرم النائب من المدينة والسعي من المدينة إلى مكة ليس سعياً مقصوداً لذاته، وإنما هو سعي مقصود لغيره لعدم إمكان الحج إلا من المدينة.
فالقول الراجح أنه لا يلزمه أن يقيم من يحج عنه من مكانه، وله أن يقيم من يحج عنه من مكة، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن السعي إلى مكة مقصود لغيره.
قوله: «ويجزئ» الضمير يعود على الحج.
قوله: «عنه» الضمير يعود على المنيب.
وَإِنْ عُوفِي بَعْدَ الإِحْرَامِ وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ عَلَى المَرْأةِ: وَجُودُ مَحْرَمِهَا وَهُوَ: زَوْجُها، أوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأبِيِد بِنَسَبٍ أَوْ سَببٍ مُباح وَإِنْ مَاتَ مَنْ لَزِمَاهُ أُخْرِجَا مِن تَرِكَتِهِ.
قوله: «وإن عوفي» الضمير يعود على المنيب أيضاً.
قوله: «بعد الإحرام» أي: بعد إحرام النائب، أي: لو أن المنيب، الذي كان مريضاً، وكان يظن أن مرضه لا يرجى برؤُه عافاه الله ـ عزّ وجل ـ بعد أن أحرم النائب، فإن الحج يجزئ عن المنيب فرضاً؛ لأن المنيب أتى بما أمر به من إقامة غيره مقامه، ومن أتى بما أمر به برئت ذمته مما أمر به، وهذا واضح.
وفُهم من كلام المؤلف أنه إن عوفي قبل الإحرام فإنه لا يجزئ عن المنيب؛ لأنه لم يشرع في النسك الذي هو الواجب، فصار وجوب الحج على المنيب بنفسه قبل أن يشرع هذا في النسك الذي أنابه فيه فلزمه أن يحج بنفسه (1) .
ولكن يبقى عندنا إشكال وهو أن هذا النائب قد تكلف، وسافر إلى مكة ووصل إلى الميقات، ولكنه لم يحج بعد، فماذا تكون حاله بالنسبة إلى النفقة ذهاباً وإياباً؟ ثم إن هذا النائب، سوف يقول في إحرامه: لبيك عن فلان.
وجواب هذا الإشكال: أنه إذا علم النائب بأن المنيب قد عوفي قبل أن يُحرم، فما فعله بعد ذلك فهو على نفقته؛ لأنه علم أنه لا يجزئه حجه عن منيبه، وأما ما أنفقه قبل ذلك من النفقات فإنه على المنيب.
مثاله: رجل أنفق منذ سافر من البلد إلى أن وصل إلى الميقات ألف ريال، ثم عوفي صاحبه قبل أن يحرم، فلا يجزئ
__________
(1) وهذا هو المذهب.
أن يحرم عنه، فعلى المنيب ألف ريال، لأنه أنفقها بأمره قبل أن تنتهي مدة إنابته، وما بعد ذلك يكون على النائب إن استمر في السير، وأما إذا رجع فنفقة الرجوع على المنيب؛ لأن هذا النائب إنما سعى من البلد لمصلحة المنيب، فما غرمه فإنه يكون على المنيب، وبذلك يزول الإشكال.
فإن قدر أن النائب لم يعلم بشفاء صاحبه واستمر، وأدى الحج، فما الحكم؟
نقول: هذا الحج لا يجزئ عن المنيب، لكنه يكون نفلاً في حقه، وتلزم المنيب الأجرة التي قدرها للنائب؛ لأن هذا النائب لم يعلم، وتصرف الوكيل قبل علمه بانفساخ الوكالة، أو زوالها يكون صحيحاً نافذاً، كما لو وكلت شخصاً يبيع لك شيئاً، ثم عزلته عن الوكالة، ولم يعلم بالعزل حتى تصرف، فإن تصرفه يكون صحيحاً بناءً على الوكالة الأولى التي لم يعلم بأنها فسخت.
قوله: «ويشترط لوجوبه على المرأة» ، الضمير يعود على الحج، وكذلك العمرة، أي: يشترط لوجوبه على المرأة:
«وجود محرمها» ، أي: أن يوجد معها محرم موافق على السفر معها، فلا يكفي أن يوجد محرم، بل لا بد من وجود محرم يوافق على السفر معها.
وفهم من كلام المؤلف أن وجود المحرم شرط للوجوب؛ لأن وجوده داخل في الاستطاعة التي اشترطها الله ـ عزّ وجل ـ لوجوب الحج، وهذا العجز ـ أعني عجز المرأة التي ليس لها
محرم عن الوصول إلى مكة ـ عجز شرعي، وليس عجزاً حسياً، فهي كعادم المال فلا يجب عليها الحج، فإن ماتت وعندها مال كثير، لكن لم تجد محرماً يسافر بها، فلا يجب إخراج الحج من تركتها، ولا إثم عليها.
وقال بعض العلماء: إن المحرم شرط للزوم الأداء لا للوجوب، وعلى هذا القول إن وجدت محرماً في حياتها وجب عليها أن تحج بنفسها، وإن لم تجد فإنها إذا ماتت يحج عنها من تركتها؛ لأن وجود المحرم شرط للزوم الأداء بنفسها، وليس شرطاً للوجوب.
لكن المذهب أصح أنه شرط لوجوب الحج.
وإذا حجت المرأة بدون محرم صح حجها، ولكنها تأثم؛ لأن المحرمية لا تختص بالحج.
قوله: «وهو زوجها» ، أي: المحرم زوجها، أي: من عقد عليها النكاح عقداً صحيحاً وإن لم يحصل وطء ولا خلوة.
قوله: «أو من تحرم عليه على التأبيد» ، خرج به من تحرم عليه إلى أمدٍ كالمرأة المحرمة.
قوله: «بنسب» ، أي: بقرابة.
قوله: «أو سبب مباح» ، السبب المباح ينحصر في شيئين:
الأول: الرضاع.
الثاني: المصاهرة.
أما النسب، فالمَحْرَم هو الأب، والابن، والأخ، والعم، وابن الأخ، وابن الأُخت، والخال، هؤلاء سبعة محارم بالنسب، وهؤلاء تحرم عليهم المرأة على التأبيد.
والمحرم من الرضاع كالمحرم من النسب سواء، فيكون محرمها من الرضاع أباها من الرضاع، وابنها من الرضاع، وأخاها من الرضاع، وعمها من الرضاع، وخالها من الرضاع، وابن أخيها من الرضاع، وابن أختها من الرضاع، سبعة من الرضاع، وسبعة من النسب، هؤلاء أربعة عشر.
والمحارم بالمصاهرة أربعة: أبو زوج المرأة، وابن زوج المرأة، وزوج أم المرأة، وزوج بنت المرأة، فهم أصول زوجها أي: آباؤه وأجداده، وفروعه وهم أبناؤه، وأبناء أبنائه وبناته، وإن نزلوا، وزوج أمها، وزوج بنتها، لكن ثلاثة يكونون محارم بمجرد العقد، وهم أبو زوج المرأة، وابن زوج المرأة، وزوج بنت المرأة، أما زوج أمها فلا يكون محرماً إلا إذا دخل بأمها.
وقوله: «سبب مباح» خرج به ما ثبت التحريم به بسبب محرم، مثل: أم المزني بها، وأم الملوط به وبنته، على القول بأنه يوجب التحريم.
مثاله: رجل زنا بامرأة، فهل يكون محرماً لأمها؟
الجواب: لا، وأمها حرام عليه على التأبيد، وبنتها حرام عليه على التأبيد.
ولكن القول الراجح أن أم المزني بها ليست حراماً على الزاني، وأن بنت المزني بها ليست حراماً على الزاني؛ لأن الله
تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وفي قراءة أخرى: «وأَحَلَّ لَكُم ما وَرَاء ذَلِكُم» بالبناء للفاعل، ولم يذكر الله ـ عزّ وجل ـ أم المزني بها وبنتها في المحرمات، وإنما قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاََّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، ومعلوم أن المزني بها ليست من نسائه قطعاً؛ لأن نساءه زوجاته، فإذا لم تكن من نسائه فإنه لا يصح أن يلحق السفاح بالنكاح الصحيح، فإذا تاب من الزنا جاز له أن يتزوج أم المزني بها وبنتها، ومن باب أولى حِلُّ أم الملوط به وبنته.
أما الموطوءة بشبهة، أي: لو وطئ امرأة بشبهة، أي: شبهة عقد، أو اعتقاد، فهل هو محرم لأمها؟
الجواب: على المذهب: لا؛ لأن هذه المرأة الموطوءة بشبهة لا تحل له في باطن الأمر، فتحريم أمها أو بنتها بسبب غير مباح.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: أن أم الموطوءة بشبهة وبنتها من محارمه؛ لأنه حين وطئ هذه المرأة يظنها من حلائله، فيترتب على هذا الوطء ما يترتب على الوطء المباح.
وعلى هذا فمن وَطِئ امرأة بشبهة فإن أمها تكون حراماً عليه وهي من محارمه أيضاً، وبنتها كذلك تكون حراماً عليه، وهي من محارمه، فصار المذهب التسوية بين المزني بها والموطوءة بشبهة في أن أمها وبنتها ليستا من محارم الواطئ، والصحيح التفريق
بينهما وأن أم الموطوءة بشبهة وبنتها من محارم الواطئ؛ لأنه وطئ وهو يظن أنه وطء حلال.
مثاله: رجل تزوج امرأة، ثم بعد ذلك تبين أنها أخته من الرضاع، فوطؤه إياها شبهة؛ لأنه لا يعلم التحريم حين الوطء فأم هذه الزوجة حرام عليه وهي من محارمه؛ لأنه حين وطئ المرأة التي تزوجها يعتقد أنها حلال له.
مسألة: هل المرأة التي تحرم عليه إلى أمد من محارمه كأخت زوجته مثلاً؟
الجواب: ليست من محارمه؛ لأنها ليست محرمة على التأبيد، وأخت الزوجة ليست حراماً على الزوج، لأن الحرام هو الجمع، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» (1) .
ويشترط للمحرَم ما يلي:
الأول: أن يكون مسلماً، فإن كان كافراً فليس بمحرَم، وظاهر كلام الأصحاب أنه ليس بمحرم، سواء كانت المرأة موافقة له في الدين أو مخالفة، وبناء على ذلك لا يكون الأب الكافر محرماً لابنته الكافرة، ويكون الأب الذي لا يصلي غير محرم لابنته التي تصلي، لأنه من شرط المحرم أن يكون مسلماً، وغير المسلم ليس بمحرم.
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تنكح المرأة على عمتها (5109)؛ ومسلم في النكاح/باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها (1408) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
ولكن الصحيح خلاف ذلك، وأن الرجل محرم لمن توافقه في الدين، فأبو المرأة الكافرة إذا كان كافراً يكون محرماً لها، ولا نمنعه من السفر هو وابنته مثلاً، فإن خالفته في الدين فإن كان دينه أعلى كمسلم مع كافرة فهو محرم بلا شك، وإن كان دينه أنزل كالكافر مع المسلمة، فإنه يكون محرماً للمسلمة، بشرط أن يؤمن عليها،
فإن كان لا يؤمن عليها فليس بمحرم، ولا تُمكن من السفر معه.
الثاني: أن يكون بالغاً، فالصغير لا يكفي أن يكون محرماً؛ ووجه ذلك أن المقصود من المحرم حماية المرأة وصيانتها، ومن دون البلوغ لا يحصل منه ذلك.
الثالث: أن يكون عاقلاً، فالمجنون لا يصح أن يكون محرماً، ولو كان بالغاً؛ لأنه لا يحصل بالمجنون حماية المرأة وصيانتها.
فإذا فُقد المحرم البالغ العاقل المسلم، فإنه لا يجب عليها الحج، أو وجد ولكن أبى أن يسافر معها، فإنه لا يجب عليها الحج، فإذا بذلت له النفقة أي نفقة الحج، فهل يلزمه أن يحج معها؟
الجواب: لا يلزمه؛ لأن ذلك واجب على غيره.
وقال بعض العلماء: بل يلزمه، واستدلوا بما يلي:
أولاً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي قال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال:
«انطلق فحج مع امرأتك» (1) ، فأمره أن ينطلق ويحج مع امرأته، والأصل في الأمر الوجوب.
ثانياً: لأنه إذا كانت المرأة ستتكفل بجميع النفقة فلا ضرر عليه في الغالب، ولا سيما إذا كان لم يؤد الفريضة؛ لأنه في هذه الحال قد نقول إنه يجب عليه من وجهين: لأداء الفريضة، ولقضاء حاجة هذه المرأة.
والذي أرى أنه لا يجب عليه الموافقة، ولا يلزمه السفر معها، وأما الحديث فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يحج مع امرأته؛ لأن المرأة قد شرعت في السفر، ولا طريق إلى الخلاص من ذلك إلا أن يسافر معها
مسألة: امرأة مستطيعة ومعها محرم يمكن أن يحج بها كأخيها لكن لم يأذن زوجها؟
الجواب: إذا وجب الحج على المرأة فلا يشترط إذن الزوج بل لو منعها فلها أن تحج؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
قوله: «وإن مات من لزماه أخرجا من تركته» ، أي: من تمت الشروط في حقه، ثم مات فإنهما يخرجان من تركته قبل الإرث والوصية؛ لأن ذلك دين لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دَين الله أحق
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب حج النساء (1862)؛ ومسلم في الحج/باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره (1341) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
بالوفاء» (1) ، فيؤخذ من تركته ما يكفي للحج والعمرة، وما بقي فإنه للوصية والورثة، ويخرج من تركته سواء أوصى أم لم يوص كما لو كان عليه دين أخرجناه من تركته سواء أوصى به أم لم يوص به.
مثاله: رجل أغناه الله قبل الحج ثم لم يحج ومات وعنده مال، فعلى كلام المؤلف يخرج من تركته، ولكن ذهب ابن القيم ـ رحمه الله ـ مذهباً جيداً وهو أن كل من فرط في واجبه فإنه لا تبرأ ذمته ولو أُدي عنه بعد موته، وعلى هذا فلا يحج عنه ويبقى مسؤولاً أمام الله ـ عزّ وجل ـ، لكن الجمهور على خلاف كلام ابن القيم، لكن كلامه هو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية.
وعلم من كلام المؤلف أنه لو مات، ولم يكن له تركة لم يلزم أحداً أن يحج عنه.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب الحج والنذور عن الميت (1852) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
بَابُ المَوَاقِيْتِ
وميقَاتُ أَهلِ المديِنَةِ ذو الحليفةِ، وَأَهلِ الشَّامِ، ومِصْر، والمَغْربِ الجُحْفَةُ، وأَهلِ اليَمَنِ: يَلَمْلَمُ، وأهلِ نَجْدٍ: قَرْنٌ، وَأَهْلِ المَشْرِقِ: ذَاتُ عِرْقٍ. وَهِيَ لأَِهْلِهَا وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِن غَيْرِهِم.
قوله: «المواقيت» جمع ميقات وهو مأخوذ من الوقت، وهو زماني ومكاني، أي: قد يراد بالميقات الوقت الزمني.
وقد يراد به المكاني، وهو هنا يراد به الزمان، والمكان.
قوله: «وميقات أهل المدينة ذو الحليفة» ، «ميقات» مبتدأ و «ذو» خبر، و «الحليفة» تصغير الحلْفَاء، وهو شجر بري معروف، وسمي هذا المكان بهذا الاسم لكثرَته فيه، تبعد عن المدينة ستة أميال أو سبعة، وتبعد عن مكة عشرة أيام، وعلى هذا فهي أبعد المواقيت عن مكة.
قوله: «وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة» ، أهل الشام يشمل أهل فلسطين وسوريا ولبنان والأردن وجهاتهم، وأما أهل مصر والمغرب فذكرهم هنا؛ لأنه لم تكن هناك قناة السويس فكانت القارة الأفريقية والآسيوية يمكن العبور من واحدة إلى الأخرى عن طريق البر، فيأتي أهل مصر من طريق البر، وكذلك أهل المغرب من طريق البر ويمرون بالجحفة.
والجحفة قرية قديمة اجتحفها السيل وجرفها وزالت، وكذلك أيضاً حل بها الوباء الذي دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينقله الله من المدينة إلى الجحفة فقال: «اللهم انقل حمَّاها ـ أي حمَّى المدينة ـ
إلى الجحفة» (1) ، لأنها كانت بلاد كفر.
ولما خَربت الجحفة وصارت مكاناً غير مناسب للحجاج جعل الناس بدلها رابغاً، ولا يزال الآن ميقاتاً، وهو أبعد منها قليلاً عن مكة، وعلى هذا فمن أحرم من رابغ فقد أحرم من الجحفة وزيادة، وبينها وبين مكة نحو ثلاثة أيام، والفرق بينها وبين المدينة سبعة أيام.
قوله: «وأهل اليمن يلملم» ، «يلملم» قيل: إنه مكان يسمى يلملم، وقيل: إنه جبل يلملم (2) ، والميقات عند هذا الجبل، وأياً كان فهو معروف.
قوله: «وأهل نجد قرن» هو قرن المنازل (3) ، وقيل: إنه يقال له قرن الثعالب.
ولكن الصحيح، أن قرن الثعالب غير قرن المنازل (4) .
قوله: «لأهل المشرق ذات عرق» ، وسمي هذا المكان بذات عرق؛ لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير.
وهذه الثلاثة يلملم، وقرن المنازل، وذات عرق متقاربة، وهي عن مكة نحو ليلتين، وذات عرق أبعد من قرن المنازل،
__________
(1) أخرجه البخاري في المرضى/ باب من دعا برفع الوباء والحمى (1889)؛ ومسلم في الحج/باب الترغيب في سكنى المدينة (1376) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) في طريق الساحل، ويسمى اليوم بالسعدية جنوب مكة.
(3) ويسمى الآن بالسيل الكبير، وعلى موازاته من طريق الهدا وادي محرم.
(4) فقرن الثعالب جبل مطل على عرفات.
وهذه الأسماء ليست باقية الآن، فذو الحليفة تسمى أبيار علي، والجحفة صار بدلها رابغ، ويلملم تسمى السعدية، وقرن المنازل يُسمى السيل الكبير، وذات عرق تسمى الضَّريْبَة، ولكن الأمكنة ـ والحمد لله ـ مازالت معلومة مشهورة للمسلمين لم تتغير.
فإن قال قائل: ما الحكمة في التفريق بين المواقيت، بعضها قريب، وبعضها بعيد؟
فالجواب: أن هذا السؤال لا ينبغي إيراده؛ لأن نظيره أن يقال: لماذا كانت الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والفجر اثنتين؟ ولماذا لم تكن الظهر ثمانياً، وكذا العصر والعشاء، والمغرب خمساً، والفجر أربعاً؟ فالعبادات المقدرة لا يرد السؤال عنها وإنما الواجب أن يقول العبد: سمعنا وأطعنا؛ لكن مع ذلك لا حرج على الإنسان أن يلتمس الحكمة؛ لأن الاطلاع على الحكمة مما يزيد الإنسان طمأنينة، والحكمة ـ والله أعلم ـ أن بعد ميقات أهل المدينة من أجل أن تقرب خصائص الحرمين بعضهما من بعض، فالمدينة حرم ومكة حرم؛ لكن الإحرام بالنسك من خصائص حرم مكة فكان من الحكمة ألا يخرج من حدود حرم المدينة إلا قليلاً حتى يدخل في خصائص حرم مكة، أما البقية فلعلها ـ والله أعلم ـ أن الجحفة هي أعمر قرية كانت ذلك الوقت حول طريق أهل الشام، والثلاثة الباقية متقاربة.
قوله: «وهي» ، الضمير يعود على المواقيت.
قوله: «لأهلها» ، أي: أهل هذه الأماكن المذكورة: المدينة،
والشام، واليمن، ونجد، والمشرق، هذه المواقيت لأهل هذه البلاد.
قوله: «ولمن مرَّ عليها من غيرهم» ، فإذا مر أحد من أهل نجد بميقات أهل المدينة فإنه يُحرم منه، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقات أهل نجد، وإذا مرَّ أهل اليمن بميقات أهل المدينة، فإنهم لا يكلفون الذهاب إلى يلملم؛ لما في ذلك من المشقة، فكان من تسهيل الله ـ عزّ وجل ـ أن من مر بهذه المواقيت فإنه يحرم من أول ميقات يمر به.
مسألة: إذا كنت من أهل نجد ومررت بميقات أهل المدينة فبين يديك ميقات آخر وهو الجحفة؛ لأن الجحفة بعد ذي الحليفة، فهل تؤخر إحرامك إلى الجحفة أو لا بد من أن تحرم من ذي الحليفة؟
مقتضى الحديث أنه لا بد أن تحرم من ذي الحليفة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» (1) ، فإذا وصلت إلى هذا الميقات، وأنت تريد الحج أو العمرة وجب عليك الإحرام منه.
واختلف العلماء فيما إذا مر الشامي بميقات أهل المدينة، هل له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة التي هي الأصل في ميقات أهل الشام؟
فالجمهور أنه ليس له أن يؤخر، وأنه يجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب مهل أهل الشام (1524)؛ ومسلم في الحج/ باب المواقيت (1181)، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
وذهب الإمام مالك إلى أن له أن يحرم من الجحفة؛ وعلل ذلك: أن هذا الرجل مرّ بميقاتين يجب عليه الإحرام من أحدهما، وأحدهما فرع، والثاني أصلٌ، فالأصل الجحفة، وميقات أهل المدينة فرع، وهو للتسهيل والتيسير على الإنسان، فله أن يدع الإحرام من الفرع إلى الأصل، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
والأحوط الأخذ برأي الجمهور؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» ، فوقت هذا لمن أتى عليه، فيكون هذا الميقات الفرعي كالميقات الأصلي في وجوب الإحرام منه، والقول بهذا لا شك بأنه أحوط وأبرأ للذمة.
وهذه المواقيت الخمسة، عينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهذه البلاد قبل أن تفتح، فالشام ومصر في عهده لم تفتح، واليمن في عهده لم يفتح منه إلا جزء يسير، والعراق لم يفتح، قال العلماء: وهذا من آيات الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن توقيتها لأهل هذه البلاد، إشارة إلى أن هذه البلاد سوف تفتح، ويحج أهلها، ويصيرون مسلمين بعد أن كانوا كفاراً.
وَمَنْ حَجَّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَمِنْهَا، وَعُمْرَتُهُ مِنْ الحِلِّ ...........................
قوله: «ومن حج من أهل مكة فمنها» ، أي: فيحرم من مكة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين وقّت المواقيت: «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة» (1) ؛ ولأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين حلوا من إحرامهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) سبق تخريجه ص(47).
أحرموا من مكة من الأبطح (1) ، ونأخذ من هذا الحديث أن من كان دون هذه المواقيت، فإنه يحرم من مكانه.
فمثلاً: أهل الشرائع في طريق أهل نجد، لا نقول لهم إذا أرادوا أن يُحرموا: ارجعوا إلى قرن المنازل فأحرموا منه، وإنما نقول: احرموا من مكانكم، وأهل جدة كذلك، لا حاجة أن يذهبوا إلى الجحفة ولا إلى ذي الحليفة.
وانظر إلى هذا التعبير النبوي حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «من حيث أنشأ» ، ولم يقل: من بلده؛ لأن بلده قد يكون دون المواقيت، ولكنه في مكان آخر غير بلده فينشئ نية العمرة أو الحج منه، فنقول: أحرم من حيث أنشأت.
والمكي إذا كان خارج مكة لغرض، ثم رجع إلى مكة في أيام الحج وهو ينوي الحج في هذه السنة، فلا يلزمه أن يدخل بعمرة لأنه رجع إلى بلده، ولم يرجع لقصد العمرة.
وقول المؤلف: «ومن حج من أهل مكة فمنها» ليس له مفهوم ـ أعني قوله: «من أهل مكة» ، فإن من حج من مكة من أهلها وغيرهم فإحرامهم من مكة، ولو كانت العبارة: «ومن حج من مكة فمنها» لشملت أهل مكة وغيرهم، لكنه ـ رحمه الله ـ تبع غيره في العبارة فقال: «من حج من أهل مكة فمنها».
قوله: «وعمرته من الحل» ، أي: عمرة من كان من أهل مكة من الحل، أي: من أي موضع خارج الحرم، والحرم له حدود
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به في الحج/ باب الإهلال من البطحاء ووصله مسلم في الحج/باب بيان وجوه الإحرام (1214) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
معروفة ـ والحمد لله ـ إلى الآن، وتختلف قرباً وبعداً من الكعبة، فبعضها قريب من الكعبة، وبعضها بعيدٌ من الكعبة، وأقربها من الكعبة التنعيم، وأبعدها من جهة جدة ومن جهة عرفة أيضاً، بعضها تسعة أميال، ومنها أحد عشر ميلاً، وهذه الحدود توقيفية ـ ليس للرأي فيها مجال، فلا يقال: لماذا بعدت حدود الحرم من هذه الجهة دون هذه الجهة؟
وقوله: «وعمرته من الحل» ، يشمل الحل القريب والبعيد، فلو قال قائل: أنا لا أريد أن أحرم من التنعيم، وأريد أن أحرم من طريق جدة وهو بعيد ـ حوالي عشرة أميال ـ فله أن يفعل.
وهل الأفضل أن يختار الأبعد، أو أن يختار الأقرب، أو أن يختار الأسهل؟
قال بعض العلماء: بل الأفضل أن يختار الأبعد؛ لأنه أكثر أجراً، ولكن في النفس من هذا شيء.
وقال بعض العلماء: الأفضل أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده، فإذا كان من أهل نجد، وأراد أن يحرم قلنا: الأفضل أن تحرم من قرن المنازل.
والأقرب أن الأفضل هو الأسهل؛ وعليه فإذا كنت في مزدلفة فأحرم من عرفة؛ لأنها أقرب الحل إليك، وإذا كنت في جهة الشرائع وأنت داخل الحرم فالجعرانة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحرم منها حين جاء من الطائف من غزوة حنين (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في العمرة/ باب كم اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلّم (1778) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
وقول المؤلف: «وعمرته من الحل» ، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم أن من كان في مكة، وأراد العمرة، فإنه يحرم من الحل.
ودليل هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما طلبت منه عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تعتمر أمر أخاها عبد الرحمن ـ رضي الله عنه ـ وقال: «اخرج بأختك من الحرم، فلتهل بعمرة من الحل» (1) ، فدل ذلك على أن الحرم ليس ميقاتاً للعمرة، ولو كان ميقاتاً للعمرة، لم يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أن يخرج بأخته، ويتجشم المصاعب في تلك الليلة لتحرم من الحل؛ لأنه من المعلوم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتبع ما هو أسهل ما لم يمنعه منه الشرع، فلو كان من الجائز أن يحرم بالعمرة من الحرم لقال لها: أحرمي من مكانك.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة» (2) ، ثم ذكر المواقيت وقال: «من كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة» (3) ، مع أنه قال في الحديث: «ممن أراد الحج أو العمرة» (4) ، فظاهر العموم أن العمرة لأهل مكة تكون من مكة؟
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1560)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (112) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب ميقات أهل المدينة (1525)؛ ومسلم في الحج/ باب مواقيت الحج (1182) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) سبق تخريجه ص(47).
(4) سبق تخريجه ص(47).
قلنا: هذا الظاهر يعارضه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أمر أخاها أن يخرج بها لتحرم من التنعيم» (1) .
فإن قال قائل: عائشة ليست من أهل مكة، فأمرت أن تخرج إلى الحل لتحرم منه؟
قلنا: ليس المانع من إحرام الآفاقي بالعمرة من مكة هو أنه ليس من أهل مكة؛ بدليل أن الآفاقي يحرم بالحج من مكة، فلو كانت مكة ميقاتاً للإحرام بالعمرة، لكانت ميقاتاً لأهل مكة وللآفاقيين الذين هم ليسوا من أهلها، وهذا واضح.
وأيضاً العمرة هي الزيارة، والزائر لا بد أن يفد إلى المزور؛ لأن من كان معك في البيت إذا وافقك في البيت لا يقال: إنه زارك، وهذا ترجيح لغوي.
ونقول أيضاً: كل نسك فلا بد وأن يجمع فيه بين الحل والحرم، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أمر عائشة أن تحرم من الحل» ، لتجمع في نسكها بين الحل والحرم.
فإن قال قائل: هذا ينتقض عليكم بالإحرام بالحج من مكة؟
قلنا: لا ينتقض؛ لأن الذي يحرم بالحج لا يمكن أن يطوف بالبيت حتى يأتي إلى البيت من الحل أي عرفة؛ لأنه سيقف بعرفة، ولا يمكن أن يطوف للإفاضة إلا بعد الوقوف بعرفة، وبهذا تبين أن القول بأن أهل مكة يحرمون بالعمرة من مكة قول ضعيف، لا من حيث الدليل، ولا من حيث اللغة، ولا من حيث المعنى.
__________
(1) سبق تخريجه ص(51).
مسألة: إذا مر الإنسان بهذه المواقيت فهل يلزمه أن يحرم؟
الجواب: إن كان يريد الحج، أو العمرة، أو كان الحج أو العمرة فرضاً عليه، أي: لم يؤد الفريضة من قبل، فإنه يلزمه أن يحرم.
ودليل اللزوم حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة» (1) ، وكلمة «يهل» خبر بمعنى الأمر، بدليل اللفظ الآخر في الحديث: «أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يهل أهل المدينة من ذي الحليفة» (2) ، فلا بد أن يحرم من هذه المواقيت، فإذا كان يريد الحج أو العمرة فواضح؛ لأن لفظ الحديث: «ممن يريد الحج أو العمرة» ، ولكن إذا كان النسك فرضاً، وهو لا يريد أن يحج، أو لا يريد أن يعتمر، فنقول: يلزمه الإحرام من الميقات؛ لأن الحج والعمرة واجبان على الفور، وقد وصل الآن فلا يجوز أن يؤخر ولا بد أن يحرم بالحج والعمرة، أما إذا كنت قد أديت الفريضة ومررت بهذه المواقيت ولا تريد الحج ولا العمرة، فليس عليك إحرام، سواء طالت مدة غيبتك عن مكة أم قصرت، حتى ولو بقيت عشر سنوات، وأتيت إلى مكة لحاجة وقد أديت الفريضة، فإنه ليس عليك إحرام.
هذا هو القول الصحيح الذي تدل عليه السنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الحج هل هو في كل عام؟ فقال: «الحج مرة فما زاد
__________
(1) سبق تخريجه ص(52).
(2) أخرجه مالك في الموطأ (1/330) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
فهو تطوع» (1) ، ولم يقل: «إلا أن يمر بالميقات» ولو كان المرور بالميقات موجباً للإحرام لبيَّنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لدعاء الحاجة إلى بيانه، وعلم منه أنه المرور بالميقات ليس سبباً للوجوب.
ولكن هل الأفضل أن يحرم ويؤدي العمرة أو يؤدي الحج إذا كان وقته؟
الجواب: نعم، هذا هو الأفضل؛ لأن «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (2) ، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» (3) ، لكن الاستحباب شيء والوجوب شيء آخر.
وَأَشْهُرُ الحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو القَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِن ذِي الحِجَّةِ.
وبعد أن فرغ المؤلف من بيان الميقات المكاني، شرع في الميقات الزمني، فقال المؤلف:
«وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة» أشهر الحج على كلام المؤلف شهران، وبعض الثالث، وهي شوال وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
يقال ذو القَعدة، وذو القِعدة، ويقال: ذو الحَجة وذو
__________
(1) سبق تخريجه ص(12).
(2) أخرجه البخاري في العمرة/ باب العمرة (1773)؛ ومسلم في الحج/ باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه الإمام أحمد (1/387)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810) وصححه؛ والنسائي في الحج/ باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة (5/115، 116)؛ وصححه ابن خزيمة (2512)؛ وابن حبان (3693) إحسان، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
الحِجة، والأفصح الفتح في الأول «ذو القَعدة» والكسر في الثاني «ذو الحِجة» .
وقوله: «وعشر من ذي الحجة» ، هذا المشهور عند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وبَه أخذ أصحابه، ولكن يرد على هذا القول أن الله قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وأشهر جمع فتكون ثلاثة، ولو قال: في أشهر صارت الأشهر الثلاثة ظرفاً، والمظروف لا يلزم أن يملأ الظرف، فيصدق بشهرين وبعض الثالث.
ولكنه قال: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، والمشهور في اللغة العربية أن أقل الجمع ثلاثة، وعلى هذا فتكون أشهر الحج ثلاثة، وهذا مذهب الإمام مالك (1) ـ رحمه الله ـ وهو أقرب إلى الصحة مما قاله المؤلف، لموافقته لظاهر الآية {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.
فإن قال قائل: إذاً هل تجيزون أن يقف الناس في الخامس عشر من ذي الحجة؟
نقول: لا نجيز ذلك، كما أنه لا يجوز أن يقف الناس في العاشر من شوال، فهذه الأشهر لا يلزم أن يكون الحج جائزاً في كل يوم من أيامها.
ويدل على ضعف كلام المؤلف، أن من أيام الحج اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر، يفعل فيها من أعمال الحج: الرمي، والمبيت، فكيف نخرجها من أشهر
__________
(1) وهو الوارد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما في البخاري في الحج/ باب ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (1572).
الحج وهي أوقات لأعمال الحج؟! ولو أن الإنسان قال: أريد أن أرمي الجمار الثلاث، وجمرة العقبة في يوم العيد لم يمكنه ذلك، فلا بد أن يكون رمي الجمرات في الأيام الثلاثة، وهي خارجة عن الحد الذي قاله المؤلف؛ لأن المؤلف قال: «عشر من ذي الحجة».
وبعض العلماء قال: تسع من ذي الحجة؛ لأن الحج عرفة وعرفة ينتهي في التاسع.
ولكن هذا القول، أضعف مما قاله المؤلف؛ لأن الله قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، وقال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] . وعلى قول من يقول: إنها تسعة، يخرج هذا اليوم الذي سماه الله يوم الحج الأكبر.
فالصواب ما ذهب إليه الإمام مالك ـ رحمه الله ـ من أن أشهر الحج ثلاثة، كما هو ظاهر القرآن، شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
فإن قال قائل: هل يترتب على هذا الخلاف شيء؟
قلنا: نعم، يترتب عليه أشياء:
أولاً: في مسائل الأيمان، فلو قال قائل: والله لأصومن ثلاثة أيام من أشهر الحج، وصام الحادي والعشرين، والثاني والعشرين، والثالث والعشرين من ذي الحجة، فلا يكون باراً بيمينه على المذهب؛ لأن أيام الحج انتهت، وعلى قول مالك يكون باراً بيمينه؛ لأنه صام في أشهر الحج، وأشهر الحج لا تنتهي إلا بدخول شهر محرم.
ثانياً: أنه لا يجوز أن يؤخر شيء من أعمال الحج عن الأشهر الثلاثة إلا لضرورة، وإلا فالواجب ألا يخرج ذو الحجة وعليه شيء من أعمال الحج، إلا طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع منفصل عن الحج، فهو لمن أراد الخروج من مكة وإن طال لبثه فيها.
وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يؤخر حلق رأسه إلى أن يدخل المحرم، ولا يجوز أن يؤخر طواف الإفاضة إلى أن يدخل المحرم، لكن إذا كان لعذر فلا بأس.
فعذر الحلق أو التقصير: أن يكون في رأسه جروح لا يتمكن معها من الحلق أو التقصير فله أن يؤخر حتى يبرأ، أما عذر الطواف فأن تصاب المرأة بنفاس كأن يأتيها وهي واقفة في عرفة، والنفاس عادة يبقى أربعين يوماً، فهذه سوف يخرج شهر ذي الحجة، ولم تطف طواف الإفاضة، فلا بأس؛ لأن تأخيرها للطواف لعذر، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح إليه القلب لموافقته لظاهر الآية، والأصل في الدلالات أن نأخذ بالظاهر، إلا بدليل شرعي يخرج الكلام عن ظاهره.
مسألة: هل يجوز للإنسان أن يحرم بالحج قبل الميقات المكاني، أو الزماني، أو بالعمرة قبل الميقات المكاني؟
الجواب: الصحيح أنه لا يجوز أن يحرم قبل الميقات الزماني، وأنه لو أحرم بالحج قبل دخول شهر شوال صار الإحرام عمرة لا حجاً؛ لأن الله قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، وهذا أحرم قبل دخول أشهر الحج، فيكون إحرامه عمرة،
كما لو صلى الظهر قبل الزوال فينعقد نفلاً، أو نقول بأنه فاسد لا ينعقد.
وقال بعض العلماء: ينعقد الإحرام لكن يُكره، فينعقد الإحرام؛ لأنه لبى الله، لكن يكره لمخالفته لظاهر الآية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وكذلك في المواقيت المكانية.
فالقول الثاني في المسألة أنه يُكره أن يُحرم قبل الميقات، لكن لو أحرم صح إحرامه وانعقد، فمثلاً لو أحرم إنسان من أهل المدينة من المدينة نفسها قلنا: هذا مكروه وينعقد، وهذا رأي الجمهور.
والمراد بالإحرام النية دون الاغتسال ولبس ثياب الإحرام، وأكثر العامة يحملون معنى الإحرام على لبس ثياب الإحرام وليس كذلك، والإحرام سيأتينا ـ إن شاء الله ـ في الباب الذي يلي هذا الباب أنه نية الدخول في النسك، وعلى هذا فمن كان في المدينة وتغسل ولبس ثياب الإحرام ولم يحرم، إلا بذي الحليفة فإنه لم يفعل مكروهاً؛ لأن الإحرام هو نية الدخول في النسك، ولم تحصل منه إلا في الميقات.
فإن قال قائل: ما تقولون في شخص لم يمر بشيء من المواقيت، أيحرم من بلده ولو كان بعيداً؟
نقول: إن أهل الكوفة، وأهل البصرة شكوا إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقالوا: «يا أمير المؤمنين إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل نجد قرن المنازل، وإنها جور عن طريقنا ـ أي: مائلة وبعيدة عن طريقنا ـ فقال رضي الله عنه: انظروا إلى حذوها من طريقكم» (1) ، فنقول لهذا الذي لم يمر بالميقات: أحرم إذا حاذيت الميقات، وهذا إذا كان يسير على الأرض واضح، كما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ، لكن إذا كان يسير في الجو فإذا حاذاها جواً أحرم.
__________
(1) وتمامه: «فحدَّ لهم ذات عرق».
أخرجه البخاري في الحج/ باب ذات عرق للعراق (1531) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
وقد نص شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ على مثل من كان في الطائرة، أنه يجب أن يحرم إذا حاذى الميقات، وقد ذكر هذا حين تكلم عن السحرة الذين يكذبون على الناس، ويقولون: تحملنا الملائكة إلى مكة في يوم واحد، فنذهب إلى عرفة في يوم واحد، قال: هؤلاء يخطؤون حيث إن الشياطين تمر بهم من فوق الميقات ولا يحرمون منه، وهذا مثل الطائرة تماماً.
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس