عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:12 PM   #4
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

قوله: «ولا يصح» ، الضمير في قوله: «لا يصح» يعود على العقد، أي: لو عُقِدَ على امرأة محرمة لزوج حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لزوج محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة محلة، والولي محرم لم يصح النكاح.
لأن النهي وارد على عين العقد، وما ورد النهي على عينه فإنه لا يمكن تصحيحه، إذ لو قلنا بتصحيح ما ورد النهي على عينه لكان هذا من المحادة لله ولرسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ لأن ما نهى الشارع عنه إنما يريد من الأمة عدمه، فلو أمضي كان مضادة لله ولرسوله.
مسائل :
الأولى: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينكح المحرم ولا يُنكح» (1) . ألا يدل على أنه يحل عقد النكاح بعد التحلل الأول ـ كما هو الرواية الثانية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يطلق عليه اسم المحرم الكامل؟
هذه المسألة تأتينا إن شاء الله وهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حل له كل شيء إلا النساء» (2) ، فهل المراد النساء وما يتعلق بهن كالخطبة والعقد، أو المراد الاستمتاع بالنساء؟ فالمسألة فيها قولان، ولكننا عملياً نقول لا تعقد النكاح حتى تتحلل تحللاً كاملاً، ولو فرض أنه وقع العقد بعد التحلل الأول، فهذه ربما نقول بقول شيخ الإسلام ابن تيمية والذي هو رواية عن الإمام أحمد لعظمة المشقة.
وبعد التأمل رأينا أن القول بأن عقد النكاح بعد التحلل الأول حرام فيه نظر من حيث الدليل؛ لأن قول الرسول (إلا النساء) فيه احتمال قوي أن المراد الاستمتاع بهن بجماع أو غيره خاصة وأن من تحلل التحلل الأول لا يطلق عليه أنه محرم إحراماً كاملاً.
الثانية: الخطبة الصحيح أنها حرام؛ لأن النهي فيها واحد مع العقد، وعموم الحديث: «ولا يخطب» ، أنه لا يخطب تعريضاً ولا تصريحاً.
__________
(1) سبق تخريجه ص(150).
(2) سيأتي تخريجه ص(330).
الثالثة: لو عقد النكاح في حال الإحرام، ثم بعد الإحلال دخل الرجل بزوجته، وأنجبت منه أولاداً فلا بد من عقد جديد، ويكون وطؤه الأول وطئاً بشبهة، وأولاده أولاداً شرعيين، أي: ينسبون إليه شرعاً، كما أنهم منسوبون إليه قدراً.
وَلاَ فِدْيَةَ وَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ،...................
قوله: «ولا فدية» ، أي: ليس فيه فدية.
والدليل عدم الدليل، أي: أنه ليس هناك دليل يوجب الفدية، والأصل براءة الذمة، وعدم الوجوب.
وقال بعض العلماء: فيه الفدية، قياساً على اللباس، لأن ترفه الإنسان بالنكاح أشد من اللباس.
والصحيح أنه لا فدية فيه، بل فيه الإثم وعدم الصحة للنكاح.
فإن قال قائل: إذا أخذتم بهذا الأصل، فقولوا: إذاً لا فدية في الطيب ولا فدية في اللباس، لأنه لا دليل على أن فيها فدية، وإنما ورد الدليل في حلق الرأس، وجزاء الصيد.
وأين الدليل على وجوب الفدية في لبس القميص والسراويل والبرانس والعمائم والخفاف، إذ ليس فيها إلا النهي؟
الجواب: يقولون: الدليل هو القياس؛ لأن العلة عندهم في تحريم حلق الرأس هو الترفه، والإنسان يترفه باللباس.
مسألة: إذا قال قائل: إذا عقد، وهو لا يدري أن عقد النكاح في حال الإحرام حرام؟
فالجواب: أنه لا إثم عليه، كما سيأتي إن شاء الله، لكن العقد لا يصح؛ لأن العقود يعتبر فيها نفس الواقع.
قوله: «وتصح الرجعة» ، أي: أن يراجع الإنسان مطلقته التي له الرجعة عليها.
مثال ذلك: رجل أحرم بعمرة أو حج، وكان قد طلق زوجته طلاقاً رجعياً، فأراد أن يراجعها فلا حرج، وتصح الرجعة، وتباح أيضاً.
فهنا فرقنا بين ابتداء النكاح، وبين استدامة النكاح؛ لأن الرجعة لا تسمى عقداً، وإنما هي رجوع؛ ولأن الاستدامة أقوى من الابتداء، أرأيتم الطيب، يجوز للمحرم بل يسن عند عقد الإحرام أن يتطيب فَيُحْرم، والطيب في مفارقه، لكن لو أراد أن يبتدئ الطيب فلا يجوز؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، وهنا حصل لنا فرعان على هذه القاعدة في محظورات الإحرام:
الأول: الطيب، يستديمه ولا يبتدئُهُ.
الثاني: النكاح، يستديمه ولا يبتدئُهُ.
وَإِنْ جَامَعَ المُحْرِمُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ فَسَدَ نُسُكُهُمَا، وَيَمْضِيانِ فِيْهِ، وَيَقْضِيَانِهِ ثَانِيَ عَامٍ،..
قوله: «وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول» ، هذا هو المحظور الثامن من محظورات الإحرام، وهو الجماع، وهو أشدها إثماً، وأعظمها أثراً في النسك.
ولا شيء من محظورات الإحرام يفسده إلا الجماع قبل التحلل الأول، عكس بقية العبادات، فباقي العبادات كل محظور وقع فيها أفسدها إلا الحج والعمرة، خلافاً للظاهرية الذين يقولون إن جميع المحظورات تفسد الحج والعمرة، وهذا نوع من القياس الذي كانوا ينكرونه، وهو قياس فاسد في مقابلة النص، والنص أن الله أباح للمحرم الذي به أذى في رأسه حلق رأسه بدون أن
يفسد نسكه، ولو كانت المحظورات مفسدة لأفسدته ولو حلت للضرورة، كما نقول للصائم إذا اضطر للأكل والشرب، وأكل وشرب فسد صومه، نحن نقول: «فسد» ولا نقول: «بطل» لأننا إذا قلنا: «بطل» يعني الخروج منه، وإذا قلنا: «فسد» يعني المضي فيه ولو كان فاسداً، ولا يبطل الحج إلا شيء واحد وهو الردة ـ والعياذ بالله ـ حتى لو تاب وأسلم يؤمر بقضائه.
ويحصل الجماع بإيلاج الحشفة في قبلٍ أو دبر، وهو محرم بنص القرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197] ، فسَّره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالجماع (1) ، والجماع له حالان:
الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول.
الثانية: أن يكون بعد التحلل الأول.
والتحلل الأول يكون برمي جمرة العقبة يوم العيد، فإذا لم يرم الجمرة فإنه في إحرام تام، وإذا رمى الجمرة حل التحلل الأول عند كثير من العلماء.
وعند آخرين لا يحل إلا بالرمي مضافاً إليه الحلق أو التقصير، فإذا حلق أو قصر مع الرمي فقد حل التحلل الأول.
والتحلل الثاني: يكون إضافة إلى الرمي والحلق أو التقصير، بالطواف والسعي إن كان متمتعاً، أو كان مفرداً أو قارناً ولم يكن سعى مع طواف القدوم.
__________
(1) انظر: «تفسير الطبري» (4/129 ـ 130).
فصار التحلل الأول يحصل بالرمي والحلق أو التقصير.
والثاني بالرمي والحلق أو التقصير والطواف والسعي.
وأما ذبح الهدي فلا علاقة له بالتحلل، فيمكن أن يتحلل التحلل كله، وهو لم يَذبح الهدي.
قوله: «فسد نسكهما، ويمضيان فيه، ويقضيانه ثاني عام» ، هذه ثلاثة أحكام، وبقي حكمان: الإثم، والفدية، وهي بدنة.
فصار الجماع قبل التحلل الأول يترتب عليه خمسة أمور:
الأول: الإثم.
الثاني: فساد النسك.
الثالث: وجوب المضي فيه.
الرابع: وجوب القضاء.
الخامس: الفدية، وهي بدنة تذبح في القضاء.
مثال ذلك : رجل جامع زوجته ليلة مزدلفة في الحج عالماً عامداً لا عذر له.
نقول: ترتب على جماعك خمسة أمور:
الأول: الإثم فعليك التوبة.
الثاني: فساد النسك، فلا يعتبر هذا النسك صحيحاً.
الثالث: وجوب المضي فيه، فيجب أن تكمله؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
الرابع: وجوب القضاء من العام القادم بدون تأخير.
الخامس: فدية، وهي بدنة تذبح في القضاء.
فأما الإثم فظاهر؛ لإنه عصى الله ـ عزّ وجل ـ لقوله: {فَلاَ رَفَثَ}.
وأما فساد النسك، فلقضاء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بذلك (1) ، وورد فيه أحاديث مرفوعة ولكنها ضعيفة (2) .
__________
(1) قال ابن المنذر في «الإجماع» ص(63): «وأجمعوا على أن من جامع عامداً في حجه قبل وقوفه بعرفة أن عليه حجاً قابل».
وقال ص(76): «وأجمعوا على أن من وطئ قبل أن يطوف ويسعى أنه مفسد».
والقول بفساد الحج ورد عن عمر، وعلي، وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم’>;ـ «أنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم، فقالوا: ينفذان لوجههما، ثم عليهما حج من قابل والهدي».
أخرجه مالك في «الموطأ» (1/381) بلاغاً، ومن طريقه «البيهقي» (5/167).
ورواه البيهقي (5/167) عن عطاء عن عمر، وهو منقطع كما في «الجوهر النقي» (5/167).
ورواه أيضاً ابن أبي شيبة كما في «الملحق» (136)؛ والبيهقي (5/167)، وابن حزم في «المحلى» (7/190) وقال: «مرسل عن عمر، لأنه عن مجاهد عن عمر، ولم يدرك مجاهدُ عمرَ»، وانظر: «التلخيص» (2/282 ـ 283) وورد عن ابن عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ: «فساد نسك من جامع أهله، والمضي فيه، والحج من قابل، والهدي».
أخرجه ابن أبي شيبة كما في «الملحق» (137)؛ والدارقطني (3/50)؛ والبيهقي (5/167)، وقال البيهقي: «هذا إسناد صحيح».
(2) ومن ذلك ما رواه يحيى ابن أبي كثر قال: أخبرني يزيد بن نعيم، أو زيد بن نعيم ـ شك الراوي ـ أن رجلاً من جذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال لهما: «اقضيا نسككما، وأهديا هدياً، ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا، ولا يرى واحد منكما صاحبه، وعليكما حجة أخرى».
أخرجه أبو داود في «المراسيل» (140)؛ ومن طريقه البيهقي (5/167)، وقال: «هذا منقطع».
وقال ابن حجر في «التلخيص» (2/283): «رجاله ثقات مع إرساله، ورواه ابن وهب في موطئه عن سعيد بن المسيب مرسلاً».
وأما وجوب المضي فيه، فصح ذلك عن الصحابة عن عمر وغيره.
وذهبت الظاهرية إلى أنه يفسد نسكه ويبطل وينصرف، ولا يمكن أن يتم نسكاً فاسداً؛ لأنهم يقولون: هل الفاسد عليه أمر الله ورسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟
فإن قلت: نعم، لزم من ذلك أن الله ورسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يأمران بالفساد، وإن قلت: لا، قالوا إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، والمردود لا فائدة من فعله، قال ـ تعالى ـ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] .
وقال بعض العلماء من التابعين: يتحلل بعمرة ويقضي، فيجعلونه بمنزلة من فاته الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بعمرة ويحل.
لكن لا شك أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أعمق منا علماً، وأسد منا رأياً، فهم إلى الصواب أقرب منا فنأخذ بأقوالهم، ونقول: يفسد النسك ويلزم المضي فيه، ولا غرابة في ذلك، فها هو الرجل يفطر في نهار رمضان عمداً بلا عذر، ويلزمه الإمساك والقضاء، ثم إن في إلزامه بالمضي نوع عقوبة له، وفيه ـ أيضاً ـ سداً لباب الشر؛ لأن بعض الناس لا يهمه أن يأثم، فيجامع من أجل أن ينصرف، ففي هذا ردع وتأديب له.
وإذا مضى في هذا الفاسد، فحكمه حكم الصحيح على الراجح في كل ما يترتب عليه من محظورات وواجبات.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة (1718) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
وأما الرد على قول الظاهرية، فنقول: اتباع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحسن وأولى.
وقوله: «يقضيانه» الفاعل يعود على المجامِع والمجامَع والهاء تعود على الحج.
وظاهر كلام المؤلف أنهما يقضيانه سواء كان الحج الذي أفسداه فرضاً أو تطوعاً، أما إن كان فرضاً فالأمر واضح، وأما إن كان نفلاً؛ فلأنهما أفسد ما يجب عليهما المضي فيه، فلزمهما إعادته.
وقوله: «ثاني عام» يفهم منه أنه لا يجوز تأخيره إلى العام الثالث، فإن عجزا بقي في ذمتهما حتى يقدرا على القضاء.
تنبيه: لم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ما إذا جامع بعد التحلل الأول، لكن ذكره غيره.
قالوا: إذا جامع بعد التحلل الأول، فإنه يجب عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم، أي: يخلع ثياب الحل ويلبس إزاراً ورداءً ليطوف طواف الإفاضة محرماً؛ لأنه فسد إحرامه، أي: فسد ما تبقى من إحرامه، فوجب عليه أن يجدده، وعليه فدية، وسيأتي إن شاء الله بيان الفدية فيما بعد، وعليه الإثم، إذاً، إذا جامع بعد التحلل الأول ترتب عليه أربعة أمور:
الأول: الإثم.
الثاني: فساد الإحرام.
الثالث: وجوب الخروج إلى الحل ليحرم منه.
الرابع: الفدية.
مثاله: رجل رمى وحلق يوم العيد، ثم جامع أهله قبل أن يطوف ويسعى، فعليه الإثم، والفدية، وفسد إحرامه، وعليه الخروج إلى الحل ليحرم فيطوف محرماً، لا بثيابه؛ لأن إحرامه فسد.
وَتَحْرُمُ الْمُبَاشَرَةُ، فَإِنْ فَعَل فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لَكنْ يُحْرِمُ مِن الحِلِّ لِطَوَافِ الفَرْضِ ..
قوله: «وتحرم المباشرة، فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة» ، المباشرة أي: مباشرة النساء لشهوة.
وهذا هو المحظور التاسع، وهو آخر المحظورات، والدليل قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ولأنه إذا كان يحرم عقد النكاح الذي تستباح به المباشرة فالمباشرة من باب أولى.
وأما المباشرة لغير شهوة، كما لو أمسك الرجل بيد امرأته، فهذا ليس حراماً، أما لو كانت المباشرة بشهوة فهو حرام، وسواء كانت المباشرة لشهوة باليد، أو بأي جزء من أجزاء البدن، سواء كانت بحائل أو بدون حائل؛ لأن ذلك يخل بالنسك، وربما أدى إلى الإنزال.
فإن كانت قبل التحلل الأول، فأنزل ترتب عليه أمران: الإثم، والفدية، وهي بدنة كفدية الجماع. لكن النسك لا يفسد والإحرام أيضاً لا يفسد.
فإن باشر ولم ينزل بل أمذى، أو كان له شهوة، ولكن لم يمذ، ولم ينزل فليس عليه بدنة، بل عليه فدية أذى، كما سنذكره إن شاء الله فيما بعد.
فالمباشرة توافق الجماع في أن الفدية فيها بدنة، وتخالف
الجماع في عدم إفساد النسك والإحرام، وعدم القضاء.
فإذا قال قائل: ما الدليل على وجوب البدنة فيها؟
قلنا: الدليل القياس على الجماع؛ لأنها فعل موجب للغسل مع الإنزال، فأوجب الفدية كالجماع، وليس فيها نص ولا أقوال للصحابة.
لكن هذا القياس ضعيف؛ لأنه كيف يقاس فرع على أصل يخالفه في أكثر الأحكام، فالمباشرة مع الإنزال لا توافق الجماع إلا في مسألة واحدة وهي وجوب الغسل، فلا توافقه في فساد النسك، ولا في وجوب قضائه، ولا في فساد الصيام ـ على قول بعض أهل العلم ـ وحينئذٍ يقال: ما السبب في أنك ألحقتها به في هذا الحكم، مع أنها تخالفه في أحكام أخرى، فلماذا لا تجعلها مخالفة له في هذا الحكم كما خالفته في الأحكام الأخرى؟!
فالصحيح أن المباشرة لا تجب فيها البدنة، بل فيها ما في بقية المحظورات.
قوله: «لكن يحرم من الحل لطواف الفرض» ، يظهر أن هذا سَبْقُ قلم من الماتن ـ رحمه الله ـ؛ لأن هذا الحكم المستدرك لا ينطبق على المباشرة، بل ينطبق على الجماع بعد التحلل الأول، والإنسان بشر، قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، فهذه العبارة الأصح أن تنقل إلى الجماع بعد التحلل الأول، فهو الذي ذكر أهل العلم أنه يفسد به الإحرام، وأنه يجب أن يخرج إلى الحل؛ ليحرم منه فيطوف محرماً.
وَإِحْرَامُ المَرْأةِ كَالرَّجُلِ إِلاَّ فِي اللِّبَاسِ، وتَجْتَنِبُ البُرْقُع والقُفَّازَين، وَتَغْطِيةَ وَجْهِهَا وَيُبَاحُ لَهَا التَّحلِّيَ.
قوله: «وإحرام المرأة كالرجل» أي: أنه يحرم عليها ما يحرم على الرجال، ويلزمها من الفدية ما يلزم الرجال، إلا ما استثني.
قوله: «إلا في اللباس» فليست كالرجل؛ لأن الرجل لا يلبس القميص ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف، والمرأة تلبس ذلك ولا إثم عليها، ولكن عمامتها الخمار.
وقوله: «إلا في اللباس» فلا يحرم عليها اللباس، لكن يحرم عليها نوع واحد من اللباس، وهو القفازان فإنهما لباس اليدين كما سيذكره.
قوله: «وتجتنب البرقع» ، لو قال المؤلف: «البرقع، والنقاب» أو قال: النقاب فقط لكان أحسن، وإنما اقتصر على البرقع فقط؛ لأن البرقع للزينة، والنقاب للحاجة.
فالنقاب تستعمله المرأة فتغطي وجهها، وتفتح فتحة بقدر العين لتنظر من خلالها، والبرقع تجمل، فهو يعتبر من ثياب الجمال للوجه، فهو إذاً نقابٌ وزيادة، وعلى هذا، فنقول: النقاب حرام على المحرمة.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تنتقب المرأة» (1) ، وإذا نهيت المرأة المحرمة عن النقاب فنهيُها عن البرقع في باب أولى.
قوله: «والقفازين» ، القفازان: لباس يعمل لليدين، كما تعمل البزاة لباساً، والبزاة جمع باز، أي: أصحاب الطيور، يجعلون على أيديهم قفازين؛ ليتوقوا أظافر الطير إذا أمسكوه، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلبس القفازين» (1)، إذاً فهي تشارك
__________
(1) سبق تخريجه ص(133).
الرجل في نوع من اللباس، وهو القفازان؛ لأن الرجل لا يلبس القفازين أيضاً لأنهما لباس.
قوله: «وتغطية وجهها» ، أي: تجتنب تغطية الوجه، فلا تغطي الوجه.
أما الرجل فسبق أن القول الراجح جواز تغطيته وجهه؛ لأن لفظة «ولا وجهه» (1) في قصة الذي مات مختلف في صحتها، وفيها نوع اضطراب، ولذلك أعرض الفقهاء عنها، وقالوا: إن تغطية المحرم وجهه لا بأس به، ويحتاجه المحرم كثيراً، فقد ينام مثلاً ويضع على وجهه منديلاً أو نحوه عن الذباب، أو عن العرق، أو ما أشبه ذلك.
فيحرم على المرأة أن تغطي وجهها، وهذا هو المشهور من المذهب، وذكروا هنا ضابطاً، أن إحرام المرأة في وجهها، وهذا ضعيف، فهذا إن أرادوا به، أنه المحل الذي يمنع فيه لباس معين فهذا صحيح، وإن أرادوا به التغطية فهذا غير صحيح؛ لأنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهي المرأة عن تغطية وجهها، وإنما ورد النهي عن النقاب، والنقاب أخص من تغطية الوجه، لكون النقاب لباس الوجه، فكأن المرأة نهيت عن لباس الوجه، كما نهي الرجل عن لباس الجسم، ولباس الرأس.
قوله: «ويباح لها التحلي» ، أي: يجوز للمحرمة أن تلبس الحلي، والمراد الحلي المباح، لا كل حليٍّ، فالحلي الذي على صورة حيوان حرام عليها، وعلى غيرها، فالإحرام لا يمنع المرأة
__________
(1) سبق تخريجه ص(124).
عن التحلي، لكن يجب أن تستر الحلي عن الرجال، فإذا كانت وحدها في البيت، أو مع نساء، أو مع زوج، أو مع محارم وعليها الحلي، فلا بأس.
هذه هي محظورات الإحرام.
مسألة: ما فائدة معرفة الإنسان محظورات الإحرام من حيث العمل والسلوك؟ هل الفائدة أن يعرف ما هو المحظور، وماذا يترتب عليه؟ أو الفائدة أن يعرف المحظور ليتجنبه، فإذا ابتلي به عرف ماذا يجب عليه؟
الجواب: الثاني، ولهذا نحن ينقصنا في علمنا أننا لا نطبق ما علمناه على سلوكنا، وأكثر ما عندنا أننا نعرف الحكم الشرعي، أما أن نطبق، فهذا قليل ـ نسأل الله أن يعاملنا بعفوه ـ وفائدة العلم هو التطبيق العملي، بحيث يظهر أثر العلم على صفحات وجه الإنسان، وسلوكه، وأخلاقه، وعبادته، ووقاره، وخشيته وغير ذلك، وهذا هو المهم.
وأظن أنه لو أتى رجل نصراني ذكي ودرس الفقه مثل ما درسناه، لفهم منه مثل فهمنا أو أكثر، انظر مثلاً في اللغة العربية «المنجد» يقولون: إن مؤلفه نصراني، ويبحث بحثاً جيداً.
فالأمور النظرية ليست هي المقصودة في العلم ـ اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ـ فالعلم فائدته الانتفاع.
وكم من عامي جاهل تجد عنده من الخشوع لله ـ عزّ وجل ـ، ومراقبة الله، وحسن السيرة، والسلوك، والعبادة، أكثر بكثير مما عند طالب العلم.
بَابُ الفِدْيَةِ
يُخَيَّرُ بِفِدْيَةِ حَلْقٍ، وَتَقْلِيمٍ، وَتَغْطِيَةِ رَأْسٍ وَطيبٍ وَلُبْسِ مَخِيطٍ بَيْنَ صِيامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إِطعَامِ ستَّةِ مَسَاكِين لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدُّ بر، أَوْ نصفُ صَاع تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ ذَبْحِ شاةٍ.
قوله: «الفدية» هي ما يعطى فداءً لشيء، ومنه فدية الأسير في الحرب حيث يعطينا شيئاً ثم نفكه، فالفدية ما يجب لفعل محظور أو ترك واجب، وسميت فدية، لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .
ومحظورات الإحرام من حيث الفدية تنقسم إلى أربعة أقسام: ـ
الأول: ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح.
الثاني: ما فديته مغلظة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول.
الثالث: ما فديته الجزاء أو بدله، وهو قتل الصيد.
الرابع: ما فديته فدية أذى، وهو بقية المحظورات.
وهذه القسمة حاصرة تريح طالب العلم.
وفدية الأذى إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام متتابعة، أو متفرقة، أو ذبح شاة، فتذبح وتوزع على الفقراء، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .
قال المؤلف ـ مبيناً ذلك لكنه ليس على وجه التقسيم والحصر ـ: «يخير بفدية حلق، وتقليم، وتغطية رأس، وطيب، ولبس مخيط، بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين» .
«يخير» فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود على المحرم الذي فعل محظوراً، والتقدير يخير المحرم إذا فعل محظوراً من هذه الأجناس، حلق الشعر، وتقليم الأظافر من اليدين أو الرجلين، وتغطية الرأس، والطيب، يخير في هذه الأربعة: بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مُدُّ بُر، أو نصف صاع تمر، أو شعير، أو ذبح شاة.
ودليل هذه الفدية من حيث الجملة، قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .
و«صيام» مجمل لم يبينه الله ـ عزّ وجل ـ، لكن بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو «صدقة» مجملة ـ أيضاً ـ لكن بينها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أو «نسك» مبين؛ لأن النسك هو الذبيحة، فالصيام بيَّنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، في حديث كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ، بأنه ثلاثة أيام، والصدقة بأنها إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع (1) .
قوله: «لكل مسكين مدُّ بُر، أو نصف صاع تمر أو شعير» ، ظاهره أن الفدية في الإطعام محصورة في هذه الأصناف الثلاثة، البر، والتمر، والشعير، وهذا غير مراد؛ لأن المراد ما يطعمه الناس، من تمر، أو شعير، أو بر، أو رز، أو ذرة، أو دخن، أو غيره.
__________
(1) سبق تخريجه ص(135).
والمؤلف هنا فرق بين البر وغير البر، فالبر مُد، وغير البر نصف صاع.
والمُد ربع الصاع؛ لأن صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أمداد، نصفه مدَّان، ففرق المؤلف ـ رحمه الله ـ بين البر وغيره، وفي باب الفطرة لم يفرق المؤلف بين البر وغيره.
ففي باب الفطرة صاع من بر، أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو غير ذلك مما يُخْرج منه، فالفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ يفرقون بين البر وغيره في جميع الكفارات والفدية، إلا في صدقة الفطر، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قاعدة، وقال: إن البر على النصف من غيره، ففي الفطرة نصف صاع عند شيخ الإسلام.
ولكن مذهبنا في الفطرة مذهب أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: «فإنه لما قدم معاوية ـ رضي الله عنه ـ المدينة، وقال: أرى مدًّا من هذه يساوي مدين من الشعير، قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم» (1) ونحن نقول كما قال أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ.
وكذلك مذهبنا هنا أن لا فرق بين البر وغيره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ : «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (2) ، فعيَّن المقدار، وأطلق النوع، فظاهر
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب صاع من زبيب (1508)؛ ومسلم في الزكاة/ باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985) (18) وهذا لفظ مسلم.
(2) سبق تخريجه ص(135).
الحديث أن الفدية نصف صاع لكل مسكين، سواء من البر أو من غيره؛ ولهذا جميع ما ورد فيه إطعام مساكين يجوز أن تغديهم أو تعشيهم، إلا هذا الموضع فلا بد أن تطعمهم طعاماً يملكونه، ومقداره نصف صاع لكل مسكين.
قوله: «أو ذبح شاة» أطلق المؤلف «شاة» ، فهل المراد الأنثى من الضأن، أو المراد أعم من ذلك؟
الجواب: المراد الثاني، شاة، سواءٌ كانت خروفاً أم أنثى، معزاً أم ضأناً، بل أو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة مما يجزئ في الأضحية، ويوزعها على الفقراء ولا يأكل منها شيئاً؛ لأنها دم جبران.
وقوله: «صيام ثلاثة أيام» ، ظاهره أنه لا يشترط فيه التتابع، لأن ما أطلقه الشرع يجب أن يكون على إطلاقه، وإضافة قيد إلى ما أطلقه الشرع تقييد لشرع الله وتضييق على عباد الله، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة «صم ثلاثة أيام» (1) ولم يقيدها.
فإن شئت صم يوماً بعد يوم، وإن شئت صمها متتابعة.
فإن قال قائل: ألستم تقولون: إن كفارة الأيمان ثلاثة أيام متتابعة، والله ـ عزّ وجل ـ أطلق فقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ؟
فالجواب: أنه قد صح عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قرأ: «فصيام ثلاثة أيام متتابعة» (2) ، وقراءة ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ
__________
(1) سبق تخريجه ص(135).
(2) أخرجه عبد الرزاق (16103) والبيهقي (10/60).
حجة حتى إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أحال عليها، فقال: «من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» 1 (1) ، يعني عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.إذاً أربعة محظورات فديتها فدية أذى.
فإذا قال قائل: الحلق عرفنا دليله من القرآن، فما الدليل في التقليم وباقي المحظورات؟
فالجواب: القياس، فصارت هذه الثلاثة كلها بالقياس، الحلق بالنص، والباقي بالقياس عليه.
والمانعون للقياس، يمنعون الفدية في هذه الثلاثة، خصوصاً وأن العلة هنا ـ وهي الترفه ـ غير ظاهرة، وقد سبق البحث في هذه العلة، وأنها ليست قوية.
وَبِجَزَاءِ صَيْدٍ بَيْنَ مِثْلٍ إِنْ كَانَ، أَوْ تَقْوِيْمِهِ بِدَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامَاً، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِيْنٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْماً وَبِمَا لاَ مِثْلَ لَهُ بَيْنَ إِطْعَامٍ وَصِيْامٍ،........
قوله: «وبجزاء صيد بين مِثْلٍ إن كان» أي: ويخير بجزاء، وعلى هذا فالواو حرف عطف و «بجزاء» معطوف على قوله «بفدية» بإعادة العامل، وهو الباء، أي: ويخير بجزاء صيد بين مِثْلٍ إن كان، أي: مثلٍ للصيد إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل فله حكم آخر.
وعلى هذا فنقول: الصيد نوعان: نوع له مثل من النعم؛ فهذا جزاؤه مثله، لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] والمثل هذا يذبحه،
__________
(1) أخرجه أحمد (1/445) وابن ماجه في السنة/ باب فضل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ (138) والحاكم (2/227) وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
ويتصدق به على فقراء الحرم لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
قوله: «أو تقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً فيطعم كل مسكين مدًّا، أو يصوم عن كل مد يوماً» ، (أو) في كلام المؤلف بمعنى الواو، فمعنى الكلام أنه يخير في جزاء الصيد بين ذبح مثله يتصدق به على فقراء الحرم، وتقويمه بدراهم... إلخ لقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] الكفارة ما بَيَّنَها الله ـ عزّ وجل ـ ولكن يقال: إن البدل له حكم المبدل، فتكون الكفارة تساوي المثل أو الصيد، والقرآن ليس فيه إفصاح بهذا ولا هذا؛ ولذلك اختلف العلماء، هل الذي يقوم الصيد أو المثل؟
المذهب: أن الذي يقوم المثل؛ لأنه هو الواجب في الكفارة أصلاً، فإذا كان هو الواجب أصلاً فالواجب قيمته، فَيُقَوَّمُ المثل بدراهم يشتري بها طعاماً، ويطعم كل مسكين مُدّاً، وهو الراجح وهو أقرب إلى قواعد الشرع أن الذي يقوم المثل سواء قلَّت قيمته عن الصيد أو زادت.
وقيل: إن الذي يقوِّم الصيد؛ لأنه لما عدل عن المثل صار كالصيد الذي لا مثل له، والصيد الذي لا مثل له، جزاؤه قيمته.
وقوله: «أو تقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً» ، هذا على سبيل المثال، وليس على سبيل التعيين، فله أن يقومه بدراهم، ثم يخرج من الطعام الذي عنده ما يساوي هذه الدراهم.
مثال ذلك: الحمامة، مثلها شاة، فالشاة جزاء الحمامة؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، والمشابهة بينهما في شرب الماء، فالشاة تعبُّ الماء عبَّا، والحمامة تعُبُّه عبًّا كمص الصبي للثدي، والدجاجة إذا ملأت منقارها رفعت رأسها لينزل الماء، لكن الحمامة إذا وضعت منقارها في الماء لا ترفع رأسها حتى تروى، وكذلك الشاة.
فهذا رجل محرم قتل حمامة، نقول: أنت بالخيار اذبح شاة وتصدق بها على فقراء الحرم، أو قوِّم الشاة بدراهم، وأخرج بدل الدراهم طعاماً، ولا تخرج الدراهم؛ لأنه قال: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فإذا قدرنا الشاة بمائتي ريال، وقدرنا الطعام كل صاع بريال، فتكون مائتي صاع يساوي ثمانمائة مد، فنقول: إن شئت أخرج الطعام، وإن شئت اعدل عن الطعام وصم ثمانمائة يوم؛ لأنه عن كل مد يوماً فسيختار إما الشاة، وإما الإطعام؛ لأن الصيام سيكون شاقاً، لكن ـ الحمد لله ـ الأمر واسع؛ لأنه على التخيير.
ومن الذي يقدر المثل؟
الجواب: قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] «يحكم به» أي: بالمثل «ذوا عدل منكم»، فالواحد لا يكفي فلا بد من اثنين، وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ في الباب الذي يليه أن ما قضت به الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وجب الرجوع إليه، وما لم تقض به الصحابة يقضي به رجلان.
قوله: «وبما لا مثل له بين إطعام وصيام» ، وهذا هو النوع
الثاني فيخير بما لا مثل له بين شيئين: الإطعام، أو الصيام، وتسقط المماثلة، فإما أن يشتري بقيمته طعاماً يطعمه الفقراء، وأما أن يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.
مثاله : الجراد صيد لا مثل له، فإذا قتل المحرم جراداً فعليه: إما قيمته يشتري بها طعاماً يطعم كل مسكين مداً، وإما أن يصوم عن كل مد يوماً.
وَأَمَّا دَمُ متعَةٍ وقِرَانٍ، فَيَجبُ الهَدْيُ فَإِنْ عَدِمَهُ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،...........
قوله: «وأما دم متعة وقران، فيجب الهدي» المؤلف ـ رحمه الله ـ أدخل دم المتعة والقران بين المحظورات، وهذا من حيث التنظيم التأليفي فيه نظر، فينبغي أن يجعل كل صنف مع صنفه، والأمر في هذا سهل من حيث التنظيم، لكنه محل نظر من حيث الحكم؛ لأن دم المتعة ليس فدية ولا كفارة، بل هو دم نسك وشكر لله ـ تعالى ـ، ولهذا سماه الله هدياً وأبيح للإنسان أن يأكل منه.
فالمتعة والقران يجب فيهما هدي، فإن عدمه صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله على سبيل الترتيب، وليس على سبيل التخيير، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] .
وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] باعتبار الوجود، لا باعتبار الهدي نفسه، ولهذا لا يجزئ من الهدي إلا ما جمع شروط الهدي.
فقول تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} مبتدأ، خبره محذوف، والتقدير فعليه ما استيسر من الهدي.
وهل فيه إطعام؟
الجواب: لا، فإذا كان غير قادر على الهدي، ولا على الصيام سقط عنه؛ لأن الله لم يذكر إلا الهدي والصيام فقط.
وقوله: «وأما دم متعة وقران فيجب الهدي» ، قوله: فيجب الهدي، كلمة الهدي عرَّفها بـ (ال) اتباعاً للقرآن الكريم، ولم يقل: مما استيسر من هدي، ولأجل أن يعرف أن المراد الهدي المعروف شرعاً، وهو الذي جمع الأوصاف الثلاثة المتقدمة. ولم يذكر المؤلف نوع الهدي، ولا سنه، وقد ذكرنا الكلام على هدي التمتع والقران فيما سبق.
مسألة: ذكرنا فيما سبق أن الذي فيه شاة يكون تخييراً، لا ترتيباً، وهنا كان ترتيباً مع أن الواجب شاة.
والجواب: أن المراد ما أوجب شاة من المحظورات، ودم المتعة والقران ليس دم محظور، بل هو دم شكران، وليس دم جبران؛ لأن النسك لم ينقصه شيء، بل تُمم بالتمتع؛ فلتمام النسك أوجب الله تعالى على الناس هذا الهدي، شكراً لله على هذه النعمة، ولذلك كان دم المتعة والقران مما يؤكل منه، ويهدي ويتصدق، ودم المحظور لا يؤكل منه، ولا يهدى، ولكن يصرف للفقراء.
وقوله: «وقران» ظاهره أن المؤلف يرى وجوب الدم على القارن، لأنه عطفه على دم المتعة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وقد سبق بيان ذلك.
قوله: «فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام» ، أي: عدم الهدي، وله صورتان:
الأولى: ألا يوجد الهدي، بحيث لا يجد في الأسواق شيئاً من بهيمة الأنعام.
الثانية: أن يُوجد، ولكن لا يوجد معه ثمن، فكل منهما يصدق عليه أنه عادم ولم يجد، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] حذف المفعول به، فلم يقل ـ سبحانه وتعالى ـ: «فلم يجد هدياً» ، ولم يقل: «فمن لم يجد ثمن الهدي» من أجل العموم، أي: فمن لم يجد الهدي، أو لم يجد ثمنه، فصيام ثلاثة أيام في الحج.
وهل المعتبر بالنسبة لوجود الهدي وعدمه وقت إحرامه بالعمرة، بحيث نقول إذا كان معه وقت إحرامه بالعمرة دراهم يشتري بها، ثم سرقت فإنه يعتبر واجداً، أو المعتبر إحرامه بالحج، أو المعتبر طلوع الفجر يوم العيد، أو المعتبر وقت جواز الذبح يعنى بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح؟
كل هذه أقوال، والمذهب أن المعتبر طلوع الفجر يوم النحر.
فقد يكون عند إحرام العمرة غير واجد، أو عنده بعض الشيء وظن أن الهدي مرتفع الثمن، ولكن صار معه شيء فيما بعد بسبب أنه اكتسب أو أهدي إليه، أو مات مورثه أو ما أشبه ذلك.
وهنا يعمل بغالب ظنه، فإن كان حين إحرامه بالعمرة يغلب على ظنه أنه لن يجد الهدي، فإنه يحكم بأنه لم يجده، وإن كان يمكن أن يجده في يوم العيد.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه إذا عدم الثمن فهو عادم وإن وجد من يقرضه، ولا شك أنه إذا كان عدمه للثمن عدم عجز، فإنه لا يجب عليه الاستقراض، ولو وجد من يقرضه، بل ننهاه عن الاستقراض. أما إذا كان عدمه للثمن ليس عدم عجز، بل هو غني، إلا أن النفقة ضاعت منه ـ مثلاً ـ، ويستطيع بكل سهولة أن يقترض من رفقائه أو غيرهم، فظاهر كلام المؤلف أنه غير واجد في هذه الحال.
ولكن في النفس من هذا شيء؛ لأن مثل هذا الرجل لا يقال: إنه لم يجد، على أن الغالب أن مثل هذا الرجل يستطيع الاقتراض بكل سهولة ويجد من يقرضه بلا غضاضة عليه.
وَالأَفْضَلُ كَوْنُ آخِرِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ ................
قوله: «والأفضل كون آخرها يوم عرفة» ، أي: فيصوم اليوم السابع، والثامن، والتاسع، ليكون آخرها يوم عرفة، قالوا: وفي هذه الحال ينبغي أن يحرم بالحج في اليوم السابع، فيحرم اليوم السابع، ليكون صومه الأيام الثلاثة في نفس الحج.
وفي هذا نظر من جهتين: من جهة تقديم الإحرام بالحج، ومن جهة كون آخرها يوم عرفة.
أما الأول: فإن تقديم إحرام الحج على اليوم الثامن خلاف هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، والذي يظهر من حال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين تمتعوا أنهم فقراء؛ لأنهم لم يسوقوا الهدي، وإلا لساقوا الهدي كما ساقه الأغنياء، وإذا كانوا فقراء ففرضهم الصيام، ونحن يغلب على ظننا أن الصحابة الذين حلوا لم يحرموا إلا من اليوم الثامن، فكيف نقول أحرم في اليوم السابع؟ ثم إننا على هذا
القول نقول أحرم قبل فجر اليوم السابع، من أجل أن يكون الصيام شاملاً للثلاثة كلها، وهذا فيه نظر أيضاً.
وأما الثاني: وهو كون آخرها يوم عرفة، ففيه نظر أيضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» (1) ، «وأُتِيَ بقدح لبن فشربه أمام الناس وهو واقف بعرفة» (2) ليعلموا أنه مفطر.
والصوم في عرفة يوجب أن يكون الإنسان في آخر النهار الذي هو أفضل اليوم خاملاً كسلان متعباً، فلا يكون عنده نشاط للدعاء الذي أفضل ما يكون في آخر بالنهار، فإذا صام ضيع مقصوداً عظيماً في يوم عرفة، وهو النشاط للدعاء في آخر اليوم.
فالصواب خلاف ما عليه الأصحاب في هذه المسألة من الوجهين.
مسألة: ابتداء جواز صيامها، أي الثلاثة من حين أن يحرم بالعمرة.
فإن قال قائل: كيف يجوز أن يصومها من حين إحرامه بالعمرة، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {فِي الْحَجِّ}؟
قلنا: يجوز لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دخلت العمرة في الحج» (3)
__________
(1) أخرجه أحمد (2/304)؛ وأبو داود في الصيام/ باب في صوم يوم عرفة بعرفة (2440)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب صيام يوم عرفة (1732) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وفيه مهدي العبدي الهجري مجهول، وقال العقيلي: «لا يصح عنه ـ أي: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ النهي عن صيامه»، انظر: «التلخيص» (929).
(2) أخرجه البخاري في الصوم/ باب صوم يوم عرفة (1988)؛ ومسلم في الصوم/ باب استحباب الفطر للحاج (1123)، عن أم الفضل بنت الحارث ـ رضي الله عنها ـ.
(3) سبق تخريجه ص(76) من حديث جابر رضي الله عنه.
فعلى هذا يبتدئ صومها من حين أن يحرم بالعمرة، وآخر وقت الصيام: آخر يوم من أيام التشريق.
والذي يظهر لي من حديث ابن عمر، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ: أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يصومونها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ: «لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي» (1) ، فظاهر هذا النص أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صومٌ لها في أيام الحج؛ لأن أيام التشريق أيام للحج، ففيها رمي الجمرات في الحادي عشر والثاني عشر وكذلك الثالث عشر، فلو ذهب ذاهب إلى أن الأفضل أن تصام الأيام الثلاثة في أيام التشريق، لكان أقرب إلى الصواب.
وهل يشترط أن تكون متتابعة؟
الجواب: إن ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق، لزم أن تكون متتابعة ضرورة أنه لا يصومها في أيام الحج إلا متتابعة، لأنه لم يبق من أيام الحج إلا ثلاثة، ولا يجوز أن تؤخر عن أيام التشريق.
أما إذا صامها قبل أيام التشريق، فيجوز أن يصومها متفرقة ومتتابعة، وذلك بناء على القاعدة العامة الأصولية الحديثية وهي «أن الواجب إطلاق ما أطلقه الله ورسوله، وتقييد ما قيده الله
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب صيام أيام التشريق (1997، 1998).
ورسوله»، فالله ـ عزّ وجل ـ أطلق {ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ولم يقيدها بكونها متتابعة، وإذا لم يقيدها الله، فإن تقييدها تضييق على عباد الله في شريعة الله، وإذا كان ليس لنا الحق أن نطلق ما قيده الله، فليس لنا الحق ـ أيضاً ـ أن نقيد ما أطلقه الله، بل تقييد ما أطلقه الله أشد من إطلاق ما قيده الله؛ لأن تقييد ما أطلقه الله مخالف لمقاصد الدين الإسلامي، وهو التيسير والتسهيل، فإن المطلق أسهل من المقيد.
وعلى هذا فنقول: يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة متتابعة ومتفرقة، ما لم يكن تتابعها من ضرورة صومها في الحج، وذلك إذا صامها في أيام التشريق فهنا لا بد أن تكون متتابعة.
ونظير ذلك قضاء رمضان فيجوز قضاء رمضان متتابعاً ومتفرقاً، لكن إذا بقي من شعبان مقدار ما عليه من رمضان وجب التتابع، ضرورة أنه لا يمكن تأخيره إلى ما بعد رمضان الثاني.
مسألة: من أخر صيام ثلاثة الأيام التي في الحج حتى انتهى حجه لغير عذر، فهل تلزمه الفدية؟ الصحيح لا تلزمه، وعجباً لأمر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن يقولوا تلزمه الفدية، وهو أصلاً ما عنده فدية وهو أيضاً لما عدم الهدي صار الصيام واجباً في حقه، فنقول: إنه يجب أن يكون في الحج وإذا تأخر ولا سيما إذا كان لعذر فإنه يقضى كرمضان.
وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلى أَهْلِهِ .................
قوله: «وسبعة إذا رجع إلى أهله» ، أي: إلى بلده لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] والآية لم تقيد الرجوع بالرجوع إلى الأهل، ولكن المفسرين فسروها بذلك إذا رجعتم
إلى أهلكم، وجاءت بذلك الآثار (1) أن المراد الرجوع إلى الأهل، ولكن مع ذلك قال كثير من العلماء: لو صامها بعد فراغ أعمال الحج كلها فلا بأس؛ لأنه جاز له الرجوع إلى الأهل فجاز له صومها.
وَالمُحْصَرُ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدياً صَامَ عَشَرَةً ثُمَّ حَلَّ وَيَجِبُ بِوَطْءٍ فِي فَرْجٍ فِي الحَجِّ بَدَنَةٌ، وَفِي العُمْرةِ شَاة. وَإِنْ طَاوَعَتْهُ زَوْجَتُهُ لَزِمَهَا.
قوله: «والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة» ، المؤلف ـ رحمه الله ـ طوى ذكر التصريح بالهدي مع أنه موجود بنص القرآن، ففهم وجوب الهدي من كلام المؤلف، لا بالتصريح لكن باللازم؛ لقوله: «إذا لم يجد هدياً» ، فالمحصر يجب عليه الهدي بنص القرآن، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] {أُحْصِرْتُمْ}، أي: منعتم من إتمام النسك الحج أو العمرة، {فَمَا اسْتَيْسَرَ} «ما» هذه موصولة إعرابها مبتدأ، والخبر محذوف والتقدير فعليكم، فإذا أحصر الإنسان ومنع من إتمام نسكه، فعليه ما استيسر من الهدي.
والمراد الهدي الشرعي المعروف، بأن يكون من بهيمة الأنعام، وبالغاً للسن المقدر شرعاً، وسليماً من العيوب المانعة من الإجزاء.
مسألة: أين يذبح الهدي ومتى؟
يذبحه عند الإحصار، وفي مكان الإحصار، ودليل ذلك
__________
(1) كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله».
أخرجه البخاري في الحج/ باب من ساق البدن (1691)؛ ومسلم في الحج/ باب وجوب الدم على المتمتع (1227) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وقد ساق النبي صلّى الله عليه وسلّم الهدي معه في عمرة الحديبية (1) ، ولكن منعه المشركون أنفة وحميَّة جاهلية، أن يدخل مكة، وهو أولى بها منهم، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] مع أنه لو جاء رجل مشرك من أقصى مكان ومن أبعد العرب عن بني هاشم أو قريش لفتحوا له الأبواب، ولكن الله ـ عزّ وجل ـ سلط رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عليهم ففتحها عنوة بالسيف، ولولا أنه قال: «من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (2) ، لقتلهم الصحابة في الأسواق.
مسألة: وهل عليه حلق؟
الجواب: ظاهر كلام المؤلف أنه لا حلق عليه، لكن السنة دلت على وجوب الحلق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم أن يحلقوا، فتمنَّعوا رجاء ألا ينفذ النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلح الذي جرى بينه وبين قريش؛ لأن ظاهره الغضاضة على المسلمين؛ لأن من جملة الشروط أن من جاء منهم مسلماً وجب على المسلمين رده، ومن ذهب من المسلمين إليهم لم يجب عليهم رده، وهذا شرط فيه غضاضة عظيمة على المسلمين، ولهذا عارض من عارض من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، ومن جملتهم عمر
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب (2731) (2732) عن المسور بن مخرمة ومروان ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه مسلم في الجهاد/ باب فتح مكة (1780) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، قال: «يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنيَّة في ديننا؟
قال: يا عمر إني رسول الله، ولست عاصيه وهو ناصري»، انظر إلى ثقة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالله ـ عزّ وجل ـ حيث قال: وهو ناصري؛ لأن الله تكفل بنصر من أطاعه، فذهب عمر إلى أبي بكر ليساعده على رسول الله فيكون معه، ولكن كان جواب أبي بكر كجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم سواء.
ومن هنا نعرف أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أقرب إلى إصابة الصواب من عمر ـ رضي الله عنه ـ؛ لأنه وافق الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في هذا وحصل ما حصل، فكانت النتيجة أن يحلوا من عمرتهم بدل: لبيك اللهم لبيك، فانقطعت التلبية وأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقصروا ولكنهم أبوا رجاء لتغيير الرأي، وليس عصياناً، ـ رضي الله عنهم ـ.
فدخل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وكانت امرأة عاقلة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فيحلقك، ففعل ثم قاموا ففعلوا مثل فعله، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمًّا (1) ، انظر كيف كان الاقتداء بالفعل أعظم من الاقتداء بالقول.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الحلق، وإن لم يكن
__________
(1) سبق تخريجه ص(181).
مذكوراً في القرآن، لكن جاءت به السنة، والسنة تكمل القرآن.
وقوله: «صام عشرة ثم حل» يقتضي وجوب الصوم وأنه لا يحل حتى يصوم العشرة ثم يحل، ودليلهم في ذلك القياس على التمتع؛ لأن كلًّا منهما ترفه بالتحلل من الإحرام.
لكن هذا القياس قياس مع الفارق ومخالف لظاهر النص.
ووجه ذلك أن الحكمين في آية واحدة، حكم الإحصار وحكم التمتع، ومنزل الآية واحد، وعالم بالأحكام ـ جل وعلا ـ، قال في التمتع: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} [البقرة: 196] ، وقال في الإحصار: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] فانتقل إلى حكم آخر ولم يذكر الصوم.
ولو كان الحكم واحداً، فهل يذكر الله ـ عزّ وجل ـ البدل في التمتع ولا يذكره في الإحصار؟!
الجواب: لا يمكن؛ لأنه لما سكت الله ـ عزّ وجل ـ عن الصيام في الإحصار، وأوجبه في التمتع لمن عدم الهدي، دل على أن من لم يجد الهدي من المحصرين، فليس عليه شيء فيحل بدون شيء.
ثم إن الظاهر من حال كثير من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم فقراء، ولم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالصيام، والأصل براءة الذمة، وفي كفارة القتل أوجب الله عتق الرقبة، وقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] ذكر خصلتين فقط، وفي كفارة الظهار أوجب الله ـ عزّ وجل ـ عتق الرقبة فقال: {فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] ، فذكر ثلاث خصال ولم يقيسوا كفارة القتل على كفارة الظهار، في وجوب الإطعام على من لم يستطع الصوم، مع أنهما في آيتين متباينتين متباعدتين، وقالوا: لو كان الإطعام واجباً إذا لم يستطع الصوم، لذكره الله كما ذكره في آية الظهار.
فنقول هنا: لو كان الصيام واجباً على من عدم الهدي في الإحصار لذكره الله، وهذا وجه كونه مخالفاً للنص.
أما كونه مخالفاً للقياس، فنقول: بينهما فرق عظيم، فالمتمتع ترفه بالتحلل من العمرة، لكن حصل له مقصوده بالحج، والمحصر لم يحصل له مقصوده، فكيف يقاس من حصل له مقصوده على وجه التمام، بمن لم يحصل له مقصوده، فالمتمتع وجب عليه الهدي، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لكمال النعمة، بخلاف المحصر فإن منزلته منزلة العفو.
فظهر بذلك الفرق بينهما، وأنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر.
وعلى هذا نقول: المحصر يلزمه الهدي إن قدر، وإلا فلا شيء عليه.
قوله: «ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة، وفي العمرة شاة» ، مراده قبل التحلل الأول في الحج.
وقوله: «بوطء» الباء للسببية، والوطء: الجماع في الفرج، لا بين الفخذين، فيجب في الحج بدنة إذا كان قبل التحلل
الأول، فإن لم يجد بدنة، ووجد سبع شياه أجزأ، فإذا لم يجد شيئاً لا سبع شياه ولا بدنة، فإنهم قالوا: يصوم عشرة أيام، وهذا قول لا دليل عليه، فنقول: إذا لم يجد سقط عنه كسائر الواجبات.
وفي العمرة شاة حكمها كفدية الأذى؛ لأنها حج أصغر؛ ولأن كل ما أوجب شاة من المحظورات، ففيه فدية أذى سوى الصيد، وأكثر المحظورات فيها فدية أذى، والجماع بعد التحلل الأول يوجب شاة، ففديته فدية أذى، والمباشرة بدون إنزال فيها فدية، والإنزال على القول الصحيح فيه فدية أذى في الحج والعمرة.
والذي صحت فيه الفدية ثلاثة أشياء:
الأول: حلق شعر الرأس.
الثاني: جزاء الصيد.
الثالث: الجماع، صح عن الصحابة.
والباقي ذكر بالقياس وذكرنا أن بعض الأقيسة لا تصح وحينئذٍ نذكر قاعدة مهمة جداً، أولاً: أنه لا واجب إلا ما أوجب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. ثانياً: أنه لا يجوز استحلال أموال المعصومين إلا بدليل، فلا نقول لهم: يجب أن تخرجوا شيئاً من أموالكم إلا بدليل، هذا هو الأصل، ولكن ذكرت أنه من باب التربية والتوجيه ينبغي ألا تخرج عما كان عليه جمهور العلماء بالنسبة للإفتاء العام، أما بالنسبة للعلم كعلمٍ نظري، فلا بد أن يبين الحق، وكذلك لو فرض أن شخصاً معيناً استفتاك في مسألة
ترى فيها خلاف ما يراه جمهور الفقهاء، فلا بأس أن تفتيه ما دمت تثق أن الرجل عنده احترام لشرع الله، فهنا يفرق بين الفتوى العامة والفتوى الخاصة وبين العلم النظري والعلم التربوي، وقد كان بعض أهل العلم يفتي في بعض المسائل سراً كمسألة الطلاق الثلاث كجد شيخ الإسلام أبي البركات، وهذه طريقة العلماء الربانيين الذين يربون الناس حتى يلتزموا بشريعة الله.
قوله: «وإن طاوعته زوجته لزمها» ، وفي نسخة: «لزماها» ، أي وافقته على الجماع في الحج، أو في العمرة لزماها، أي: البدنة في الحج والشاة في العمرة، أو لزمها، أي: لزمها الحكم.
وإن أكرهها، فظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكرهها لا يلزمها ذلك، وهل يلزم الزوج أن يكفر عن زوجته؛ لأنه أكرهها أو لا؟
الجواب: في المسألة قولان.
المذهب: لا فدية على مكرهة، ولا على من أكرهها؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] ، وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النحل: 106] .
والقول الثاني: أن على مكرهها الفدية، والظاهر القول الأول.
وهل يفسد حجها؟
الجواب: لا؛ لأنها مكرهة.
مسألة: قال في الروض: «والدم الواجب لفوات، أو ترك واجب كمتعة» ، أي: كدم المتعة.
والفوات أن يطلع فجر يوم النحر قبل أن يقف بعرفة، فيفوته الحج، ويلزمه دم لفواته إذا لم يكن اشترط، وكذا الدم الواجب لترك واجب إذا عدمه يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع.
مثاله: لو ترك رمي الجمرات فيلزمه دم، فإن عدمه صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ والعلة القياس على دم المتعة، ولكن هذا فيه نظر؛ لأن هناك فرقاً بين دم المتعة، وبين ترك الواجب.
فالدم الواجب لترك الواجب دم جبران للنقص، والدم الواجب للمتعة والقران دم شكران للتمام، فكيف نقيس هذا على هذا؟
لعلنا لا نعارض في وجوب الدم على من ترك الواجب، بمعنى عسى أن نلزمه بالدم؛ لأنه لا دليل على إيجاب الدم على من ترك الواجب إلا أثر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «من نسي شيئاً من نسكه، أو تركه فليهرق دماً» (1) ، فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يرد عنه أن من ترك واجباً فعليه دم.
لكن هذا الأثر تلقاه العلماء بالقبول، وقالوا: من ترك شيئاً من نسكه فعليه دم، مع أنهم لا يقولون بإطلاقه، ولو قلنا بإطلاقه، لقلنا من ترك الاضطباع فعليه دم، ومن ترك صلاة ركعتين خلف المقام فعليه دم، ومن ترك الوقوف عند المشعر الحرام حتى يسفر فعليه دم، فيحملونه على من ترك شيئاً من نسكه الواجب أو نسيه.
قالوا: وله، ـ أي: لأثر ابن عباس ـ حكم الرفع، ولكن قد يقال: هذا ليس له حكم الرفع؛ لأن ما يثبت له حكم الرفع ما قاله الصحابي وليس للرأي فيه مجال، وهنا ربما يكون للرأي فيه مجال، فربما يرى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، أنه إذا كان انتهاك النسك بفعل المحظور موجباً للدم، فانتهاك النسك بترك المأمور مثله، فيكون للرأي فيه مجال.
فلا يستقيم الاستدلال به على وجوب الدم بترك الواجب، أو صيام عشرة أيام على من عدمه.
__________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/419)، والدارقطني (2/244)، والبيهقي (5/30)، موقوفاً، وقال في التعليق المغني: «رواته كلهم ثقات»، وقال ابن حجر في «التلخيص» (972): «وأما المرفوع فقد رواه ابن حزم... وأعله بعلي بن أحمد المقدسي، وشيخه أحمد بن علي بن سهل المروزي... وقال: هما مجهولان».
والذي يظهر لي أن من ترك واجباً فعليه دم احتياطاً واستصلاحاً للناس؛ لأن كثيراً منهم قد يتساهل إذا لم يكن عليه شيء، فإن لم يجد فليس عليه شيء؛ لأن الإيجاب على العباد ليس هيناً، فإيجاب ما لم يجب كتحريم ما لم يحرم، بل قد يكون أشد؛ لأنك تشغل ذمة العبد بما أوجبت بلا دليل.
فهذه قاعدة ينبغي أن تكون على بال طالب العلم: «أن الإيجاب بلا دليل كالتحريم بلا دليل».
فَصْلٌ
وَمَنْ كَرَّرَ مَحْظُوراً مَنْ جِنْسٍ، وَلَمْ يَفْدِ فَدَى مَرَّةً بِخِلاَفِ صَيْدٍ، وَمَنْ فَعَلَ مَحْظُوراً مِن أجْنَاسٍ فَدَى لِكُلٍّ مَرَّةً رَفَضَ إِحْرَامَه أَوْ لاَ.
قوله: «ومن كرر محظوراً من جنس، ولم يفد فدى مرة» ، أي: إذا كرر الإنسان المحظور من جنس واحد، ففعله أكثر من مرة ولم يفد، فإنه يفدي مرة واحدة، لكن بشرط ألا يؤخر الفدية؛ لئلا تتكرر عليه، بحيث يفعل المحظور مرة أخرى، فيعاقب بنقيض قصده، لئلا يتحيل على إسقاط الواجب.
مثاله: أن يقلم مرتين، أو يلبس مخيطاً مرتين، أو يحلق مرتين، أو يباشر مرتين أو أكثر وهو من جنس واحد، فإن عليه فدية واحدة إذا لم يفد، قياساً على ما إذا تعددت أحداث من جنس واحد فيكفيه وضوءٌ واحد.
وعليه لو لبس وغطى رأسه ففديتان؛ لأن تغطية الرأس من جنس، واللبس من جنس آخر، ولو لبس عمامة بقصد اللبس فهنا يمكن أن نجعلها مع لبس القميص شيئاً واحداً.
وإذا قلم ظفر يد وظفر رجل فشيء واحد، وإن تعدد المحل كما لو لبس خفين وسراويل وقميصاً، فإنها شيء واحد، وكما لو طيب يده ورأسه وصدره فإنه شيء واحد، أي: إن تعدد المحل لا يؤثر شيئاً ما دام الجنس واحداً.
وقوله: «ولم يفد» علم من كلامه أنه لو فدى عن الأول فدى عن الثاني؛ لأن الأول انتهى، وبرئت ذمته منه بفديته، فيكون الثاني محظوراً جديداً.
قوله: «بخلاف صيد» ، أي: فإن جزاءه يتعدد بعدده، ولو
برمية واحدة، فإذا رمى رمية واحدة وأصاب خمس حمامات، فإن عليه خمس شياه، فلا يقال إن الفعل واحد والمحظور واحد؛ لأن الله اشترط في جزاء الصيد أن يكون مثله، والمماثلة تشمل الكمية والكيفية، فلو قدرنا أنه فدى بشاة واحدة عن خمس لم يكن فدى بمثلها، وهذا وجه استثناء الصيد.
قوله: «ومن فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة» ، مثاله: أن يلبس القميص، ويطيب رأسه، ويحلق، ويقلم، هذه أربعة أجناس، فعليه أربع فدى، مع أن موجَبها واحد، وهو: ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، ومع ذلك نقول: عليه لكل واحد فدية، وهذه المسألة:
أولاً: معلوم أن في إيجاب الفدية في غير ما ورد به النص نظراً.
ثانياً: أن القاعدة الشرعية في هذا أنه إذا كان الموجَبُ واحداً فلا يضر اختلاف الأجناس، ولذلك لو أحدث رجل ببول وغائط وريح وأكل لحم إبل ومس ذكر لشهوة، فهذه خمسة موجِبات فهل نقول: توضأ خمس مرات؟ لا؛ لأن الموجَبَ واحد، فالقاعدة: أنه إذا كان الموجَبُ واحداً، فلا تتكرر الكفارة أو الفدية، لكن لعل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: احتراماً للإحرام والنسك وتعظيماً لشعائر الله نلزمه عن كل جنس بكفارة.
قوله: «رفض إحرامه أو لا» ، أي: سواء فعل المحظور بعد أن رفض الإحرام، ونوى الخروج أم لا، فلا تسقط الفدية.
وأشار إليه المؤلف؛ لأن بعض العلماء قال: إذا رفض إحرامه ارتفض وحل.
والصحيح ما قاله المؤلف، وأن الإنسان يبقى على إحرامه ولو رفضه، اللهم إلا أن يكون غير مكلف، كالصغير فإن الصغير إذا رفض إحرامه حل منه، لأنه ليس أهلاً للإيجاب.
وقوله: «رفض إحرامه أو لا» ، ظاهره أنه لا شيء عليه برفضه، وأن وجود هذا الرفض وعدمه على حد سواء، وهذا هو الصحيح.
وقال بعض العلماء: يلزمه لرفضه دم؛ لأنه يحرم عليه أن يخرج من النسك بعد أن تلبس به، فإذا رفضه وحاول الخروج، فهذا وقوع في محظور فيلزمه الدم.
مسألة: رجل أحرم بالعمرة، ثم رفض الإحرام، وفعل المحظور، هل يفدي أو لا؟
الجواب: يفدي؛ لأن رفضه للإحرام وقطعه النية لا أثر له فيبقى حكم الإحرام في حقه، إذ إنه لا يمكن الخروج من النسك إلا بواحد من ثلاثة أمور وهي:
الأول: إتمام النسك.
الثاني: التحلل إن شرط، ووجد الشرط.
الثالث: الحصر.
مسألة: رجل صائم فرفض صومه، وشرب، نقول: بطل صومه في رمضان وغير رمضان، لكن في رمضان يلزمه الإمساك فلا يحل له أن يأكل ويشرب؛ لأنه أفطر بغير عذر.
وهذا مما اختص به الحج من بين سائر العبادات، فسائر العبادات إذا رفضها خرج منها، أما الحج فلا.
وَيَسْقُطُ بِنِسْيَانٍ فِدْيَةُ لُبْسٍ وطِيبٍ وتَغْطِيْةِ رَأْسٍ،..........
قوله: «ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس» المحظورات تنقسم باعتبار سقوطها بالعذر إلى قسمين:
الأول: تسقط فديته بالعذر.
الثاني: لا تسقط فديته بالعذر.
يقول المؤلف: «ويسقط بنسيان» ومثله الجهل والإكراه، أي: لو أن الإنسان نسي فلبس ثوباً وهو محرم، فليس عليه شيء، ولكن عليه متى ذكر أن يخلعه ويلبس الإزار والرداء، وكذلك الطيب فلو تطيب وهو محرم ناسياً فلا شيء عليه، لكن عليه إذا ذكر أن يبادر بغسله، وفي حال غسله إياه لا شيء عليه، مع أنه سيباشره؛ لأن هذه المباشرة للتخلص منه لا لإقراره، والتحرك في الشيء للتخلص منه لا يعتبر حراماً، أرأيت لو أن شخصاً غصب أرضاً وسكن فيها، ثم جاءه رجل ووعظه فخرج، فمدة مشيه في هذه الأرض للخروج لا يؤاخذ به؛ لأنه إنما تحرك للتخلص.
لكن لو قام يتمشى في الأرض مطمئناً، فإنه يأثم بذلك؛ لأنه لم يحاول التخلص.
ومثل ذلك استنجاء الرجل، ومباشرته النجاسة بيده فإنه لا يذم عليه؛ لأنه إنما فعل ذلك للتخلص منها.
ومثله تغطية الرأس إذا نسي ولبس قميصاً، فإنه يخلعه من أعلى وإن غطى رأسه؛ لأن هذه التغطية عابرة للتخلص من هذا اللباس.
وقال بعض العلماء: يوسع الجيب وينزله من أسفل، لكن الصحيح ما ذكرنا.
ولو غطى رأسه ناسياً وهو محرم فلا شيء عليه، لكن متى ذكر وجب عليه كشفه، ولو أن إنساناً وهو نائم غطى رأسه فلا فدية عليه؛ لأنه مرفوع عنه القلم، لكن متى استيقظ وجب عليه كشفه.
والدليل على سقوط هذه الأشياء، بالنسيان، والجهل، والإكراه ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، فقال الله: «قد فعلت» (1) .
ثانياً: قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .
ثالثاً: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] ، فالكفر إذا كان يسقط موجبه بالإكراه، فما دونه من باب أولى.
رابعاً: من السنة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان أنه سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق (126) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، وعن ابن عباس (2045) بلفظ: وضع، وصححه ابن حبان (7219).
خامساً: التعليل أن هذا لم يتعمد المخالفة، فلا يعد عاصياً، وإذا لم يكن عاصياً لم يترتب عليه الإثم ولا الفدية.
دُونَ وَطْءٍ وَصَيْدٍ وَتَقْلِيمٍ ................
قوله: «دون وطء» ، أي: أنه لا تسقط الفدية إذا وطئ ناسياً، وكذلك إن وطئ جاهلاً، أو وطئ مكرهاً (1) ، وهذا وما بعده هو القسم الذي لا يسقط بالعذر.
وتعليل ذلك أنه يبعد أن ينسى فيطأ، ولا سيما، وأن عليه لباس الإحرام، وإذا قدر أنه نسي ذكرته زوجته.
فيقال في الجواب على هذا: إن النسيان وصف مسقط لحكم المحظور، وإذا كان كذلك فسواء، بَعُد أم لم يَبْعُد.
وكذلك الجهل إذا جامع جاهلاً لزمه ما يلزم العالم؛ لأن الجماع يتضمن إتلافاً حيث تزول به البكارة، والإتلاف يستوي فيه الجاهل والعالم، فيقال: الجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه لا يلزم أن يكون الجماع جماع بكر، فإنه لا فرق بين البكر وغيرها في تحريم الوطء في الإحرام.
الثاني: أن ضمان البكارة حق للآدمي، قالوا وإن كانت الموطوءة ثيباً وجب المهر، والجواب أن المهر حق للموطوءة فهو حق آدمي، وأما الجماع في الإحرام فهو حق لله تعالى وقد أسقطه عن عباده بالجهل، فكيف نلزم عباد الله بما أسقطه الله عنهم؟!
وكذا الإكراه: فلو أكره الرجل على أن يجامع زوجته لم تسقط الفدية، فإذا كان قبل التحلل الأول يلزمه خمسة أحكام:
__________
(1) وهذا هو المذهب إلا إذا كانت المرأة مكرهة.
البدنة، والقضاء، وفساد النسك، والمضي فيه، والإثم.
وعللوا أن الإكراه على الجماع لا يمكن؛ لأنه لا وطء إلا بانتشار؛ ولا انتشار مع إكراه، ولكن هذا التعليل عليل، لأن من قال لا انتشار مع الإكراه، فجوابه بالمنع فلو أجبرته زوجته، وهي شابة، محبوبة إليه وقالت: إما إن تفعل، وإلا قتلتك، فهو بين أمرين، إما أن يدعها ويمكن أن تنفذ تهديدها، وإما أن يجامع في هذه الحال، وإذا دنا منها مهما كان الأمر سوف ينتشر، فالقول بأنه لا جماع مع إكراه غير صحيح.
فالوطء بلا شك يمكن أن يكون مع الإكراه، ومع ذلك يقولون: لا تسقط الفدية فيه.
قوله: «وصيد» يعني أن قتل الصيد لا يعذر فيه بالنسيان، وكذلك لا يعذر فيه بالجهل، ولا بالإكراه (1) قالوا: لأنه إتلاف، والإتلاف يستوي فيه العمد وغيره.
فنقول: ـ سبحان الله ـ الحاكم في عباده وبين عباده يقول: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ونحن نقول من قتله متعمداً وغير متعمدٍ، فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم، هذا لا يمكن!
و«متعمداً» وصف مناسب للحكم، فوجب أن يكون معتبراً؛ لأن الأوصاف التي علقت بها الأحكام إذا تبين مناسبتها لها صارت علة موجبة، يوجد الحكم بوجودها وينتفي بانتفائها، وإلا لم يكن للوصف فائدة.
__________
(1) وهذا هو المذهب.
فالآية نص في الموضوع مؤيدة بقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
والجواب: عن تعليلهم أن الإتلاف الذي يستوي فيه العمد وغيره هو ما كان في حق الآدمي، أما ما كان في حق الله ـ عزّ وجل ـ الذي أسقطه تفضلاً منه وكرماً، فإذا كان الله قد أسقطه فكيف نلزم العباد به؟
مثال النسيان: محرم رأى الصيد، وكان مشغوفاً بالصيد، فنسي فأخذ البندقية ورمى الصيد، فعلى المذهب عليه الفدية.
مثال الجهل: محرم وقف بعرفة فسمع أن الحج عرفة، فلما كان في صباح العيد قبل أن يرمي وجد صيداً من الطيور أو الظباء أو غيرها فصاده، فهذا جاهل وعليه الجزاء، على المذهب.
مثال المكره: محرم عند سيده، فقال له سيده: انظر الصيد، فقال: أنا محرم، قال: إما أن تفعل، وإما أن أفعل بك كذا، فأكرهه فصاد، فعليه الجزاء على المذهب.
والصحيح في هذه المسائل كلها أنه لا جزاء عليه.
قوله: «وتقليم» ، أي أن تقليم الأظفار لا يسقط بنسيان، وكذلك لا بجهل، ولا بإكراه (1) ؛ والعلة أن فيه إتلافاً.
فيقال: ألستم تقولون: إن تقليم الأظفار حرام على المحرم؛ لأنه من باب الترفه، والطيب واللباس ترفه، ومع ذلك لا تعذرونه بالجهل والنسيان والإكراه في التقليم، وتعذرونه بذلك في اللباس
__________
(1) وهذا هو المذهب.
والطيب، مع أن الترفه بالطيب أقوى ترفهاً وقد سقطت فديته بالنسيان، فهذا من باب أولى.
قالوا: هناك فرق، والفرق أن تقليم الأظفار فيه إتلاف.
فيقال لهم: وهل هذا إتلاف مطلوب؛ أو محظور في غير الإحرام؟
الجواب: هو مطلوب، إذن لا قيمة له شرعاً، ولا عرفاً، ولا أحد يجمع أظفاره ليبيعها، بل تقليمها إتلاف مشروع لولا الإحرام.
وَحِلاقٍ................
قوله: «وحلاق» ، يعني أن فدية الحلق لا تسقط بالنسيان وكذلك الجهل والإكراه؛ والعلة في ذلك هو أنه إتلاف، ولكن نقول: إنه إتلاف ما لا قيمة له شرعاً ولا عرفاً.
فتبين بهذا ضعف هذا القول، أعني القول بأن فدية الحلق وتقليم الأظفار وقتل الصيد لا تسقط بالنسيان والجهل والإكراه، لأن أعظم الإتلافات إتلاف الصيد، ومع ذلك قيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ وجوب الجزاء فيه بالتعمد.
والراجح أن فاعل المحظورات كلها لا يخلو من ثلاثة أقسام، والمراد هنا المحظورات التي فيها فدية، وأما التي ليس فيها فدية كعقد النكاح، فهذا لا يدخل في هذا التقسيم:
الأول: أن يفعلها بلا عذر شرعي ولا حاجة، فهذا آثم، ويلزمه ما يترتب على المحظور الذي فعله على حسب ما سبق بيانه.
الثاني: أن يفعله لحاجة متعمداً، فعليه ما يترتب على فعل
ذلك المحظور، ولكن لا إثم عليه للحاجة، ومنه حلق شعر الرأس لدفع الأذى كما نص الله عليه في القرآن، فقال ـ تعالى ـ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .
ومثله أيضاً لو احتاج المحرم إلى لبس المخيط، لبرد شديد فيلبس الفانيلة أو القميص، وعليه الفدية، وهذا نادر لكن ربما يوجد.
ومن الحاجة، حاجة الجنود إلى اللباس الرسمي فهي حاجة تتعلق بها مصالح الحجيج جميعاً؛ إذ لو عمل الجندي بدون اللباس الرسمي لما أطاعه الناس، وصار في الأمر فوضى، ولكن إذا كان عليه لباسه الرسمي صار له هيبة.
ولكن هل عليه الفدية أو لا؟ أي: أن جواز اللباس، ليس عندنا فيه ـ إن شاء الله ـ إشكال لدعاء الحاجة أو الضرورة إلى ذلك ولكن هل عليه فدية؟
الجواب: قد نقول: لا فدية عليه؛ لأنه يشتغل بمصالح الحجيج، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أسقط المبيت عن الرعاة (1) والمبيت بمنى واجب من واجبات الحج وأسقطه عنهم، لمصلحة الحجاج، ورخص للعباس أن يبيت في مكة من أجل سقاية الحجاج (2) ، وسقاية الحجاج أدنى حاجة من حفظ الأمن وتنظيم الناس، فيحتمل أن لا تجب عليه الفدية، ولا سيما أن
__________
(1) سيأتي تخريجه ص(357).
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى (1634)؛ ومسلم في الحج/ باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق (1315) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
لبس المخيط، ليس فيه نص على وجوب الفدية فيه، فينبني عدم إلزامه بالفدية على أمرين:
الأول: عدم القطع في وجوب الفدية في لبس المخيط.
الثاني: القياس على سقوط الواجب عمن يشتغل بمصلحة الحجاج.
لكن لو قلنا: يفدي احتياطاً لكان أحسن، والفدية سهلة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة.
القسم الثالث: أن يكون معذوراً بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فعلى المذهب التفريق بين المحظورات، فبعضها لا تسقط فديته بالنسيان والجهل والإكراه وهو ما كان إتلافاً، أو بمعنى الإتلاف، وبعضها تسقط وهو ما ليس كذلك وسبق تفصيل ذلك.
والصحيح أن جميعها تسقط، وأن المعذور بجهل أو نسيان أو إكراه لا يترتب على فعله شيء إطلاقاً، لا في الجماع، ولا في الصيد، ولا في التقليم، ولا في لبس المخيط، ولا في أي شيء، وذكرنا فيما سبق الدليل من القرآن، والسنة، والنظر.
وهكذا في جميع المحظورات في العبادات، لا يترتب عليها الحكم، إذا كانت مع الجهل أو النسيان، أو الإكراه؛ لعموم النصوص، ولأن الجزاء، أو الفدية، أو الكفارة إنما شرعت لفداء النفس من المخالفة أو للتكفير عن الذنب، والجاهل أو الناسي أو المكره لم يتعمد المخالفة، ولهذا لو كان ذاكراً أو عالماً أو مختاراً لم يفعل.
فالشرب في رمضان نسياناً ليس فيه قضاء، والدليل حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «من نسي وهو صائم فأكل، أو شرب، فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (1) ، فمن لم يتعمد المخالفة، فليس عاصياً، ولا فدية عليه.
وكذلك عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ : «لما أراد الصيام جعل عقالين أبيض وأسود؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، وكانوا يأخذون الأحكام من القرآن مباشرة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن وسادك لعريض أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك» (2) ، فلم يأمره بالإعادة للجهل بالحكم.
وكذلك أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ: «أخبرت أنهم أفطروا في يوم غيم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يأمرهم بالقضاء» (3) ، لجهلهم بالحال.
وكذلك في الصلاة، والدليل أن معاوية بن الحكم ـ رضي الله عنه ـ دخل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فعطس رجل، فقال: الحمد لله، قال: يرحمك الله، وهو يصلي، فرماه الناس بأبصارهم، أي ـ نظروا إليه منكرين ـ فقال: واثكل أمياه ـ رضي الله عنه ـ، فزاد الكلام كلاماً آخر، فجعلوا يضربون على
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (1933) ومسلم في الصيام/ باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155).
(2) أخرجه البخاري في التفسير/ باب وكلوا واشربوا... (4509)؛ ومسلم في الصيام/ باب أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر... (1090).
(3) أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا أفطر في رمضان... (1959).
أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما سلم دعاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال معاوية: بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن» (1) ، ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه جاهل.
والنصوص الدالة على هذا الأصل، أعني عدم المؤاخذة مع النسيان والجهل والإكراه كثيرة، وهذا من مقتضى قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] ، وقوله في الحديث القدسي: «سبقت رحمتي غضبي» (2) .
وأما ترك الواجبات فلا يسقط بالنسيان والجهل والإكراه متى أمكن تداركه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (3) ، فلم تسقط عنه بالنسيان، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسقط الصلاة الحاضرة بالجهل كما في حديث المسيء في صلاته (4) أمره بالإعادة مع أنه جاهل، لأنه ترك مأموراً،
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة/ باب تحريم الكلام في الصلاة (537).
(2) أخرجه البخاري في التوحيد/ باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (7453)؛ ومسلم في التوبة/ باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه (2751) (15) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة/ باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر (597)؛ ومسلم في الصلاة/ باب قضاء الصلاة الفائتة (684) (315) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ واللفظ لمسلم.
(4) أخرجه البخاري في الأذان/ باب وجوب القراءة للإمام والمأموم والصلوات كلها... (757)؛ ومسلم في الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
والمأمورات أمور إيجابية لا بد أن تكون، والمنهيات أمور عدمية لا بد أن لا تكون.
ثم إن المأمورات يمكن تداركها بفعلها، لكن المنهيات مضت، لكن إذا كان في أثناء المنهي فيجب التدارك بقطعه، فإن قال قائل: إن قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} عام في ترك المأمور وفعل المحظور، فالجواب أن الأمر كذلك، فتارك المأمور جاهلاً أو ناسياً غير مؤاخذ بالترك، لكن عدم فعله إياه يقتضي إلزامه به متى زال العذر إبراء لذمته.
وَكُلُّ هَدْيٍ، أَوْ إِطْعَامٍ فَلِمَسَاكِينِ الحَرَمِ ............
.قوله: «وكل هدي» . ذكر المؤلف مكان الهدي، فكل هدي يهديه الإنسان إلى البيت سواء كان هدي تطوع ـ وهدي التطوع أن يهدي هدياً ليس بواجب ـ أو كان واجباً كهدي التمتع والقران، أو كان فدية لترك واجب، وأما فعل المحظور فسيأتي.
قوله: «أو إطعام» ، أي: كل إطعام كإطعام ستة مساكين في فدية الأذى، أو إطعام المساكين في جزاء الصيد، وما أشبه ذلك.
قوله: «فلمساكين الحرم» ، أي: فيصرف إلى مساكين الحرم، وهذا ليس على إطلاقه في كل هدي؛ لأن هدي المتعة والقران هدي شكران، فلا يجب أن يصرف لمساكين الحرم، بل حكمه حكم الأضحية، أي: أنه يأكل منه ويهدي، ويتصدق على مساكين الحرم.
فلو ذبح الإنسان هدي التمتع والقران في مكة، ثم خرج بلحمه إلى الشرائع، أو إلى جدة أو غيرها فلا بأس، لكن يجب أن يتصدق منه على مساكين الحرم.
والهدي الذي لترك واجب يجب أن يتصدق بجميعه على مساكين الحرم.
والهدي الواجب لفعل محظور غير الصيد يجوز أن يوزع في الحرم، وأن يوزع في محل فعل المحظور.
ودليل جوازه في محل المحظور أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ أن يفدي بشاة في محل فعل المحظور (1) ، ولأن هذا الدم وجب لانتهاك النسك في مكان معين، فجاز أن يكون فداؤه في ذلك المكان، وما جاز أن يذبح ويفرق خارج الحرم حيث وجد السبب، فإنه يجوز أن يذبح ويفرق في الحرم، ولا عكس.
ودم الإحصار حيث وجد الإحصار، ولكن لو أراد أن ينقله إلى الحرم فلا بأس.
مسألة: مساكين الحرم، من كان داخل الحرم من الفقراء سواء كان داخل مكة، أو خارج مكة لكنه داخل حدود الحرم، ولا فرق بين أن يكون المساكين من أهل مكة، أو من الآفاقيين، فلو أننا وجدنا حجاجاً فقراء، وذبحنا ما يجب علينا من الهدي وأعطيناه إياهم فلا بأس.
والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر علياً أن يتصدق بلحم الإبل التي أهداها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يستثن أحداً (2) ، فدل هذا على أن الآفاقي مثل أهل مكة؛ ولأنهم أهل أن يصرف لهم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (135).
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب لا يعطي الجزار من الهدي شيئاً (1716)؛ ومسلم في الحج/ باب في الصدقة بلحوم الهدي (1317) عن علي ـ رضي الله عنه ـ.
وهل المراد بالمساكين، الفقراء والمساكين، أو المساكين فقط؟
الجواب: المراد الفقراء والمساكين؛ لأنه إذا جاء لفظ المساكين وحده، أو لفظ الفقراء وحده، فكل واحد منهما يشمل الآخر، وأما إذا جاء لفظ المساكين ولفظ الفقراء، فالفقراء أشد حاجة من المساكين، كما بينا ذلك في كتاب الزكاة.
وَفِدْيَةُ الأَذَى، وَاللُّبْسِ وَنَحْوِهِمَا، وَدَمُ الإحْصَارِ حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهُ
قوله: «وفدية الأذى» أي: أن فدية الأذى تكون حيث وجد سببها، ولا يجب أن تكون في الحرم.
وفدية الأذى هي: ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، وسميت فدية أذى؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] .
قوله: «واللبس» ، أي: أن فدية اللبس تكون حيث وجد سببها، وقد سبق أن محظورات الإحرام تنقسم من حيث الفدية إلى أربعة أقسام (1) .
قوله: «ونحوهما» أي: نحو فدية الأذى واللبس، كفدية الطيب وتغطية الرأس، وما أشبه ذلك فتكون حيث وجد سببها.
قوله: «ودم الإحصار حيث وجد سببه» ، الإحصار بمعنى المنع، أي: الدم الذي وجب بالإحصار، وهو المذكور في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
__________
(1) انظر، ص(166).
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس