عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011, 01:18 PM   #6
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: كتاب المناسك للشيخ العلامة ابن عثيمين

قوله: «أو نجس لم يصح» يعني متنجساً، وإلا فالإنسان لا يمكن أن يكون نجساً بل متنجساً، والمتنجس أي: الذي أصابته نجاسة، وهذا إشارة إلى شرط من شروط صحة الطواف وهو أن يكون طاهر الثوب والبدن، فلو طاف وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة فإن الطواف لا يصح، والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: أن الطواف بالبيت صلاة عند الجمهور، فكما لا تصح الصلاة مع النجاسة فكذلك الطواف.
ثانياً: ولأن الله تعالى أمر بتطهير بيته للطائفين، والقائمين، أو العاكفين، والركع السجود، فإذا أمر بتطهير مكان الطائف الذي هو منفصل عنه، فتطهير ملابسه المتعلقة به من باب أولى، وعلى هذا فلا يحل أن يطوف بثوب نجس، أو يطوف وهو متنجس البدن، بل لا بد أن يغسل النجاسة، من ثوبه وبدنه.
مسألة: لم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ما إذا طاف محدثاً
اكتفاءً بما سبق في نواقض الوضوء، حيث قال: «ويحرم على المحدث مس المصحف، والصلاة، والطواف» ، وعلى هذا فيشترط في الطواف الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وهذا مذهب الجمهور، واستدلوا بالآتي:
أولاً: قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] .
ثانياً: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» (1) .
ثالثاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (2) .
رابعاً: قوله صلّى الله عليه وسلّم ـ حين أراد أن ينفر فقيل له: إن صفية قد حاضت ـ: «أحابستنا هي؟»، قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فانفروا» (3) .
وذهب شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ إلى أنه لا يشترط الوضوء للطواف، وأجاب عن هذه الأدلة بأن قوله: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» لا يصح مرفوعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن عمومه لا يستقيم، لأن لفظه: «الطواف
__________
(1) أخرجه الترمذي في الحج/ باب ما جاء في الكلام في الطواف (960)؛ والنسائي في المناسك/ باب إباحة الكلام في الطواف (5/222)؛ وابن خزيمة (2739) وابن حبان (3836)؛ والحاكم (1/459)؛ والبيهقي (5/85) واختلف في رفعه ووقفه، انظر: نصب الراية (3/57) والتلخيص (174) والإرواء (121).
(2) سبق تخريجه ص(83).
(3) سيأتي تخريجه ص(363).
بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» والاستثناء عند الأصوليين معيار العموم، أي: أنه إذا جاء شيء واستثني منه شيء دل ذلك على أن بقية الصور غير المستثناة داخلة في المستثنى منه، فيكون عاماً إلا في الصورة المستثناة، وهنا لا يصح أن يقال: إن الطواف بالبيت صلاة في كل شيء إلا الكلام؛ وذلك لأنه يخالف الصلاة في أشياء كثيرة سوى الكلام.
فمن ذلك: أنه لا يشترط فيه القيام، والصلاة يشترط فيها القيام، أي: لو طاف يزحف فإن طوافه صحيح.
ومن ذلك: أنه لا يشترط له تكبير، والصلاة يشترط لها تكبيرة الإحرام.
ومن ذلك: أنه لا يشترط له استقبال القبلة، بل لا بد أن يكون البيت عن يساره.
ومنها: أنه لا تشترط فيه القراءة لا الفاتحة، ولا غيرها، بل لا يسن فيه أن يقرأ الفاتحة بعينها وسورة معها.
ومنها: أنه ليس فيه ركوع ولا سجود، ولا يجب فيه تسبيح.
ومنها: أنه يجوز فيه الأكل والشرب، والصلاة لا يجوز فيها الأكل والشرب.
ومنها: أنه لا يبطله الضحك، والصلاة يبطلها الضحك.
ومنها: أنه لا تشترط فيه الموالاة على رأي كثير من العلماء، والصلاة تشترط فيها.
ولو أنك تأملته لوجدت أنه يخالف الصلاة في أكثر
الأحكام، وكلام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا بد أن يكون منضبطاً، ولا ينتقض بصورة من الصور، فلا يصح مرفوعاً؛ بل هو موقوف على ابن عباس من قوله.
فالصواب أن الطواف بالبيت ليس صلاة، بل هو عبادة مستقلة كالاعتكاف تماماً.
فإن قال قائل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف طاهراً بدليل أنه صلى ركعتين بعد الطواف مباشرة ولم ينقل أنه توضأ؟ قلنا: نعم، نحن لا ننكر أن يكون الإنسان في الطواف على طهارة خيراً من أن يكون على غير طهارة، لأنه ذكر وعبادة فينبغي أن يتطهر لها؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي سلم عليه ولم يرد عليه حتى تيمم قال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر (1) ، فلا شك أن الوضوء في الطواف أفضل وأحوط.
فإن قيل: وقول ابن عباس ألا يكون حجة؟
فالجواب: أن قول الصحابي يكون له حكم الرفع إذا لم يكن للرأي فيه مجال، فإن كان للرأي فيه مجال فهو موقوف وللعلماء خلاف مشهور في قول الصحابي هل يكون حجة أو لا.
وأما الاستدلال بقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، فهذا أمر بتطهير البيت من الشرك
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطهارة/ باب في الرجل يرد السلام وهو يبول (17) وابن ماجه في الطهارة/ باب الرجل يُسلم عليه وهو يبول (350) وصححه ابن خزيمة (206) وابن حبان (803) والحاكم (1/167) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي عن المهاجر بن قنفذ ـ رضي الله عنه ـ.
وأهله، ومن النجاسة أيضاً، كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بصب الماء على مكان نجاسة الأعرابي في مسجد المدينة، فلا يلزم من وجوب تطهيره من الخبث، أن يجب على الطائف بالبيت أن يكون طاهراً من الحدث؛ لأنه لو لزم من ذلك لقلنا يجب على الإنسان أن يتطهر لدخول المسجد الحرام، وإن لم يرد الطواف، ولو كان كذلك أيضاً لكان مناقضاً لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «المؤمن لا ينجس» (1) ، ولو كان كذلك لوجب على المعتكف أن يكون طاهراً من الحدث.
وأما حديث عائشة، وحديث صفية ـ رضي الله عنهما ـ فليست العلة عدم الطهارة، وإنما العلة عدم جواز مكث الحائض في المسجد، وهذا لا يستلزم وجوب الطهارة في الطواف، ولهذا كان القول الراجح أن المرأة إذا اضطرت إلى طواف الإفاضة في حال حيضها كان ذلك جائزاً، لكن تتوقى ما يخشى منه تنجيس المسجد بأن تستثفر، أي: تجعل ما يحفظ فرجها؛ لئلا يسيل الدم فيلوث المسجد.
وهذا الذي تطمئن إليه النفس أنه لا يشترط في الطواف الطهارة من الحدث الأصغر، لكنها بلا شك أفضل وأكمل وأتبع للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا ينبغي أن يخل بها الإنسان لمخالفة جمهور العلماء في ذلك، لكن أحياناً يضطر الإنسان إلى القول بما ذهب إليه شيخ
__________
(1) أخرجه البخاري في الغسل/ باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس (283) ومسلم في الطهارة/ باب الدليل على أن المسلم لا ينجس (371) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
الإسلام، مثل لو أحدث أثناء طوافه في زحام شديد، فالقول بأنه يلزمه أن يذهب ويتوضأ ثم يأتي في هذا الزحام الشديد لا سيما إذا لم يبق عليه إلا بعض شوط ففيه مشقة شديدة، وما كان فيه مشقة شديدة ولم يظهر فيها النص ظهوراً بيناً، فإنه لا ينبغي أن نلزم الناس به، بل نتبع ما هو الأسهل والأيسر؛ لأن إلزام الناس بما فيه مشقة بغير دليل واضح منافٍ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
مسألة: الدعاء الجماعي في الطواف فيه إشكال لأنه لم ينقل عن السلف فيما نعلم؛ لأنه يؤذي الناس ويشغل عن الدعاء الخاص لا سيما إذا كان الطائف بهم جهوري الصوت، أما إن كان بصوت خافت لتعليم من معه، فأرجو ألا يكون به بأس، وأما أخذ الأجرة عليه فيجوز؛ لأنه من جنس أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكن بعضهم يتخذ هذا مهنة ووسيلة لأخذ أموال الناس.
مسألة: الذين يطوفون على السطح فإذا بلغوا المسعى ضاق المطاف فبعضهم ينزل إلى المسعى، فهل نقول: إن هؤلاء طافوا جزءاً من الشوط خارج المسجد لأن المسعى ليس من المسجد؟
الجواب: نعم نقول إنهم طافوا خارج المسجد، ولكن إن كان الذي أوجب لهم ذلك هو الضيق والضنك، والناس متلاصقون فنرجو أن يكون ذلك مجزئاً على ما في ذلك من الثقل، ولكن للضرورة.
ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَينِ خَلْفَ المَقَامِ.
قوله: «ثم يصلي ركعتين خلف المقام» ، أي: بعد الفراغ من
الطواف يصلي ركعتين خلف المقام، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينبغي إذا تقدم إلى المقام أن يقرأ قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] كما قرأها النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، لأجل أن يشعر بفائدة عظيمة وهي أن فعله لهذه العبادة كان امتثالاً لأمر الله ـ عزّ وجل ـ حتى تتحقق بذلك الإنابة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، والذل لأوامره.
وقوله: «خلف المقام» ، أي: مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو معروف، وسمي مقاماً؛ لأنه قام عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين ارتفع بناء الكعبة ليبني مِن فوقه.
وقد قيل: إن موضع قدميه كان بيِّناً في هذا الحجر، لكن لطول السنين، وكثرة ما يتمسح به الناس قبل الإسلام زال موضع القدمين وقال بعضهم: إن أثر القدم لم يزُل؛ لأن أبا طالب يقول في لاميته المشهورة:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافياً غير ناعل
واختلف المؤرخون أين مكان هذا المقام في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، هل هو لاصق بالكعبة، أو هو في مكانه الآن؟
فمنهم من قال: إنه لاصق بالكعبة، وأن الذي قدمه إلى هذا المكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من أجل التوسعة على الطائفين.
ومنهم من قال: بل هذا مكانه، وليس عندي شيء يفصل بين القولين.
__________
(1) كما في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
فإن قول جابر في حديثه الطويل: «ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} يحتمل أنه تقدم من منتهى الطواف وهو الحجر إلى مكان المقام، وهو خلف باب الكعبة، ويحتمل أنه تقدم إليه في مكانه الآن.
فإذا قلنا: إن مكانه الحاضر هو مكانه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهل لنا فيما لو احتجنا إلى تأخيره ليتسع المطاف أن نؤخره؟
الجواب: لا؛ لأنه توقيفي، وإذا قلنا: إنه كان لاصقاً بالكعبة، ثم أخره عمر فللاجتهاد في ذلك مجال، فقد نقول بجواز تأخيره إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقد نقول بالمنع لأن أمير المؤمنين عمر له سنة متبعة، لكن القول بالجواز أولى ولا ينافي ما سنه أمير المؤمنين من حيث المعنى؛ لأنه زحزحه عن مكانه من أجل توسعة المطاف، فإذا زحزحناه عن مكانه لذلك فقد وافقنا أمير المؤمنين من حيث المعنى.
وقوله: «خلف المقام» ظاهر كلامه أنه لا يشترط فيهما الدنو من المقام، وأن السنة تحصل بهما وإن كان مكانهما بعيداً عن المقام، وهو كذلك.
ولكن كلما قرب من المقام كان أفضل، إلا أنه إذا دار الأمر بين أن يصلي قريباً من المقام مع كثرة حركته لرد المارين بين يديه أو مع التشويش فيمن يأتي ويذهب، وبين أن يصلي بعيداً عن المقام ولكن بطمأنينة، فأيهما أفضل؟
الجواب: الثاني أفضل؛ لأن ما يتعلق بذات العبادة أولى
بالمراعاة مما يتعلق بمكانها كما سبق، وعلى هذا فلو تأخر الإنسان إلى ما حول المسعى، وصلاهما فقد أتى بالسنة، ولكن الأفضل أن يراعي أن يكون المقام بينه وبين البيت.
مسألة: لم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ماذا يقرأ في هاتين الركعتين؛ لأن الكتاب مختصر، لكن جاءت السنة بأنه يقرأ في الأولى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}، والثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} (1) ، لأنهما سورتا الإخلاص، فـ«قل يا أيها الكافرون» فيها إخلاص القصد، و«قل هو الله أحد» فيها إخلاص العقيدة، فالتوحيد في «قل هو الله أحد» توحيد علمي عقدي، وفي «قل يا أيها الكافرون» عملي إرادي.
ولم يذكر حكم الإطالة والتخفيف فيهما مراعاة للاختصار لكن السنة جاءت بتخفيفهما؛ وذلك من أجل تخلية المكان لمن أراد أن يصليهما.
__________
(1) كما في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ص(76).
فَصْلٌ
ثُمَّ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ، وَيَخْرُجُ إِلى الصَّفَا مِن بَابِهِ فَيَرْقَاهُ حَتَّى يَرَى البَيْتَ
قوله: «ثم يستلم الحجر» ، أي: بعد الصلاة يعود خلف المقام ويستلم الحجر، كما ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
والظاهر أن استلام الحجر لمن أراد أن يسعى، وأما من طاف طوافاً مجرداً ولم يُرد أن يسعى فإنه لا يسن له استلامه، وهذا الاستلام للحجر كالتوديع لمن قام من مجلس، فإنه إذا أتى إلى المجلس سلَّم، وإذا غادر المجلس سلم.
ولم يذكر المؤلف سوى الاستلام، وعليه فلا يسن تقبيله في هذه المرة، ولا الإشارة إليه، بل إن تيسر أن يستلمه فعل، وإلا انصرف من مكانه إلى المسعى.
قوله: «ويخرج إلى الصفا من بابه» ، أي: من باب الصفا لأنه أيسر، وكان المسجد الحرام فيما سبق له أبواب دون المسعى، أي: أن حدوده دون المسعى، وله أبواب يخرج الناس منها.
قوله: «فيرقاه» أي: الصفا «حتى يرى البيت» أي الكعبة، ولم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ماذا يسن إذا قرب من الصفا؛ لأن الكتاب مختصر، ولكن يسن إذا دنا من الصفا أن يقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به (2) ، وتلاوة هذه الآية كتلاوة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}.
أي: أن الإنسان يشعر بأنه يفعل ذلك طاعة لله، وامتثالاً لأمره ـ سبحانه وتعالى ـ.
__________
(1) - (2) كما في حديث جابر، ص(76).
وقوله: «فيرقاه» : أي: يرقى الصفا، حتى يرى الكعبة (1) فيستقبلها، ظاهره لا يصعد أكثر من ذلك لكن لو خاف من الزحام فصعد أكثر فحسن.
ويُكَبِّرُ ثَلاَثاً، وَيَقُولُ مَا وَرَدَ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَاشِياً إِلَى العَلَمِ الأوَّلِ، ثُمَّ يَسْعَى شدِيداً إِلَى الآخر ........
قوله: «ويكبر ثلاثاً، ويقول ما ورد» ، أي: يقول الله أكبر وهو رافع يديه كرفعهما في الدعاء ثلاث مرات، ويقول ما ورد ومنه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب ثم يعيد الذكر مرة ثالثة (2) ، وينزل متجهاً إلى المروة.
قوله: «ثم ينزل ماشياً إلى العَلَم الأول» ، العَلَم يعني ما جُعل علامة، وهو الشيء الشاخص البيِّن ومنه سمي الجبل علماً، قال الله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ *} [الرحمن] ، وكان في هذا المكان عمود أخضر، ولا يزال موجوداً إلى الآن، وقد ازداد وضوحاً بالأنوار التي تحيط بهذا المكان.
وقوله: «إلى العلم الأول» يعني الذي يلي الصفا، لأن هناك علمين: علماً جنوبياً، وعلماً شمالياً، فالذي يلي الصفا جنوبي، والذي يلي المروة شمالي.
قوله: «ثم يسعى شديداً إلى الآخر» ، «شديداً» صفة لموصوف
__________
(1) - (2) كما في حديث جابر في صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ص(76).
محذوف، والتقدير سعياً شديداً، والسعي هنا بمعنى الركض، فيسعى سعياً شديداً بقدر ما يستطيع، لكن بشرط ألا يتأذى أو يؤذي، فإن خاف من الأذية عليه، أو على غيره فليمش، وليسع بقدر ما تيسر له، وكذلك لو كان معه نساء يخاف عليهن سقط عنه السعي الشديد.
والدليل على ذلك فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه كان يسعى حتى تدور به إزاره من شدة السعي (1) .
فإن قال قائل: ما الحكمة في كونه يسعى سعياً شديداً بين العلمين.
فالجواب: أنه كان في هذا المكان واد، أي مسيل مطر، والوادي في الغالب يكون نازلاً ويكون رخواً رملياً فيشق فيه المشي العادي، فيركض ركضاً.
وأصل السعي أن يتذكر الإنسان حال أم إسماعيل، فإنها ـ رضي الله عنها ـ لما خلَّفها إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي وابنها في هذا المكان، وجعل عندها، سقاءً من ماء، وجراباً من تمر، فجعلت الأم تأكل من التمر وتشرب من الماء، وتسقي اللبن لولدها، فنفدَ الماء ونفد التمر، فجاعت وعطشت، ويبس ثديها،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/421)؛ وابن خزيمة (2764)؛ والدارقطني (2/255)؛ والحاكم (4/70) عن حبيبة بنت أبي تجراة ـ رضي الله عنها ـ، وضعفه ابن عدي (4/1456)؛ وأبو حاتم كما في «العلل» (1/269)؛ والذهبي في «تلخيص المستدرك» وله طرق أخرى أخرجها الدارقطني (2/255)؛ والبيهقي (5/97)؛ وصححها ابن عبد الهادي في «التنقيح» كما في «نصب الراية» (3/56)؛ والذهبي في «تنقيح التحقيق» (1512) وانظر: «الإرواء» (1072).
فجاع الصبي، وجعل يتلوى من الجوع، فأدركتها الشفقة، فرأت أقرب جبل إليها الصفا فذهبت إلى الصفا، وجعلت تتحسس لعلها تسمع أحداً، ولكنها لم تسمع، فنزلت إلى الاتجاه الثاني إلى جبل المروة، ولما هبطت في بطن الوادي نزلت عن مشاهدة ابنها، فجعلت تسعى سعياً شديداً، حتى تصعد لتتمكن من مشاهدة ابنها، ورقيت لتسمع وتتحسس على المروة، ولم تسمع شيئاً، حتى أتمت هذا سبع مرات، ثم أحست بصوت، ولكن لا تدري ما هو، فإذا جبريل نزل بأمر الله ـ عزّ وجل ـ، فضرب بجناحه أو برجله الأرض مكان زمزم الآن، فنبع الماء في الحال، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وجعلت تحجر الماء، وخافت أن يتسرب وينفد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكان عيناً معيناً» ، ولكن من رحمة الله ـ عزّ وجل ـ أنها حجرته، ولو كان عيناً معيناً لصار فيه ضيق على الناس؛ لأن هذا المكان صار مسجداً، وشربت من هذا الماء، وصار هذا الماء شراباً وطعاماً، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له» (1) ، إن شربته لعطش رويت، ولجوع شبعت، ودرَّت على الولد، وهيأ الله لها قوماً من جرهم مروا بمكة، فتعجبوا أن تكون الطيور تأوي إلى هذا المكان، وقالوا: لا يمكن أن تأوي إلى هذا المكان إلا وفيه ماء، ولم يكونوا على عهدٍ بماء في هذا المكان، فجاءوا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/357، 372)؛ وابن ماجه في «المناسك»/ باب الشرب من زمزم (3062) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وقد حسنه المنذري في «الترغيب» (2/334)؛ وابن القيم في «الزاد» (4/393).
نحو هذه الجهة فوجدوا إسماعيل وأمه، فنزلوا عندهم، والقصة مطولة في صحيح البخاري (1) ، وفيها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فلذلك سعى الناس» .
فهذا هو السبب في كون الناس يسعون سعياً شديداً إذا وصلوا هذا المكان، والآن ليس فيه واد، لكن فيه علامة على هذا الوادي وهو هذا العلم الأخضر.
فالإنسان إذا سعى يستحضر أولاً: سنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وثانياً: حال هذه المرأة وأنها وقعت في شدة عظيمة حتى أنجاها الله، فأنت الآن في شدة عظيمة من الذنوب فتستشعر أنك تحتاج إلى مغفرة الله ـ عزّ وجل ـ كما احتاجت هذه المرأة إلى الغذاء، واحتاج ولدها إلى اللبن، وقد قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أقبل على الصفا: «إن الصفا والمروة من شعائر الله» أبدأ بما بدأ الله به (2) ، ليشعر نفسه أنه إنما طاف بالصفا والمروة؛ لأنهما من شعائر الله ـ عزّ وجل ـ ولذلك لا تقرأ هذه الآية إلا إذا أقبل على الصفا حين ينتهي من الطواف وأما بعد ذلك فلا تقرأ.
مسألة: إذا سعى هو وزوجته ووصلا إلى العلم الأخضر فهل يسعى سعياً شديداً وزوجته معه؟
الجواب: لا يسعى سعياً شديداً، لا سيما في أيام المواسم والزحام فإنه لو سعى ضيعها.
لكن هنا إشكال وهو أنه إذا كان أصل سعينا بين العلمين
__________
(1) في كتاب الأنبياء (3364) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) كما في حديث جابر ص(76).
سعي أم إسماعيل وهي امرأة، فلماذا لا نقول: إن النساء أيضاً يسعين؟
الجواب: من وجهين :
الأول: أن أم إسماعيل سعت وحدها ليس معها رجال.
الثاني: أن بعض العلماء كابن المنذر حكى الإجماع على أن المرأة لا ترمل في الطواف ولا تسعى بين العلمين، وعليه فلا يصح القياس؛ لأنه قياس مع الفارق ولمخالفة الإجماع إن صح.
ثُمَّ يَمْشِي وَيَرْقَى المَرْوَةَ وَيَقُولُ مَا قَاله عَلَى الصَّفَا، ثُم يَنْزلُ فَيَمْشِي فِي مَوْضعِ مَشيِهِ، وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سَعْيه إلى الصَّفَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَاً، ذَهَابُهُ سَعْيةٌ، وَرَجُوُعُهُ سَعْيَةٌ، فَإِنْ بَدَأ بالمَرْوَةِ سَقَطَ الشَّوْطُ الأَوَّلُ.
قوله: «ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا يفعل ذلك سبعاً، ذهابه سعية، ورجوعه سعية» ، أي: فليس السعي دورة كاملة، بل نصف دورة من الصفا إلى المروة سعية، ومن المروة إلى الصفا سعية أخرى.
وقوله: «ويرقى المروة» ليس بشرط، وإنما الشرط أن تستوعب ما بين الجبلين، ما بين الصفا والمروة، فما هو الذي يجب استيعابه؟
الجواب: الذي يجب استيعابه حده حد الممر الذي جعل ممراً للعربات، وأما ما بعد مكان الممر فإنه من المستحب، وليس من الواجب، فلو أن الإنسان اختصر في سعيه من حد
ممر
العربات لأجزأه؛ لأن الذين وضعوا ممر هذه العربات وضعوها على أن منتهاه من الجنوب والشمال هو منتهى المسعى.
قوله: «فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول» ، لأنه يشترط أن يبدأ بالصفا، فإذا بدأ بالمروة فإنه يسقط الشوط الأول ويلغيه، كما لو بدأ بالسجود في الصلاة، قبل الركوع فإنه يسقط ولا يعتبر.
وظاهر كلامه ولو كان ابتداؤه بالمروة عمداً، وفيه نظر والأولى أن يبطل جميع سعيه لأنه متلاعب وعلى غير أمر الله ورسوله، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) .
مسألة: لم يذكر المؤلف اشتراط النية، فالنية في السعي كالنية في الطواف، وقد سبق أن القول الراجح أنه لا يشترط له نية؛ لأن النسك الذي هو فيه يعين أنه للعمرة أو الحج، وكذلك نقول في السعي.
والمؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ أتى بالسعي بعد الطواف، فهل يشترط أن يتقدمه طواف؟
الجواب: نعم يشترط، فلو بدأ بالسعي قبل الطواف وجب عليه إعادته بعد الطواف؛ لأنه وقع في غير محله.
فإن قال قائل: ما تقولون فيما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل، فقال له رجل: سعيت قبل أن أطوف قال: «لا حرج» (2) ؟
__________
(1) سبق تخريجه ص(158).
(2) أخرجه أبو داود في «المناسك»/ باب من قدم شيئاً على شيء (2015) وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة بن شريك ـ رضي الله عنه ـ (2774).
فالجواب: أن هذا في الحج، وليس في العمرة.
فإن قيل: ما ثبت في الحج ثبت في العمرة إلا بدليل؛ لأن الطواف والسعي في الحج وفي العمرة كليهما ركن؟
فالجواب: أن يقال: إن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الإخلال بالترتيب في العمرة يخل بها تماماً؛ لأن العمرة ليس فيها إلا طواف، وسعي، وحلق أو تقصير، والإخلال بالترتيب في الحج لا يؤثر فيه شيئاً؛ لأن الحج تفعل فيه خمسة أنساك في يوم واحد، فلا يصح قياس العمرة على الحج في هذا الباب.
ويذكر عن عطاء بن أبي رباح عالم مكة ـ رحمه الله’>;ـ أنه أجاز تقديم السعي على الطواف في العمرة، وقال به بعض العلماء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز مع النسيان أو الجهل، لا مع العلم والذكر.
وَتُسَنُّ فِيْهِ الطَّهَارَةُ والسِّتَارَة والمُوَالاَةُ ثُمَّ إِنْ كَانَ مُتَمَتِّعاً لاَ هَدْيَ مَعَهُ قَصَّرَ مِنْ شَعْرِهِ وتَحَلَّلَ، وإلاَّ حَلَّ إِذَا حَجَّ، والمُتَمَتِّعُ إِذَا شَرَعَ فِي الطَّوَافِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ.
قوله: «وتسن فيه الطهارة» ، أي: من الحدث والنجس أيضاً (1) ، فلو سعى محدثاً، أو سعى وهو جنب، أو سعت المرأة وهي حائض، فإن ذلك مجزئ، لكن الأفضل أن يسعى على طهارة.
فإن قال قائل: ما الدليل على أن هذا سنة؟ قلنا: لأنه من الذكر، والأصل في الذكر أن يكون على طهر، ولأن هذا هو الظاهر من حاله صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لما انتهى من الركعتين شرع في السعي مباشرة.
__________
(1) وهذا هو المذهب.
قوله: «والستارة» ، أي: يُسن فيه ستر العورة، ومن المعلوم أن الإنسان لا يمكن أن يسعى عرياناً عُرياً كاملاً، لكن ربما يكون إزاره أو قميصه في سعيه للحج بعد التحلل الأول خفيفاً ترى من ورائه البشرة، أو يكون فيه خرق ترى من ورائه العورة، ففي هذه الحال سعيه صحيح؛ لأن الستر فيه سنة.
قوله: «والموالاة» ، أي: يُسن أن تكون الأشواط متوالية، وليس ذلك بشرط، فلو سعى الشوط الأول في أول النهار، وأتم في آخر النهار فسعيه صحيح، لكنه خلاف السنة، ولو سعى الشوط الأول في الساعة الواحدة، والثاني في الساعة الثانية، والثالث في الساعة الثالثة، والرابع في الساعة الرابعة، والخامس في الساعة الخامسة، والسادس في الساعة السادسة، والسابع في الساعة السابعة، لكان سعيه صحيحاً، لأن الموالاة سنة.
لكن المذهب أن الموالاة فيه شرط كالطواف، ومن ثم صرف الشارح في الروض عبارة الماتن إلى هذا المعنى فقال: «تسن الموالاة بينه وبين الطواف» ، وهذا صرف للعبارة عن ظاهرها، وإنما صرفها الشارح عن ظاهرها من أجل أن تطابق المذهب، لأن صاحب المتن اشترط في خطبة الكتاب: أنه على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد، والراجح في مذهب أحمد أن الموالاة في السعي شرط، كما أن الموالاة في الطواف شرط، وهذا القول أصح، ويدل لهذا القول:
أولاً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سعى سعياً متوالياً (1) ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني مناسككم» (2) .
ثانياً: أن السعي عبادة واحدة فاشترط فيه الموالاة كالصلاة والطواف.
ثالثاً: أن الإنسان لو فرق السعي كما سبق لم يقل أحد: إنه سعى سبعة أشواط لتفريق السعي.
لكن لو فرض أن الإنسان اشتد عليه الزحام فخرج ليتنفس، أو احتاج إلى بول أو غائط فخرج يقضي حاجته ثم رجع، فهنا نقول: لا حرج؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، ولأنه رويت آثار عن السلف في هذا؛ ولأن الموالاة هنا فاتت للضرورة، وهو حين ذهابه قلبه معلق بالسعي، ففي هذه الحال لو قيل بسقوط الموالاة لكان له وجه.
مسألة: لو أقيمت صلاة الفريضة في أثناء الطواف؟ نقول: اختلف العلماء في هذا:
فمنهم من قال: إن كان الطواف نفلاً قطعه وصلى لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة» (3) ، وأعلى أحوال الطواف أن يلحق بالنافلة، فإذا أقيمت الفريضة قطعه وصلى الفريضة ثم بنى، وأما إن كان فرضاً فإنه يستمر في الطواف ولو فاتته صلاة الفريضة.
__________
(1) كما في حديث جابر ص(76).
(2) سبق تخريجه ص240.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة/ باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة (710) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وقال آخرون: إن الموالاة ليست بشرط وأنه يجوز أن يقطعه، ويقطع الموالاة بين أشواطه ولا حرج، لكن الذي ينبغي أن نعلم أن العبادة الواحدة تجب الموالاة بين أجزائها لتكون عبادة واحدة إلا ما دل الدليل على جواز التفريق، والقول الراجح في مثل أنه إذا أقيمت صلاة الفريضة فإنه يقطعه بنية الرجوع إليه بعد الصلاة.
فإذا قطعه ـ ولنفرض أنه قطعه حين حاذى الحجر ـ فإذا قضيت الصلاة هل يبدأ الطواف من المكان الذي قطعه فيه أو يبدأ الطواف من جديد؟
اختلف العلماء في هذا، فالمشهور من المذهب أنه لا بد أن يبدأ الشوط من جديد، والقول الراجح أنه لا يشترط وأنه يبدأ من حيث وقف، لأن ما قبل الوقوف وقع مجزئاً وما وقع مجزئاً لا يجب علينا رده؛ لأننا لو أوجبنا رده لأوجبنا على الإنسان العبادة مرتين وهذا لا نظير له.
مسألة: صلاة الجنازة هل يقطع الطواف من أجلها؟
الظاهر نعم؛ لأن صلاة الجنازة قصيرة فلا يكون الفاصل كثيراً فيعفى عنه.
قوله: «ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره» ، أي: ثم إن كان الساعي متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره، والتقصير هنا أفضل من الحلق لحديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا
والمروة، وليقصر وليحل» (1) ، ومن أجل أن يتوفر الحلق للحج.
وظاهر هذا التعليل أنه لو قدم مكة مبكراً في شوال مثلاً، فإن الحلق في حقه أفضل؛ لأنه سوف يتوفر الشعر للحلق في الحج.
وقوله: «لا هدي معه» فإن كان معه هدي، فإنه لا يحل؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن معي الهدي لأحللت معكم» (2) .
وظاهر كلام المؤلف أنه يمكن أن يتمتع مع سوق الهدي؛ لأنه قال «متمتعاً لا هدي معه» ، ولكن كيف يمكن أن يتمتع، وقد ساق الهدي، ومن ساق الهدي لا يحل إلا يوم العيد {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}؟ يقولون في هذه الصورة: إذا طاف وسعى أدخل الحج أي: أحرم بالحج بدون تقصير، وهل يكون قارناً في هذه الحال؟
الجواب: يقولون: ليس بقارن، ولهذا يلزمونه بطواف وسعي في الحج، كما طاف وسعى في العمرة، ولو كان قارناً لكفاه السعي الذي كان عند قدومه، وعليه فيلغز بهذه المسألة فيقال: متمتع حرم عليه التحلل بين العمرة والحج فما الجواب؟
الجواب: أنه متمتع ساق الهدي.
والصواب أنه إذا ساق الهدي امتنع التمتع لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم» (3) ، وعلى هذا فليس أمام سائق الهدي إلا القران أو
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب من ساق البدن معه (1691) ومسلم في الحج/ باب وجوب الدم على المتمتع (1227).
(2) - (3) سبق تخريجه ص(76) من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ.
الإفراد. وإذا قلنا: إنه إذا كان معه الهدي لا يحل وهو متمتع صار هذا نسكاً رابعاً لم تأت به السنة: أن يكون متمتعاً لا يحل بين العمرة والحج فهذا لا نظير له، وعلى هذا فقوله ـ رحمه الله ـ «لا هدي معه» مبني على قول ضعيف.
قوله: «وتحلل» ، أي: من عمرته فحل له كل شيء حتى النساء.
قوله: «وإلا حل إذا حج» كلمة «إلا» يدخل فيها ثلاث صور، أي: بأن كان مفرداً، أو قارناً، أو متمتعاً ساق الهدي على القول بصحة هذه الصورة فيحل إذا حج يعني إذا جاء وقت الحل في الحج؛ لتعذر الحل منه قبل أن يبلغ الهدي محله.
قوله: «والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية» ؛ لأنه شرع في الركن المقصود، والتلبية إنما تكون قبل الوصول إلى المقصود، فإذا وصل إلى المقصود فلا حاجة إلى التلبية، فإذا شرع في الطواف فإنه يقطع التلبية ويشتغل بذكر الطواف، وعموم قوله: «والمتمتع» يشمل المتمتع الذي ساق معه الهدي.
وقيل: إن المتمتع يقطع التلبية إذا دخل حدود الحرم؛ لأن الحرم مقصوده وقد وصل إليه.
وقيل: إذا رأى البيت (1) .
__________
(1) ويؤيده أن عطاء سئل متى يقطع المعتمر؟ فقال: «قال ابن عمر: إذا دخل الحرم، وقال ابن عباس: حتى يمسح الحجر، قلت: يا أبا محمد أيهما أحب إليك؟ قال: قول ابن عباس».
أخرجه البيهقي (5/104)؛ وفي «الإرواء» (4/297): سنده صحيح.
وقد روي مرفوعاً عن ابن عباس: «أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر».
أخرجه أبو داود في المناسك/ باب متى يقطع المعتمر التلبية (1817)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء متى يقطع التلبية في العمرة (919)؛ والبيهقي (5/105). وصححه الترمذي، وقال البيهقي: «رفعه خطأ، وكان ابن أبي ليلى كثير الوهم، وخاصة إذا روى عن عطاء فيخطئ كثيراً ضعفه أهل النقل»، ورواه البيهقي أيضاً عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً وضعفه (5/105).
ولكن المذهب في هذا أصح.
وعلم من قوله: «والمتمتع» أن المفرد والقارن لا يقطعان التلبية، فمتى يقطعانها؟
الجواب: عند رمي جمرة العقبة يوم العيد؛ لأنه صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (1) ، ولأنه برميه جمرة العقبة شرع فيما يحصل به التحلل، وهو الرمي.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب الركوب والارتداف في الحج (1543)، (1544)؛ ومسلم في الحج/ باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة (1281).
بَابُ صِفَةِ الحَجِّ والعُمْرَةِ
يُسَنُّ لِلْمُحلِّينَ بِمَكَّةَ الإِحْرَامُ بالحَجِّ يَومَ التَّرْويَةِ قَبْلَ الزَّوالِ مِنْهَا،....
قوله: «باب صفة الحج والعمرة» ، هذا هو المقصود في المناسك.
وقوله: «صفة الحج والعمرة» ، أي: الكيفية التي ينبغي أن يؤدى عليها الحج، والعمرة، واعلم أن لصحة العبادة شرطين:
الأول: الإخلاص، والثاني: المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمكن تحقق المتابعة إلا بمعرفة صفتها الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية» .
المحل هو المتمتع؛ لأنه حل من إحرامه، أو من كان من أهل مكة فإنه محل؛ لأنه باق في مكة حلالاً، فيسن لهم الإحرام بالحج يوم التروية، لا قبله ولا بعده، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
واستثنى بعض العلماء المتمتع إذا لم يجد الهدي، فقالوا: ينبغي أن يحرم في اليوم السابع؛ بناء على أنه يصوم الأيام الثلاثة من اليوم السابع؛ ليكون صوم الثلاثة كلها في الحج، ومقتضى هذا التعليل أن يحرم قبل طلوع الفجر من اليوم السابع، ولكن هذا قول ضعيف.
والصحيح أنه لا يتقدم بالإحرام عن اليوم الثامن، وما ذكروه من التعليل مقابل بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت العمرة في
الحج إلى يوم القيامة» (1) ، فمن صام اليوم السابع قبل إحرامه بالحج فقد صام الثلاثة في الحج، ولهذا فإنهم يجوزون أن يصوم من حين أن يحرم بالعمرة، وعليه فلا وجه لتقديم الإحرام بالحج على اليوم الثامن، لأنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أصحابه مع أن الذين حلوا هم الذين لم يسوقوا الهدي، وأكثرهم فقراء، ولم يحرم أحد منهم قبل يوم التروية.
وقوله: «يوم التروية» ، هو اليوم الثامن، وسمي بذلك؛ لأن الناس كانوا فيما سبق يتروون الماء فيه؛ لأن منى في ذلك الوقت لم يكن فيها ماء، وكذلك مزدلفة وعرفة، فهم يتأهبون بسقي الماء للحج في المشاعر في هذا اليوم الثامن.
ومن اليوم الثامن إلى الثالث عشر كلها لها أسماء، فالثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني.
قوله: «قبل الزوال منها» ، أي: يسن أن يحرم قبل الزوال من مكة، وعُلم من كلامه أنه لا يسن قبل طلوع الشمس، إلا من مر بالميقات وكان قارناً أو مفرداً، فمتى مر به أحرم من الميقات، لكن كلام المؤلف هنا في المحِلِّين أنهم لا يتقدمون على يوم التروية، بل في ضحى يوم التروية، وعُلم منه أيضاً أنه لا ينبغي أن يؤخر الإحرام عن الزوال، بل يحرم قبل الزوال؛ ليشغل الوقت في طاعة الله؛ لأنه إذا أخر الإحرام إلى وقت العصر فاته
__________
(1) سبق تخريجه، ص(76) من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ.
ما بين الضحى إلى العصر، ولو أخره إلى الغد كما يفعله بعض الناس يقول: أحرم يوم عرفة وأمشي إلى عرفة، فهذا أشد حِرْماناً.
والصواب أنه لا يحرم من مكة بل يحرم من مكانه الذي هو نازل فيه، فإن كانوا في البيوت فمن البيوت، وإن كانوا في الخيام فمن الخيام.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من الطواف والسعي: خرج إلى ظاهر مكة (الأبطح) ونزل هناك، وأحرم الناس من هذا المكان (1) ، وعلى هذا فنقول: يسن أن يحرم من المكان الذي هو فيه، سواء في مكة أو في غيرها.
والعجيب أن بعض العلماء قال: يسن أن يحرم من تحت ميزاب الكعبة أي في الحِجْر لأنه مصب الميزاب وهذا مخالف لظاهر السنة، لأن الصحابة أحرموا من الأبطح من مكانهم وفي هذا القول من الحرج ما لا يخفى، والقائل بهذا القول مجتهد.
وَيُجْزِئُ مِنْ بَقيَّةِ الحَرَمِ وَيبيتُ بِمِنَى،...........
قوله: «ويجزئ من بقية الحرم» ، أي: ويجزئ الإحرام بالحج من بقية الحرم، وهل هنا فرق بين مكة والحرم؟
الجواب: نعم هناك فرق بينهما، فمكة القرية أي: البيوت، والحرم كل ما دخل في حدود الحرم فهو حرم، لكن في وقتنا الآن صار بعض مكة خارج الحرم حيث امتدت البيوت من جهة التنعيم؛ إلى الحل.
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله عنه ـ في الحج/ باب الإهلال من البطحاء، ووصله الإمام أحمد (3/378) وصححه ابن خزيمة (2794)؛ وابن حبان (3796).
وفُهِمَ من كلامه أنه لا يجزئ الإحرام بالحج من الحل، فالحرم ميقات مَنْ في مكة في الحج، والحل ميقات من في مكة في العمرة.
فكما أنه لا يجوز أن يحرم بالعمرة من الحرم، فكذلك لا يجوز أن يحرم بالحج من الحل، وهذا أحد الأقوال في المسألة.
وقيل: يجوز أن يحرم من في مكة بالحج من الحل، وعلى هذا فإذا كان نازلاً في مكة وأحرم من عرفة، فإنه يجزئ، وهذا هو المشهور من المذهب، والماتن مشى في هذا على خلاف المذهب.
والراجح أنه لا ينبغي أن يخرج من الحرم، وأن يحرم من الحرم، ولكن لو أحرم من الحل فلا بأس؛ لأنه سوف يدخل إلى الحرم.
قوله: «ويبيت بمنى» ، أي: يبيت بمنى ليلة التاسع، وعلى هذا فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كلها في منى قصراً بلا جمع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يجمع في منى وإنما جمع في عرفة، وفي مزدلفة.
مسألة: هل هذا الحكم ـ القصر والجمع ـ خاص بأهل الآفاق أو لهم ولأهل مكة؟
المذهب ليس لأهل مكة قصر ولا جمع، لأنهم ليسوا مسافرين، إذ أن السفر ما بلغ ستة عشر فرسخاً، ومقداره بالكيلو نحو ثلاثة وثمانين كيلو، ومعلوم أن عرفة لا تبلغ ثلاثة وثمانين كيلو، ولذلك يقولون: لا يجوز لأهل مكة أن يجمعوا في مزدلفة وفي عرفة، ولا أن يقصروا في منى.
والصحيح أن أهل مكة كغيرهم من الحجاج، ولكن بشرط أن يكونوا مسافرين، أي خارجين عن مكة، وفي يومنا هذا إذا تأمل المتأمل يجد أن منى حي من أحياء مكة، وحينئذٍ يقوى القول بأنهم لا يقصرون في منى، وفي مزدلفة وفي عرفة لهم الترخص برخص السفر؛ لأنهم مسافرون، فهم يتأهبون لسفر الحج بالطعام والرحل والماء، ولذلك كان أهل مكة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقصرون في منى وعرفة ومزدلفة، ويجمعون في مزدلفة وعرفة، ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتموا، لكن اختلف الوضع الآن.
وقال بعض أهل العلم: إن القصر والجمع في الحج ليس سببه السفر وإنما سببه النسك، وعلى هذا القول الحجاج من أهل مكة يقصرون، ويجمعون في موضع الجمع، لكن هذا القول ضعيف؛ إذ لو كان سببه النسك لكانوا إذا حلوا التحلل الثاني، ـ وهذا يمكن أن يكون يوم العيد ـ لم يحل لهم أن يقصروا في منى، ولو كان سببه النسك، لكانوا إذا أحرموا في مكة بحج أو عمرة جاز لهم الجمع والقصر، فالقول بأنه هو النسك ضعيف جداً، ولا ينطبق على القواعد الشرعية.
فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ وَكُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَة
قوله: «فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة» ، أي: من اليوم التاسع فيسير إلى عرفة، وينزل أولاً بنمرة.
ونمرة قرية قرب عرفة، وليست من عرفة لا شك لأنه إذا كان بطن عرفة ليس من عرفة فهي أبعد من بطن عرنة.
فإن قال قائل: بماذا تجيبون عن حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: ثم سار النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ يعني من منى ـ حتى أتى عرفة، فوجد
القبة قد ضربت له بنمرة (1) ، فإن ظاهره أن نمرة جزء من عرفة؟
فالجواب: أن مراد جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه لم ينزل بمزدلفة كما كانت قريش تنزل في مزدلفة، فيقفون في مزدلفة، فقول جابر: حتى أتى عرفة، يعني أنه لم يقف في مزدلفة، ولذلك قال في نفس الحديث: «ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية فأجاز حتى أتى عرفة» ، فيكون هذا بياناً لمنتهى سيره، وأن منتهى سيره إلى عرفة.
وهل هذا النزول نزول نسك أو نزول راحة؟
الجواب: المعروف عند العلماء أنه نزول نسك ويحتمل أنه نزول راحة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ضربت له القبة في نمرة»، «ولما طلب منه أن يضرب له قبة في منى» (2) قال: «منى مناخ من سبق» (3) ، لأن منى مشعر، فإقراره ضرب القبة له بنمرة ومنعه ذلك في منى يشعر بأن نمرة ليست بمشعر وأن نزوله بها للراحة فقط.
لكن المعروف أن النزول بها سنة وليس من أجل الراحة، فينزل بها إن تيسر، وهي معروفة الآن، وبعض الحجاج ينزلون فيها، ويحدثوننا أنهم يجدون راحة بالغة، ولا سيما فيما سبق، لما كان الناس يحجون على الإبل، فإنهم يحتاجون إلى الراحة.
__________
(1) - (2) سبق تخريجه ص(76).
(3) أخرجه أحمد (6/187، 207)؛ وأبو داود في المناسك/ باب تحريم مكة (2019)؛ والترمذي في الحج/ باب ما جاء أن منى مناخ من سبق (881)؛ وابن ماجه في المناسك/ باب النزول بمنى (3006)؛ وابن خزيمة (2891)؛ والحاكم (1/467) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم: «على شرط مسلم» ووافقه الذهبي.
وينزل إلى أن تزول الشمس، فإذا زالت الشمس ركب من نمرة إلى عرفة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ركب من نمرة حتى أتى بطن الوادي، بطن عرنة، فنزل في بطن الوادي» ، والظاهر عندي والله أعلم أن نزوله في بطن الوادي؛ لأن بطن الوادي في الغالب يكون رملياً، فيكون فيه لين وسهولة على الناس للجلوس وللصلاة ثم خطب الناس خطبة بليغة قرر فيها قواعد الإسلام، وشيئاً كثيراً من أحكامه، وأعلن في تلك الخطبة، أن ربا الجاهلية موضوع، وأن أول رباً يضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ لأنه عمه، وفي هذا دليل على أن الربا الثابت في ذمم الناس يجب وضعه، ولا يجوز أخذه حتى وإن عقد قبل إسلام العاقد، أما ما قبض من قبل من ربا، وأتى الإنسان موعظة من الله فإنه له، لكن ما بقي في ذمم الناس فإنه لا تتم التوبة منه إلا إذا تركه ولم يقبضه، وتأمل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموقف العظيم: «أول رباً أضع ربا العباس» (1) ؛ لأنه قريبه، والحاكم لا يحابي أقاربه في حكم الله، بل يبدأ بهم قبل الناس، حتى يعلم أنه ليس عنده محاباة في دين الله.
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إذا منع الناس من شيء جمع أهل بيته وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، والناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس إلا أضعفت لمكانه مني، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص(76) من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» رقم (30640)، (6/199).
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس