| |||||
|
|
01-31-2012, 10:56 AM | #1 |
إداري تاريخ التسجيل: Jun 2010 المشاركات: 1,222 | رد: المناعة الفكرية للدكتور ( عبد الكريم بكار ) تابع للدكتور عبد الكريم بكار : (7) الفكر المنيع فكر قادر على الاستمرار ومناعته نابعة من طبيعته ومقوماته الذاتية، ومقومات الفكر الإسلامي ليست شيئًا يصنعه الناس جريًا وراء أهوائهم أو اجتهاداتهم الشخصية، فالفكر لا يكون إسلاميًا إلا إذا كان تكونه في إطار تعاليم الإسلام ومقاصده العامة، ولا يكون نموه صحيحًا إلا إذا كان عن طريق حبل سري متصل بالمصالح المنضبطة للأمة وبالطبيعة البشرية، وما نعرفه من سنن الله –تعالى- في الخلق. وشيء من هذا الكلام ينطبق على الفكر الإنساني أيضًا؛ حيث إن صناع الأفكار يستطيعون أن يقولوا – على مستوى التفاصيل الدقيقة- الكثير مما يريدون، لكن تظل حيوية ما يقال وقدرته على تشكيل الحضارة مرهونة لاتصالها بالسنن الربانية وبتشوقات البشر وتطلعاتهم. وتأسيسًا على كل هذا يمكن القول: إن الغلو بكل سماته وأشكاله ومظاهره ومنطلقاته يشكل إحدى الآفات والعلل المزمنة والخطيرة التي طالما أصابت الفكر الإنساني والإسلامي في مقتل، والحقيقة أن البعد عن القصد والميل إلى المنازع والاتجاهات الغالية المتطرفة يشكِّل جزءًا من التراث الحضاري لكل الأمم؛ وإني لأكاد أزعم أن ذلك متصل بالتكوين العقلي والنفسي لبني الإنسان. وإذا صح هذا فإنه يكون جزءًا من أدوات الابتلاء في هذه الحياة. إن الغلو مصطلح شرعي، لكن تطبيقاته واسعة جدًا إلى درجة أن بعضها يتصل بالذوق وبالخبرة البشرية وبالتراكمات الثقافية المتنوعة، ولهذا فإننا حين نتحدث عن الغلو أو الإفراط أو التطرف أو التشدد في أمر من الأمور المتصلة بالتدين والالتـزام فإن علينا ألا نتجاوز الأحكام الشرعية. وفي هذا الإطار فإننا نجد اليوم في الساحة الثقافية العامة صنفين ممن يتحدث عن الغلو: صنف يهرف بما لا يعرف، حيث ينطلق من خبرة محدودة جدًا بالشريعة وبالفقه الإسلامي لكنه يملك جرأة تصل إلى حد الوقاحة في إطلاق الأوصاف والنعوت النارية على سلوكات ومواقف لا ينبغي أن يتحدث فيها إلا أهل الاختصاص وهم الفقهاء، وهذا شيء طبيعي فكما أنه لا يتحدث في الأمور الهندسية الدقيقة إلا مهندس، وكما لا يتحدث في المسـائل الفيزيائية العويصة إلا فيزيائي فكذلك لا يتحدث في مسائل التدين والالتـزام والتعبد والسلوك الإسلامي عامة إلا فقيه خبير. أما الصنف الثاني فإنه ينطوي على سوء نية وعلى انحراف في الوجهة، إنه يريد من خلال الحديث عن الغلو هدم الإسلام ذاته؛ فالذي يمتنع عن إيداع أمواله في البنوك الربوية متـزمت غال، والمرأة التي تستر وجهها أو تمتنع عن مجالسة الرجال الأجانب متخلفة ومعقدة، والمسلم الذي يستدل بالآيات والأحاديث في التنظير للقضايا حرفّي محدود. والمسلم الذي لا يستمع للموسيقى غليظ المشاعر، ومفتقر إلى نوع من التهذيب لا يأتي إلا عن طريق الموسيقى...!! وقد كثر هذان الصنفان في الساحة الثقافية والإعلامية، وكثير منهم يظنون أنهم يساعدون الأمة على النهوض والارتقاء، وهم في حقيقة الأمر يمارسون عملية تخريب واسعة النطاق ولا تظهر آثارها إلا بعد عقد من الزمان. وعلى كل حال فإن من واجب المفكرين والمنظِّرين وأهل كل الاختصاصات العلمية أن يشيعوا في الجماهير المسلمة مفاهيم الوسطية والاعتدال والتسامح واليسر، وأن يقاوموا نزعات الغلو التي تجتاج كل الشرائح والفئات وكل الدوائر والتخصصات؛ فهناك غلوّ في السياسة وفي الاجتماع وفي التدين وفي الاقتصاد والتربية والتعليم والتعامل مع التاريخ والتخطيط للمستقبل.. وأهل كل تخصص هم الذين يقررون الاتجاهات والأقوال الغالية في تخصصهم، وهم الذين يحددون درجة ذلك الغلو، وعليهم تقع مسؤولية معالجته وتخليص الناس منه، وهذه نقطة مهمة حيث يظن بعض الناس أن الغلو عبارة عن مشكلة دينية محضة، وهذا غير صحيح. قد كانت الشيوعية مغالية حين أعطت دورًا استثنائيًا للدولة في إدارة شؤون الناس، وقد أدى ذلك تهميش المجتمع وتعطيل كثير من وظائفه، وكانت النتيجة هي انهيار الدولة والمجتمع معًا. ومن المربين من يغالي فيجعل دور البيئة حاسمًا في تقرير ثمار الجهود المربية. ومن المؤرخين من فسّر التاريخ تفسيرًا عرقيًا عنصريًا، ومنهم من فسره على أساس عبقرية المكان والدور الحاسم للجغرافيا وهكذا وهكذا.. وكلما تقدم العلم خطوة إلى الأمام يتضح لنا أكثر فأكثر أن المراهنة المبالغ فيها على بعد من الأبعاد أو قول من الأقوال أو عنصر من العناصر أو تفسير من التفسيرات أو دليل من الأدلة معلومة من المعلومات... هي شيء بعيد عن القصد وعن الواقع، وقريب من أن يكون مجازفة علمية، فالتعقيد الذي نكتشفه اليوم في طبيعة كل البنى الثقافية يحتم علينا أن نبلور دائمًا رؤى ونظريات واجتهادات ذات طبيعة تركيبية. والطبائع التركيبية تساعد دائمًا على الحد من الغلو والانجراف خلف وجهات أحادية ضيقة. إننا –كما أخبر سبحانه- ولا نعرف إلا القليل. وكثير من معارفنا هش وغير مكتمل، ومنفتح على آفاق مجهولة، مما يعني أن علنيا أن نحذر أشد الحذر من الاعتـزاز باجتهاداتنا الشخصية ومن المغالاة في انتماءاتنا الحزبية والحركية، وأن نظل إلى جانب ذلك في حالة من البحث المستمر عن الرؤى المتوازنة البعيدة عن الإفراط والتفريط، فالمتقدم على الصف والمتأخر عنه يسهم كلٌّ منهما في اعوجاجه. إن اليهود فرّطوا في موقفهم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بل من رب العالمين –جل وعز- فقد قالوا: يد الله مغلولة، ووصفوه بما لا يليق بإنسان فضلاً عن أن يليق بالخالق، وكذّبوا الرسل وأهانوهم وقتلوهم. أما النصارى فقد أفرطوا في هذا الشأن حيث قدّسوا عيسى -عليه السلام- حتى جعلوه إلهاً. أما أمة الإسلام الوسطية فقد نجت في موقفها العقائدي العام من هذا و ذاك. ونحن اليوم في حاجة إلى أن نتلمس المزيد من المواقف والتطبيقات التي تعكس وسطيتها في مجالات الحياة كافة. وقد ابتلى الإسلام على مدى عهوده المتطاولة بفئتين من أبنائه : فئة تتفلت من تعاليمه، وتتقاعس عن أداء مقتضياته وواجباته. وفئة تحمل الناس على المكاره، وتدفعهم في اتجاه العسر والحرج والضيق. والفئة الأولى خاضعة غالبًا للشهوة أما الفئة الثانية فإنها في الغالب خاضعة للشبهة. ومن هذه وتلك تتكون وضعية بائسة تجمع بين القصور والانحراف. وللحديث صلة.. والله وفي التوفيق. (8) الإسلام هو رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- الأخيرة التي تتلقاها البشرية من الله –جل شأنه-؛ ولهذا فهي رسالة عامة وشاملة، فيها ما يحتاجه صلاح الناس مهما اتسعت أمداء الزمان والمكان، ومهما تنوعت الظروف والأوضاع والأحوال. وهذا يتطلب بداهة سعة الأطر، ورحابة الأحكام، ومراعاة شيء من التنوع الثقافي، وترك بعض التفصيلات أو كثير منها لتقدير علماء الأمة وباحثيها، ليستنبطوا من الأصول العامة للشريعة السمحة ما يغطيها ويوضح للناس أحكامها. ويلاحظ في هذا السياق ثلاثة أمور مهمّة: 1- معظم نصوص الكتاب والسنة ظنيّة الدلالة، مما يفتح باستمرار مجالاً للاجتهاد واختلاف الآراء. ولو شاء الله –تعالى- لجعلها جميعاً محكمة قطعية الدلالة؛ لكن ما هو ماثل الآن ينسجم مع خلود الرسالة وختمها وعمومها. ومن شأن الاختلاف توفير إمكانات واختيارات وبدائل. كما أنه يعكس رؤى المجتهدين وتنوع ثقافاتهم وتقديرهم للحالة أو الوضعية موضع النظر. وهذا يضفي على الأحكام طابع اليسر والسهولة، ويجعلها قريبة من معاناة الناس ومشاعرهم. وكل هذا جزء صغير من رحمة الله –تعالى- ولطفه بعباده. 2- النصوص على نحو عام في المسائل التي تختلف باختلاف الزمان والمكان قليلة، وفيها توجيهات عامة. وقلة النصوص ترمي إلى إفساح المجال للمجتهدين كي ينظروا ويستنبطوا في ظلال المقاصد العامة للشريعة وفي إطار حاجات المجتمع المسلم. ونجد هذا واضحاً في المسائل السياسية والإدارية والعلاقات الدولية والمسائل التنظيمية عامة وقد عتب الإمام الجويني في كتابه (الغياثي) على الماوردي في أنه ساق في كتابه (الأحكام السلطانية) الأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية بلغة فيها الكثير من الجزم واليقين أو بعبارة أخرى: ساق الظنيات في موارد وسياقات القطعيات. وهذا لا يليق بمجال، النصوص فيه قليلة والاجتهادات كثيرة مع امتداد آفاقه وتنوع مستجداته. وهذه الملاحظة ملاحظة ذكية من عقل كبير. 3- في صميم المنهج الاجتهادي والاستنباطي شيء يثير الإعجاب، وهذا الشيء هو ما يقوم به الأصولي والفقيه من نظر وتفكر وتحقق قبل إصدار حكم في واقعة من الوقائع أو وضعية من الوضعيات. إن المجتهد قبل أن يصدر حكماً في واقعة جديدة، لا نص فيها ولا إجماعاً سابقاً، يحتاج إلى كثير من التأمل والبحث، فإذا كان بصدد قياس الواقعة الجديدة على واقعة سابقة أو كان في سياق الحكم على شيء جديد بعين الحكم الصادر في شيء سابق منصوص عليه؛ فإن عليه أن يكتشف علة الحكم في الأصل وهذه العلة قد تكون جلية وقد تكون غامضة، وقد يحتمل الحكم في الأصل أكثر من علة واحدة، ويكون عليه آنذاك أن يقوم بعملية أطلقوا عليها (السبر والتقسيم) أو (تنقيح المناط)، وذلك من أجل اكتشاف العلة المؤثرة فعلاً في الحكم. وهذا العمل عمل اجتهادي عظيم يقوم به الأصوليون والفقهاء الكبار المتمكنون. ونتائج هذا التمحيص كثيراً ما تكون موضع نزاع وموضعاً لتباين الآراء والاجتهادات. فإذا عُرفت العلة المؤثرة في الحكم، فإن هناك عملية أخرى لا تقل شأناً عما سبق، وهي التأكد من أن العلة موجودة في الحادثة الجديدة، وأن الشروط المطلوبة لجعل الفرع مساوياً للأصل أو الشروط المطلوبة لصحة إصدار الحكم موجودة ومتوفرة. وهذا ما سماه الأصوليون (تحقيق المناط) إذا قلنا إن إنكار شيء من المعلوم بالدين بالضرورة يجعل المنكر كافراً كما هو الشأن في منكر فرضية الصلاة أو حرمة الزنا، وإن بلغنا عن شخص شيء من ذلك؛ فإن علينا قبل الحكم بكفره أن نتأكد من صحة ما نسب إليه ودقته في الدلالة على الإنكار. وعلينا أيضاً أن نتأكد أنه عالم بإخراج ذلك الإنكار من الملة، وأنه لم يتراجع عنه ويتب منه وعلينا وعلينا... إن تحقيق المناط أو التأكد من انطباق الحكم على الواقعة يشتمل على رحمة عظمى للأمة حيث جعل الله –تعالى- شيئاً من التشريع في النوازل إلى الأمة ممثلة في مجتهديها. إذا تأملنا في الملاحظات الثلاث التي سقناها وجدنا أنها جميعاً تدفع في اتجاه واحد هو الرفق واللطف بالمكلفين، وهو الأناة والتريث قبل إصدار الأحكام. وهو التيسير ورفع الحرج ورفع التشدد والغلو. وهذا الاتجاه في الحقيقة هو سبيل المؤمنين الفاقهين، وسبيل العارفين بأسرار الشريعة ومقاصدها، والخبراء بطبائع الأشياء وسنن الله تعالى في الخلق. إن الغلاة لا يساعدون فكر الأمة على الانتشار، ولا يساعدون المسلمين على بناء منطق عالمي قابل للشرح والتوضيح وقابل للتفهم من قبل الآخرين؛ إنهم على العكس من هذا يتركون لدى الناس انطباعاً بأن الدين جاء لأولي العزم من الناس وليس لعامتهم. وهم إلى جانب هذا يحيدون عن قواعد المنهج الرشيد الذي بلوره علماء الأمة من أجل فهم كيفية الاستجابة لأمر الله في المناشط والاستجابة له في المكاره. وذلك المنهج يأخذ بعين الاعتبار حالات الضعف البشري وحالات القصور الإنساني، كما يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي يمر بها العباد. كيف لا والله تعالى يقول في وصف نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ؟ [سورة الأعراف:157]. إنه يضع عن أمة الإسلام الأحكام والتكاليف الشاقة التي يضعف عن حملها الإنسان والتي كانت على بني إسرائيل من مثل قتل النفس بالتوبة وتحريم الغنائم. والله تعالى علم المسلمين كما في أواخر سورة البقرة كيف يدعونه برفع الحرج عنهم حين قال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:286] وقد ورد في صحيح مسلم ما يدل على أن الله استجاب دعاءهم. وقال عز وجل: (طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه:1-2] وقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) [الأعلى:8] قال ابن كثير في تفسيره: "أي نسهّل عليك أفعال الخير وأقواله ونشرع لك شرعاً سمحاً مستقيماً عدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر". هذا وللحديث صلة. (9) إن العمل الذي قام به فقهاؤنا على مدار التاريخ الإسلامي هو حقاً شيء يثير الإعجاب. وتأتي روعته من انضباطه بأصول محددة ومن حركته داخل النصوص. ترى فيه الثبات والاتفاق في الأصول والمسائل الكبار. وترى فيه المرونة والاتساع للتنوع والاختلاف في الفروع والمسائل الجزئية. وأعتقد أن قدراً غير قليل من (المناعة الفكرية) يجب أن يستمد من الارتكاز على روح الإنجاز الفقهي ورسومه. وإذا تأملنا في كثير من الانحرافات الفكرية لدى بعض الطوائف الإسلامية وجدنا أنها تشكل نوعاً من الخروج على منهج الاستدلال الذي سار عليه الأصوليون والفقهاء، كما تشكل خروجاً سافراً على الأحكام التي انتهوا إليها. إن الفقيه يقدم لنا دائماً نموذجاً لاعتبار الرأي المخالف. وكتب الفقه المقارن مثل: (المحلى) لابن حزم، و(المغني) لابن قدامة، و(المجموع) للنووي...؛ شاهدة على هذا. وإذا عدنا مرة أخرى إلى (الغلو) بوصفه العدو اللدود لاستقامة الفكر ومناعته واستمراره وجدنا أن الغالين يصدرون في معظم شأنهم عن تجاهل لقول غيرهم واستخفاف بالمخالف كائناً من كان. ولا شك أن هناك الكثير من المسائل التي يكون الخلاف فيها ضعيفاً حتى كأنه غير موجود، لكن هناك أيضاً الكثير من المسائل التي يعد فيها تجاهل الخلاف وتجاوزه ضرباً من الجهل العريض والطيش الكبير. وعلى سبيل المثال فقد ذهب بعض الغلاة في عصرنا هذا إلى تحريم التقليد وإيجاب الاجتهاد، وحجتهم في ذلك أن التقليد طاعة مطلقة. وهذه الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله، ولذلك فإنهم يكفرون المقلد لأنه حكَّم غير الله، واتبع غير رسول الله. وهذا يذكرنا بالخوارج حين أطلقوا مقالتهم الذائعة الصيت: "لا حكم إلا لله". والقول بحرمة التقليد يتجاهل ما قرره علماء الأمة في هذا الشأن ويتجاهل تاريخ الأمة كله؛ حيث إن لدينا ملايين الناس المشهود لهم بالخير والصلاح والعلم ومع هذا فإنهم لم يجتهدوا، وكانوا يقلدون أحد الأئمة المتبوعين. كما أن هذا القول يجافي ما تواضع عليه البشر في كل العلوم؛ إذ لا يجيز أي أهل علم أو اختصاص لأي إنسان مهما بلغ أن يجتهد في كل شيء لأن في ذلك هدماً لقطعيات العلم ومواطن الإجماع فيه. وإذا كانوا لا يجيزون الاجتهاد المطلق من القيود؛ فكيف يوجبه هؤلاء في أخطر العلوم، وهو علم الحلال والحرام وتحديد ما يحبه الله –تعالى- ويبغضه؟! ويتجاهل الغلاة الخلاف بين أهل العلم في تحديد بعض المصطلحات، فيصيرون إلى فهمهم الخاص غير عائبين بتعريف غيرهم، ويلتزمون بما فهموه التزاماً صارماً، ولا يكتفون بذلك، وإنما يصيرون إلى إلزام غيرهم، ويرتبون لأحكام على ذلك، ويتصرفون وكأنهم أمام نص قطعي الثبوت.. قطعي الدلالة؛ هذا مع أن كل العارفين بمناهج البحث وطرق الاستدلال يعرفون أن المصطلح حين يكون هشاً أو انتقائياً أو غامضاً فإن المنهجية تقضي بمراعاة ذلك والأناة في البناء عليه. والمصطلحات التي أساء بعض الغلاة المعاصرين التعامل معها عديدة، ولعل منها مصطلح (جماعة المسلمين)؛ فقد قامت مجموعة منهم بتنصيب أمير عليها، جعلته في مقام أمير المؤمنين، وجعلت نفسها جماعة المسلمين، وصاروا يعتقدون أنهم جماعة آخر الزمان المجتباة قدراً المعلومة عند الله والمكتوبة في اللوح المحفوظ! ويقول أحد قيادييها: نحن جماعة المسلمين، وما عدانا فليس بمسلم. وقد جعل من لم ينضم إليهم بمثابة التارك لدينه المفارق للجماعة، والذي ورد في الحديث الصحيح أنه حلال الدم. مع أن الذي يعود إلى كلام أهل العلم في مفهوم (جماعة المسلمين) يجد أن منهم من ذهب إلى أن جماعة المسلمين هم الصحابة –رضوان الله عليهم- على وجه الخصوص. ومنهم من ذهب إلى أن جماعة المسلمين هم السواد الأعظم من أهل الإسلام. وذهب بعضهم إلى أنها أئمة العلماء المجتهدين. وذهب فريق رابع إلى أنها أهل الإسلام في مقابل الكفار... ومن المعاصرين من لم يدّعوا أنهم جماعة المسلمين، لكنهم أقرب الجماعات إلى أن يكونوا جماعة المسلمين، ولا ريب أن هذا القول أخفّ من السابق لكنه ترك على تلك الجماعة آثاراً سيئة حيث أصيبت بعقدة الأخ الأكبر الذي يُستشار، ولا يستشير، ويُطلب منه التعاون ولا يطلبه.. الغلو في التكفير مظهر آخر من مظاهر استغلال غموض المصطلحات والإعراض عن الشروط والتعريفات. وقد ورد الكثير من النصوص التي تحذر المسلم من المسارعة إلى تكفير أخيه المسلم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". وقال: "... ولعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله". إن أهل العلم الثقات العارفين بموارد النصوص والفاقهين لاستخدامات هذه الكلمة يقولون: إن الكفر يَرِد في الكتاب والسنة ويراد به الكفر المخرج من الملة، وأحياناً يَرِد ويراد به كفر لا يخرج من الملة، فكما أن للإيمان شعباً كذلك للكفر شعب والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى. لكن الغلاة لا يأبهون للتفصيلات ولذلك حكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر، وكفروا كل من لم يحكم بما أنزل الله مع أن الحاكم إذا لم يحكم بما أنزل الله لأن شهوته حملته على ذلك مع الاعتقاد بأن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ لم يخرجه ذلك من الملة، وإن كان ارتكب كبيرة من أعظم الكبائر. والراسخون في العلم يحرّجون كثيراً في تكفير شخص بعينه؛ لأنه قد يكون جاهلاً أو مكرهاً أو دخل في موازنة مخلصة يحقق بها ما يمكن تحقيقه من الخير للمسلمين، ويدفع بها من الشر ما يمكن دفعه. وقد يكون له إيمان وعمل صالح كثير وقد... وقد...، وهذا مما ينقل الحكم على الحاكم من حيز الكفر الأكبر إلى حيز الكفر الأصغر. إن الغلاة حملوا أنفسهم على المركب الصعب، وقد وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف في الزاوية الضيقة. وكانت النتيجة هي الاضمحلال والانحسار؛ فمنهم من قُتل، ومنهم من شُرد، ومنهم من تراجع عن أفكاره، ومنهم من لا يزال على طريقته الأولى لكنه يجد نفسه دائماً عاجزاً عن تقديم شيء إيجابي تنتفع به الأمة. وللحديث صلة، والله الموفق. (10) ذكرْت أنّ الغلوّ قصير النَفَس، وهو ما دخل فكرًا أو مشروعًا أو مؤسّسة إلا شكّل نقطة ضعف فيما توضّع فيه، والسؤال الذي علينا أن نحاول الإجابة عنه هو: لماذا ينشأ الغلوّ؟ وما الخلفيّة النفسيّة والثقافيّة والبيئيّة التي تساعد على انتشاره وكسبه للأنصار؟ والجواب عن هذا السؤال جواب طويل، ولكن سأحاول إجماله في مفردات قليلة. 1- كثيرًا ما ينشأ الغلوّ نتيجة فهم خاطئ للنصوص كما حدث للخوارج في صدر الإسلام. وتعدّد النصوص في القضيّة الواحدة، وكون معظم النصوص ظنّية الدلالة يساعدان على هذا. أضف إلى ذلك القصور الذي يشكّل ما يشبه العاهة الدائمة للنظام اللّغوي في العالم كله وفي كل اللغات؛ حيث إن اللّغة ناقل غير شفّاف، وهي تُنتج لنا -في معظم الأحيان- الفهم المتعدّد بل المتناقض، ولهذا أسباب وحيثيّات يطول شرحها. 2- اعتقاد الاكتمال قبل الأوان سبب من الأسباب القويّة للغلوّ؛ حيث إنك تجد شبابًا يُصدِرون الفتاوى بغاية السهولة، وبالقليل القليل من الشعور بالمسؤوليّة في أمور توقّف فيها كثير من أهل العلم، وتنازع فيها أهل الاختصاص، وكل هذا بسبب الجهل، وبسبب الغرور وسوء الطريقة التي تثقّفوا بها. 3- اعتقاد كثير من الشباب بوجود مؤامرة ضخمة وصريحة وعامة، يشارك فيها الداخل والخارج –دفع دفعًا قويًا في اتجاه الغلوّ. ومن السهل تكفير حاكم ثبت أنه يضرّ بمصالح المسلمين عمدًا لصالح الكافر الأجنبيّ حبًا فيه وولاءً له، وهذا ما يعتقده كثير من الغُلاة، وهو يعبّر عن جهل عريض بطبائع الأشياء، وعن جهل عريض بطبيعة العمل السياسيّ وتعقيداته وموازناته. 4- الضغط الخارجيّ والهيمنة الأجنبيّة على بلاد المسلمين ومكتسباتهم وثرواتهم يجعل التوازن الفكريّ يختلّ لدى كثير من الناس –ولاسيما الشباب- فتجد الخانع التابع الخائف والباحث عن فرصة لإظهار ممالأته للأجنبيّ، وتجد الغالي الذي يريد تحرير العالم الإسلاميّ بأقصى سرعة وبكل وسيلة. 5- العُزلة وإنضاج الأفكار في الظلّ بعيدًا عن أجواء المناظرة والحوار والجهر بالدعوة، وإذا تأمّلنا في تاريخ الدعوات المنحرفة؛ فإننا نجد أن السواد الأعظم منها نشأ، وترعرع تحت الأرض بعيدًا عن الأنظار، وإنّ ضرْب حظرٍ على الأنشطة السياسيّة والاجتماعيّة في كثير من البلدان الإسلاميّة، يدفع كثيرًا من الشباب إلى الاعتقاد بأن الطريق الوحيد المتبقّي لتحقيق أهدافهم في نُصرة الإسلام هو سلوك طريق العنف والقتال. ممارسة الأنشطة الدّعويّة والاجتماعيّة والسياسيّة تُبقي باب الأمل للإصلاح مفتوحًا؛ ولذا فإن المجتمعات المفتوحة تكون معاناتها من الغلوّ أقل من غيرها. 6- المثاليّة والنظر إلى الأمور بعيدًا عن الواقع: إن كثيرًا من المُغالين لا يرون إلا جزءًا من الصورة، وهو تراجع مستوى حكام المسلمين عن المستوى الذي كان عليه حكام الأمة في صدر الإسلام، أو الذي كان عليه الصّفوة من حكام الأمة على مدار التاريخ الإسلاميّ. وهم لا ينظرون إلى التراجع الخطير الذي حدث على المستوى الشعبيّ العام. إنهم يريدون حُكْمًا راشديًا على شعوب بعيدة عن أخلاق الصحابة –رضوان الله عليهم- والتـزامهم الصارم، ويذكّرني هذا بقوْل من قال لعلي –رضي الله عنه-: "إنك لا تسير فينا سيرة الشيخيْن: أبي بكر وعمر؟ . فقال: نعم. الشيخان كانا أميريْن على أمثالي، وأنا أمير على أمثالكم". وقال معاوية –رضي الله عنه- لابنه يزيد حين عيّنه وليًا للعهد: كيف ستسير في الناس بُعَيْدي؟ فقال: سأسير فيهم سيرة الشيخيْن: أبي بكر وعمر، فقال معاوية: حاولت فيهم سيرة عثمان فلم أستطع". حين تتجه السفينة نحو القاع فإن الماء يغمر كل أجزائها، وحين تراجع مستوى الالتـزام في الأمة لم ينجُ منه إلا القليل، وفي بعض المجالات وليس في جميعها. إن كثيرًا ممن يحملون الفكر الغالي يملكون شعورًا مبالغًا فيه بالواجب، ويحمّلون أنفسهم تكاليف لم تحمّلهم إياها الشريعة الغرّاء؛ مما أدّى بهم إلى ركوب المركب الصعب، ثم أخذوا يحاولون جرّ غيرهم إلى ما صاروا إليه، ولو اقتضى ذلك تكفير المسلمين وحمل السلاح عليهم. 7- ثبت أن كثيرًا ممن تُمارَسُ القسوة في تربيتهم، تنشأ في نفوسهم أحقادٌ دفينة، وتميل طبيعتهم إلى القسوة، ويُظهرون قدرًا أقلَّ من التسامح مع المخالِفين، ومع الأفكار المباينة لأفكارهم. 8- استُخْدِم العنفُ الشديد ضدّ بعض الشباب، واستُخْدِمت أنواعٌ من التعذيب تمسّ الكرامة الإنسانيّة، وتؤكّد لهم أنه لا يُعقل أن يقوم بذلك أناس يخافون لقاء الله أو يؤمنون به. وهذا قدّم برهانًا قويًا للقائلين بالتكفير وبنظريّة المؤامرة. 9- لم يستطع كثير من الإعلاميّين، وكثير من المناوئين للشباب الذين يحملون أفكارًا غالية –أقول لم يستطع هؤلاء أن يظهروا بمظهر الخصْم الشريف؛ فألصقوا بهم أشياء لم يفعلوها، ونسبوا إليهم أقوالاً لم يقولوها، وبعضهم استغلّ موجة الهجوم على الغلوّ ليجعل من كلامه هجوماً على الإسلام، وهذا زاد في غلوّ الغالين، وأكّد لديهم صدق معتقداتهم في اتّهام الخصوم. إننا هنا لا نسوّغ لأحد الغلوّ، ولا نقدّم عذراً للغالين، ولكن نحاول فهم جذور هذه الظاهرة ومنطلقاتها.وأعتقد أن فتح أبواب الحِوار سيساعد كثيراً في امتصاص هذه الظاهرة، وقد ثبت من تجربة بعض الحكومات العربيّة في هذا الشأن نجاعة التعامل باحترام وتقدير، وانفتاح وعقلانيّة ومصداقيّة مع حَمَلة الفكر الغالي. وهي تجربة قابلة للتّكرار. |
|
|